دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، وَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا أَنْ بَلَّغَنَا شَهْرَ رَمَضَانَ.

مَرْحَبًا أَهْلًا وَسَهْلًا بِالصِّيَامْ .... يَا حَبِيبًا زَارَنَا فِي كُلِّ عَامْ

شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الغُفْرَانِ، وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ.

يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ ... حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْرِ شَعْبَانْ

لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدَهُمَا ... فَلَا تُصَيِّرْهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيَانْ

وَاتْلُ القُرَانَ وَسَبِّحْ فِيهِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّهُ شَهْرُ تَسْبِيحٍ وَقُرْآنْ

فَاحْمْلِ عَلَى جَسَدٍ تَرْجُو النَّجَاةَ لَهُ ... فَسَوْفَ تُضْرَمُ أَجْسَادٌ بِنِيرَانْ

كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ ... مِنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإِخْوَانْ!

أَفْنَاهُمُ المَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُمُ ... حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنَ الدَّانِي!

عِبَادَ اللهِ، الصِّيَامُ، وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا الصِّيَامُ؟ هُوَ التَّعَبُّدُ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِالإِمْسَاكِ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ المُفَطِّرَاتِ، مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

قَالَ تَعَالَى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/187).

فَمُفْسِدَاتُ الصِّيَامِ وَمُفَطِّرَاتُ الصَّائِمِ سَبْعَةٌ، وَهِيَ:

أَوَّلًا: الجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَفِيهِ الكَفَّارَةُ المُغَلَّظَةُ.

ثَانِيًا: تَعَمُّدُ الاسْتِمْنَاءِ.

ثَالِثًا: الأَكْلُ وَالشُّرْبُ.

رَابِعًا: مَا كَانَ بِمَعْنَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، كَالإِبَرِ المُغَذِّيَةِ، وَحَقْنِ الدَّمِ، وَغَسِيلِ الكُلَى الَّذِي يَتَطَلَّبُ خُرُوجَ الدَّمِ ثُمَّ رُجُوعَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

أَمَّا الإِبَرُ غَيْرُ المُغَذِّيَةِ، وَكَذَلِكَ الأُكْسجِينُ، وَبَخَّاخُ الرَّبْوِ، وَقَطْرَةُ العَيْنِ وَالأُذُنِ، وَالتَّحَامِيلُ وَنَحْوُهَا، وَالمَرَاهِمُ، وَاللَّصَقَاتُ، وَالأَقْرَاصُ فِي الفَمِ، وَذَوْقُ الطَّعَامِ، وَتَنْظِيفُ الأَسْنَانِ بِالفُرْشَاةِ وَالمَعْجُونِ، وَالغَرْغَرَةُ دُونَ ابْتِلَاعِ شَيْءٍ مِنَ الأَجْزَاءِ المُتَحَلِّلَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَإِدْخَالُ الأُنْبُوبِ وَالمِنْظَارِ مَعَ اجْتِنَابِ مَا فِيهِ أَدْهَانٌ تَصِلُ إِلَى الجَوْفِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُفَطِّرُ.

خَامِسًا: إِخْرَاجُ الدَّمِ بِالحِجَامَةِ، وَالتَّبَرُّعُ بِالدَّمِ الكَثِيرِ، أَمَّا القَلِيلُ كَالتَّحْلِيلِ، وَخَلْعِ الضِّرْسِ، وَشَجِّ الجَرْحِ، وَالخَزَعَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَلَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ.

سَادِسًا: القَيْءُ عَمْدًا.

وَهَذِهِ المُفَطِّرَاتُ السِّتَّةُ لَا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ عَالِمًا غَيْرَ جَاهِلٍ، وَذَاكِرًا غَيْرَ نَاسٍ، وَمُخْتَارًا غَيْرَ مُكْرَهٍ.

سَابِعًا: خُرُوجُ دَمِ الحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ مِنَ المَرْأَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَمَّا بَعْدُ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ). رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ الحَافِظُ أَبُو مُوسَى المَدِينِيُّ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الكَذِبِ، وَالبَاطِلِ، وَاللَّغْوِ، وَالحَلِفِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَهْوَنُ الصِّيَامِ تَرْكُ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ.

وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الكَذِبِ وَالمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الجَارِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صَوْمِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمِ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً.

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ ... وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِنْ صَوْمِي الجُوعُ وَالظَّمَأُ ... فَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمِي فَمَا صُمْتُ

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: إِسْنادُهُ صَحِيحٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ الناسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: كَانَ مَالِكٌ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ يَفِرُّ مِنْ قِرَاءَةِ الحَدِيثِ وَمُجَالَسَةِ أَهْلِ العِلْمِ، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ مِنَ المُصْحَفِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ تَرَكَ جَمِيعَ العِبَادَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أَبْصَارِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا.

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَأَعِنَّا عَلَى تَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِهِ، وَاجْعَلْ لَنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ أَوْفَرَ الحَظِّ وَالنَّصِيبِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَوَالِدِينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصِّيَامَ وَالقِيَامَ وَسَائِرَ الأَعْمَالِ، وَاحْفَظْ قُلُوبَنَا وَفُرُوجَنَا وَأَسْمَاعَنَا وَأَبْصَارَنَا وَأَلْسِنَتَنَا، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.