وَقَفَاتٌ مَعَ الشِّتَاءِ

المَوضُوعُ: وَقَفَاتٌ مَعَ الشِّتَاءِ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، تَعَاقُبَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَالأَسَابِيعِ وَالأَعْوَامِ، وَتَعَاقُبَ الشُّهُورِ الهِلَالِيَّةِ، وَالفُصُولِ الشَّمْسِيَّةِ: الخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ، وَامْتِدَادَ كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَتَمَيُّزَهُ بِمُنَاخٍ وَخَصَائِصَ.

إِنَّ فِي نِظَامِ الكَوْنِ البَدِيعِ المُحْكَمِ آيَةً وَعِبْرَةً، فَتَأَمَّلْ جَرَيَانَ الشَّمْسِ شُرُوقًا وَغُرُوبًا، وَكَيْفَ يَحْدُثُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَتَأَمَّلْ سَيْرَ القَمَرِ، وَكَيْفَ يُولَدُ هِلَالًا ثُمَّ يَكْتَمِلُ بَدْرًا، ثُمَّ يَعُودُ هِلَالًا، وَبِهِ حِسَابُ الشُّهُورِ.

وَتَأَمَّلْ فِي دَوَرَانِ الأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا وَدَوَرَانِهَا حَوْلَ الشَّمْسِ، وَدُنُوِّ الشَّمْسِ مِنَ الأَرْضِ وَبُعْدِهَا عَنْهَا، وَكَوْنِ أَشِعَّتِهَا عَمُودِيَّةً عَلَى بَعْضِ الأَرْضِ، وَمَائِلَةً عَلَى بَعْضِهَا الآخَرِ، وَمَا يَنْتُجْ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ بَرْدٍ، وَحَرٍّ، وَاعْتِدَالٍ. قَالَ تَعَالَى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

 

وَقَالَ تَعَالَى: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

عِبَادَ اللهِ: أَقِفُ مَعَكُمْ وَقَفَاتٍ مُبَارَكَةً تَتَعَلَّقُ بِفَصْلِ الشِّتَاءِ، فَأَرْعُوا إِلَيْهَا أَسْمَاعَكُمْ، وَافْتَحُوا لَهَا قُلُوبَكُمْ:

الوَقْفَةُ الأُولَى: يَتمَيَّزُ الشِّتَاءُ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ البَارِدَةِ وَبِالبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَبِالبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ، وَنَشْأَةِ الغُيُومِ، وَتَجَمُّعِ السُّحُبِ، وَهُطُولِ الأَمْطَارِ وَالبَرَدِ، وَتَكَوُّنِ الثُّلُوجِ وَالجَلِيدِ. وَهَذَا يَدْعُونَا إِلَى التَّفَكُّرِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا لُطْفَهُ بِنَا، حَيْثُ جَعَلَ لَنَا مَا يَحْمِينَا مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ وَمَا يَحْمِينَا مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ. قَالَ تَعَالَى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). وَذِكْرُ أَحَدِ الفَصْلَيْنِ الحَرِّ أَوِ البَرْدِ يَدُلُّ عَلَى الآخَرِ.

الوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلَا - عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ التَّغَيُّرَاتُ الكَوْنِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ؛ فَمِنْ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ تَعَالَى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)؛ فَوَظِيفَةُ اللَّيْلِ السَّكَنُ، وَوَظِيفَةُ النَّهَارِ الطَّلَبُ.

وَمِنَ التَّغَيُّرَاتِ: الحَرُّ وَالبَرْدُ، قَالَ تَعَالَى: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ).

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "إِنَّ اللهَ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ الحَرَّ وَالبَرْدَ فِي الدُّنْيَا لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، فَالحَرُّ لِتَحَلُّلِ الأَخْلَاطِ، وَالبَرْدُ لِجُمُودِهَا، فَمَتَى لَمْ يُصِبِ الأَبْدَانَ شَيْءٌ مِنَ الحَرِّ وَالبَرْدِ تَعَجَّلَ فَسَادُهَا، وَلَكِنَّ المَأْمُورَ بِهِ هُوَ اتِّقَاءُ مَا يُؤذِي البَدَنَ مِنَ الحَرِّ المُؤْذِي، وَالبَرْدِ المُؤْذِي، المَعْدُودَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ أَعْدَاءِ ابْنِ آدَمَ".

الوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي عَلَيْنَا حِفَاظًا عَلَى أَنْفُسِنَا وَعَلَى مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِنَا وَرِعَايَتِنَا أَخْذَ الاحْتِيَاطَاتِ اللَّازِمَةِ مِنْ وَسَائِلِ التَّدْفِئَةِ وَعَوَامِلِ الوِقَايَةِ مِنْ أَضْرَارِ شِدَّةِ البَرْدِ وَأَذِيَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ تَأَهَّبَ لِعَدُوٍّ قَدْ أَظَلَّكَ، قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ عَدُوِّي وَلَيْسَ بِحَضْرَتِي عَدُوٌّ؟ قَالَ: بَلَى، الشِّتَاءُ.

وَرَوَى ابْنُ المُبَارَكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ تَعَاهَدَهُمْ، وَكَتَبَ لَهُمْ بِالوَصِيَّةِ: إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ عَدُوٌّ، فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالخِفَافِ وَالجَوَارِبِ، وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا، فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ، سَرِيعٌ دُخُولُهُ، بَعِيدٌ خُرُوجُهُ".

وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ عُمَرُ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ لَمَّا فُتِحَتْ فِي زَمَنِهِ، فَكَانَ يَخْشَى عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ بِالبَرْدِ: أَنْ يَتَأَذَّى بِبَرْدِ الشَّامِ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ نَصِيحَتِهِ وَحُسْنِ نَظَرِهِ وَشَفَقَتِهِ وَحِيَاطَتِهِ لِرَعِيَّتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَالَ: "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ، والأَمِيرُ رَاعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أَهْلِ بَيْتِهِ، والمرْأَةُ راعِيةٌ عَلَى بيْتِ زَوْجِها وولَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الوَقْفَةُ الخَامِسَةُ: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَغَانُمِ مَوَاسِمِ الأُجُورِ كَفَصْلِ الشِّتَاءِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَخَرَّجَهُ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَزَادَ فِيهِ: "طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ".

وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَكِنَّهُ اخْتَلَطَ.

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.

وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى الغَنِيمَةِ البَارِدَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، فَيَقُولُ: الصِّيَامُ فِي الشِّتَاءِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالشِّتَاءِ، تَنْزِلُ فِيهِ البَرَكَةُ، وَيَطُولُ فِيهِ اللَّيْلُ لِلْقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَامِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.

وَعَنِ الحَسَنِ، قَالَ: نِعْمَ زَمَانُ المُؤْمِنِ الشِّتَاءُ: لَيْلُهُ طَوِيلٌ يَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُهُ. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ قَالَ: يَا أَهْلَ القُرْآنِ، طَالَ لَيْلُكُمْ لِقِرَاءَتِكُمْ، فَاقْرَأُوا، وَقَصُرَ النَّهَارُ لِصِيَامِكُمْ، فَصُومُوا.

وَبَكَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ، وَمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ.

وَقَالَ مِعْضَدٌ: لَوْلَا ثَلَاثٌ: ظَمَأُ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ، وَلَذَاذَةُ التَّهَجُّدِ بِكِتَابِ اللهِ؛ مَا بَالَيْتُ أَنْ أَكُونَ يَعْسُوبًا.

الوَقْفَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ العِبَادَةَ مَعَ المَشَقَّةِ غَيْرِ المُتَعَمَّدَةِ أَكْثَرُ أَجْرًا وَأَعْظَمُ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ». وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "إِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ". وَالسَّبْرَةُ: شِدَّةُ البَرْدِ.

فَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الإِيمَانِ، رَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَصَّى ابْنَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِخِصَالِ الإِيمَانِ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الصَّوْمُ فِي شِدَّةِ الحَرِّ أَيَّامَ الصَّيْفِ، وَقَتْلُ الأَعْدَاءِ بِالسَّيْفِ، وَالصَّبْرُ عَلَى المُصِيبَةِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي اليَوْمِ الشَّاتِي، وَتَعْجِيلُ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الغَيْمِ، وَتَرْكُ رَدْغَةِ الخَبَالِ، فَقَالَ: مَا رَدْغَةُ الخَبَالِ؟ قَالَ: شُرْبُ الخَمْرِ.

