كَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا

 

الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا.
 
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ!
لِنَقِفْ وَقْفَةَ اعْتِبَارٍ وَاتِّعَاظٍ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَفَىٰ بِاَللَّهِ حَسِيبًا)؛ أَيْ: رَقِيبًا عَلَى عِبَادِهِ، حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ، مُحَاسِبًا لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْعَدْلِ.
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ اقْتِرَافُ الْإِنْسَانِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَارْتِكَابُهُ لِلذُّنُوبِ، ثُمَّ لَا يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَقِيبٌ لَا يَنَامُ وَلَا يَغْفُلُ، حَسْبُكَ بِهِ حَافِظًا وَضَابِطًا لِأَعْمَالِ عِبَادِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، سِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. 
وَكَيْفَ يَجْسُرُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ السَّيِّئَةِ، وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِهِ مَعِيَّةً وَقُرْبًا، مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى سَمَاوَاتِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ؟!
قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)؛ يَعْنِي: حَبْلَ الْعَاتِقِ. وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ). 
وَعِلْمُ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِالكَوْنِ كُلِّهِ، ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)؛ أَيْ: مَا تُحَدِّثُ وَتَهُمُّ بِهِ. 
فَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَ القُلُوبِ وَالجَوَارِحِ، فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ.
وَإِذَا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلمَةٍ ... وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى العِصْيَانِ
فَاسْتَحيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، قَالَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: خَرَجْتُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي الظُّلَمَ، فَإِذَا أَنَا بِجَارِيَةٍ كَأَنَّهَا عَلَمٌ، فَأَرَدْتُهَا، فَقَالَتْ: وَيْلَكَ، أَمَا لَكَ زَاجِرٌ مِنْ عَقْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ نَاهٍ مِنْ دِينٍ؟ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا يَرَانَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟!
وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِابْنَةٍ لَهَا: قَوْمِي إِلَى اللَّبَنِ فَامْذُقِيهِ بِالْمَاءِ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّاهُ، أَوَ مَا عَلِمْتِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ مُنَادِيَهِ فَنَادَى: لَا يُشَابُ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّكِ بِمَوْضِعٍ لَا يَرَاكِ فِيهِ عُمَرُ، وَلَا مُنَادِي عُمَرَ، فَقَالَتْ: يَا أَمَّاهُ، إِنْ كَانَ عُمَرُ لَا يَرَانَا فَإِلَهُ عُمَرَ يَرَانَا.
وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحَفَظَةَ وَالشُّهُودَ، وَأَجْرَى الْأَقْلَامَ، وَسَطَّرَ الْكُتُبَ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ وَلَا تَظَلُّمَ.
قَالَ تَعَالَى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)؛ يَعْنِي: كُلُّ إِنْسَانٍ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوِ اعْتَذَرَ، أَنْكَرَ أَوْ بَرَّرَ، فَإِنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ وَجِلْدَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَجَوَارِحَهُ: كَانَتْ تَرْقُبُ عَمَلَهُ، وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِمَا رَأَتْ.
قَالَ تَعَالَى: (كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)؛ أَيْ: حَسْبُكَ الْيَوْمَ نَفْسُكَ حَاسِبًا عَلَيْكَ يَحْسِبُ أَعْمَالَكَ، فَيُحْصِيهَا عَلَيْكَ، لَا نَبْتَغِي عَلَيْكَ شَاهِدًا غَيْرَهَا، وَلَا نَطْلُبُ عَلَيْكَ مَحْصِيًا سِوَاهَا. 
قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قَالَ الشَّعْبِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا عَمِلْتُ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ، فَيَقُولُ لِجَوَارِحِهِ: أَبْعَدَكُنَّ اللهُ، مَا خَاصَمْتُ إِلَّا فِيكُنَّ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهُودًا غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ، فَرَاقِبْهُمْ وَاتَّقِ اللهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَالظُّلْمَةُ عِنْدَهُ ضَوْءٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ فِيهِ كَلَامٌ عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، عُرِّفَ الكَافِرُ بِعَمَلِهِ، فَيَجْحَدُ وَيُخَاصِمُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: احْلِفُوا. فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللهُ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ".
وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ). فَمَا كَانَ فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَسْتَخْفُوا عَنْ جَوَارِحِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ). قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ المَلَائِكَةُ، وَالشَّاهِدُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ، وَالمَلَائِكَةُ أَيْضًا شُهَدَاءُ عَلَيْهِمْ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَحِكَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟»، قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).
فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَمَعَهُ رُقَبَاءُ يُحْصُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، وَيُدَوِّنُونَهَا، فَلَا يَضِيعُ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). فَالرَّقِيبُ: المُرَاقِبُ المُتَتَبِّعُ لِأَعْمَالِ الإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَالعَتِيدُ: الحَاضِرُ المُهَيَّأُ.
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ: ... خَلَوتُ، وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيهِ يَغِيبُ

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ: (عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ): يَا ابْنَ آدَمَ، بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَةً، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ، وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
حَتَّى الأَرْضُ - يَا عِبَادَ اللهِ - تَشْهَدُ عَلَى مَا عَمِلَ عَلَيْهَا ابْنُ آدَمَ. 
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، قَالَ سُفْيَانُ: مَا عَمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
فَمَاذَا - أَيُّهَا الأَحِبَّةُ - بَعْدَ هَذِهِ البَيِّنَاتِ، وَالحُجَجِ الوَاضِحَاتِ، إِلَّا الإِذْعَانُ وَالإِقْرَارُ بِصِحَّةِ مَا ارْتَكَبَهُ الإِنْسَانُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالعِصْيَانِ.
وَهَذَا مَا حَصَلَ فِعْلًا؛ قَالَ تَعَالَى: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ).
وَقَالَ تَعَالَى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ). فَنَطَقُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، حَتَّى جَاءَهُمُ المَوْتُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، “أَقُولُ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ”.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْصَى أَعْمَالَ العِبَادِ إِحْصَاءً دَقِيقًا، قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)؛ أَيْ: عَادِّينَ وَحَافِظِينَ وَمُحَاسِبِينَ عَلَيْهَا.
وَسَيُجَازِي اللهُ كُلَّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ المُجَازَاةِ. قَالَ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). قَالَ الحَسَنُ: حِسَابُهُ أَسْرَعُ مِنْ لَمْحِ البَصَرِ.
فَاعْمَلُوا - أَيُّهَا المُسْلِمُونَ - صَالِحًا لِأَنْفُسِكُمْ، حَافِظُوا عَلَى أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ، وَأَحْسِنُوا فِي العِبَادَاتِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَتَعَاقَبُ فِينَا مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَتُرْفَعُ إِلَى اللهِ جَمِيعُ الأَعْمَالِ، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ... الحَدِيث". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
"اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ عَاجلِهِ وَآجلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَألَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا".
"رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.