خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

المَوْضُوعُ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أَمَّا بَعْدُ: «فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».

عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

فَالتَّفَكُّرُ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ﴾.

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ مُدَّةَ الخَلْقِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ سِتَّةَ أَيَّامٍ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَرَادَهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.

وَهَذِهِ السِّتَّةُ الأَيَّامُ بَدَأَتْ بِيَوْمِ الأَحَدِ، وَانْتَهَتْ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ.

 

لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ أَوَّلًا فِي يَوْمَيْنِ، وَهُمَا الأَحَدُ وَالاثْنَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ فِي يَوْمَيْنِ، وَهُمَا الثُّلَاثَاءُ وَالأَرْبِعَاءُ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَهُمَا الخَمِيسُ وَالجُمُعَةُ، فَتَمَّتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ...﴾ الآية.

فَخَلَقَ اللهُ الأَرْضَ أَوَّلًا؛ فَهِيَ كَالأَسَاسِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ سَقْفًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون﴾.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.

فَبَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَاتِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَشَدُّ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

وَقَدْ فَسَّرَ اللهُ بِنَاءَ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ فَاللهُ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ، رَفَعَهَا فَجَعَلَهَا لِلْأَرْضِ سَقْفًا، فَسَوَّى السَّمَاءَ، فَلَا شَيْءَ أَرْفَعُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءَ أَخْفَضُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ جَمِيعَهَا مُسْتَوِي الارْتِفَاعِ وَالامْتِدَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا شُقُوقٌ وَلَا تَصَدُّعَاتٌ.

وَسَمَاكَةُ السَّمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ.

وَزَيَّنَ اللهُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالنُّجُومِ وَالكَوَاكِبِ المُتَلَأْلِئَةِ، وَبِالقَمَرِ المُنِيرِ، وَبِالشَّمْسِ المُضِيئَةِ.

وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا بِأَنْ جَعَلَهُ أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، فَأَظْهَرَ النَّهَارَ وَأَسْفَرَهُ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى دَحَى الأَرْضَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِنْ صَحِيحِهِ.

وَدَحْيُ الأَرْضِ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾؛ أَخْرَجَ مِنْهَا المَاءَ وَالمَرْعَى، وَخَلَقَ الجِبَالَ وَالجَمَادَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾؛ أَيْ: جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ وَالبَذْرِ وَالغِرَاسِ، ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾، وَهُوَ: مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الأَرْزَاقِ وَالأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ.

وَقَدْ بَسَطَ اللهُ الأَرْضَ، وَمَدَّهَا، وَمَهَّدَهَا، وَجَعَلَهَا فِرَاشًا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْجُزْءِ مِنْهَا وَفِي عَيْنِ النَّاظِرِ لَهَا مُسَطَّحَةٌ، أَمَّا الأَرْضُ كَكُلٍّ فَهِيَ كُرَوِيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "البَرَاهِينُ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَدْ جَاءَتْ بِتَكْوِيرِهَا".

وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾، هُوَ: بُخَارُ المَاءِ المُتَصَاعِدُ مِنْهُ حِينَ خُلِقَتِ الأَرْضُ، ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾؛ أَيْ: اسْتَجِيبَا لِأَمْرِي، وَانْفَعِلَا لِفِعْلِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ: أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، فَقَالَتَا: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾؛ أَيْ: وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ المَلَائِكَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، وَهُنَّ الكَوَاكِبُ المُنِيرَةُ المُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، ﴿وَحِفْظًا﴾؛ أَيْ: حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى المَلَأِ الأَعْلَى.

 

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ اليَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ: (خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَيَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالمَاءَ وَالمَدَائِنَ وَالعِمْرَانَ وَالخَرَابَ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ لِمَنْ سَأَلَ، قَالَ: (وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الآجَالَ، حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ، وَأَسْكَنَهُ الجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ﴾، ثُمَّ قَالَتِ اليَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ)، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أَتْمَمْتَ.

قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا الحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ.

فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِي، فَقَالَ: (خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءَ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرَ الخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)؛ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا، عَنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ عَلَّلَهُ البُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، فَقَالَ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، وَهُوَ الأَصَحُّ.

وَكَذَا عَلَّلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفَّاظِ؛ مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ القَيِّمِ.

 

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ: (خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ ...)، وَنَازَعَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَالبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، فَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالحُجَّةُ مَعَ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَأَنَّ آخِرَ مَا خَلَقَهُ هُوَ آدَمُ، وَكَانَ خَلْقُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهَذَا الحَدِيثُ المُخْتَلَفُ فِيهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي الأَيَّامِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ رُوِيَ إِسْنَادٌ أَصَحُّ مِنْ هَذَا؛ أَنَّ أَوَّلَ الخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الأَحَدِ". انْتَهَى.

وَصَحَّحَهُ آخَرُونَ، وَحَمَلُوا الأَيَّامَ السَّبْعَةَ فِي الحَدِيثِ عَلَى أَجْزَاءٍ زَمَنِيَّةٍ سَبْعَةٍ تُسَمَّى أَيَّامًا؛ فَهِيَ غَيْرُ الأَيَّامِ السِّتَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ المَذْكُورَةِ فِي القُرْآنِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّهِ الأَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾؛ أَيْ: يَتَنَزَّلُ أَمْرُهُ مِنْ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الأَرْضِ السَّابِعَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾.

وَتُرْفَعُ الأَعْمَالُ إِلَى دِيوَانِهَا فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَسُمْكُ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: النُّزُولُ مِنَ المَلِكِ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَصُعُودُهُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾.

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وملائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصلاةِ العصْرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكم، فيسْأَلُهُمُ اللهُ وهُو أَعْلمُ بهِمْ: كَيفَ تَرَكتمْ عِبادِي؟ فَيقُولُونَ: تَركنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتيناهُمْ وهُمْ يُصلُّون). متفقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَىٰ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ (وَفِي رِوَايَةِ: النَّارُ) لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْنَا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَبِكَ آمَنَّا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَبِكَ خَاصَمْنَا، وَإِلَيْكَ حَاكَمْنَا، فَاغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبُّنَا وَنَحْنُ عَبِيدُكَ، ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، نَحْنُ بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، نَسْتَغْفِرُكَ وَنتُوبُ إلَيْكَ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.