المُوَالَاةُ فِي الخُطْبَةِ

عَنْ أَبِي رِفَاعَةَ، قَالَ: "انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ، حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ، فَأَتَمَّ آخِرَهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَثَبَتَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَخْطُبُنَا، إِذْ جَاءَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ المِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ مِنَ المِنْبَرِ وَالحَرَكَةَ أَثْنَاءَ الخُطْبَةِ، وَالكَلَامَ فِيهَا، وَقَطْعَهَا يَسِيرًا لَا يُبْطِلُهَا.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْمُوَالَاةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ، اسْتَأْنَفَهَا. وَالْمَرْجِعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ تَطَهَّرَ، وَبَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَلَوْ نَزَلَ فَسَجَدَ وَعَادَ إِلَى المِنْبَرِ وَلَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ طَالَ الْفَصْلُ فَقَوْلَانِ: (أَصَحُّهُمَا) وَهُوَ الْجَدِيدُ، أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ فَوَاتَهَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَعْظِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ.
(وَالثَّانِي) وَهُوَ الْقَدِيمُ، أَنَّ الْمُوَالَاةَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ الِاسْتِئْنَافُ، فَإِنْ بَنَى جَازَ.