نُزُولُ المَطَرِ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ، "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ)؛ أَيْ: مِنْ بَعْدِ يَأْسِ النَّاسِ وَفُقْدَانِهِمُ الأَمَلَ مِنْ نُزُولِ المَطَرِ، يُنْزِلُهُ اللهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَبِبَهَائِمِهِمْ، وَيَعُمُّ اللهُ بِالمَطَرِ مَا شَاءَ مِنَ البِلَادِ وَالعِبَادِ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَحَطَ المَطَرُ، وَقَنَطَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مُطِرْتُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ).

وَقَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السَّحَابَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ المَاءُ، فَقَالَ: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا)، وَذَلِكَ مِنَ البَحْرِ وَمِمَّا يَشَاءُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.

(فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ)؛ أَيْ: يَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ، وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَمْلَأَ الأُفُقَ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا كَالتُّرْسِ.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)؛ أَيْ: يُفَرِّقُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا - السَّحَابَ قِطَعًا، فَيُنَزِّلُ المَطَرَ مِنْ بَيْنِ القِطَعِ المُتَفَرِّقَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرًا وَبُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛ أَيْ: مُقَدِّمَةً لِنُزُولِ المَطَرِ، حَيْثُ تَحْمِلُ الرِّيَاحُ السُّحُبَ الثَّقِيلَةَ بِالمَاءِ الكَثِيرِ، وَتَجْمَعُهُ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ المَطَرَ الغَزِيرَ عَلَى أَيِّ أَرْضٍ قَاحِطَةٍ مُكْفَهِرَّةٍ يَخْتَارُهَا جَلَّ وَعَلَا، فَتَمْتَلِئُ العُيُونُ وَالآبَارُ، وَتَجْرِي الوِدْيَانُ وَالأَنْهَارُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَتُخْرِجُ الأَرْضُ مِنْ بَرَكَاتِهَا، فَيَظْهَرُ الكَلَأُ وَالزَّرْعُ، وَتَخْضَرُّ الأَشْجَارُ وَتَطْلُعُ الثِّمَارُ، فَتَعُودُ لَهَا الرُّوحُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ يَابِسَةً مَيِّتَةً، وَهَذَا بُرْهَانُ قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى وَبَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ تَقْدِيمُ المُبَشِّرَاتِ لِأَخْذِ الاحْتِيَاطَاتِ، وَيُطْعِمُهُمْ مِنْ بَرَكَاتِ المَطَرِ وَالخَصْبِ، فَيَزْرَعُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَأْكُلُونَ وَيَغْتَبِقُونَ، وَيَرْعَوْنَ أَنْعَامَهُمْ، وَتَحْيَا الأَشْجَارُ، وَتَكْثُرُ الثِّمَارُ، فَيَحْمَدُونَ رَبَّهُمُ المَحْمُودَ، وَيَشْكُرُونَ إِلَهَهُمُ المَعْبُودَ، فَيَزِيدُهُمْ مِنَ الخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ، وَيُدِيمُ لَهُمُ النِّعَمَ، وَيَرْفَعُ عَنْهُمُ النِّقَمَ.

وَأَمَّا كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَتَنَاسِي المِنَّةِ فَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ). فَالْمُزْنُ: السَّحَابُ. وَالأُجَاجُ: المَالِحُ.

أَيْ: لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَ مَاءَ المَطَرِ مَالِحًا لَا يَنْفَعُ لِشُرْبٍ وَلَا لِغَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ.

وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلاَ تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَ مَا يَنْزِلُ مِنْ مَطَرٍ يَذْهَبُ فِي جَوْفِ الأَرْضِ حَتَّى لَا يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ)؛ أَيْ: عَذْبًا زُلَالًا قَرِيبًا مِنْ سَطْحِ الأَرْضِ وَيَجْرِي عَلَى وَجْهِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)؛

يَعْنِي: اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ العُلُوِّ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا، تَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَتَرْعَوْنَ أَنْعَامَكُمْ فِي كَلَئِهِ، وَتَقْتَاتُونَ مِنْ نَبْتِهِ وَثَمَرِهِ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ تُذْكَرُ فَتُشْكَرُ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)؛ أَيْ: أَمَرْنَا الرِّيَاحَ أَنْ تُلَقِّحَ السَّحَابَ فَيَمْتَلِئَ مَاءً عَذْبًا، فَصَبَبْنَاهُ مَطَرًا مِنَ العُلُوِّ؛ لِيَعُمَّ الجِبَالَ وَالهِضَابَ، وَالوِهَادَ وَالتِّلَالَ، وَالظِّرَابَ وَالآكَامَ، وَالأَوْدِيَةَ وَالشِّعَابَ، وَالمُنْخَفَضَاتِ وَالمُرْتَفَعَاتِ، وَالبَرَّ وَالبَحْرَ، فَيَسْقِيكُمْ أَنْتُمْ وَدَوَابَّكُمْ وَزُرُوعَكُمْ، وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِحَافِظِينَ، بَلْ نَحْنُ نُنَزِّلُهُ وَنَحْفَظُهُ لَكُمْ، نَجْعَلُهُ مَعِينًا يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَجَعَلَهُ غَوْرًا وَمِلْحًا أُجَاجًا، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَنْزَلَهُ وَجَعَلَهُ عَذْبًا، وَحَفِظَهُ فِي العُيُونِ وَالآبَارِ وَالأَنْهَارِ وَالسُّدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِيَبْقَى لَهُمْ فِي طُولِ السَّنَةِ، يَشْرَبُونَ وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)، قَالَ: تُرْسَلُ الرِّيَاحُ، فَتَحْمِلُ المَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَمْرِي السَّحَابَ، حَتَّى تَدِرَّ كَمَا تَدِرُّ اللِّقْحَةُ.

وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: يَبْعَثُ اللهُ المُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ المُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ المُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ، ثُمَّ تَلَا: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ).

وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يُنْزِلُ مَاءَ المَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُجْرِيهِ عُيُونًا فِي الأَرْضِ، ثُمَّ أَنْبَتَ بِهِ صُنُوفَ الحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).

الرِّيَاحُ أَنْوَاعٌ؛ فَمِنْهَا مَا يُثِيرُ السَّحَابَ، وَمِنْهَا مَا يَحْمِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَسُوقُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ مُبَشِّرًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُمُّ الأَرْضَ، وَمِنْهَا مَا يُلَقِّحُ السَّحَابَ لِيُمْطِرَ؛ فَسُبْحَانَ المُصَرِّفِ المُسَخِّرِ!!

وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا).

فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ مَاءَ المَطَرِ الطَّهُورَ فِي نَفْسِهِ المُطَهِّرَ لِغَيْرِهِ عَادَتِ الرُّوحُ إِلَى الأَرْضِ وَكَانَتْ مَيِّتَةً، فَأَحْيَاهَا اللهُ وَاخْضَرَّتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا.

قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)؛ أَيْ: تَتَحَرَّكُ الأَرْضُ فَتَهْتَزُّ بِالنَّبَاتِ لِنَضَارَتِهِ، وَتَزْدَادُ جَمَالًا وَعَطَاءً، فَيَخْرُجُ الزَّرْعُ، وَيَدِرُّ الضَّرْعُ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)، يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسُوقُ السَّحَابَ أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ الإِزْجَاءُ (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ)؛ أَيْ: يَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)؛ أَيْ: يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، (فَتَرَى الوَدْقَ)؛ أَيِ: المَطَرَ، (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)؛ أَيْ: مِنْ خَلَلِهِ.

قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: يَبْعَثُ اللهُ المُثِيرَةَ فَتَقُمُّ الأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ النَّاشِئَةَ فَتُنْشِئُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ المُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ السَّحَابَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللهُ.

وَصَدَقَ اللهُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ).

قَالَ تَعَالَى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).

وَمَعْنَاهُ: أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالَ بَرَدٍ يُنْزِلُ اللهُ مِنْهَا البَرَدَ، أَوْ أَنَّ الجِبَالَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ السَّحَابِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فَهَذِهِ مِنْ آيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَبَرَاهِينِ وَحْدَانِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ.

فَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَارَةً تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَارَةً تَأْتِي بِالعَذَابِ، وَتَارَةً تَأْتِي مُبَشِّرَةً بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ، وَتَارَةً تَسُوقُهُ، وَتَارَةً تَجْمَعُهُ، وَتَارَةً تُفَرِّقُهُ، وَتَارَةً تُصَرِّفُهُ، ثُمَّ تَارَةً تَأْتِي حَارَّةً، وَتَارَةً بَارِدَةً، وَتَارَةً شَدِيدَةً، وَتَارَةً خَفِيفَةً، وَتَأْتِي تَارَةً شَرْقِيَّةً، وَتَارَةً غَرْبِيَّةً، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الجِهَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ العَلَامَاتِ وَأَظْهَرِ الدِّلَالَاتِ عَلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ).

وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ).

فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي يُرِي عِبَادَهُ البَرْقَ فَيَخَافُونَ مِنْ ضَرَرِهِ، وَيُؤَمِّلُونَ فِي أَثَرِهِ وَنَفْعِهِ، وَيَخْلُقُ اللهُ السَّحَابَ الثِّقَالَ الَّذِي فِيهِ المَاءُ الكَثِيرُ، يُنْشِئُهُ اللهُ مِنَ الهَوَاءِ الَّذِي فِي الجَوِّ، وَمِنَ الأَبْخِرَةِ المُتَصَاعِدَةِ مِنَ البَرِّ وَالبَحْرِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، فَسُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ كُلُّ شَيْءٍ بِحَمْدِهِ، وَيُعَظِّمُهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيُقَدِّسُهُ وَيُنَزِّهُهُ.

قَالَ تَعَالَى: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ)؛ أَيْ فَتُحْرِقُهُ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ، يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ»، فَقَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: «زَجْرَةٌ بِالسَّحَابِ إِذَا زَجَرَهُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ»، قَالُوا: صَدَقْتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا).

رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يُصَرِّفُهُ فِي الأَرَضِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَيْسَ عَامٌ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يُصَرِّفُهُ.

أَيْ: عَامًا هَاهُنَا، وَعَامًا هَاهُنَا، يُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ آخَرُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ).

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ عِنْدَهُ خَزَائِنَ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ، فَخَزَائِنُهُ مَلْأَى، وَمَا يُنَزِّلُ صِنْفًا مِنَ الصُّنُوفِ إِلَّا بِمِقْدَارٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، وَهُوَ الكَرِيمُ الحَكِيمُ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ رَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ، وَحِكْمَتِهِ البَالِغَةِ.

وَرَوَى البَزَّارُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خَزَائِنُ اللهِ الكَلَامُ، فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ". وَقَالَ: لَا يَرْوِيهِ إِلَّا أَغْلَبُ، وَلَمْ يَكُنْ بِالقَوِيِّ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَجْوَدَ الأَجْوَدِينَ وَأَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعَفَافَ، وَالغِنَى.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ، وَنَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَنَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَنَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ القَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَنَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ".

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.