شَهْرُ شَعْبَانَ

الموضوع: شَهْرُ شَعْبَانَ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلَا - رَتَّبَ بَعْضَ الأُجُورِ عَلَى بَعْضِ الشُّهُورِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ؛ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى جَنَّاتِهِ، وَجَعَلَ لِشَهْرِ شَعْبَانَ خَصَائِصَ وَوَظَائِفَ، أَهَمُّهَا:

مَا جَاءَ عَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، قالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُوم مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ شَهْرِ شَعْبَانَ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ، وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ شَعْبَانَ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ مِنَ الأَشْهُرِ؛ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِيَامِهِ، وَلِلُصُوقِهِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.

أَمَّا مَا جَاءَ عَنْ أَبي هُريرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ: صَلَاةُ اللَّيْلِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَحَمَلَهُ مَنْ يُفَضِّلُونَ صِيَامَ شَعْبَانَ عَلَى صِيَامِ المُحَرَّمِ، عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ خَاصٌّ بِنَافِلَةِ الصِّيَامِ المُطْلَقَةِ، لَا نَافِلَةِ الصِّيَامِ المُقَيَّدَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِفَرِيضَةِ صِيَامِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا تَكْتَسِبُ خَاصِّيَّةً وَفَضْلًا عَلَى غَيْرِهَا لِفَضْلِ الفَرِيضَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: صِيَامُ شَعْبَانَ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ قَالَ: "شَعْبَانُ" تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: أَفْضَلُ التَّطَوُّعِ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ يَلْتَحِقُ بِصِيَامِ رَمَضَانَ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَتَكُونُ مَنْزِلَتُهُ مِنَ الصِّيَامِ بِمَنْزِلَةِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الفَرَائِضِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.

قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَجْهُ صِيَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشَعْبَانَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ. انْتَهَى.

وَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ شَعْبَانَ، مَا جَاءَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ حُسِّنَ.

وَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ شَهْرَ شَعْبَانَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ؛ فَلِذَا يُسْتَحَبُّ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ، فَإِنَّ الزَّمَانَ وَالمَكَانَ الَّذِي يَغْفُلُ فِيهِ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، يُسْتَحَبُّ إِعْمَارُهُ بِالذِّكْرِ قَوْلًا وَفِعْلًا.

وَدَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ شَهْرَ شَعْبَانَ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، فَيَحْسُنُ بِالعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ صَالِحًا.

وَزَمَنُ رَفْعِ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ وَعَرْضُهَا عَلَيْهِ زَمَنٌ فَاضِلٌ، وَوَقْتٌ يُرَاعَى، فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَصُومُ حَتَّى لَا تَكَادَ تُفْطِرُ، وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ، إِلَّا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلَّا صُمْتَهُمَا، قَالَ: «أَيُّ يَوْمَيْنِ؟» قُلْتُ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، قَالَ: «ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَعَنْ أَبِي هُريْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يوْمَ الاثَنيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ". رَوَاهُ التِرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ ذِكْرِ الصَّوْمِ.

وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: "تُرْفَعُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ، وَيُتْرَكُ أَهْلُ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ".

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى صَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثنَيْنِ". وَذَكَرَ نَحْوَهُ.

وَمِنَ الأَوْقَاتِ الفَاضِلَةِ لِرَفْعِ الأَعْمَالِ فِيهَا، مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلمُ بهِمْ: كَيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَىٰ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ (وَفِي رِوَايَةِ: النَّارُ)، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، قَالَ: "فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، يُبْرَمُ فِيهَا أَمْرُ السَّنَةِ، وَتُنْسَخُ الأَحْيَاءُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَيُكْتَبُ الحَاجُّ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ: أَوْلَى القَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ لَيْلَةَ القَدْرِ.

وَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ شَعْبَانَ: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَالوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ حَتَّى لَا يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ وَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ.

فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ»، قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَغْتَنِمُ صِيَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِشَعْبَانَ، فَتَقْضِي مَا عَلَيْهَا مِنْ فَرْضِ رَمَضَانَ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَعْبَانُ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ نَوَافِلِ صِيَامِهِ فِي العَامِ اسْتُحِبَّ لَهُ قَضَاؤُهَا فِيهِ، حَتَّى يُكْمِلَ نَوَافِلَ صِيَامِهِ بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مَعَ القُدْرَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ رَمَضَانَ آخَرَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ تَأْخِيرُهُ لِعُذْرٍ مُسْتَمِرٍّ بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ، كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ رَمَضَانَ الثَّانِي، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ القَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقِيلَ: يَقْضِي وَيُطْعِمُ مَعَ القَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، اتِّبَاعًا لِآثَارٍ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: يَقْضِي وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يُطْعِمُ وَلَا يَقْضِي، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ شَعْبَانَ: أَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: كَانَ شَعْبَانُ كَالمُقَدِّمَةِ لِرَمَضَانَ، شُرِعَ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأَهُّبُ لِتَلَقِّي رَمَضَانَ، وَتَرْتَاضَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، رُوِّينَا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ المُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ انْكَبُّوا عَلَى المَصَاحِفِ فَقَرَؤُهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ؛ تَقْوِيَةً لِلضَّعِيفِ وَالمِسْكِينَ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: كَانَ يُقَالُ: شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ القُرَّاءِ. وَكَانَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ، قَالَ: هَذَا شَهْرُ القُرَّاءِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ شَعْبَانَ: أَنَّهُ لَا يُصَامُ ابْتِدَاءً إِذَا انْتَصَفَ الشَّهْرُ، إِنْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ وَالعَمَلِ بِهِ، وَضَعَّفَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَمَنْ بَدَأَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ نِصْفِ الشَّهْرِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الصِّيَامِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةُ صِيَامٍ كَيَوْمَيِ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكمْ رَمَضَانَ بِصَومِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي فَضْلِ لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَضَعَّفَهَا الأَكْثَرُونَ، وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْضَهَا فِي صَحِيحِهِ، كَحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، كَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَمَكْحُولٍ، وَلُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا، وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا فِي العِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ فَضْلَهَا وَتَعْظِيمَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي البُلْدَانِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ مِنْهُمْ وَوَافَقَهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهَا، مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ البَصْرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الحِجَازِ، مِنْهُمْ: عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: ذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ.

عِبَادَ اللهِ، قَالَ مُعَلَّى بْنُ الفَضْلِ: كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رَمَضَانَ، وَيَدْعُونَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: كَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي إِلَى رَمَضَانَ، وَسَلِّمْ لِي رَمَضَانَ، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي مُتَقَبَّلًا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا نُعَظِّمُ شُكْرَكَ، وَنُكْثِرُ ذِكْرَكَ، وَنتَّبِعُ نَصِيحَتَكَ، وَنحْفَظُ وَصِيَّتَكَ. اللَّهُمَّ اهْدِنا لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ إِنَّهُ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ. اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِنَا، وَأَجِرْنَا مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنَا. اللَّهُمَّ نسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِنَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أَنْفُسِنَا.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَفِي أَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا وَأَرْوَاحِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.