نِهَايَةُ قَارُونَ

الْخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).

فَفِي قَصَصِ القُرْآنِ مَا يَبْعَثُ عَلَى التَّفَكُّرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ الإِنْسَانُ عَلِمَ، وَإِذَا عَلِمَ عَمِلَ.

وَفِي قَصَصِ مَنْ سَبَقَنَا عِبْرَةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا، وَمَوْعِظَةٌ يُتَّعَظُ بِهَا.

فَمِنْ تِلْكَ القِصَصِ المُعَبِّرَةِ: قِصَّةُ قَارُونَ الوَزِيرِ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ، الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ ثَرْوَةً كَثِيرَةً، فَمَا شَكَرَ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَبَغْيًا، تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ، وَادَّعَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ ذَلِكَ المَالَ وَتِلْكَ الكُنُوزَ لِاسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهَا وَأَهْلِيَّتِهِ لَهَا، وَزَعَمَ أَنَّ مَا أُوتِيَ مِنْ نِعْمَةٍ طَائِلَةٍ سَبَبُهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ وَيَعْلَمُ فَضْلَهُ.

وَلِهَذِهِ الدَّعْوَى الفَارِغَةِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ تِلْكَ النَّصِيحَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الفَصِيحَةَ، بِأَنْ لَا يَبْطَرَ وَلَا يَفْخَرَ، وَأَنْ يُقَدِّمَ لِنَفْسِهِ اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ رَبِّهِ.

فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ وَخِيمَةً وَنِهَايَتُهُ أَلِيمَةً، حَيْثُ خَسَفَ اللهُ بِهِ وَبِدَارِهِ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، حَتَّى صَارَ مَوْضِعَ تَأَمُّلٍ وَتَفَكُّرٍ وَعِبْرَةٍ وَعِظَةٍ لِقَوْمِهِ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ.

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

مَا أَعْظَمَهَا مِنْ عِبْرَةٍ! وَمَا أَبْلَغَهَا مِنْ مَوْعِظَةٍ!

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ)؛ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ يَبْتَغِي الْعِلْمَ حَتَّى جَمَعَ عِلْمًا، فَلَمْ يَزَلْ فِي أَمْرِهِ ذَلِكَ حَتَّى بَغَى عَلَى مُوسَى حَسَدُهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ فَأَبَى، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرِيد أَنْ يَأْكُلَ أَمْوَالَكُمْ.

وَثَبَتَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المالِ وَالشَّرفِ لِدِينِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَغَى عَلَيْهِمْ)؛ أَيْ: عَلَا وَتَجَاوَزَ حَدَّهُ فِي التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ عَلَى قَوْمِهِ لِكَثْرَةِ مَالِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ)؛ أَيْ: مِنَ الأَمْوَالِ الكَثِيرَةِ وَالخَزَائِنِ الكَبِيرَةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)؛ أَيْ: إِنَّ مَفَاتِحَ خَزَائِنِهِ لِكَثْرَةِ عَدَدِهَا تَمِيلُ بِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ الأَشِدَّاءِ مِنْ ثِقَلِهَا.

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ خَيْثَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي الإِنْجِيلِ أَنَّ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ قَارُونَ كَانَتْ وَقْرَ سِتِّينَ بَغْلًا غُرًّا مُحَجَّلَةً، مَا يَزِيدُ مِنْهَا مِفْتَاحٌ عَلَى أُصْبُعٍ، لِكُلِّ مِفْتَاحٍ كَنْزٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا.

وَقَالَ آخَرُونَ: سِتُّونَ رَجُلًا، تُمِيلُهُنَّ مِنْ ثِقَلِهَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)؛ أَيْ: وَعَظَهُ النَّاصِحُونَ مِنْ قَوْمِهِ الصَّالِحُونَ مِنْ مُجْتَمَعِهِ، فَقَالُوا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْجِيهِ وَالإِرْشَادِ: لَا تَبْغِ وَلَا تَبْطَرْ فَرَحًا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ الأَشِرِينَ البَطِرِينَ البَذِخِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَلَا يَحْمَدُونَهُ عَلَى آلَائِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي قَوْمِهِ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)؛ أَيْ: سَخِّرْ مَا وَهَبَكَ اللهُ مِنَ الأَمْوَالِ البَاهِرَةِ وَالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ، فِي طَاعَةِ اللهِ وَالإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِ اللهِ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ وَنَعِيمِ يَوْمِ القِيَامَةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي قَوْمِهِ: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)؛ أَيْ: خُذْ مِمَّا أَبَاحَ اللهُ لَكَ وَأَحَلَّهُ مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَسَاكِنِ وَالمَرَاكِبِ وَالمَنَاكِحِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ اسْتِعْمَالًا وَشُكْرًا.

وَلَا تَنْسَ أَنْ تُقَدِّمَ فِي دُنْيَاكَ لِأُخْرَاكَ، وَفِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.

وَتَذَكَّرْ يَا عَبْدَ اللهِ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِكَ، فَمَا هُوَ إِلَّا لُفَافَةٌ تُكَفَّنُ فِيهَا، غَنِيًّا كُنْتَ أَوْ فَقِيرًا، رَئِيسًا أَوْ مَرْؤُوسًا.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي! مَالِي! وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي قَوْمِهِ: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)؛ أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى عِبَادِ اللهِ، وَذَلِكَ بِكَفِّ الأَذَى وَبَذْلِ النَّدَى، كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَةِ المَالِ وَالجَاهِ وَالوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي قَوْمِهِ: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)؛ أَيْ: لَا تَكْفُرْ نِعْمَةَ رَبِّكَ فَتُفْسِدَ المَعَايِشَ بِشُؤْمِ ذَنْبِكَ، وَلَا تُسِئْ إِلَى عِبَادِ اللهِ بِالتَّعَالِي عَلَيْهِمْ وَالتَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُفْسِدُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا)، فَقَدْ أَصْلَحَهَا اللهُ بِالعَدْلِ وَالطَّاعَةِ فَلَا تُفْسِدُوهَا بِالظُّلْمِ وَالمَعْصِيَةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ وَلَا الإِفْسَادَ، وَيُحِبُّ المُصْلِحِينَ وَالإِصْلَاحَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)، هَذَا جَوَابُ قَارُونَ لِقَوْمِهِ وَرَدُّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ نَصَحُوهُ وَوَعَظُوهُ بِأَنَّ هَذَا الإِرْشَادَ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، فَهُوَ فِي غِنًى عَنْهُ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ حَسَبَ فَهْمِهِ الغَاشِمِ وَتَأَلِّيهِ الآثِمِ وَبَغْيِهِ الظَّالِمِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَاهُ هَذَا المَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، وَلِأَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ وَيُرِيدُ أَنْ يُكْرِمَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَيْسَ عَطَاءُ اللهِ مَشْرُوطًا بِزَكَاءٍ وَلَا ذَكَاءٍ وَدَهَاءٍ، وَلَا أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الحُبِّ وَالكُرْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلَا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)، فَهَذَا المُدَّعِي لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ؛ لَأَدْرَكَ أَنَّ الوَاقِعَ شَاهِدٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُ، فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ أُنَاسًا وَأُمَمًا فَاقُوهُ فِي القُوَّةِ البَدَنِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَمْوَالُهُمْ أَكْثَرُ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَلَا كَانَتْ تِلْكَ الشِّدَّةُ وَالثَّرْوَةُ مُغْنِيَةً عَنْهُمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابِهِ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ.

لَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)؛ أَيْ: لِكَثْرَتِهَا، وَلِإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهَا، وَلِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ بِسَبَبِهَا، قَالَ تَعَالَى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)؛ أَيْ: فِي أُبَّهَتِهِ، وَمَعَهُ خَدَمُهُ وَحَشَمُهُ وَمَا يَتَمَظْهَرُ بِهِ مِنْ مَلَابِسَ وَمَرَاكِبَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُتْعَةٍ عَاجِلَةٍ وَزَخَارِفَ زَائِلَةٍ، وَبَهْرَجَةٍ فَانِيَةٍ.

