شَهْرُ رَجَبٍ

المَوضُوعُ: شَهْرُ رَجَبٍ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ، "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).

قَالَتْ طَائِفَةٌ: المَعْنَى: وَرَبُّكَ يَخْتَارُ مِنْ خَلْقِهِ الَّذِي لَهُمُ الخِيَرَةُ؛ فَـ (مَا) هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: (مَا) هُنَا نَفْيٌ؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُمُ الاخْتِيَارُ عَلَى اللهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

وَالخُلَاصَةُ أَنَّ اللهَ يَخْتَارُ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الخِيَرَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى اللهِ فِي اخْتِيَارِهِ؛ بَلِ الوَاجِبُ التَّسْلِيمُ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً: "أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -"، فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي". وَقَالَ: "فِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ، وَاخْتَارَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ، وَاخْتَارَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَةَ قُرُونٍ: الْقَرْنَ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِيَ، وَالثَّالِثَ، وَالرَّابِعَ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِي بَعْضِهِمْ خِلَافٌ. وَصَحَّحَهُ القُرْطُبِيُّ.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِمَّا اخْتَارَهُ اللهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الأَشْهُرَ الحُرُمَ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).

أَيْ: اعْلَمُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّ عَدَدَ الشُهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلَالِيًّا فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَأَنَّ مِنْ هَذِهِ الاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ خَصَّهَا اللهُ بِأَنْ جَعَلَهَا حُرُمًا، ذَلِكَ دِينُ اللهِ المُسْتَقِيمُ، فَلَا تَعْصُوا اللهَ فِي الأَشْهُرِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ العُمُومِ، وَلَا فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ الأَرْبَعَةِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)؛ "فِي كُلِّهِنَّ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجْرَ أَعْظَمَ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ.

وَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَرْضِ المَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَشْهُرَ الحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللهُ عِنْدَ أَهْلِ الفَهْمِ وَأَهْلِ العَقْلِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي تَرْكِ أَمْرِهِ أَوِ ارْتِكَابِ نَهْيِهِ ظُلْمٌ مِنَ الإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ.

وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا). قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الدَّارقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.

 

وَبَعْدُ: فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "قَوْلُهُ: وَرَجَبُ مُضَرَ، أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْظِيمِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ ... وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ تَأْكِيدًا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ نَسَئُوا بَعْضَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ أَيْ: أَخَّرُوهَا، فَيُحِلُّونَ شَهْرًا حَرَامًا وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ آخَرَ بَدَلَهُ ... فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْأَشْهُرَ رَجَعَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَبَطَلَ النَّسِيءُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا يُخَالِفُونَ بَيْنَ أَشْهُرِ السَّنَةِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُمْ؛ مِنْهَا اسْتِعْجَالُ الْحَرْبِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ثُمَّ يُحَرِّمُونَ بَدَلَهُ شَهْرًا غَيْرَهُ، فَتَتَحَوَّلُ فِي ذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ وَتَتَبَدَّلُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ السِّنِينَ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، فَاتَّفَقَ وُقُوعُ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ".

وَاخْتَلَفُوا فِي شَهْرِ رَجَبٍ؛ هَلْ هُوَ أَوَّلُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَمْ آخِرُهَا، وَأَيُّ الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَفْضَلُ؟ فَقِيلَ: رَجَبٌ، وَقِيلَ: المُحَرَّمُ، رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقِيلَ: ذُو الحِجَّةِ، رَجَّحَهُ ابْنُ رَجَبٍ.

وَالمُهِمُّ يَا عِبَادَ اللهِ: أَنْ نُعَظِّمَ الأَشْهُرَ الحُرُمَ كَمَا عَظَّمَهَا اللهُ، وَأَنْ نَقْدُرَ لَهَا قَدْرَهَا.

قَالَ تَعَالَى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ). قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ - يَعْنِي الأَشْهُرَ الحُرُمَ - وَتُحَرِّمُهُنَّ، وَتُحَرِّم القِتَالَ فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهِجْهُ".

وَمِنْ أَحْكَامِ رَجَبٍ: مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ القِتَالِ، قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حُكْمِ القِتَالِ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ هَلْ تَحْرِيمُهُ بَاقٍ أَوْ نُسِخَ؟ فَالجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ تَحْرِيمُهُ، وَنَصَّ عَلَى نَسْخِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الأَئِمَّةِ.

