أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ ذِي الأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، الكَامِلِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الإِلَهِ فِي الأَرْضِ وَفِي السَّمَاوَاتِ، الرَّبِّ الخَالِقِ الرَّازِقِ المُرَبِّي لِجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، الصَّمَدِ الَّذِي تَصْمُدُ إِلَيْهِ الخَلَائِقُ فِي كُلِّ الحَاجَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا صَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

وَإِنَّ مِنَ النَّمَاذِجِ الذَّاكِرَةِ الصَّابِرَةِ الشَّاكِرَةِ أَيُّوبَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَامْرَأَتُهُ قِيلَ: اسْمُهَا "لَيَا" بِنْتُ مَنْسَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ.

وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ المُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ).

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ قِصَّةَ ابْتِلَاءِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا فِي صَبْرِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ).

 

وَقَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا مُلَخَّصُهُ: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ؛ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي، وَالأَرَاضِي المُتَّسِعَةِ، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كَثِيرٌ.

فَسُلِبَ مِنْهُ ذَلِك جَمِيعُهُ، وَابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - بِهِمَا.

وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، ذَاكِرٌ للهِ – عَزَّ وَجَلَّ - فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ.

وَطَالَ مَرَضُهُ حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ، كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ، فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ.

وَضَعُفَ حَالُهَا، وَقَلَّ مَالُهَا، حَتَّى كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ؛ لِتُطْعِمَهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَأَرْضَاهَا، وَهِيَ صَابِرَةٌ مَعَهُ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ.

وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَّا صَبْرًا وَاحْتِسَابًا وَحَمْدًا وَشُكْرًا، حَتَّى إِنَّه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ الْمَثَلَ، وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ.

وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، حَتَّى فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ، وَأَعْظَمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ حُمَيْدٌ: مَكَثَ فِي بَلْوَاهُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ سَنَةً.

 

وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهِ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: يَا أَيُّوبُ، لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ لَفَرَّجَ عَنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا، فَهَلْ كَثِيرٌ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً؟ فَجَزِعَتْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ، وَتُطْعِمُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَيُّوبَ، خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ بَلَائِهِ، أَوْ تُعْدِيَهُمْ بِمُخَالَطَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَخْدِمُهَا، عَمَدَتْ فَبَاعَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا بِطَعَامٍ طَيِّبٍ كَثِيرٍ، فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ، فَقَالَتْ: خَدَمْتُ بِهِ أُنَاسًا.

فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا، فَبَاعَتِ الضَّفِيرَةَ الْأُخْرَى بِطَعَامٍ فَأَتَتْهُ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذَا الطَّعَامُ، فَكَشَفَتْ خِمَارَهَا عَنْ رَأْسِهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا، قَالَ فِي دُعَائِهِ: "رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".

وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ، كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ لَهُ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ.

فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللهَ – عَزَّ وَجَلَّ - يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ.

قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: أَنِ "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ"، فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ! هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ فَوَاللَّهِ القَدِيرِ عَلَى ذَلِكَ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ.

قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ: أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَأَلْبَسُهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَنَحَّى أَيُّوبُ وَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ، فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ: أَيْنْ ذَهَبَ هَذَا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ، وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ! قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عَبْدَ اللهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ مِنْهُ بِيَدِهِ وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ؟". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ. فَنَادَاهُ رَبُّهُ – عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، والْبُخَارِيُّ.

وَقَوْلُهُ: "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ"؛ أَيِ: اضْرِبِ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ، فَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَأَنْبَعَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بَارِدَةَ الْمَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهَا وَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْأَذَى، وَالسَّقَمِ وَالْمَرَضِ، الَّذِي كَانَ فِي جَسَدِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صِحَّةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَجَمَالًا تَامًّا، وَمَالًا كَثِيرًا، حَتَّى صَبَّ لَهُ مِنَ الْمَالِ صَبًّا، مَطَرًا عَظِيمًا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ.

وَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ"، فَقِيلَ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقِيلَ: آجَرَهُ فِيمَنْ سَلَفَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَدَلَهُمْ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ بِكُلِّهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ  إِلَيْهَا - يَعْنِي زَوْجَةَ أَيُّوبَ – شَبَابَهَا، وَزَادَهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا.

وَعَاشَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعِينَ سَنَةً بِأَرْضِ الرُّومِ عَلَى دِينِ الْحَنِيفِيَّةِ،

وَقَوْلُهُ: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ"، هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فِيمَا كَانَ مِنْ حَلِفِهِ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ.

فَقِيلَ: حَلِفُهُ ذَلِكَ لِبَيْعِهَا ضَفَائِرَهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَارَضَهَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ يَصِفُ لَهَا دَوَاءً لِأَيُّوبَ، فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ.

فَلَمَّا عَافَاهُ اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ - أَفْتَاهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا وَهُوَ كَالْعِثْكَالِ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّمَارِيخَ، فَيَجْمَعَهَا كُلَّهَا، وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةَ الضَّرْبِ بِمِائَةِ سَوْطٍ، فَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ.

وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَطَاعَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ الصَّابِرَةِ الْمُحْتَسِبَةِ، الْمُكَابِدَةِ، الصِّدِّيقَةِ، البَارَّةِ الرَّاشِدَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَلِهَذَا عَقَّبَ اللهُ الرُّخْصَةَ وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ: "إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ".

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ: أَنَّ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ "بِشْرٌ"، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ "ذُو الكِفْلِ"، وَكَانَ نَبِيًّا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفِي سُنَّةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، ومِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شَاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).

 

فَالغَايَةُ مِنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ العِبْرَةُ وَالعِظَةُ، وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، فَمِنْ تِلْكَ العِبَرِ: مَا ثَبَتَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَمِنَ العِبَرِ: التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ فِي حَاجَاتِنَا. قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ).

وَمِنَ العِبَرِ: مَا قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَمَّا ابْتَلَى اللهُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَهَابِ الأَهْلِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، أَحْسَنَ الذِّكْرَ، ثُمَّ قَالَ: أَحْمَدُكَ رَبَّ الأَرْبَابِ، الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ، أَعْطَيْتَنِي المَالَ وَالوَلَدَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ قَلْبِي شُعْبَةٌ، إِلَّا قَدْ دَخَلَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذْتَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنِّي، وَفَرَّغْتَ قَلْبِي، لَيْسَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْءٌ، لَوْ يَعْلَمُ عَدُوِّي إِبْلِيسُ بِالَّذِي صَنَعْتَ، حَسَدَنِي.

وَمِنَ العِبَرِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَجْلَبَ عَلَى أَيُّوبَ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ فِي حَالِ مِحْنَتِهِ وَمَا ابْتَلَاهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ جَسَدِهِ مَغْرِزُ إِبْرَةٍ إِلَّا أَصَابَهُ الجُدَرِيُّ، وَقِيلَ: الجُذَامُ، سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ حَالِ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ، فَأَرَادَهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَدَاوَى بِالخَمْرِ، بَلْ أَرَادَهُ أَنْ يُقَرِّبَ لِصَنَمٍ ذُبَابًا لِيَشْفَى، وَلَكِنَّ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَحَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).

ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ).

فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، اللَّهمَّ احْفَظْنَا مِنْ بَينِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا، وَعَنْ شَمَائِلِنَا، وَمِنْ فَوْقِنَا، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا.

اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا دَائِمًا وَأَبَدًا بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِكَ المُتَّقِينَ.

اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أَنْفُسِنَا وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.