دَوَاوِينُ الأَعْمَالِ


الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. 
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
فَأَعْمَالُ العِبَادِ مَحْفُوظَةٌ: خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
وَالمَظَالِمُ وَالذُّنُوبُ الَّتِي يَحْمِلُهَا الإِنْسَانُ، وَيُقَابِلُ اللهَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، تَخْتَلِفُ: فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ، وَظُلْمٌ تَحْتَ المَشِيئَةِ، قَدْ يُغْفَرُ وَقَدْ لَا يُغْفَرُ.
فَمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ، وَالذَّنْبُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ، وَالذَّنْبُ الَّذِي تَحْتَ المَشِيئَةِ، قَدْ يُغْفَرُ وَقَدْ لَا يُغْفَرُ؟
جَاءَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثَلَاثَةٌ: فَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ: فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا: فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ، أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا: فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، الْقِصَاصُ لَا مَحَالَةَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَالكُفْرَ ذَنْبٌ جَسِيمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا).
وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).
وَأَمَّا مَا بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ مُخَالَفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يُسْتَهَانُ بِهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ، إِمَّا إِلَى الجنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ..." الحَدِيث. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَجَاءَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ بَعْضُ صُوَرِ تَعْذِيبِ اللهِ لِنَفَرٍ مِنَ المُوَحِّدِينَ، وَهُوَ القَائِلُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ القُدُسِيِّ: (مَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا؟
أَمَّا ظُلْمُ المُسْلِمِ لِأَخِيهِ المُسْلِمِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الظُّلْمِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ، قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَذَا هُوَ المُفْلِسُ حَقِيقَةً، وَأَيُّ إِفْلَاسٍ أَكْبَرُ مِنْ إِفْلَاسِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَرْكَانِ وَالوَاجِبَاتِ وَالفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَالسُّنَنَ الرَّوَاتِبَ، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَسُنَّةَ الضُّحَى، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَالاثْنَيْنِ وَالخَمِيسَ، وَأَيَّامَ البِيضِ، وَسَائِرَ صِيَامِ التَّطَوُّعِ، وَيُزَكِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَأْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، لَكِنَّهَا ذَهَبَتْ فِي سَدَادِ مَظَالِمِهِ الكَثِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ؟! اسْتَغَلَّ مَنْصِبَهُ وَنُفُوذَ سُلْطَانِهِ فِي البَغْيِ وَالعُدْوَانِ، أَوْ أَنَّهُ سَرِيعُ الانْفِعَالِ، كَثِيرُ التَّوَتُّرِ، صَاحِبُ جِدَالٍ وَخُصُومَةٍ، وَحَسَاسِيَةٍ مُفْرِطَةٍ، انْتِقَامِيٌّ عُدْوَانِيٌّ.
وَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مِنْ أَصْحَابِ الأَعْمَالِ الخَيْرِيَّةِ، لَكِنَّهُ فَاجِرٌ، يُطِيعُ هَوَاهُ، وَيَنْقَادُ لِشَهَوَاتِهِ، لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ الكَثِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ، فِي حَالِ غَيْبَةِ الأَعْيُنِ عَنْهُ، يَسْتَخِفُّ بِهَا وَيَسْتَهِينُ بِأَمْرِهَا، وَلَا يُبَالِي بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ!
فَعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هَبَاءً مَنْثُورًا). قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَآخَرُ يُجَاهِرُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَيُظْهِرُ سَيِّئَتَهُ، وَيُعْلِنُ قَبِيحَتَهُ أَشَرًا وَبَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَسُنَّةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، الهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ! اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهَا العُرْوَةُ الوُثْقَى، وَاحْذَرُوا المَعَاصِي؛ فَإِنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ).
وَالمُرَادُ بِالوَزْنِ وَزْنُ أَعْمَالِ العِبَادِ بِالمِيزَانِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ أَعْمَالِ العِبَادِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؛ أَيْ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَوْ وَاحِدَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأُولَئِكَ هُمُ النَّاجُونَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)؛ أَيْ: فَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَلَوْ وَاحِدَةً، اسْتَحَقَّ النَّارَ، لَكِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ تَحْتَ المَشِيئَةِ، فَمَنْ شَاءَ اللهُ عَامَلَهُ بِفَضْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ شَاءَ اللهُ عَامَلَهُ بِعَدْلِهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ تَطْهِيرًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا الكَافِرُ: فَإِنَّهُ يُخَلَّدُ فِيهَا أَبَدَ الآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ.
أَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ، وَهُمْ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ. قَالَ تَعَالَى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الأَعْرَافَ تَلٌّ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حُبِسَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ: ذَكَرَ أَصْحَابَ الأَعْرَافِ، فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ، وَقَصَرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الجَنَّةِ، فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ، قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، اطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: اذْهَبُوا وَادْخُلُوا الجَنَّةَ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: أَصْحَابُ الأَعْرَافِ، قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَيَقُولُ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِفَضْلِي وَمَغْفِرَتِي، لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِ الأَعْرَافِ، فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَقَصَرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الجَنَّةِ، وَخَلَّفَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ. قَالَ: فَوُقِفُوا هُنَالِكَ عَلَى السُّورِ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ المِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ وَيَرْجَحُ، قَالَ: فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الأَعْرَافِ، فَوُقِفُوا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ عَرَفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ نَادَوْا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى يَسَارِهِمْ نَظَرُوا أَصْحَابَ النَّارِ، قَالُوا: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فَيَتَعَوَّذُونَ بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ الحَسَنَاتِ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا فَيَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أَمَةٍ نُورًا، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الجَنَّةِ مَا لَقِيَ المُنَافِقُونَ، قَالُوا: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا). وَأَمَّا أَصْحَابُ الأَعْرَافِ، فَإِنَّ النُّورَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَمْ يُنْـزَعْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللهُ: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)، فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى أَنَّ العَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَة. ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وُحْدَانُهُ أَعْشَارَهُ. رَوَاهَا جَمِيعًا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرًا رَشَدًا، تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فِيهِ عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ، وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ!