دَاءُ الحَسَدِ

دَاءُ الحَسَدِ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ قِصَّتَيْنِ فِيهِمَا الْعِبْرَةُ وَالْعِظَةُ، إِحْدَى هَاتَيْنِ الْحَادِثَتَيْنِ فِي السَّمَاءِ، وَالْأُخْرَى فِي الْأَرْضِ، وَمَوْضُوعُ الْحَادِثَتَيْنِ وَاحِدٌ، خُلُقٌ ذَمِيمٌ، وَطَبْعٌ لَئِيمٌ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، أَلَا إِنَّهُ الْحَسَدُ، دَاءُ الْأُمَمِ كُلِّهَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُ، وَمِنْ شَرِّ مَنْ ابْتُلِيَ بِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُقَالُ: الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا فِي السَّمَاءِ فَحَسَدُ إِبْلِيسَ لِآدَمَ، وَأَمَّا فِي الْأَرْضِ فَحَسَدُ قَابِيلَ لِهَابِيلَ. انْتَهَى.

قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ(.

فَهَذَا جَزَاءُ تَكَبُّرِهِ وَحَسَدِهِ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَبِالْحَسَدِ لُعِنَ وَطُرِدَ، وَجُعِلَ شَيْطَانًا رَجِيمًا.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ..) الآيات.

رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُهِيَ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْأَمَهَا، وَأُمِرَ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ وُلِدَ لَهُ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ، وَوُلِدَ لَهُ أُخْرَى قَبِيحَةٌ دَمِيمَةٌ، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ: أَنْكِحْنِي أُخْتَكَ وَأُنْكِحُكَ أُخْتِي. قَالَ: لَا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، فَتُقُبِّلَ مِنْ صَاحِبِ الْكَبْشِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.

وَرُوِى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا)، فَقَرَّبَا قُرْبَانَهُمَا، فَجَاءَ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَقْرَنَ أَبْيَضَ، وَصَاحِبُ الْحَرْثِ بِصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَبِلَ اللَّهُ الْكَبْشَ فَخَزَنَهُ فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَإِنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قَرَّبَ أَشَرَّ حَرْثِهِ الْكَوْدَنَ وَالزُّوَانَ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -، تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ إِلَى أَخِيهِ.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْبَانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ، فَبَيْنَا ابْنَا آدَمَ قَاعِدَانِ، إِذْ قَالَا لَوْ قَرَّبْنَا قُرْبَانًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَّبَ قُرْبَانًا فَرَضِيَهُ اللَّهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ نَارًا فَتَأْكُلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَضِيَهُ اللَّهُ خَبَتِ النَّارُ، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَاعِيًا، وَكَانَ الْآخَرُ حَرَّاثًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ خَيْرَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا، وَقَرَّبَ الْآخَرُ بَعْضَ زَرْعِهِ، فَجَاءَتْ النَّارُ فَنَزَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَأَكَلَتِ الشَّاةَ وَتَرَكَتِ الزَّرْعَ، وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ قَالَ لِأَخِيهِ: أَتَمْشِي فِي النَّاسِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ قَرَّبْتَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْكَ وَرُدَّ عَلَيَّ؟ فَلَا وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْكَ وَإِلَيَّ وَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: مَا ذَنْبِي؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَهَذَا الْأَثَرُ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْرِيبَ الْقُرْبَانِ كَانَ لَا عَنْ سَبَبٍ وَلَا عَنْ تَدَارُئٍ فِي امْرَأَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ)، فَالسِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنَّمَا غَضِبَ عَلَيْهِ وَحَسَدَهُ لِقَبُولِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ.

قَالَ: وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِمَا فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ لِضَرُورَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ قَالُوا: كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَكَانَ يُزَوِّجُ أُنْثَى هَذَا الْبَطْنِ لِذَكَرِ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ أُخْتُ هَابِيلَ دَمِيمَةً، وَأُخْتُ قَابِيلَ وَضَيئَةً، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، فَأَبَى آدَمُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، فَمَنْ تُقُبِّلَ مِنْهُ فَهِيَ لَهُ، فَقَرَّبَا فَتُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

ثُمَّ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الشَّاةَ هُوَ هَابِيلُ، وَأَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الطَّعَامَ هُوَ قَابِيلُ - وَأَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ شَاتُهُ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ. كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. انْتَهَى.

قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا: (لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ).

فَمَا مَنَعَ هَابِيلَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ قَابِيلَ الْبَاغِي عَلَيْهِ حَسَدًا إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً.

وَمَعَ أَنَّ هَابِيلَ وَعَظَ أَخَاهُ قَابِيلَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا يَجْعَلُ الْقَاتِلَ يَحْمِلُ ظُلْمَهُ لِنَفْسِهِ وَظُلْمَهُ لِغَيْرِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ النَّارَ، خَاصَّةً أَنَّ دِيوَانَ ظُلْمِ الْعِبَادِ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، الْقِصَاصُ لَا مَحَالَةَ. فَمَا أَبْلَغَهَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْحَسَدَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَوَّفَهُ النَّارَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ.

قَالَ تَعَالَى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الشِّرِّيرَةُ، وَأَغْوَاهُ شَيْطَانُهُ، وَأَعْمَاهُ الْحَسَدُ، فَقَتَلَ أَخَاهُ، فَكَانَ الْإِفْلَاسُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَصِيبَهُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ تَعَالَى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

وَلَاتَ حِينَ نَدِمٍ، فَقَدْ جَمَعَ الْحَسَدُ عَلَى قَابِيلَ شَرَّيْنِ، هُمَا الْخَسَارَةُ وَالنَّدَامَةُ، فَمَا أَقْبَحَ الْحَسَدَ، خُلُقٌ مَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْمُومٌ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَابِيلَ عُوْجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شَاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا -، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْحَسَدَ دَاءٌ مُزْمِنٌ يَؤُولُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).

فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

عِبَادَ اللهِ، ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحَاسَدُوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: يَعْنِي: لَا يَحْسُدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالْحَسَدُ مَرْكُوزٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.

ثُمَّ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَقْسَامٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ بِالْبَغْيِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي نَقْلِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ شَرُّهُمَا وَأَخْبَثُهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ كَانَ ذَنْبَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ كَانَ حَسَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ... فَمَا زَالَ يَسْعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْهَا. انْتَهَى.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ - أَوْ قَالَ: الْعُشْبَ -". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ مُبْهَمٌ، وَحَسَّنَ الْعِرَاقِيُّ إِسْنَادَ حَدِيثِ أَنَسٍ.

وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، أَنَّهُ مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ، لَكِنَّ الْكَرِيمَ يُخْفِيهِ، وَاللَّئِيمَ يُبْدِيهِ، فَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ: فَهُوَ مَعْذُورٌ.

وَاعْلَمُوا - عَلَّمَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ - أَنْ تُمَنِّي الْخَيْرَ لِلْآخَرِينَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: "لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ، حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ".

فَحَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَكَمَالُ سَلَامَةِ الصَّدْرِ: أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ مِنَ الخَيْرِ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ مِنَ الشَّرِّ، وَأَنْ تَرْضَى بِقَضَاءِ اللهِ وَقِسْمَتِهِ.

قال اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ).

وَقَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ»، وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَةُ، تَتَمَنَّى مِثْلَ هَذَا الخَيْرِ دُونَ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَسَمَّاهُ حَسَدًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَمِنَ النَّمَاذِجِ الجَمِيلَةِ وَعَلَامَةِ الصُّدُورِ السَّلِيمَةِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ يُحِبُّ الخَيْرَ لِأُمَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "إِنِّي لَأَمُرُّ عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَأَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ".

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ".

وَكَانَ عُتْبَةُ الْغُلَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ لِبَعْضِ إِخْوَانِهِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَمْرِهِ وَأَعْمَالِهِ: "أَخْرِجْ إِلَيَّ مَاءً أَوْ تَمَرَاتٍ أُفْطِرُ عَلَيْهَا؛ لِيَكُونَ لَكَ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِي".

(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).

اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا تَقِيَّةً نَقِيَّةً، وَارْزُقْنَا سَلَامَةَ الصَّدْرِ يَارِبَ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ، وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحَيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ!