إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

الموضوع: "إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). فَمَا هُوَ القَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ يَوْمَ البَعْثِ، يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ؟

إِنَّهُ القَلْبُ الرَّقِيقُ اللَّيِّنُ المُمْتَلِئُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، وَرَأْفَةً وَرَحْمَةً، السَّالِمُ مِنْ آفَاتِ القَلْبِ وَأَمْرَاضِهِ، كَالشِّرْكِ، وَالبِدْعَةِ، وَالهَوَى، وَالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَوَاتِ.

إِنَّهُ القَلْبُ الصَّحِيحُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي يَحْمِلُ التَّوْحِيدَ وَالسُّنَّةَ، وَالخَشْيَةَ وَاليَقِينَ الرَّاسِخَ، وَالنَّصِيحَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.

إِنَّهُ القَلْبُ المُنِيبُ التَّائِبُ الرَّاغِبُ الرَّاهِبُ، المُخْلِصُ للهِ، المُقْبِلُ عَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ.

إِنَّهُ القَلْبُ النَّاصِحُ الَّذِي يُحِبُّ للهِ، وَيَكْرَهُ للهِ، وَيُعْطِي للهِ، وَيَمْنَعُ للهِ.

إِنَّهُ القَلْبُ المُطْمَئِنُّ الَّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا.

إِنَّهُ القَلْبُ المُتَّبِعُ الَّذِي اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.

إِنَّهُ القَلْبُ النَّقِيُّ الَّذِي يُجَاهِدُ نَفْسَهُ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ آفَةُ الغِلِّ، وَالدَّغَلِ، وَالحِقْدِ، وَالحَسَدِ، وَالكِبْرِ، وَالطَّمَعِ، وَالجَشَعِ، وَالغَفْلَةِ وَالالْتِهَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العَاهَاتِ وَالأَدْوَاءِ.

وَكُلَّمَا كَانَ القَلْبُ أَسْلَمَ كَانَ إِلَى اللهِ أَحَبَّ وَأَقْرَبَ وَأَرْفَعَ دَرَجَةً.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ -: "القَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالغِلِّ، وَالحِقْدِ، وَالحَسَدِ، وَالشُّحِّ، وَالكِبْرِ، وَحُبِّ الدُّنْيَا، وَالرِّئَاسَةِ، فَسَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللهِ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ، وَمِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُ عَنِ اللهِ، وَلَا تَتِمُّ لَهُ سَلَامَتُهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءٍ: مِنْ شِرْكٍ يُنَاقِضُ التَّوْحِيدَ، وَبِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَشَهْوَةٍ تُخَالِفُ الأَمْرَ، وَغَفْلَةٍ تُنَاقِضُ الذِّكْرَ، وَهَوًى يُنَاقِضُ التَّجْرِيدَ وَالإِخْلَاصَ. وَهَذِهِ الخَمْسَةُ حُجُبٌ عَنِ اللهِ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ".

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ بِكَثْرَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ بَلْ بِبِرِّ القُلُوبِ وَطَهَارَتِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَقُوَّةِ تَعَلُّقِهَا بِاللهِ، خَشْيَةً لَهُ، وَمَحْبَةً، وَإِجْلَالًا، وَتَعْظِيمًا، وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ، وَزُهْدًا فِيمَا يَفْنَى.

وَفِي المُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "إِنِّي أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْبًا".

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، قَالُوا: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ فِي الآخِرَةِ.

وَقَالَ بَكْرٌ المُزَنِيُّ: مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ.

قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ المُتَقَدِّمِينَ: الَّذِي وَقَرَ فِي صَدْرِهِ هُوَ حُبُّ اللهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِخَلْقِهِ. وَسُئِلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ، زَوْجَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، بَعْدَ وَفَاتِهِ عَنْ عَمَلِهِ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا كَانَ بِأَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً، وَلَا بِأَكْثَرِهِمْ صِيَامًا، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَخْوَفَ للهِ مِنْ عُمَرَ، لَقَدْ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ فِي فِرَاشِهِ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَ العُصْفُورِ مِنْ شِدَّةِ الخَوْفِ، حَتَّى نَقُولَ: لَيُصْبِحَنَّ النَّاسُ وَلَا خَلِيفَةَ لَهُمْ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا بَلَغَ مَنْ بَلَغَ عِنْدَنَا بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنْ بِسَخَاوَةِ النُّفُوسِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَاحْتِقَارِ أَنْفُسِهِمْ.

