وَدَاعُ رَمَضَانَ

المَوْضُوعُ: وَدَاعُ رَمَضَانَ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، لَقَدْ عَزَمَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَى الرَّحِيلِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا القَلِيلُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي: مَنِ الفَائِزُ مِنَّا فَنُهَنِّيَهُ؟ وَمَنِ المَحْرُومُ فَنُعَزِّيَهُ؟

تَرَحَّلَ الشَّهْرُ وَالَهْفَاهُ وَانْصَرَمَا ... وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ فِي الجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا

وَأَصْبَحَ الغَافِلُ المِسْكِينُ مُنْكَسِرًا ... مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا

مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البَدَارِ فَمَا ... تَرَاهُ يَحْصِدُ إِلَّا الهَمَّ وَالنَّدَمَا.

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي: مَنْ هَذَا المَقْبُولُ فَنُهَنِّيَهُ؟ وَمَنْ هَذَا المَحْرُومُ فَنُعَزِّيَهُ؟

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا المَقْبُولُ، هَنِيئًا لَكَ! أَيُّهَا المَرْدُودُ، جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَكَ!

عِبَادَ اللهِ، تَغَانَمُوا مَا بَقِيَ، فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَنَا فِي نِهَايَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْمَالًا تَعَبُّدِيَّةً، إِكْمَالًا لِلْمِنَّةِ وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ). يَعْنِي زَكَاةَ الفِطْرِ وَصَلَاةَ العِيدِ.

وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)، فَقَالَ: أُنْزِلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ". رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.

زَكَاةُ الفِطْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا زَكَاةُ الفِطْرِ؟ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ: «يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَّى إِنْ كَانَ لِيُعْطِي عَنْ بَنِيَّ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ: "كَانَ يُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ يَعُولُهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ". وَمَنْ تَصَدَّقَ فَأَخْرَجَهَا عَنْ خَدَمِهِ بِإِذْنِهِمْ فَحَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: «مَا أَخْرَجْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ ... وَذَكَرَ الحَدِيثَ». وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إجْزَاءِ الدَّقِيقِ.

فَزَكَاةُ الفِطْرِ وَاجِبَةٌ بِالإِجْمَاعِ، وَوَقْتُ وُجُوبِهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، فَتَجِبُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَحْظَةٍ، وَتَسْقُطُ عَمَّنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ غُرُوبِهَا بِلَحْظَةٍ،

وَيُخْرِجُهَا الْمُسْلِمُ - عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ - صَاعًا عَنْ كُلِّ نَفْسٍ، وَقَدْرُهُ كِيلُوَانِ وَخَمْسُونَ جِرَامًا تَقْرِيبًا، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ.

وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهَا عَنِ الجَنِينِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ «يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنِ الْحَبَلِ». وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: «كَانُوا يُعْطُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَتَّى يُعْطُونَ عَنِ الْحَبَلِ». رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُ.

وَالأَفْضَلُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الفِطْرِ قُبَيْلَ صَلَاةِ العِيدِ بِوَقْتٍ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا المِسْكِينُ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ العِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.

قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَفِي المُوَطَّأِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ: «يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ، بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ».

وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ جَائِزٌ أَنْ تُجْمَعَ عِنْدَ جِهَةٍ مَوْثُوقَةٍ، أَوْ شَخْصٍ أَمِينٍ، يُوصِلُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا فِي وَقْتِهَا المَشْرُوعِ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ». أَيْ: إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ.

وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ: «رَأَى أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُوا إِلَى الْمُصَلَّى».

وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

فَأَدُّوا يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَعَمَّنْ تَمُونُونَ، سَوَاءً كُنْتُمْ فِي حَضَرٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ بَادِيَةٍ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَطْيَبَ مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ البَلَدِ مِنَ الأُرْزِ الجَيِّدِ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).

وَتَجِبُ زَكَاةُ الفِطْرِ عَلَى كُلِّ مَنْ فَضَلَ عِنْدَهُ زِيَادَةٌ عَنْ قُوتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا.

وَلِلْفَقِيرِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الفِطْرَةِ الَّتِي أُعْطِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الفِطْرَةَ إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهَا لَا يَعُودُ فِيهَا بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الَّذِي دَفَعَهَا لَهُ.

