مَسْأَلَةٌ: الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ.

يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ مِنَ الحَدَثَيْنِ وَمِنَ النَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي فَضْلِ الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى طَهَارَةٍ مِنَ الحَدَثِ وَنَزَاهَةٍ مِنَ الخَبَثِ.
وعَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَةٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ مُتَطَهِّرًا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِهَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ: يُجْزِئُهُ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَطَبَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ خَطَبَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يُشْتَرَطُ قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، وَلِأَنَّ الْخِرَقِيَّ اشْتَرَطَ لِلْأَذَانِ الطَّهَارَةَ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى.
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فَلَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ فِيهِ شَرْطًا كَالْأَذَانِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي عَقِيبَ الْخُطْبَةِ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ. وَلِأَنَّنَا اسْتَحْبَبْنَا ذَلِكَ لِلْأَذَانِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا طَوَّلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ. انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:  الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ: اشْتِرَاطُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْقَدِيمُ: لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْقَوْلَانِ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَإِنْ خَطَبَ جُنُبًا لَمْ تَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَاجِبَةٌ، وَلَا تُحْسَبُ قِرَاءَةُ الْجَنْبِ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ فِي المُحَرَّرِ بِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ... وَقَدْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْقَوْلَانِ فِيهِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا هُوَ فِي التَّنْبِيهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدَ: لَا تُشْتَرَطُ.
دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كَانَ يَخْطُبُ مُتَطَهِّرًا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.