ايات الاعراف

خطبة الجمعة

خطب عامة

الموضوع: آيات الأعراف.

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) ) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ).

مَا أَعْظَمَهَا مِنْ آيَاتٍ، وَمَا أَبْلَغَهَا مِنْ عِبَرٍ وَعِظَاتٍ!

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)، قَالَ: هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدينَةِ، يُقَالُ لَهَا أَيْلَة، فَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَمَكَثُوا كَذَلِك مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا.

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ: تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ)، وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالَتَا: لِمَ تَعِظُونَ، وَالَّذِينَ (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، وَأَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) الْآيَة.

قَالَ: إِنَّ اللهَ إِنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْيَوْمَ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَخَالَفُوا إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ، فَعَظَّمُوهُ وَتَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَلَمَّا ابْتَدَعُوا السَّبْتَ ابْتُلُوا فِيهِ، فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانُ، وَهِي قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا مَدْيَنَ أَيْلَةَ وَالطُّور، فَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ ذَهَبَتْ، فَلَمْ تَرَ حَتَّى مِثْلَهُ مِنَ السَّبْتِ الْمُقْبِلِ، فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ عَادَتْ شُرَّعًا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْهُم أَخَذَ حُوتًا فَحَزَمَهُ بِخَيْطٍ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ وَتَدًا فِي السَّاحِلِ وَرَبَطَهُ وَتَرَكَهُ فِي المَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَأَكَلَهُ سِرًّا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يَتَنَاهَوْنَ، إِلَّا بَقِيَّةً مِنْهُمْ فَنَهَوْهُمْ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ عَلَانِيَةً، قَالَتْ طَائِفَةٌ لِلَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، قَالُوا: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) فِي سُخْطِنَا أَعْمَالَهُمْ، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، فَكَانُوا أَثْلَاثًا: ثُلُثًا نَهَى، وَثُلُثًا قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ)، وَثُلُثًا أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ، فَأَصْبَحَ الَّذِينَ نَهَوْا ذَاتَ غَدَاةٍ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَفَقَّدُونَ النَّاسَ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَقَدْ بَاتُوا مِن لَيْلَتِهِمْ وَغَلَّقُوا عَلَيْهِمْ دُورَهُمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: إِنَّ لِلنَّاسِ شَأْنًا فَانْظُرُوا مَا شَأْنُهُمْ، فَاطَّلَعُوا فِي دُورِهِمْ، فَإِذَا الْقَوْمُ قَدْ مُسِخُوا، يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَقِرْدٌ، وَالْمَرْأَةَ بِعَينِهَا وَإِنَّهَا لَقِرْدَةٌ. جَوَّدَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَةَ نَجَتْ أَيْضًا.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمًا وَهُوَ يَبْكِي، وَإِذا الْمُصْحَفُ فِي حَجْرِهِ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الوَرَقَاتِ، وَإِذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، قَالَ: تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: فَإِنَّهُ كَانَ بِهَا حَيٌّ مِنْ يَهُودَ سِيقَتْ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ غَاصَتْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَغُوصُوا عَلَيْهَا بَعْدَ كَدٍّ وَمُؤْنَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بِيْضًا سِمَانًا كَأَنَّهَا الْمَاخِضُ، فَكَانُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَخُذُوهَا فِيهِ، وَكُلُوهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ.

فَقَالَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا وَأَخْذِهَا وَصَيْدِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَعَدَتْ طَائِفَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَأَبْنَائِهَا وَنِسَائِهَا، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَتَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَسَارِ وَسَكَتَتْ.

وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ: وَيْلَكُمْ لَا تَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَقَالَ الْأَيْسَرُونَ: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، قَالَ الْأَيْمَنُونَ: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)؛ إنْ يَنْتَهُوا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ لَا يُصَابُوا وَلَا يَهْلِكُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَمَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، فَمَضَوْا عَلَى الْخَطِيئَةِ.

وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ: قَدْ فَعَلْتُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنُبَايِنَنَّكُمُ اللَّيْلَةَ فِي مَدِينَتِكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ تُصْبِحُونَ حَتَّى يُصْبِّحَكُمُ اللَّهُ بِخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَنَادَوْا فَلَمْ يُجَابُوا، فَوَضَعُوا سُلَّمًا وَعَلَوْا سُورَ الْمَدِينَةِ رَجُلًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، قِرَدَةٌ - وَاللَّهِ - تَعَاوَى لَهَا أَذْنَابٌ.

فَفَتَحُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقِرَدَةُ أَنْسَابَهَا مِنَ الِإنْسِ، وَلَا تَعْرِفُ الِإنْسُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْقِرَدَةِ، فَجَعِلَتِ الْقُرُودُ تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الِإنْسِ فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ.

ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) قَالَ: أَلِيمٌ وَجِيعٌ.

قَالَ: فَأرَى الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا، وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا.

قُلْتُ - الْقَائِلُ عِكْرِمَةُ - : أَيْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ وَقَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟ قَالَ: فَأَمَرَ بِي، فَكُسِيْتُ ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَجَا النَّاهُونَ، وَهَلَكَ الْفَاعِلُونَ، وَلَا أَدْرِي مَا صُنِعَ بِالسَّاكِتِينَ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَنْ أَكُونَ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) نَجَوْا مَعَ الَّذِينَ نَهَوْا عَنْ السُّوءِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ نَزَلَتْ بِهِمْ جَمِيعًا.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي: أنَجَا الَّذِينَ قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) أَمْ لَا؟ قَالَ: فَمَا زِلْتُ أُبَصِّرُهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فَكَسَانِي حُلَّةً.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا أَحْسَنَ كُتُبِهِ، وَجَعَلْنَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، لَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَأْخُذَ الْعِبْرَةَ وَالْمَوْعِظَةَ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، لَقَدْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَخْذُهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، أَخْذُ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَمَا احْتَاجَ يَهُودُ "أَيْلَةَ" إِلَّا أَنْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فَكَانُوا قِرَدَةً تَتَعَاوَى.

وَلَمْ يَقِفِ الْأَمْرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ؛ بَلْ قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).

لَقَدْ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ لِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى اسْتِحْلَالِ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ.

بَعَثَ اللَّهُ الْعَرَبَ عَلَى الْيَهُودِ، يُقَاتِلُونَ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ، وَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ صَغَارًا وَذِلَّةً.

وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ كَانُوا فِي قَهْرِ الْمُلُوكِ مِنْ الْيُونَانِيِّينَ وَالْكَشْدَانِيِّينَ وَالْكُلْدَانِيِّينَ، ثُمَّ صَارُوا فِي قَهْرِ النَّصَارَى وَإِذْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ، أَخَذُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَكَانُوا تَحْتَ ذِمَّتِهِ يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ آخِرُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ أَنْصَارَ الدَّجَّالِ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ.

قَالَ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وَمِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ يَهُودَ "أَيْلَةَ" لَمَّا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَابْتَدَعُوا السَّبْتَ مَكَانَهُ، ابْتُلُوا فِيهِ، فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَجُعِلَتْ تَأْتِيهِمْ فِيهِ شُرَّعًا بِيْضًا سِمَانًا كَأَنَّهَا الْمَاخِضُ، تَتَبَطَّحُ ظُهُورُهَا لِبُطُونِهَا بِأَفْنِيَتِهِمْ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.

فَلَمَّا عَصَوْا وَاعْتَدَوْا عَلَيْهَا، مَسَخَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَصُوَرَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً.

وَقَدْ نَجَّى اللَّهُ الَّذِينَ كَرِهُوا مُخَالَفَتَهُمْ، وَأَنْكَرُوا مَعْصِيَتَهُمْ، وَوَعَظُوهُمْ وَاعْتَزَلُوهُمْ.

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيِّ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ: تَأْمُرُ مَنْ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ؟ قَالَ: يَكُونُ مَعْذِرَةً، وَقَرَأَ: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ).

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ). رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَغُمُومِنَا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.