وُجُوبُ الحَجِّ وَفَضْلُهُ


الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ!
إِنَّ الحَجَّ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ).
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَنْ كَفَرَ: بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ".
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا».
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إِنَّهَا لَقَرِينَةُ الْحَجِّ فِي كِتَابِ اللَّهِ".
وَثَبَتَ عَنِ الصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَينِ عَلَيَّ، فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيْتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ". انْتَهَى.
وَلَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ - هَدَانَا اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ - فِي أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَهُمْ مُسْتَطِيعُونَ، مَعَ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي، وَالْمُبَادَرَةِ لَا التَّوَانِي.
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ، رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ" هَذَا لَفْظُ سَعِيدٍ. وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: "لِيَمُتْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمَحْمَلُهُ عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّ التَّرْكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ: "لَوْ عَلِمْتُ رَجُلًا غَنِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ، مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ".
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ الْأَسْوَدُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مُوسِرٍ: "لَوْ مِتَّ وَلَمْ تَحُجَّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْكَ".

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ!
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَذُكِرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُبَلِّغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لَا يَنْفُذُهُمْ؟ فَقِيلَ: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ: عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ".
هَذَا مَضْمُونُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً. انْتَهَى. 

عِبَادَ اللهِ!
إِنَّ فَضْلَ الْحَجِّ عَظِيمٌ، وَأَجْرَهُ جَسِيمٌ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، "قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَبْرُورُ: هُوَ الَّذِي لَا يَرْتَكِبُ صَاحِبُهُ فِيهِ مَعْصِيَةً.
وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: "لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ: حَجٌّ مَبْرُورٌ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ، قَالَ: اجْلِسْ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُ، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتَنِي فَأُخْبِرُكَ"، فَقَالَ: لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُكَ، قَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْحَاجِّ؛ مَا لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقُومُ بِعَرَفَاتٍ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَرْمِي الْجِمَارَ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقْضِي آخِرَ طَوَافٍ بِالْبَيْتِ؟" فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا، قَالَ: "فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ: أَنَّ رَاحِلَتَهُ لَا تَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لَا يَدْرِي أَحَدٌ لَهُ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: "نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِ البِرِّ، فَإِذَا الصَّلَاةُ تُجْهِدُ البَدَنَ وَلَا تُجْهِدُ المَالَ، وَالصِّيَامُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالحَجُّ يُجْهِدُ المَالَ وَالبَدَنَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ".
ثُمَّ اعْلَمُوا بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ: أَنَّ التَّزَوُّدَ مِنْ شَعِيرَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ؛ وَذَلِكَ لِفَضْلِهِمَا، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ، يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي "الْأَوْسَطِ"، وَرِجَالُ الْجَمِيعِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبْثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَسُئِلَ طَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ: هَلِ الحَجُّ بَعْدَ الفَرِيضَةِ أَفْضَلُ أَمِ الصَّدَقَةُ؟ قَالَ: "فَأَيْنَ الحَلُّ وَالرَّحِيلُ، وَالسَّهَرُ وَالنَّصَبُ، وَالطَّوَافُ بِالبَيْتِ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَهُ، وَالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَجَمْعُ وَرَمْيُ الجِمَارِ؟!".
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ).
“أَقُولُ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ”.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَنَّ عَلَيْنَا فَأَفْضَلَ، رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، شَهَادَةً اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا، وَنَفَعَتْ قَائِلَهَا.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. فَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ حَجَّةً وَعُمْرَةً.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «حُجِّي عَنْهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَتِ امْرَأَةٌ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ الْجُهَنِيَّ، أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَيُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا، أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا؟ فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا". رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَصَحَّحَهُ.
وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهَا، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، قَالَ: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
فَمَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ وُجُوبِ الحَجِّ، وَكَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعٍ مَيْئُوسٍ مِنْ زَوَالِهِ، مَتَى وَجَدَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الحَجِّ، وَمَالًا يَسْتَنِيبُهُ بِهِ: لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَمَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَانِعِهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَتْ: «هُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَحُجِّي عَنْهُ».
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْأَةِ وَالْمُحْرِمِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ، لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ؟ قَالَ: لَا.
وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمُحْرِمَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْيِ دُونَ الْوُجُوبِ، فَمَتَى فَاتَهَا الْحَجُّ بَعْدَ كَمَالِ الشَّرَائِطِ الْخَمْسِ، بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أُخْرِجَ عَنْهَا حَجَّةً. وَهَذَا أَحْوَطُ.

 

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ!
إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّسَاهُلُ فِي سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، وَحَسْبُنَا مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ. فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا، وَانْطَلَقَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَافِرُ بِدُونِ مَحْرَمٍ، وَلَوْ مَعَ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَرِجَالٍ عُدُولٍ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ - يَا عِبَادَ اللَّهِ - أَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ مَقْبُولٍ، كَعَدَمِ وُجُودِ الْمَحْرَمِ.

 

عِبَادَ اللهِ!
جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَعَجَّلُوا إِلَى الحَجِّ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِالهُدَى، وَزَيِّنَّا بِالتَّقْوَى، وَاغْفِرْ لَنَا فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى، اللَّهُمَّ مَا أَحْبَبْتَ مِنْ خَيْرٍ فَحَبِّبْهُ إِلَيْنَا وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَمَا كَرِهْتَ مِنْ شَيْءٍ فَكَرِّهْهُ إِلَيْنَا، وَجَنِّبْنَا إِيَّاهُ.
"يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ". 
"اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".

"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ (181) وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ).