التَّرْتِيبُ فِي الخُطْبَةِ

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ»، وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، ثُمَّ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ».
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَالأَوْلَى لِلْخَطِيبِ التَّرْتِيبُ عَلَى وَفْقِ سِيَاقِ خُطْبَةِ الحَاجَةِ، وَقَدْ بَدَأَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَمْدِ للهِ، ثُمَّ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ الوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللهِ، ثُمَّ يَقُولُ الخَطِيبُ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ... إلخ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، ثُمَّ يُثْنِّي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَعِظُ.
فَإِنْ عَكَسَ ذَلِكَ صَحَّ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ مُتَرَسِّلًا، مُبِينًا، مُعْرِبًا، لَا يَعْجَلُ فِيهَا، وَلَا يَمْطُطُهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَّعِظًا بِمَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَرْكَان الْخُطْبَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا)، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ هُوَ بِشَرْطٍ، فَلَهُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. (وَالثَّانِي): أَنَّهُ شَرْطٌ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ الدُّعَاءِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: يَجِبُ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةِ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ، وَهُوَ حَاصِلٌ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.