والْمَقْصُودُ مِنْ شَرَعِ الْفِطْرَةِ: إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ فِي  يَوْمِ العِيدِ عَنِ المَسْأَلَةِ، وَيُجْزِئُ جَمْعُهَا لِفَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَقِسْمَتُهَا لِأَكْثَرَ مِنْ فَقِيرٍ، وَتَخْرُجُ فِي نَفْسِ البَلَدِ الَّذِي بَلَغَهُ العِيدُ وَهُوَ فِيهِ، وَإِنْ أَرْسَلَهَا، أَوْ وَكَّلَ مَنْ يُخْرِجُهَا عَنْهُ خَارِجَ بَلَدِهِ: أَجْزَأَتْ إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلِمَهَا الفَقِيرُ أَوْ وَكِيلُ الفَقِيرِ قَبْلَ صَلَاةِ العِيدِ.

وَالبَالِغُ الَّذِي عِنْدَهُ مَالٌ يُخْرِجُهَا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَأْذَنُ لِوَالِدِهِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ.

وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تَخْرُجُ طَعَامًا لَا نُقُودًا، اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِعْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَغَيْرِهِ.

وَمِمَّا يُشْرَعُ لَيْلَةَ العِيدِ: التَّكْبِيرُ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). فَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ أَفْطَرْنَا، وَإِلَّا أَتْمَمْنَا رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَيُشْرَعُ لَنَا لَيْلَةَ العِيدِ التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ فِي البُيُوتِ وَالأَسْوَاقِ وَالمَسَاجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ فُرَادَى، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَذَهَبَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى الوُجُوبِ؛ لِظَاهِرِ الأَمْرِ فِي الآيَةِ.

وَالحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبيرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالجَهْرِ بِهِ - إِلَّا لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ – هُوَ الشُّكْرُ للهِ عَلَى هِدَايَتِهِ.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: إِذَا رَأَى الهِلَالَ، فَالتَّكْبِيرُ مِنْ حِينِ يَرَى الهِلَالَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الإِمَامُ، فِي الطَّرِيقِ وَالمَسْجِدِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الإِمَامُ كَفَّ فَلَا يُكَبِّرُ إِلَّا بِتَكْبِيرِهِ.

وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَقٌّ عَلَى المُسْلِمِينَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى هِلَالِ شَوَّالٍ: أَنْ يُكَبِّرُوا اللهَ حَتَّى يَفْرَغُوا مِنْ عِيدِهِمْ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الفِطْرِ إِذَا غَدَا إِلَى الـمُصَلَّى، حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ فَيُكبِّرَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ المُلَقِّنِ.

وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ.

وَأَخْرَجَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: كَانُوا فِي الْفِطْرِ أَشَدَّ مِنْهُمْ فِي الْأَضْحَى. يَعْنِي فِي التَّكْبِيرِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِسْلَامِ، وَنِعْمَةِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ صَلَاةَ العِيدِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا النِّسَاءَ، فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُصَلَّى -، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَيْسَ لِلنَّسَائِيِّ فِيهِ أَمْرُ الْجِلْبَابِ.

وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ: «وَالْحُيَّضُ يَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ».

وَلِلْبُخَارِيِّ: «قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ».

وَيُشْرَعُ لَنَا التَّجَمُّلُ، وَالتَّنَظُّفُ، وَالاغْتِسَالُ، وَالسِّوَاكُ لِصَلَاةِ العِيدِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ.

فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ العِيدِ بِالمَسْجِدِ، فَتُشْرَعُ تَحِيَّةُ المَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ.

وَأَخْرَجَ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ الفَرَضِيُّ - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَالسُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ - عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ العِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ زَاهِرٌ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ البَاهِلِيَّ يَقُولُ فِي العِيدِ لِأَصْحَابِهِ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ.

قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: مَا زَالَ الأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ. وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

اللَّهُمَّ اجْبُرْ كَسْرَ قُلُوبِنَا بِوَدَاعِ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، وَاجْعَلْ لَنَا فِيهِ أَوْفَرَ الحَظِّ وَالنَّصِيبِ، وَأَعِدْهُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ بِعَافِيَةٍ تَامَّةٍ وَسَلَامَةٍ كَامِلَةٍ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَأَعْتِقْ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ صَامَ وَقَامَ الشَّهْرَ، وَاسْتَكْمَلَ الأَجْرَ، وَوُفِّقَ لِلَيْلَةِ القَدْرِ.

اللَّهُمَّ وَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ وَالثَّبَاتَ حَتَّى المَمَاتِ، وَاجْعَلْنَا دَائِمًا وَأَبَدًا نُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا حِسَابًا جَمِيلًا.

وَارْزُقْنَا تِلَاوَةَ كِتَابِكَ كَثِيرًا، وَتَدَبُّرَهُ وَالعَمَلَ بِهِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيكَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلِ القُرْآنَ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَشَافِعًا لَنَا لَا شَاهِدًا عَلَيْنَا.

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنَا مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَعَمَلٍ لَا يُرْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَقَوْلٍ لَا يُسْمَعُ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.