لَيْلَةُ القَدْرِ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْمُلْكُ كلُّهُ، وَبِيَدِهِ الخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، لَكَ الحَمْدُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيِّ الرَّحْمَةِ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أَصْحَابِهِ، أَفْضَلِ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبَرِّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقِهَا عِلْمًا، وَأَقَلِّهَا تَكَلُّفًا، اخْتَارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

سُمِّيَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ بِهَذَا الاسْمِ؛ لِمَا يَكْتُبُ اللهُ فِيهَا لِلْمَلَائِكَةِ مِنَ الأَقْدَارِ وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، الَّتِي تَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعَظِيمِ قَدْرِهَا وَكَبِيرِ شَرَفِهَا.

وَالعِبَادَةُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ خَيْرٌ مِنَ العِبَادَةِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ؛ أَيْ: مَا يَزِيدُ عَلَى (٨٣) ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.

فَالمَحْرُومُ يَا عِبَادَ اللهِ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا.

وَقَوْلُهُ: (تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)؛ أَيْ: يَكْثُرُ تَنَزُّلُ المَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؛ لِكَثْرَةِ خَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا، وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ فِيهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ: "إِنَّ المَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى". رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)؛ جَاءَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ سَجِيَّةٌ، لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، مِثْلَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

وَمَعَ عَظِيمِ فَضْلِهَا، فَقَدْ أَخْفَى اللهُ لَيْلَتَهَا؛ لِيَجِدَّ العِبَادُ وَيَجْتَهِدُوا، فَيَتَزَوَّدُوا خَيْرًا، وَيَزْدَادُوا أَجْرًا.

فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَقَوْلُهُ: "فَرُفِعَتْ"؛ أَيْ: رُفِعَ عِلْمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِالاتِّفَاقِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ (يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ)؛ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَقَوْلُهُ: (فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ)، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي العَشْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ لَيْلَةَ القَدْرِ، سَوَاءً كَانَتْ مِنْ لَيَالِي الأَوْتَارِ، أَوْ مِنَ الأَشْفَاعِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللهُ -، أَنَّ جَمِيعَ لَيَالِي العَشْرِ فِيهَا تُطْلَبُ لَيْلَةُ القَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى".

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّيَالِيَ الوِتْرِيَّةَ أَرْجَى، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي كُلِّ وِتْرٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي ثَلَاثِ أَوَاخِرِ لَيْلَةٍ»، وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهَدَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ! أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي، أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟! قَالَ: بِالْعَلَامَةِ، أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ، لَا شُعَاعَ لَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَقَالَ الحَاكِمُ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ".

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

قَوْلُهُ: (فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)؛ أَيْ: لَيْلَةِ القَدْرِ؛ فَهِيَ مُبَارَكَةٌ لِكَثْرَةِ الخَيْرَاتِ فِيهَا وَالبَرَكَاتِ، حَتَّى إِنَّ المُسَافِرَ وَالنَّائِمَ وَالصَّغِيرَ وَالمَرْأَةَ الحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ يَنَالُهُمْ مِنْ خَيْرِهَا وَبَرَكَتِهَا، وَيَتَفَاوَتُ المُسْلِمُونَ فِي أَنْصِبَتِهِمْ وَحِصَصِهِمْ فِيهَا، بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)؛ يَعْنِي فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، يُقْضَى أَمْرُ السَّنَةِ كُلِّهَا: الآجَالُ، وَالأَرْزَاقُ، وَالأَعْمَالُ، مَنْ يَمُوتُ، وَمَنْ يُولَدُ، وَمَنْ يَعِزُّ، وَمَنْ يَذِلُّ، وَسَائِرُ أُمُورِ السَّنَةِ.

اللَّهُمَّ طَهِّرْنَا بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا طَهَّرْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ذُنُوبِنَا كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ، اللهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَاهْدِنَا وَارْزُقْنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّيقِ يَوْمَ الْحِسَابِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.