أثر الذنوب والمعاصي.

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئِ الْبَرَيَّاتِ، فَاطِرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، مُحْيِي الْقُلُوبِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَمُمِيتِهَا بِالْغَفَلَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ، جَعَلَ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَمَفَاتِيحِ الشَّرِّ فِي السَّيِّئَاتِ، وَأَعَدَّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ الْجِنَانَ وَالدَّرَجَاتِ، وَلِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ النِّيرَانَ وَالدَّرَكَاتِ، وَرَتَّبَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَشَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ عَلَى الْخَطِيئَاتِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَقَابِلُ التَّوْبَاتِ، وَغَافِرُ الزَّلَّاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الْأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْهُدَاةِ إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ وَرَاءَ كُلِّ شَرٍّ، وَخَلْفَ كُلِّ ضُرٍّ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِّنْ مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ".

وَرَوَى أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ. قَالَ: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا تَرَى، فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

وَرُوَى عَنْ أَبِي الْبِلَادِ، قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ، قَالَ: فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ.

وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ الضَّحَّاكُ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ؟!

وَمِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَانَ سَبَبُ إِهْلَاكِهَا الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ، مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ!، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: مَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَسَبُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؟

وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ، مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ الْمُلُوكِ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي: أَنَّهَا سَبَبٌ فِي تَحَوُّلِ العَافِيَةِ وَزَوَالِ النِّعْمَةِ وَفُجَاءَةِ النِّقْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلَ النِّعَمْ

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ ... فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأُمَّةِ وَالْمُجْتَمَعِ.

وَأَمَّا عَلَى مُسْتَوَى الْأُسْرَةِ وَالْفَرْدِ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ، فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ حِمَارِي وَخَادِمِي. وَفِي لَفْظٍ: فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَزَوْجَتِي.

وَقَالَ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ، وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُهْلِكُ فَاعِلَهَا فِي دُنْيَاهُ وَفِي قَبْرِهِ وَفِي آخِرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ...). الآيات.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَصَحَّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ شَيْخِهِ هِشَامٍ، وَقِيلَ: مَوْصُولًا، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَصَحَّحَهُ.

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلْمَعَاصِي، أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ، فَأَوْقَعَ الْجَبَلَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَحَوَّلَهُمْ إِلَى أَسْوَأِ الْحَيَوَانَاتِ.

 

وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ). رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ؛ مِنْهَا: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، حَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حُجْرٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُورِثُ صَاحِبَهَا الذِّلَّةَ وَالْمَهَانَةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)؛ أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ عُقُوبَةُ عِصْيَانِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالِاعْتِدَاءِ.

وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: "جُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ، فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا جَالِبَةٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ).

وَمِنْ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ: أَنَّهَا تَجُرُّ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبَلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ تَدَرَّجَتْ بِهِ مَعْصِيَةُ السَّرِقَةِ إِلَى أَنْ سَرَقَ مَا يَبْلُغُ نِصَابَ قَطْعِ الْيَدِ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا شُؤْمٌ عَلَى مُقْتَرِفِهَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَوْلَ عُقُوبَةِ الْمَعْصِيَةِ: فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ؟ انْتَهَى.

وفِي الْمُسْنَدِ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».

وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَوْحَشْتْكَ الذُّنُوبُ، فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسْ.

وَلَمّا جَلَسَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ، أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهُ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

شَكَوتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي

وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ ... وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِ

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).

فَهَذِهِ مِنْ أَكْبَرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ، فَالشَّيْطَانُ يُهْلِكُ الْإِنْسَانَ، وَيَغْمِسُ قَرِينَهُ فِي تَعَاسَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَعْرِضِ تَعْدَادِ أَضْرَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَعُقُوبَاتِهَا: وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ، أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الطَّاعَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ، وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ، وَذَكَرَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ.

إِنَّ وَاحِدَةً فَقَطْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ لِكَافِيَةٌ فِي الزَّجْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَبَصِيرَةٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعَبَّاسِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ بَلَاءٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ.

