مَسْأَلَةٌ: القُدْوَةُ الحَسَنَةُ 

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ فِي الرَّحَا، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي عَلَى رِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ". أَوْ قَالَ: "مِنْ حَدِيدٍ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "أَتَيْتُ عَلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَرَأَيْتُ فِيهَا رِجَالًا تُقْطَعُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ" فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهَا كُلَّهَا أَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ بِبَعْضِهَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَحَدُ أَسَانِيدِ أَبِي يَعْلَى رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ". وَصَحَّحَ الحَدِيثَ غَيْرُهُ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّ مِنْ دَوَاعِي قَبُولِ الوَعْظِ وَالتَّوْجِيهِ وَالإِرْشَادِ القُدْوَةَ الحَسَنَةَ.
وَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّ الخَطِيبَ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا يَفْعَلُ، أَوْ لَا يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَزِيهًا مِنَ المُخَالَفَاتِ وَالتَّقْصِيرِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ عَلَى الإِنْسَانِ.
قِيلَ لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ: "إِنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ! قَالَ: وَأَيُّـنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ؟ وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ بِهَذَا، فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَنْـهَ عَنْ مُنْكَرٍ".
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ شُعَيْبَ: (وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَىٰكُمْ عَنْهُ). 
يُفِيدُ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الإِصْلَاحَ يَنْبَغِي أَنْ يُوَافِقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ وَلَا يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ التَّنَاقُضَ مَذْمُومٌ، وَيُسَبِّبُ سُقُوطَ صَاحِبِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. 
قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَحْصُلُ التَّسْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ مُتَرَسِّلًا، مُبِينًا، مُعْرِبًا، لَا يَعْجَلْ فِيهَا، وَلَا يَمْطُطْهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَّعِظًا بِمَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ".