عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ

المَوْضُوعُ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، تَعَالَوْا بِنَا مَعَ آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ لِنَتَأَمَّلَهَا وَنَأْخُذَ العِظَةَ مِنْهَا، يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً)؛ أَيْ: تَعْمَلُ كَثِيرًا، وَمَعَ ذَلِكَ مَآلُهَا النَّارُ الحَارَّةُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا.

فَمَنْ هَذِهِ التَّعِيسَةُ الَّتِي تَعْمَلُ وَتَكْدَحُ، وَتَحْسَبُ أَنَّهَا تُحْسِنُ صُنْعًا، وَمَصِيرُهَا النَّارُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ؟! إِنَّهَا النُّفُوسُ الضَّالَّةُ الشَّقِيَّةُ غَيْرُ المُحْسِنَةِ، وَهُمْ أَصْنَافٌ:

فَصِنْفٌ: يَعْمَلُ أَعْمَالًا لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَلَمْ يَشْرَعْهَا لِعِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ).

فَكُلُّ عَمَلٍ لَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شَرْطَا القَبُولِ، وَهُمَا: الإِخْلَاصُ وَالمُتَابَعَةُ؛ فَهُوَ عَمَلٌ بَاطِلٌ، وَإِنْ دَأَبَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُ.

قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).

وَقَدْ رَوَى الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البَرْقَانِيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجُونِيِّ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الخُطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِدَيْرِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ، يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ. قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً)؛ فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي.

وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الشَّامَ، أَتَاهُ رَاهِبٌ، شَيْخٌ كَبِيرٌ مُتَقَهِّلٌ – أَيْ: رَثُّ الهَيْئَةِ سَيِّئُ الحَالِ - عَلَيْهِ سَوَادٌ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ بَكَى. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: هَذَا المِسْكِينُ طَلَبَ أَمْرًا فَلَمْ يُصِبْهُ، وَرَجَا رَجَاءً فَأَخْطَأَهُ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ).

وَقَالَ البُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ): النَّصَارَى. وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُمُ الَّذِينَ أَنْصَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَعَلَى الكُفْرِ، مِثْلَ: عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَكُفَّارِ أَهْلِ الكِتَابِ، مِثْلَ: الرُّهْبَانِ وَغَيْرِهِمْ، لَا يَقْبَلُ اللهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - مِنْهُمْ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ".

وَعَنْ قَتَادَةَ: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً)، قال: "تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَأَعْمَلَهَا اللهُ وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ، بِجَرِّ السَّلَاسِلِ الثِّقَالِ، وَحَمْلِ الأَغْلَالِ، وَالوُقُوفِ حُفَاةً عُرَاةً فِي العَرَصَاتِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ".

وَالصِّنْفُ الآخَرُ مَنِ اقْتَرَفَ المَعَاصِي الكَبِيرَةَ المُخْرِجَةَ مِنَ الإِسْلَامِ، وَالمُبْطِلَةَ لِلْأَعْمَالِ، أَوِ اقْتَرَفَ السَّيِّئَاتِ المُذْهِبَةَ لِلْحَسَنَاتِ.

قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ: (عَامِلَةٌ): أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِالمَعَاصِي، (نَاصِبَةٌ): أَيْ: فِي النَّارِ بِالعَذَابِ وَالأَغْلَالِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لِأَخِيهِ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيهِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هَبَاءً مَنْثُورًا). قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ، جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟!» قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: "يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ".

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: "لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا المُوبِقَاتِ المُهْلِكَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ المُبْطِلَاتِ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)، وَغَيْرَهَا مِنَ الآيَاتِ.

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنِ الْعَالِيَةِ، أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلْتُ أَنَا وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَتُهُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: إنِّي بِعْتُ غُلَامًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ لَهَا: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا).

فَالمُنَافِقُونَ يُصَلُّونَ وَيَذْكُرُونَ اللهَ، لَكِنْ ذَلِكَ تَقِيَّةً وَنِفَاقًا، حَتَّى إِنَّهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَتَصَوَّرُونَ أَنَّ عَمَلَهُمْ نَافِعٌ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

فَلَمَّا أَخَلُّوا بِشَرْطِ صِحَّةِ العَمَلِ وَقَبُولِهِ قَالَ تَعَالَى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا).

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا).

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ). فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَلَا أَجْرَ مُحْسِنٍ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا، لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا وَصَوَابًا، قَالَ: وَالْخَالِصُ إِذَا كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: لَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ إِلَّا بِثَلَاثٍ: التَّقْوَى لِلَّهِ، وَالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ، وَالْإِصَابَةِ.

فَمَنْ أَخَلَّ يَا عِبَادَ اللهِ بِهَذِهِ الأُمُورِ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.

جَاءَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ، وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى حَالِهِ هَذِهِ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: «مَا صَلَّيْتَ. وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ، فَقَالَ: "لَو مَاتَ هَذَا لَمَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرُوَاتَهُ ثِقَاتٌ.

فَجَمِيعُ الأَعْمَالِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الإِحْسَانِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَنَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ.

اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَعْلَى جَنَّةِ الخُلْدِ.

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا.

اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.