مَسْأَلَةٌ: الخُطْبَةُ قَائِمًا وَالجُلُوسُ بَيْنَهُمَا

الأَصْلُ أَنْ يَخْطُبَ الإِمَامُ قَائِمًا وَيَجْلِسَ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ؛ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الدَّائِمِ، وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مَنَاسِكَنَا، فَيَنْبَغِي الاسْتِنَانُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ القَوْلُ بِصِحَّةِ الخُطْبَةِ قَاعِدًا وَصِحَّةِ الخُطْبَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ بَيْنَهُمَا أَرْجَحُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْلُهُ: "خَطَبَهُمْ قَائِمًا". يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى خَطَبَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَمْ تَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْخُطْبَةِ قَاعِدًا، أَوْ يَقْعُدُ فِي إحْدَى الْخُطْبَتَيْنِ؟ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا. فَقَالَ لَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْلِسُ فِي خُطْبَتِهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ إنْكَارٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ الْخُطْبَةُ قَاعِدًا. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِقْبَالُ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
فَأَمَّا إنْ قَعَدَ لِعُذْرٍ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ الْقِيَامِ، فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى. انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: تَصِحُّ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، قَالُوا: وَالْقِيَامُ سُنَّةٌ، وَكَذَا الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ بِاشْتِرَاطِ الْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ: أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ وَكَذَا القِيَامُ، دَلِيلُنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"، مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا".
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْجُلُوسُ خَفِيفٌ جِدًّا قَدْرَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ تَقْرِيبًا. انْتَهَى.