العَشْرُ الأَوَاخِرُ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ تَحْتَضِنُ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ لَيْلَةٍ فِي الدُّنْيَا، إِنَّهَا لَيْلَةُ القَدْرِ، اللَّيْلَةُ المُبَارَكَةُ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فِيهِ - يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ - لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ - يَعْنِي القُرْآنَ - فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

فَفِي لَيْلَةِ القَدْرِ يَكْثُرُ تَنَزُّلُ المَلَائِكَةِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهَا وَبَرَكَتِهَا، وَفِيهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قَالَ جُوَيْبِرٌ: قُلْتُ لِلضَّحَّاكِ: أَرَأَيْتَ النُّفَسَاءَ وَالحَائِضَ وَالمُسَافِرَ وَالنَّائِمَ لَهُمْ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ نَصِيبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلُّ مَنْ تَقَبَّلَ اللهُ عَمَلَهُ سَيُعْطِيهِ نَصِيبَهُ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

فَاللَّيْلَةُ المُبَارَكَةُ هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، وَفِيهَا يَقْضِي اللهُ أَمْرَ السَّنَةِ كُلِّهَا: مَنْ يَمُوتُ، وَمَنْ يُولَدُ، وَمَنْ يُعِزُّ، وَمَنْ يُذِلُّ، وَسَائِرَ أُمُورِ السَّنَةِ.

وَلِأَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ غَنِيمَةٌ ثَمِينَةٌ، وَتِجَارَةٌ مَعَ اللهِ رَابِحَةٌ، قَالَ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ»، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَتْ عائِشَة رَضِيَ اللَّه عنْهَا: كانَ رسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجاوِرُ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رمضَانَ، ويَقُول: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ". متفقٌ عَلَيْهِ.

وَمَعَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ يُضَاعِفُ جُهْدَهُ، فَيُحْيِي لَيْلَهُ.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ - مِنْ رَمَضَانَ – مَا لَا يَجْتَهدُ فِي غَيْرِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رمَضَانَ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْهَا: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْلِطُ الْعِشْرِينَ بِصَلَاةٍ وَنَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ شَمَّرَ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ". رَوَاهُ أَحْمدُ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَّلَاةَ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَحَبُّ إِلَيَّ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ أَنْ يَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ وَيَجْتَهِدَ فِيهِ، وَيُنْهِضَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ إِلَى الصَّلَاةِ إِنْ أَطَاقُوا ذَلِكَ".

 

وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ، أَنَّهُ كَانَ فِي لَيَالِي العَشْرِ يَجْعَلُ عَشَاءَهُ سُحُورًا، وَلَفْظُ حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ رَمَضَانُ قَامَ وَنَامَ، فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ المِئْزَرَ، وَاجْتَنَبَ النِّسَاءَ، وَاغْتَسَلَ بَيْنَ الأَذَانَيْنِ، وَجَعَلَ العَشَاءَ سُحُورًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَإِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَفْظُهُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ طَوَى فِرَاشَهُ، وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَجَعَلَ عَشَاءَهُ سُحُورًا، وَفِي إِسْنَادِهِ حَفْصُ بْنُ وَاقِدٍ ...

وَرُوِيَ أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَغْتَسِلُوا كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ.

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي اللَّيَالِي الَّتِي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ التَّنَظُّفُ وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّطَيُّبُ، بِالغُسْلِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ الحَسَنِ، كَمَا يُشْرَعُ ذَلِكَ فِي الجُمَعِ وَالأَعْيَادِ، وَلَا يَكْمُلُ التَّزَيُّنُ الظَّاهِرُ إِلَّا بِتَزَيُّنِ البَاطِنِ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. انْتَهَى.

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنَّ شَعِيرَةَ الاعْتِكَافِ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ جَلِيلَةُ القَدْرِ، عَظِيمَةُ الأَجْرِ.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَافَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ!