فَالذُّنُوبُ جَالِبَةٌ لِأَنْوَاعِ الضَّنَكِ وَالشُّرُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَحَائِلَةٌ دُونَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى بِالضَّيْرِ، مَحْرُومٍ مِنَ الْخَيْرِ، لَا يَدْرِي أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ هِيَ مِحْوَرُهَا وَرَحَاهَا وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيْتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْبُوصِيرِيُّ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، هَذَا حَدِيثٌ صَالِحٌ لِلْعَمَلِ بِهِ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُفْسِدُ الْبِيئَةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).

وَذَلِكَ بِشُؤْمِ قَصْدِهِ، وَاعْتِقَادِهِ، وَقَوْلِهِ، وَعَمَلِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

أَيْ: عَمَّ الْفَسَادُ بِشُؤْمِ الْمَعَاصِي الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ، وَالْمُدُنَ وَالْقُرَى.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتْ السَّنَّةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ؛ وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْعُقُوبَاتِ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَجَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِكْرِمَةَ.

وَمِنْ حِكْمَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَامَّةِ: أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، وَيَعُودُوا إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيُصْلِحُوا عَلَاقَتَهُمْ بِرَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَبِعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً لَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ». قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَمِنْ شُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ أَثَرَهَا يَعُمُّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، فَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ الْقَاعِدَ السَّاكِتَ فِي مَجْلِسِ الْمَعْصِيَةِ شَرِيكُ الْعَاصِي، قَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبَعْدُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

فَهَذِهِ الآيَةُ عَامَّة ٌلِلدُّورِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا: الدُّنْيَا، وَالبَرْزَخِ، وَالآخِرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). فَسَعَةُ الصَّدْرِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَضِيْقَةُ الصَّدْرِ فِي الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ عَامَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَجْلَبَةٌ لِلْخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)،

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قِيلِ نُوحٍ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)،

وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا).

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.

اللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.

الموضوع: أثر الذنوب والمعاصي.

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئِ الْبَرَيَّاتِ، فَاطِرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، مُحْيِي الْقُلُوبِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَمُمِيتِهَا بِالْغَفَلَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ، جَعَلَ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَمَفَاتِيحِ الشَّرِّ فِي السَّيِّئَاتِ، وَأَعَدَّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ الْجِنَانَ وَالدَّرَجَاتِ، وَلِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ النِّيرَانَ وَالدَّرَكَاتِ، وَرَتَّبَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَشَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ عَلَى الْخَطِيئَاتِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَقَابِلُ التَّوْبَاتِ، وَغَافِرُ الزَّلَّاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الْأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْهُدَاةِ إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ وَرَاءَ كُلِّ شَرٍّ، وَخَلْفَ كُلِّ ضُرٍّ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِّنْ مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ".

وَرَوَى أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ. قَالَ: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا تَرَى، فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

وَرُوَى عَنْ أَبِي الْبِلَادِ، قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ، قَالَ: فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ.

وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ الضَّحَّاكُ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ؟!

وَمِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَانَ سَبَبُ إِهْلَاكِهَا الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ، مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ!، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: مَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَسَبُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؟

وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ، مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ الْمُلُوكِ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي: أَنَّهَا سَبَبٌ فِي تَحَوُّلِ العَافِيَةِ وَزَوَالِ النِّعْمَةِ وَفُجَاءَةِ النِّقْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلَ النِّعَمْ

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ ... فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأُمَّةِ وَالْمُجْتَمَعِ.

وَأَمَّا عَلَى مُسْتَوَى الْأُسْرَةِ وَالْفَرْدِ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ، فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ حِمَارِي وَخَادِمِي. وَفِي لَفْظٍ: فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَزَوْجَتِي.

وَقَالَ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ، وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُهْلِكُ فَاعِلَهَا فِي دُنْيَاهُ وَفِي قَبْرِهِ وَفِي آخِرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ...). الآيات.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَصَحَّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ شَيْخِهِ هِشَامٍ، وَقِيلَ: مَوْصُولًا، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَصَحَّحَهُ.

