مَسْأَلَةٌ: الاعْتِمَادُ عَلَى عَصَا

اسْتَحَبَّ العُلَمَاءُ اعْتِمَادَ الخَطِيبِ عَلَى عَصًا وَنَحْوِهَا وَهُوَ يَخْطُبُ، وَدَلِيلُ الاسْتِحْبَابِ حَدِيثُ الحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الكُلَفيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ، خَفِيفَاتٍ مُبَارَكَاتٍ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ. وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ عَصًا؛ لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ ... وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَكِّنَ أَطْرَافَهُ، إمَّا أَنْ يَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، أَوْ يُرْسِلَهُمَا سَاكِنَتَيْنِ مَعَ جَنْبَيْهِ".
وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ إذَا قَامَ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ). وَقَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَنَابِرِ، أَنْ يَخْطُبُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعَهُمْ الْعِصِيُّ يَتَوَكَّئُونَ عَلَيْهَا فِي قِيَامِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "وَكَانَ إِذَا قَامَ يَخْطُبُ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ"، كَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَتَوَكَّأُ عَلَى قَوْسٍ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَكَّأَ عَلَى سَيْفٍ ... وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَكَّأَ عَلَى الْعَصَا وَعَلَى الْقَوْسِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا أَوْ نَحْوِهَا لِمَا سَبَقَ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ الْيَدَ الَّتِي يَأْخُذُهُ فِيهَا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْغَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى بِأَنْ يَضَعَهَا عَلَى حَرْفِ الْمِنْبَرِ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَيْفًا أَوْ عَصًا وَنَحْوَهُ سَكَّنَ يَدَيْهِ؛ بِأَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، أَوْ يُرْسِلَهُمَا وَلَا يُحَرِّكَهُمَا وَلَا يَعْبَثَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالْمَقْصُودُ الْخُشُوعُ وَالْمَنْعُ مِنْ الْعَبَثِ". انْتَهَى.
وَتُشْرَعُ الإِشَارَةُ بِالإِصْبَعِ وَتَحْرِيكُ اليَدِ فِي الخُطْبَةِ لِلْمُنَاسَبَةِ؛ فَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَأْخُذُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ - وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا - أَنَا الْمَلِكُ"، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.