وَالمَقْصُودُ مِنَ الاعْتِكَافِ هُوَ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالخَلْوَةِ بِاللهِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الاعْتِكَافُ قَطْعُ العَلَائِقِ عَنِ الخَلَائِقِ لِلاتِّصَالِ بِخِدْمَةِ الخَالِقِ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ المَعْرِفَةُ بِاللهِ، وَالمَحَبَّةُ لَهُ، وَالأُنْسُ بِهِ: أَوْرَثَتْ صَاحِبَهَا الانْقِطَاعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالكُلِّيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ المُعْتَكِفَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ مُخَالَطَةُ النَّاسِ، حَتَّى وَلَا لِتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَإِقْرَاءِ قُرْآنٍ؛ بَلْ الأَفْضَلُ لَهُ الانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ، وَالتَّخَلِّي بِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، وَهَذَا الاعْتِكَافُ هُوَ الخَلْوَةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تَحَرَّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوَتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيتُ  لَيْلَةَ  القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ كُلِّ وَتْرٍ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: ذُكِرَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالَ: مَا أَنَا مُلْتَمِسُهَا لِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «التَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي ثَلَاثِ أَوَاخِرِ لَيْلَةٍ»، وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي فِي العِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ كَصَلَاتِهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَإِذَا تَأَمَّلْنَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ، وَجَعَلْنَا الحِسْبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ اكْتِمَالِ الشَّهْرِ وَنُقْصَانِهِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا يَبْقَيْنَ وَمَا يَمْضِينَ؛ فَإِنَّ الأَشْفَاعَ فِيمَا تَبَقَّى تُحْسَبُ أَوْتَارًا إِذَا اكْتَمَلَ الشَّهْرُ، مِمَّا يَجْعَلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي العَشْرِ يُرْجَى أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَتَسْتَوْجِبُ الجِدَّ وَالاجْتِهَادَ، وَمَنْ قَامَ اللَّيَالِيَ العَشْرَ أَصَابَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لَيْلَةَ القَدْرِ، وَبَعْضُ اللَّيَالِي أَحْرَى مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ ذَهَبَ الحَسَنُ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا تُطْلَبُ فِي جَمِيعِ لَيَالِي العَشْرِ: أَشْفَاعِهِ وَأَوْتَارِهِ؛ لِإِخْفَاءِ اللهِ لَهَا، وَتَقَارُبِ الاحْتِمَالَاتِ وَالتَّوْجِيهَاتِ.

وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ هِيَ أَحْرَى اللَّيَالِي، فَعَنْ زِرٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: «مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ»، فَقَالَ أُبَيٌّ: «وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ تُقَوِّيهِ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ، وَرَجَّحَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

وَلَيْلَةُ القَدْرِ قَدْ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَهَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ أَمْ تَتْنَقِلُ.

وَمَنْ قَامَ العَشْرَ أَصَابَ لَيْلَةَ القَدْرِ - بِإِذْنِ اللهِ -.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى إِنْعَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - أَمَّا بَعْدُ: فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، قَالَ: "آمِينَ آمِينَ آمِينَ": فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ أَمَّنْتَ؟ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ آمِينَ ... الحَدِيثَ". رَوَاهُ البَزَّارُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يُحَسَّنُ بِهَا.

فَيَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي رَمَضَانَ فَمَتَى يُغْفَرُ لَهُ؟! وَمَنْ لَمْ تُعْتَقْ رَقَبَتُهُ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ فَمَتَى تُعْتَقُ؟!

فَاللهَ اللهَ بِالجِدِّ وَالاجْتِهَادِ فِي مَا تَبَقَّى مِنْ شَهْرِ الغُفْرَانِ وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، فِي شَهْرِ مُضَاعَفَةِ الحَسَنَاتِ، وَمَغْفِرَةِ السَّيِّئَاتِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَغْفِرَ لِي". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ... الحَدِيثَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ».

وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ للهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ صَامَ الشَّهْرَ، وَاسْتَكْمَلَ الأَجْرَ، وَأَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَفَازَ بِالحَظِّ الأَوْفَرِ وَالنَّصِيبِ الأَكْبَرِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعفَافَ، وَالغِنَى.

اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْنَا، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ نَعْمَلْ.

اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ، وَالأَعْمَالِ، وَالأَهْوَاءِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.

اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.