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلْمَعَاصِي، أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ، فَأَوْقَعَ الْجَبَلَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَحَوَّلَهُمْ إِلَى أَسْوَأِ الْحَيَوَانَاتِ.

 

وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ). رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ؛ مِنْهَا: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، حَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حُجْرٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُورِثُ صَاحِبَهَا الذِّلَّةَ وَالْمَهَانَةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)؛ أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ عُقُوبَةُ عِصْيَانِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالِاعْتِدَاءِ.

وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: "جُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ، فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا جَالِبَةٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ).

وَمِنْ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ: أَنَّهَا تَجُرُّ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبَلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ تَدَرَّجَتْ بِهِ مَعْصِيَةُ السَّرِقَةِ إِلَى أَنْ سَرَقَ مَا يَبْلُغُ نِصَابَ قَطْعِ الْيَدِ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا شُؤْمٌ عَلَى مُقْتَرِفِهَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَوْلَ عُقُوبَةِ الْمَعْصِيَةِ: فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ؟ انْتَهَى.

وفِي الْمُسْنَدِ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».

وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَوْحَشْتْكَ الذُّنُوبُ، فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسْ.

وَلَمّا جَلَسَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ، أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهُ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

شَكَوتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي

وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ ... وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِ

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).

فَهَذِهِ مِنْ أَكْبَرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ، فَالشَّيْطَانُ يُهْلِكُ الْإِنْسَانَ، وَيَغْمِسُ قَرِينَهُ فِي تَعَاسَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَعْرِضِ تَعْدَادِ أَضْرَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَعُقُوبَاتِهَا: وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ، أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الطَّاعَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ، وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ، وَذَكَرَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ.

إِنَّ وَاحِدَةً فَقَطْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ لِكَافِيَةٌ فِي الزَّجْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَبَصِيرَةٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعَبَّاسِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ بَلَاءٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ.

فَالذُّنُوبُ جَالِبَةٌ لِأَنْوَاعِ الضَّنَكِ وَالشُّرُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَحَائِلَةٌ دُونَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى بِالضَّيْرِ، مَحْرُومٍ مِنَ الْخَيْرِ، لَا يَدْرِي أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ هِيَ مِحْوَرُهَا وَرَحَاهَا وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيْتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْبُوصِيرِيُّ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، هَذَا حَدِيثٌ صَالِحٌ لِلْعَمَلِ بِهِ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّهَا تُفْسِدُ الْبِيئَةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).

وَذَلِكَ بِشُؤْمِ قَصْدِهِ، وَاعْتِقَادِهِ، وَقَوْلِهِ، وَعَمَلِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

أَيْ: عَمَّ الْفَسَادُ بِشُؤْمِ الْمَعَاصِي الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ، وَالْمُدُنَ وَالْقُرَى.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتْ السَّنَّةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ؛ وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْعُقُوبَاتِ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَجَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِكْرِمَةَ.

وَمِنْ حِكْمَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَامَّةِ: أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، وَيَعُودُوا إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيُصْلِحُوا عَلَاقَتَهُمْ بِرَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَبِعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً لَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ». قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَمِنْ شُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ أَثَرَهَا يَعُمُّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، فَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: أَنَّ الْقَاعِدَ السَّاكِتَ فِي مَجْلِسِ الْمَعْصِيَةِ شَرِيكُ الْعَاصِي، قَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبَعْدُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

فَهَذِهِ الآيَةُ عَامَّة ٌلِلدُّورِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا: الدُّنْيَا، وَالبَرْزَخِ، وَالآخِرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). فَسَعَةُ الصَّدْرِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَضِيْقَةُ الصَّدْرِ فِي الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ عَامَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَجْلَبَةٌ لِلْخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)،

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قِيلِ نُوحٍ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)،

وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا).

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.

اللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.