فَغَبَطَهُ عَلَى دُنْيَاهُ الدَّنِيَّةِ أَهْلُ الدُّنْيَا المُنْجَرِفُونَ خَلْفَ مَظَاهِرِهَا وَزَخَارِفِهَا، قَالَ تَعَالَى: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، قَالَ قَتَادَةٌ: أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ، وَغَبَطُوهُ عَلَى وَفْرَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الدُّنْيَا.

فَمَا كَانَ جَوَابَ مَنْ سَمِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ وَالفَهْمِ إِلَّا أَنْ وَعَظُوهُمْ وَأَرْشَدُوهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)؛ أَيْ: الهَلَاكُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَفْقَهُوا أَنَّ جَزَاءَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ العَامِلِينَ لِآخِرَتِهِمْ أَفْضَلُ، وَلَا مُقَارَنَةَ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (سَوْطُ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: "لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)؛ أَيْ: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: وَمَا يُلَقَّى الجَنَّةَ أَوْ مَا يُلَقَّى هَذِهِ المَوْعِظَةَ وَيَتَقَبَّلُهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، الرَّاغِبُونَ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ.

قَالَ تَعَالَى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)، فَهَذَا جَزَاءُ بَغْيِهِ وَتَكَبُّرِهِ، وَالجَزَاءُ مِنْ جَنْسِ العَمَلِ، فَمَعْصِيَةُ قَارُونَ بِالعُلُوِّ عَلَى الأَرْضِ، فَأَذَلَّهُ اللهُ بِأَنْ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ الخَسْفَ بِهِ وَبِدَارِهِ، فَهُوَ يَغُوصُ فِي أَسْفَلِ الأَرْضِ جَزَاءً وِفَاقًا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَامَة، وَأَنَّهُ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا، لَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلَاءِ، خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "الإِسْبَالُ فِي الإِزَارِ، وَالقَمِيصِ، وَالعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلٌ إِزَارَهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ"، فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَتَوضَّأْ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَكَتَّ عَنْهُ؟ قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ". قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)؛ أَيْ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَلَا أَعْوَانُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَصْرِهِ أَحَدٌ، وَلَا هُوَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ)، مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وَيَغْبِطُونَ قَارُونَ عَلَى دُنْيَاهُ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا نِهَايَتَهُ وَعَايَنُوا هَلَاكَهُ، فَهِمُوا أَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى قَارُونَ وَغَيْرِهِ بِالمَالِ وَالعَطَاءِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى رِضَا اللهِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ اللهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَهُ الحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالحُجَّةُ البَالِغَةُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ). قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ بَعْضُهُمْ مَسْتُورٌ، وَأَكْثَرُهُمْ ثِقَاتٌ. وَرَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ: (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ)؛ أَيْ: لَوْلَا لُطْفُ اللهِ بِنَا وَإِحْسَانُهُ إِلَيْنَا لَخُسِفَ بِنَا، كَمَا خُسِفَ بِهِ، لَأَنَّا وَدِدْنَا أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُ.

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "أُحَدِّثُكُم حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ. قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبدٍ رَزَقَه اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُو يَتَّقي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَمْ يرْزُقْهُ عِلْمًا، فهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ للَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ: (وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)؛ أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُفْلِحُ الكَافِرُ عِنْدَ اللهِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

"الْحَمْدُ للهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ عَنْ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، قد جَعَلَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ، أَيْ: تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَبَغْيًا عَلَى عِبَادِ اللهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ، وَلَا فَسَادًا فِي أَيِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَلَا يَعْصُونَ اللهَ، فَإِنَّ لِلْمَعْصِيَةِ شُؤْمًا. قَالَ تَعَالَى: (ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ). وَالعَاقِبَةُ وَهِيَ الجَنَّةُ وَالخَاتِمَةُ الحَسَنَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الوَاجِبَاتِ، وَيَتَجَنَّبُونَ المُحَرَّمَاتِ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَأَوْلِيَائِهِ المُتَّقِينَ.

اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.