العَشْرُ الأَوَاخِرُ

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْن يَدَيِ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَفْضَلَ عَشْرِ لَيَالٍ هِيَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؛ وَذَلِكَ لِفَضْلِهَا وَلِوُجُودِ لَيْلَةِ القَدْرِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (ابْتَغُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ لَيْلَةَ القَدْرِ وَيَتَحَرَّاهَا؛ لِذَا كَانَ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ البَوَاقِي؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.

وَفِي المُسْنَدِ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْلِطُ العِشْرِينَ بِصَلَاةٍ وَنَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ العَشْرُ - يَعْنِي الأَخِيرَ - شَمَّرَ وَشَدَّ المِئْزَرَ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، وَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الفَلَاحَ، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلَاحُ، قَالَ: «السُّحُورُ». رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَى تَأَكُّدِ إِحْيَاءِ لَيَالِي العَشْرِ بِالصَّلَاةِ اللَّيْلَ كُلَّهُ أَوْ غَالِبَهُ، وَتَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِ إِيقَاظِ الأَهْلِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَحَثِّهِمْ عَلَيْهَا، خَاصَّةً اللَّيَالِيَ الَّتِي هِيَ آكَدُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ القَدْرِ.

وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ طَوَى فِرَاشَهُ، وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَجَعَلَ عَشَاءَهُ سَحُورًا». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ.

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَّلَاةَ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو يَعْلَى بِاخْتِصَارٍ عَنْهُ ... وَإِسْنَادُ أَبِي يَعْلَى حَسَنٌ.

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَحَبُّ إِلَيَّ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ أَنْ يَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ، وَيَجْتَهِدَ فِيهِ، وَيُنْهِضَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ إِلَى الصَّلَاةِ، إِنْ أَطَاقُوا ذَلِكَ. انْتَهَى.

وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي الحَدِيثِ: (وَجَدَّ)؛ أَيْ: جَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي العِبَادَةِ، زِيَادَةً عَلَى العَادَةِ؛ طَلَبًا لِفَضْلِ تِلْكَ اللَّيَالِي الفَاضِلَةِ، وَتَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.

وَقَوْلُهَا: (وَشَدَّ المِئْزَرَ) هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الاسْتِعْدَادِ وَالتَّشْمِيرِ لِلْعِبَادَةِ، وَالاجْتِهَادِ لَهَا زِيَادَةً عَنِ المُعْتَادِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَلْطَفِ الكِنَايَاتِ عَنِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ الجِمَاعِ تَفَرُّغًا لِلْعِبَادَةِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، وَأَعْطَانَا مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْنَاهُ وَأَجْزَلَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنَ السُّنَنِ العَظِيمَةِ، وَالعِبَادَاتِ الجَلِيلَةِ، عُبُودِيَّةَ الاعْتِكَافِ، وَهُوَ الإِقَامَةُ فِي المَسْجِدِ بِنِيَّةِ التقرُّبِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»، وَقَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ تَرَكُوا الاعْتِكَافَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّهُ مَسْنُونٌ.

وَقال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ اعْتَكَفَ.

فَمَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ سُنَّةِ الاعْتِكَافِ فَلْيَدْخُلِ المَسْجِدَ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ.

اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبْعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ عَائِذِينَ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ مِنَّا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلْ كَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْخَلْقِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ أَحْسَنَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَاجْتَهَدَ فِي العَشْرِ، وَوُفِّقَ لِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَفَازَ بِعَظِيمِ الأَجْرِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.