 

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي، يَقُومُ أَحَدُهُمَا مِنَ اللَّيْلِ فَيُعَالِجُ نَفْسَهُ إِلَى الطَّهُورِ وَعَلَيْهِ عُقَدٌ، فَيَتَوَضَّأُ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَفِيهِ كَلَامٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

الوَقْفَةُ السَّابِعَةُ: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُصْغِي لِوَاعِظِ البَرْدِ وَالمُذَكِّرِ لَنَا بِزَمْهَرِيرِ النَّارِ، أَعَاذَنَا اللهُ جَمِيعًا مِنْهُ. رُوِيَ عَنْ زُبَيْدٍ اليَامِيِّ، أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً لِلتَّهَجُّدِ، فَعَمَدَ إِلَى مَطْهَرَةٍ لَهُ، قَدْ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَغَسَلَ يَدَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي المَطْهَرَةِ، فَوَجَدَ المَاءَ الَّذِي فِيهَا بَارِدًا بَرْدًا شَدِيدًا، قَدْ كَادَ أَنْ يَجْمُدَ، فَذَكَرَ الزَّمْهَرِيرَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ الزَّمْهَرِيرِ: هُوَ لَوْنٌ مِنَ العَذَابِ.

وَقَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا)، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الغَسَّاقُ: الزَّمْهَرِيرُ البَارِدُ الَّذِي يَحْرِقُ مِنْ بَرْدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَذُوقُوهُ مِنْ بَرْدِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الغَسَّاقَ: البَارِدُ المُنْتِنُ، أَجَارَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْ جَهَنَّمَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».

(وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّمْهَرِيرُ: البَرْدُ المُفْظِعُ. قَالَ: فَإِذَا وَقَعُوا فِيهِ، حَطَّمَ عِظَامَهُمْ، حَتَّى يُسْمَعَ لَهَا نَقِيضٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَسْتَغِيثُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الحَرِّ، فَيُغَاثُونَ بِرِيحٍ بَارِدَةٍ، يُصَدِّعُ العِظَامَ بَرْدُهَا، فَيَسْأَلُونَ الحَرَّ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ كَعْبًا قَالَ: فِي جَهَنَّمَ بَرْدٌ هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، يُسْقِطُ اللَّحْمَ حَتَّى يَسْتَغِيثُوا بِحَرِّ جَهَنَّمَ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِنْ فَضَائِلِ الشِّتَاءِ: أَنَّهُ يُذَكِّرُ بِزَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، وَيُوجِبُ الاسْتِعَاذَةَ مِنْهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "وَإِنْ كَانَ يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَشَدَّ بَرْدَ هَذَا الْيَوْمِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي قَدِ اسْتَجَارَنِي مِنْ زَمْهَرِيرِكِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، قَالُوا: مَا زَمْهَرِيرُ جَهَنَّمَ؟ قَالَ: بَيْتٌ يُلْقَى فِيهِ الْكَافِرُ، فَيَتَمَيَّزُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ". انتهى.

وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ رَوَاهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالاسْتِعَاذَةُ مَشْرُوعَةٌ.

الوَقْفَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ تَعَالَى: (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا). قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ اللهُ أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي، فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي الزَّمْهَرِيرِ: هُوَ البَرْدُ الشَّدِيدُ.

فَلَيْسَ فِي الجَنَّةِ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، أَمَّا النَّارُ - أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهَا - فَحَرُّهَا شَدِيدٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً. قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الوَقْفَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: البَرْدُ عَدُوُّ الدِّينِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يُفَتِّرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأَعْمَالِ، وَيُثَبِّطُ عَنْهَا، فَتَكْسَلُ النُّفُوسُ.

وَمَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى أَصْحَابِ الهِمَمِ الضَّعِيفَةِ، الَّذِينَ يَسْتَثْقِلُونَ الخُرُوجَ إِلَى المَسْجِدِ لِصَلَاةِ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ البَرْدِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى المُنَافِقِينَ مِنَ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الهِمَمِ العَالِيَةِ، فَلَا يَزِيدُهُمُ البَرْدُ إِلَّا مُثَابَرَةً عَلَى الطَّاعَةِ وَاحْتِسَابَ الأَجْرِ عَلَى المَشَقَّةِ، فَعَنْ قَيْسٍ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ - قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَا لَيْلَةٌ تُهْدَى إِلَى بَيْتِي فِيهَا عَرُوسٌ، أَنَا لَهَا مُحِبٌّ، وَأُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ، بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْجَلِيدِ فِي سِرِيَّةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أُصَبِّحُ بِهَا الْعَدُوَّ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

الوَقْفَةُ العَاشِرَةُ: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العَلَاءِ: إِنِّي لَأُبْغِضُ الشِّتَاءَ لِزِيَادَةِ الكُلْفَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: الإِيثَارُ فِي الشِّتَاءِ لِلْفُقَرَاءِ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ البَرْدَ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ. خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِالمَدِينَةِ مِنَ المَسْجِدِ، فَرَأَى رَجُلًا عَارِيًا، فَنَزَعَ ثَوْبَهُ وَكَسَاهُ إِيَّاهُ، فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ فِي مَنَامِهِ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ دَخَلَ الجَنَّةَ بِقَمِيصٍ كَسَاهُ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى صَفْوَانَ، فَأَتَاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى.

وَرَأَى مِسْعَرٌ أَعْرَابِيًّا يَتَشَرَّقُ فِي الشَّمْسِ وَهُوَ يَقُولُ:

جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَيْسَ عِنْدِي دِرْهَمٌ ... وَلَقَدْ يُخَصُّ بِمِثْلِ ذَاكَ المُسْلِمُ

قَدْ قَطَّعَ النَّاسُ الجِبَابَ وَغَيْرَهَا ... وَكَأَنَّنِي بِفِنَاءِ مَكَّةَ مُحْرِمُ

فَنَزَعَ مِسْعَرٌ جُبَّتَهُ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهَا.

وَرُفِعَ إِلَى بَعْضِ الوُزَرَاءِ الصَّالِحِينَ أَنَّ امْرَأَةً مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَطْفَالٍ أَيْتَامٍ، وَهُمْ عُرَاةٌ جِيَاعٌ، فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَمْضِيَ إِلَيْهِمْ، وَحَمَلَ مَعَهُ مَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ كِسْوَةٍ وَطَعَامٍ، ثُمَّ نَزَعَ ثِيَابَهُ وَحَلَفَ: لَا لَبِسْتُهَا وَلَا دَفِئْتُ حَتَّى تَعُودَ وَتُخْبِرَنِي أَنَّكَ كَسَوْتَهُمْ وَأَشْبَعْتَهُمْ، فَمَضَى وَعَادَ فَأَخْبَرَهُ: أَنَّهُمْ اكْتَسَوْا وَشَبِعُوا.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

وَإِنَّ مِنْ تَيْسِيرِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَوْسِعَتِهِ عَلَيْهِمْ: رُخَصَهُ التَّسْهِيلِيَّةَ لَهُمْ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُ الْبَزَّارِ ثِقَاتٌ، وَكَذَلِكَ رِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ.

فَمِنْ تَخْفِيفِ اللهِ عَلَيْنَا: مَشْرُوعِيَّةُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ وَعَلَى الجَوَارِبِ، وَالمَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ وَعَلَى الخِمَارِ، وَالجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي المَطَرِ الغَزِيرِ، وَالبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالوَحْلِ، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ بِالاغْتِسَالِ فِي اليَوْمِ البَارِدِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُسَخِّنُ بِهِ المَاءَ.

اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ المُقِيمَ، الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ العَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنَّا عَائِذُونَ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبِ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلْ الكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، إِلَهَ الحَقِّ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.