اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ


الخُطْبَةُ الأُولَى:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ!
إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَلُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ، أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مُنَاسَبَاتٍ شَرْعِيَّةً، وَوَظَائِفَ زَمَانِيَّةً، تَتَضَاعَفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ، وَتُكَفَّرُ فِيهَا السَّيِّئَاتُ، كَأَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْمُبَارَكَةِ، فَأَيَّامُهَا أَعْظَمُ أَيَّامِ الدُّنْيَا بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَمَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِهَا، فَأَكْثِرْ - يَا عَبْدَ اللَّهِ - أَوْ أَقْلِلْ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِهَا وَرُتْبَتِهَا: إِقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ).
قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوِتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ ابْنُ رَجَبٍ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "إِسْنَادٌ رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْمَتْنَ فِي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ". انْتَهَى.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ لَيَالِي الْعَشْرِ، وَعَظِيمِ شَرَفِهَا، وَكَبِيرِ قَدْرِهَا، وَمُضَاعَفَةِ أُجُورِهَا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضَّلَهَا عَلَى لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ لَيَالِيَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ، فَفِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ تَعَالَى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

وَأَمَّا أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَهِيَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَزْكَى، وَأَكْثَرُ أَجْرًا مِنَ الْعَمَلِ، فِي أَيَّامِ الْعَامِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، لَا رَمَضَانَ وَلَا غَيْرُهُ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ - يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ -، قِيلَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ. وَذَكَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ: يَوْمُ مُبَاهَاةٍ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟»، قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى»
 
قَالَ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "لَا تُطْفِئُوا سُرُجَكُمْ لَيَالِيَ الْعَشْرِ"، تُعْجِبُهُ الْعِبَادَةُ.
وَفِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرُ، وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَيَوْمُ القَرِّ هُوَ: اليَوْمُ الحَادِيَ عَشَرَ، أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، وَسُمِّي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى.
وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ، جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرَ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ فَضْلِ العَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ): أَيَّامُ العَشْرِ، وَالأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ".
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، التَّكْبِيرُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، مَعَ غَضِّ أَصْوَاتِهِنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ. 
وَمِنْ صِيَغِهِ: مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا».
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَإِنَّهُمْ لَيُكَبِّرُونَ فِي الْعَشْرِ، حَتَّى كُنْتُ أُشَبِّهُهُ بِالْأَمْوَاجِ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَيَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ نَقَصُوا فِي تَرْكِهِمْ التَّكْبِيرَ. رَوَاهُ الْمَرْوَزِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَحْوُهُ، قَالَ: "فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ". قَالَ الهَيْثَمِيُّ: هُوَ فِي الصَّحِيحِ بِاخْتِصَارِ التَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَبْدَأُ التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَعْدَ ذِكْرِهَا الْمَشْرُوعِ، مِنْ صَلَاةِ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ؛ لِوُرُودِ مِثْلِ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي الْعُشْرِ مُطْلَقُ الذِّكْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا، قَالَ تَعَالَى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْعَشْرُ، فَالْحَجُّ ذِكْرٌ، وَالْأُضْحِيَّةُ ذِكْرٌ،  وَالصِّيَامُ ذِكْرٌ، وَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَالصَّدَقَةُ ذِكْرٌ، وَالْقُرْآنُ ذِكْرٌ، وَالتَّوْبَةُ ذِكْرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، فَكُلُّهَا ذِكْرٌ.
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي الْعُشْرِ الصِّيَامُ؛ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَالصِّيَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)
وعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ صُحِّحَ، وَاحْتَجَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدَّمَهُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ يَصُومُهَا.
وَمَنْ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي الْعَشْرِ لِيَحْظَى بِالْأَجْرِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي العَشْرِ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي العَشْرِ الحَجُّ، فَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي الْعُشْرِ الْأُضْحِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَنُسُكِهِ الْعِظَامِ، وَحَسْبُكُمْ أَنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
 
وَمِمَّا يُشْرَعُ فِي الْعَشْرِ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَإِظْهَارُ الْفَرَحِ، لَا التَّرْحِ وَالْأَشَرِ وَالْبَطَرِ، وَلَا الضَّرْبِ بِالْمَعَازِفِ، إِلَّا الدُّفَّ فَقَطْ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُدَفِّفَانِ، وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَجَعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ خِيرَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ، “أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ”.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: (فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفْرًا).
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ، وَالرَّاجِحُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَرَبِيعَةُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَغَيْرُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ الَّذِي يَجْتَنِبُ ذَلِكَ هُوَ مَالِكُ الْأُضْحِيَّةِ، لَا أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَلَا الْوَكِيلُ وَمَنْفَذُ الْوَصِيَّةِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ، فَإِنَّهُ يُضَحِّي، وَأُضْحِيَّتُهُ تَامَّةٌ مَقْبُولَةٌ.
وَلَا مَانِعَ - أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ - مِنْ غَسْلِ الشَّعْرِ، وَدَلْكِهِ، وَمَشْطِهِ بِرِفْقٍ، وَلَا مِنْ إِزَالَةِ مُؤْذٍ، كَشَعْرٍ فِي عَيْنٍ، أَوْ ظُفْرٍ مُنْكَسِرٍ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ!
اعْلَمُوا - رَحِمَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ - أَنَّ لَيَالِيَ وَأَيَّامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ الْمَوَاسِمِ الْعِظَامِ، وَمِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ. 
قَالَ تَعَالَى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).

«اللهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللهُمَّ آتِ أَنَفُسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا».
«اللهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ».
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ جَدَّ فِي الْعَشْرِ، وَفَازَ بِالْأَجْرِ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.