وَذُكِرَ لِبَعْضِهِمْ شِدَّةُ اجْتِهَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي العِبَادَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ مِنْكُمْ صِدْقَ النِّيَّةِ فِيمَا عِنْدَهُ، فَمَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْرَفَ فَلَهُ أَخْوَفُ، وَفِيمَا عِنْدَهُ أَرْغَبُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ دُونَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَثُرَ صَوْمُهُ وَصَلَاتُهُ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا حَبَّذَا نَوْمُ الأَكْيَاسِ وَفِطْرُهُمْ، كَيْفَ يَسْبِقُ سَهَرَ الجَاهِلِينَ وَصِيَامَهُمْ!. وَلِهَذَا المَعْنَى كَانَ فَضْلُ العِلْمِ النَّافِعِ الدَّالِّ عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةِ مَا يَكْرَهُهُ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: "كَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ مَمْقُوتٍ، وَسَاكِتٍ مَرْحُومٍ، هَذَا اسْتَغْفَرَ وَقَلْبُهُ فَاجِرٌ، وَهَذَا سَكَتَ وَقَلْبُهُ ذَاكِرٌ".

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّقْوَى هَاهُنَا»، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ تَحْتَ حَدِيثِ النُّعْمَانِ: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ بِجَوَارِحِهِ، وَاجْتِنَابَهُ الْمُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَاءَهُ لِلشُّبَهَاتِ بِحَسَبَ صَلَاحِ حَرَكَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِذَا كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، صَلَحَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا، وَتَوَقٍّ لِلشُّبَهَاتِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فَاسِدًا، قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اتِّبَاعُ هَوَاهُ، وَطَلَبُ مَا يُحِبُّهُ، وَلَوْ كَرِهَهُ اللَّهُ، فَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا، وَانْبَعَثَتْ إِلَى كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْمُشْتَبِهَاتِ، بِحَسَبِ اتِّبَاعِ هَوَى الْقَلْبِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ جُنُودُهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا جُنُودٌ طَائِعُونَ لَهُ، مُنْبَعِثُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، لَا يُخَالِفُونَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ صَالِحًا كَانَتْ هَذِهِ الْجُنُودُ صَالِحَةً، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا كَانَتْ جُنُودُهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَاسِدَةً، وَلَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْقَلْبُ السَّلِيمُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «أَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا»، فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ: هُوَ السَّالِمُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَخَشْيَةِ اللَّهِ، وَخَشْيَةِ مَا يُبَاعِدُ مِنْهُ.

وَفِي "مُسْنَدِ" الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ». وَالْمُرَادُ بِاسْتِقَامَةِ إِيمَانِهِ: اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِ جَوَارِحِهِ، فَإِنَّ أَعْمَالَ جَوَارِحِهِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْنَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، وَكَرَاهَةِ مَعْصِيَتِهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ: دَاوِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ: يَعْنِي أَنَّ مُرَادَهُ مِنْهُمْ وَمَطْلُوبَهُ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ، فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَعَظَمَتُهُ، وَمَحَبَّتُهُ، وَخَشْيَتُهُ، وَمَهَابَتُهُ، وَرَجَاؤُهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ إِلَهُهَا الَّذِي تَأْلَهُهُ وَتَعْرِفُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَخْشَاهُ: هُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ".

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَعَنِ المِقْدَادِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ القِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَ غَلَيَانًا". أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ، تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلاةٍ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حُسِّنَ لِشَوَاهِدِهِ.

 

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ أَزْهَرُ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَسِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ. وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ، وَذَلِكَ قَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ صَاحِبَتَهَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالشَّوْكَانِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

فَرَاقِبُوا قُلُوبَكُمْ - يَا عِبَادَ اللهِ – وَتَابِعُوهَا، وَحَاسِبُوهَا، وَجَاهِدُوهَا، وَحَفِّزُوهَا عَلَى الخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَحَمِّسُوهَا عَلَى التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالطَّاعَةِ وَعَدَمِ المَعْصِيَةِ، وَأَجْلُوا صَدَاهَا وَالغَيْنَ الَّذِي عَلَيْهَا بِالذِّكْرِ وَالاسْتِغْفَارِ حَتَّى لَا تُبْتَلَى بِالزَّيْغِ.

قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). فَقَالَ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ: بَلْ عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا، حَتَّى يَكُونَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَفْتَحُهَا أَوْ يُفْرِجُهَا، فَمَا زَالَ الشَّابُّ فِي نَفْسِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَتَّى وَلِيَ فَاسْتَعَانَ بِهِ.

وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَلَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ: عَيْنَانِ فِي رَأْسِهِ لِدُنْيَاهُ، وَمَا يُصْلِحُهُ مِنْ مَعِيشَتِهِ، وَعَيْنَانِ فِي قَلْبِهِ لِدِينِهِ، وَمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الغَيْبِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَبْصَرَتْ عَيْنَاهُ اللَّتَانِ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ طَمَسَ عَلَيْهِمَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

 

وَعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: "قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَيَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.

اللَّهُمَّ جَدِّدِ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِنَا، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينَ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا.

اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.