 

وَمِنْ أَحْكَامِ رَجَبٍ: "العَتِيرَةُ"، وَهِيَ ذَبِيحَةٌ تُذْبَحُ للهِ فِي رَجَبٍ تُسَمَّى "الرَّجَبِيَّةَ"؛ فَالأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا فَرْعَ وَلَا عَتِيرَةَ". وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ مَنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ، وَحَكَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ المُتَأَخِّرِينَ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِبَعْضِ الأَحَادِيثِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَا فَرْعَ وَلَا عَتِيرَةَ" أَصَحُّ وَأَصْرَحُ.

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ - قَالَ النَّوَوِيُّ: بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ -، وَصَحَّحَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ نُبَيْشَةَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ يَعْنِي فِي رَجَبٍ، قَالَ: "اذْبَحُوا للهِ، فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، وَبَرُّوا للهِ، وَأَطْعِمُوا".

وَمِنْ أَحْكَامِ رَجَبٍ: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي شَهْرِ رَجَبٍ صَلَاةٌ مَخْصُوصَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَالأَحَادِيثُ المَرْوِيَّةُ فِي فَضْلِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ: كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، لَا تَصِحُّ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِدْعَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ بَعْدَ الأَرْبَعِمِائَةٍ.

وَمِنْ أَحْكَامِ رَجَبٍ: الصِّيَامُ فِيهِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ صَوْمِ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَصُومُهَا؛ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يُصَامَ رَجَبٌ كُلُّهُ. وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ: يُفْطِرُ مِنْهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ إِفْرَادَ شَهْرِ رَجَبٍ بِالصِّيَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزُولُ كَرَاهَةُ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ بِأَنْ يَصُومَ مَعَهُ شَهْرًا آخَرَ تَطَوُّعًا.

وَوَرَدَ فِي صِيَامِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ كُلِّهَا حَدِيثُ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ، عَنْ أَبِيهَا، أَوْ عَمِّهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ له: "صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ". خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ صَالِحٌ عِنْدَهُ، وَقَدْ ضُعِّفَ.

وَأَمَّا الاعْتِمَارُ فِي رَجَب؛ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ فَسَكَتْ.

وَاسْتَحَبَ الاعْتِمَارَ فِي رَجَبٍ: عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَفْعَلُهُ وَابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَنَقَلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.

وَقَدْ حُكِيَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ، وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ فِيهِ.

وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ رَجَبٍ غَيْرُ هَذَا الحَدِيثِ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعِني وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ ذِي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: شَهْرُ رَجَبٍ مِفْتَاحُ أَشْهُرِ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الوَرَّاقِ البَلْخِيُّ: شَهْرُ رَجَبٍ شَهْرُ الزَّرْعِ، وَشَعْبَانُ شَهْرُ السَّقْيِ لِلزَّرْعِ، وَرَمَضَانُ شَهْرُ حَصَادِ الزَّرْعِ. وَعَنْهُ قَالَ: مَثَلُ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلُ الرِّيحِ، وَمَثَلُ شَعْبَانَ مَثَلُ الغَيْمِ، وَمَثَلُ رَمَضَانَ مَثَلُ القَطْرِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: جَدِيرٌ بِمَنْ سَوَّدَ صَحِيفَتَهُ بِالذُّنُوبِ أَنْ يُبَيِّضَهَا بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَبِمَنْ ضَيَّعَ عُمْرَهُ فِي البَطَالَةِ أَنْ يَغْتَنِمَ فِيهِ مَا بَقِيَ مِنَ العُمْرِ.

بَيِّضْ صَحِيفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبٍ ... بِصَالِحِ العَمَلِ المُنْجِي مِنَ اللَّهَبِ

شَهْرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمٍ ... إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فِيهِ لَمْ يَخِبِ

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَظُلْمَنَا، وَهَزْلَنَا، وَجِدَّنَا، وَعَمْدَنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا.

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنّا نعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَنَّنَا نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنَا إِلَى أنَفْسِنَا تُقَرِّبْنَا إِلَى الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنَّا لَا نَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ؛ فَاجْعَلْ لَنَا عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.