مِنَ الهَدْيِ النَّبَوِيِّ فِي رَمَضَانَ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَزَكَّى نُفُوسَنَا بِالصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَهَدَانَا لِلسُّنَّةِ، وَأَبْعَدَنَا عَنِ البِدْعَةِ، وَجَعَلَ أُسْوَتَنَا وَقُدْوَتَنَا وَإِمَامَنَا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ جَلَّ وَعَلَا: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وَإِنَّ مِنْ تَقْوَى اللهِ أَنْ نَهْتَدِيَ بِهَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ، وَقَدْ قَالَ: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَإِنَّ مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ - وَهَدْيُهُ أَكْمَلُ الهَدْيِ -، وَمِنْ سُنَّتِهِ القَوْلِيَّةِ أَوِ الفِعْلِيَّةِ: التَّعَبُّدَ للهِ تَعَالَى بِصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُ عَنِ المُفَطِّرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ"، وَقَالَ: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا اللَّهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ"، "وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ"، وَقَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ"، وَقَالَ: "لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ"، وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَتَسَوَّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ؛ فَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ لِلصَّائِمِ وَغَيْرِهِ.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَحَّرُ وَيُؤَخِّرُ السَّحُورَ، قَالَ زَيْدٌ: "تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرَ خَمْسِينَ آيَةً».

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (السُّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ).

وَرَغَّبَ فِي التَّمْرِ عِنْدَ الإِمْسَاكِ وَعِنْدَ الإِفْطَارِ، فَقَالَ: «نِعْمَ سُحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرِ»، وَقَالَ: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ».

وَ«كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ».

وَحَثَّ عَلَى تَعْجِيلِ الفِطْرِ، فقَالَ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)، وَقَالَ: (لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ). ونَهَى عَنْ الْوِصَالِ.

وكان إِذَا أَفْطَرَ، قَالَ: "ذَهَبَ الظَّمأُ، وابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأجْرُ إِنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى"،

وَلَمَّا أَفْطَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَعْدٍ، قَالَ: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ".

وَقَالَ: لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةٌ مَا تُرَدُّ.

وَ(عِنْدَ) تَشْمَلُ قَبْلَ الفِطْرِ وَبَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ: (لَدَعْوَةٌ): أَيْ: جِنْسُ الدُّعَاءِ، وَقَدْ قَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ.

"وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ"، وَمِنْ جُودِهِ الإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ)؛ فَمِنْ الرُّخَصِ أَنْ يُفْطِرَ المَرِيضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ، وَكَذَلِكَ المُسَافِرُ، قَالَ تَعَالَى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

وَقَالَ حَمْزَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إنَّ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ"؛ فَالمُسَافِرُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالفِطْرِ، إِلَّا أَنْ يَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ فَيُفْطِرُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ".

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَمَّا بَعْدُ: فَمِنْ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ: أَنَّهُ كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وَقَالَ: "مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"، وَكَانَ يَدْعُو أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ لِلْقِيَامِ، وَ"مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا"، "يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ".

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنَّهُ كَانَ: "يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ"، وَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُطِيلُ القِرَاءَةَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ صَلَّى مَعَهُ حُذَيْفَةُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، قَالَ: فَقَرَأَ بِالبَقَرَةِ، ثُمَّ النِّسَاءِ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، فَمَا صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى جَاءَهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ. خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ ... وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا بِالنَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ بِالمِائَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، حَتَّى كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى العَصَى مِنْ طُولِ القِيَامِ، وَمَا كَانُوا يَنْصَرِفُونَ إِلَّا عِنْدَ الفَجْرِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ ثَلَاثَةَ قُرَّاءٍ، فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ بِالنَّاسِ ثَلَاثِينَ، وَأَوْسَطَهُمْ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَأَبْطَأَهُمْ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ كَانَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ يَقْرَؤُونَ بِالبَقَرَةِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِي اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً رَأَوْا أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ، قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: كَمْ يَقْرَأُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي دُونِ عَشْرِ آيَاتٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ! فَقَالَ: لَا رَضُوا؛ فَلَا تَؤُمَّنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنَ البَقَرَةِ، ثُمَّ إِذَا صِرْتَ إِلَى الآيَاتِ الخِفَافِ فَبِقَدْرِ عَشْرِ آيَاتٍ مِنَ البَقَرَةِ، يَعْنِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ دُونَ عَشْرِ آيَاتٍ.

وَسُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي السَّرِيعِ القِرَاءَةِ وَالبَطِيءِ، فَقَالَ: فِي هَذَا مَشَقَّةٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي القِصَارِ، وَإِنَّمَا الأَمْرُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ ضَعْفَى، اقْرَأْ خَمْسًا سِتًّا سَبْعًا، قَالَ: فَقَرَأْتُ فَخَتَمْتُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.

اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصِّيَامَ وَالقِيَامَ، وَأَعْتِقْ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ شَرِّ أَسْمَاعِنَا، وَمِنْ شَرِّ أَبْصَارِنَا، وَمِنْ شَرِّ أَلْسِنَتِنَا، وَمِنْ شَرِّ قُلُوبِنَا، وَمِنْ شَرِّ فُرُوجِنَا.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.