التَّنَزُّلُ الإِلَهِيُّ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ،، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

إِخْوَانِي فِي اللهِ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ المَلِكَ أَوِ الأَمِيرَ نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ المَسْجِدِ وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فَلْيَتَقَدَّمْ بِهَا إِلَيَّ؛ كَيْفَ سَنُسَارِعُ إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا بِطَلَبَاتِنَا نَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى.

فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟".

إِنَّهَا فُرْصَةٌ ثَمِينَةٌ!

أَلَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ يَدْعُو اللهَ بِمَا أَهَمَّهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ لِيَسْتَجِيبَ لَهُ؟ أَلَا سَائِلٌ يَسْأَلُهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لِيُعْطِيَهُ سُؤْلَهُ؟ أَلَا مُسْتَغْفِرٌ يَسْتَغْفِرُهُ لِيَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا تَائِبٌ مِنْ ذَنْبٍ يَتُوبُ إِلَيْهِ لِيَتُوبَ عَلَيْهِ؟ أَلَا مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَيَدْعُوَهُ لِيُوَسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ؟ أَلَا مَظْلُومٌ يَذْكُرُهُ فَيَنْصُرَهُ؟

وَكَيْفَ نَعْرِفُ يَا عِبَادَ اللهِ الثُّلُثَ الأَخِيرَ؟

الجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنْ نَقْسِمَ الوَقْتَ الَّذِي بَيْنَ أَذَانِ المَغْرِبِ إِلَى أَذَانِ الفَجْرِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ فَيَتَبَيَّنُ لَنَا ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، وَثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوْسَطُ، وَثُلُثُ اللَّيْلِ الأَخِيرُ، وَهُوَ وَقْتُ التَّنَزُّلِ الإِلَهِيِّ.

إِنَّ حَدِيثَ النُّزُولِ مُتَوَاتِرٌ، قَدْ تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةُ للهِ صِفَةَ النُّزُولِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ بِحَسَبِ كُلِّ بَلَدٍ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَخِيرُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَائِهِمُ الدُّنْيَا دُونَ مَنْ كَانُوا فِي نَهَارٍ، نُزُولًا حَقِيقِيًّا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، إِثْبَاتًا مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا لَوَازِمَ بَاطِلَةٍ؛ فَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ نَازِلٌ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ الآخِرَ لَا يَخْلُو مِنْهُ بَلَدٌ فِي العَالَمِ؛ فَهَذَا إِلْزَامٌ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ نُزُولَ اللهِ سُبْحَانَهُ لَا يُشْبِهُ نُزُولَ المَخْلُوقِينَ، وَلَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ إِلَّا هُوَ عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

وَلَوْ حَكَّمْنَا عُقُولَنَا عَلَى نُصُوصِ صِفَاتِ اللهِ لَهَلَكْنَا، فَعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ: هَلْ يَسْتَوْعِبُ العَقْلُ حَقِيقَةَ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي ... الحديث). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَكَمْ يُصَلِّي فِي اللَّحْظَةِ الوَاحِدَةِ مِنْ مُصَلٍّ يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ؟

إِنَّ الوَاجِبَ الإِيمَانُ وَالتَّسْلِيمُ، كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ: سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، كَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: "الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ".

وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّمُ اللهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ كُلَّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَعَقْلُ الإِنْسَانِ قَاصِرٌ مَهْمَا بَلَغَ فِي عَبْقَرِيَّتِهِ، فَقَبْلَ عُقُودٍ مِنَ الزَّمَنِ لَا يَتَصَوَّرُ العَقْلُ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ التِّقْنِيَّةُ الحَدِيثَةُ؛ فَمَنْ كَانَ سَيُصَدِّقُ قَبْلَ قَرْنٍ لَوْ قِيلَ: إِنَّ رَجُلًا بِأَقْصَى المَشْرِقِ يَتَحَدَّثُ مَعَ رَجُلٍ بِأَقْصَى المَغْرِبِ صَوْتًا وَصُورَةً، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ اليَوْمَ فِي تِقْنِيَّةِ الاتِّصَالَاتِ؟

وَمَنْ كَانَ سَيُصَدِّقُ لَوْ قِيلَ: إِنَّ سُكَّانَ العَالَمِ عَلَى تَبَاعُدِ أَقْطَارِهِمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مُتَحَدِّثًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي النَّقْلِ الحَيِّ عَلَى الهَوَاءِ عَبْرَ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ؟

وَلَا يَزَالُ العَالَمُ قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ يَقِفُ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

عِبَادَ اللهِ: لِنَتَغَانَمْ فُرْصَةَ قُرْبِ اللهِ مِنَ العَبْدِ فَنَدْعُوَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَنُنْزِلَ حَاجَاتِنَا بِهِ، وَنُنَاجِيَهُ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ فِي الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: ( كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قَالُوا: أَخَّرَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ.

اللَّهُمَّ يَا بَارِئَ البَرِيَّاتِ، وَغَافِرَ الخَـطِيَّاتِ، وَعَالِمَ الخَفِيَّاتِ، المُطَّلِعُ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالنِّيَّاتِ، يَا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا، اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

اللَّهُمَّ يَا سَمِيعَ الدَّعَوَاتِ، يَا مُقِيلَ العَثَرَاتِ، يَا قَاضِيَ الحَاجَاتِ، يَا كَاشِفَ الكَرُبَاتِ، يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، وَيَا غَافِرَ الزَّلَّاتِ، اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.