ذَمُّ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ

المَوْضُوعُ: ذَمُّ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ الخَالِقِ لِعِبَادِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ القَائِلُ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ الأَمِينُ، القَائِلُ لِأُمَّتِهِ أَجْمَعِينَ: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ، دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ)، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: (المُسْلِمُ منْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويدِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: خَصْلَتَانِ ذَمِيمَتَانِ هُمَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَأَقْبَحِ العُيُوبِ، وَأَسْوَأِ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَلَا يَتَخَلَّقُ بِهِمَا إِلَّا الجَبَانُ، إِنَّهُمَا الغِيبَةُ، وَهِيَ ذِكْرُ العَيْبِ بِظَهْرِ الغَيْبِ، وَالنَّمِيمَةُ، وَهِيَ نَقْلُ الكَلَامِ المُفْسِدِ الهَدَّامِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)، وَقَالَ تَعَالَى: (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).

لَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ مَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ بِالوَيْلِ، وَهِيَ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَتَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ، وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، يُصَوِّرُ لَنَا القُرْآنُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَشَاعَةَ الغِيبَةِ، وَيَصِفُهَا لَنَا بِوَصْفٍ مُنَفِّرٍ مُقَزِّزٍ، لَوِ اجْتَمَعَ الفُصَحَاءُ وَالبُلَغَاءُ عَلَى أَنْ يُصَوِّرُوا بَشَاعَتَهَا وَيُنَفِّرُوا مِنْهَا؛ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِ تَصْوِيرِ القُرْآنِ لَهَا، وَوَصْفِهِ إِيَّاهَا.

قَالَ تَعَالَى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).

فَالغِيبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ؛ فَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: (لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)؛ أَيْ: مِنْ أَنْ يَغْتَابَهُ.

وَنَحْوَ وَصْفِ القُرْآنِ البَلِيغِ وَصَفَ أَفْصَحُ النَّاسِ وَأَبْلَغُهُمْ وَأَجْمَلُهُمْ بَيَانًا، أَعْنِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُوتِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَصَفَ الغِيبَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ"، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: "وَمَعْنَى: "مزَجَتْهُ": خَالَطَتْهُ مُخَالَطَةً يَتغَيَّرُ بِهَا طَعْمُهُ، أَوْ رِيحُهُ لِشِدَّةِ نَتْنِهَا وَقُبْحِهَا، وَهَذَا مِنْ أَبْلَغَ الزَّوَاجِرِ عَنِ الغِيبَةِ".

وَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الغِيبَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى القَوْلِ؛ بَلْ تَجْرِي أَيْضًا فِي الفِعْلِ؛ كَالحَرَكَةِ، وَالإِشَارَةِ، وَالكِنَايَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا لَاغْتَبْتُ أُمِّي؛ فَإِنَّهَا أَحَقُّ النَّاسِ بِحَسَنَاتِي"، وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: "لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا لَاغْتَبْتُ وَالِدَيَّ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي".

وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ: اغْتَابَكَ فُلَانٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ، وَقَالَ: أَهْدَيْتَ إِلَيَّ بَعْضَ حَسَنَاتِكَ، فَأَحْبَبْتُ مُكَافَأَتَكَ.

الغِيْبَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الغِيبَةُ؟

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟ "قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَى بَهَتَّهُ: أَيْ: قُلْتَ عَنْهُ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَجَمَعْتَ بَيْنَ الكَذِبِ وَالغِيبَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرَّمَ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَغْتَابَ المُؤْمِنَ بِشَيْءٍ، كَمَا حَرَّمَ المَيْتَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَمَا أَنْتَ كَارِهٌ لَوْ وَجَدْتَ جِيفَةً مُدَوَّدَةً أَنْ تَأْكُلَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ فَاكْرَهْ غِيبَتَهُ وَهُوَ حَيٌّ.

وَعَنِ القَاسِمِ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ يَقُولُ: مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ لُقْمَةً أَشَرَّ مِنِ اغْتِيَابِ المُؤْمِنِ، إِنْ قَالَ فِيهِ مَا يَعْلَمُ فَقَدِ اغْتَابَهُ، وَإِنْ قَالَ فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُ فَقَدْ بَهَتَهُ.

وعن الحسن، أَنَّهُ قَالَ فِي الغِيبَةِ: أَنْ تَذْكُرَ مِنْ أَخِيكَ مَا تَعْلَمُ فِيهِ مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِ، فَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ فَذَلِكَ البُهْتَانُ.

وَعَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: "كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الغِيبَةَ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَشِينُهُ، وَتَعِيبُهُ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ كَذَبْتَ عَلَيْهِ؛ فَذَلِكَ البُهْتَانُ".

وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الهَمَدَانِيِّ، قَالَ: لَوْ مَرَّ بِكَ أَقْطَعُ، فَقُلْتَ: ذَاكَ الأَقْطَعُ، كَانَتْ مِنْكَ غِيبَةً، قَالَ: وَسَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ يَقُولُ ذَلِكَ. خَرَّجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ.

النَّمِيمَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا النَّمِيمَةُ؟

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ، القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالعَضْهُ فُسِّرَ بِالسِّحْرِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ النَّمِيمَةَ شَقِيقَةُ السِّحْرِ، فَهِيَ تَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ السِّحْرُ مِنَ الإِفْسَادِ، وَالإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَتَفْرِيقِ القُلُوبِ بَيْنَ الـمُتَآلِفَيْنِ، وَقَطْعِ الصِّلَةِ بَيْنَ الـمُتَقَارِبَيْنِ، وَمَلْءِ الصُّدُورِ غَيْظًا وَحِقْدًا، وَلِشِدَّةِ فَسَادِهَا وَقُوَّةِ خَطَرِهَا، جَاءَ عَنْ حذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: "إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، بَلَى إِنَّهُ كَبِيرٌ: أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عِبَادَ اللهِ، وَكَمَا حَرَّمَ اللهُ التَّفَوُّهَ بِالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، حَرَّمَ فِي الجُمْلَةِ الاسْتِمَاعَ لَهُمَا دُونَ إِنْكَارٍ وَذَبٍّ عَنْ عِرْضِ المُسْلِمِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).

وَقَدْ دُعِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى دَعْوَةٍ، فَحَضَرَ، فَذَكَرُوا رَجُلًا لَمْ يَأْتِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّهُ ثَقِيلٌ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَضَرْتُ مَوْضِعًا يُغْتَابُ فِيهِ النَّاسُ، فَخَرَجَ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "بَابُ تَحْرِيمِ سَمَاعِ الغِيبَةِ، وَأَمْرِ مَنْ سَمِعَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً بِرَدِّهَا، وَالإِنْكَارِ عَلَى قَائِلِهَا، فَإِنْ عَجَزَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَارَقَ ذَلِكَ المَجْلِسَ إِنْ أَمْكَنَهُ".

قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَقَالَ الفُضَيْلُ: "رُبَّمَا قَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَأَخْشَى عَلَيْهِ النَّارَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟! قَالَ: يُغْتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ، فَيُعْجِبُهُ، فَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا؛ إِنَّمَا هَذَا مَوْضِعُ أَنْ يَنْصَحَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَيَقُولَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ".

وَقَالَ الأَصْمَعِيُّ: "اغْتَابَ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ قُتَيْبَةُ: أَمْسِكْ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللهِ لَقَدْ تَلَمَّظْتَ بِمُضْغَةٍ طَالَمَا لَفَظَهَا الكِرَامُ".

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي اسْتَسْلَمَ لِقُدْرَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي ذَلَّ لِعِزَّتِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي تَوَاضَعَ لِعَظَمَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَشَعَ لِمُلْكِهِ كُلُّ شَيْءٍ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْتَابُ مُوَافَقَةً لِجُلَسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَشَائِرِهِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُغْتَابَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُونَ، أَوْ فِيهِ بَعْضُ مَا يَقُولُونَ؛ لَكِنْ يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَطَعَ الْمَجْلِسَ وَاسْتَثْقَلَهُ أَهْلُ الْمَجْلِسِ وَنَفَرُوا عَنْهُ، فَيَرَى مُوَافَقَتَهُمْ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَطِيبِ الْمُصَاحَبَةِ، وَقَدْ يَغْضَبُونَ فَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ فَيَخُوضُ مَعَهُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى: تَارَةً فِي قَالِبِ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لِي عَادَةً أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا بِخَيْرِ، وَلَا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلَا الْكَذِبَ؛ وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ، وَيَقُولُ: وَاللهِ إِنَّهُ مِسْكِينٌ أَوْ رَجُلٌ جَيِّدٌ؛ وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت. وَرُبَّمَا يَقُولُ: دَعُونَا مِنْهُ اللهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصُهُ وَهَضْمٌ لِجَانِبِهِ، وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلَاحٍ وَدِيَانَةٍ، يُخَادِعُونَ اللهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا؛ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُ غَيْرَهُ رِيَاءً فَيَرْفَعُ نَفْسَهُ، فَيَقُولُ: لَوْ دَعَوْتُ الْبَارِحَةَ فِي صَلَاتِي لِفُلَانِ؛ لَمَا بَلَغَنِي عَنْهُ كَيْت وَكَيْت لِيَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ، أَوْ يَقُولُ: فُلَانٌ بَلِيدُ الذِّهْنِ قَلِيلُ الْفَهْمِ؛ وَقَصْدُهُ مَدْحُ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ الْحَسَدُ عَلَى الْغِيبَةِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَبِيحَيْنِ: الْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ. وَإِذَا أُثْنِيَ عَلَى شَخْصٍ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تَنَقُّصِهِ فِي قَالِبِ دِينٍ وَصَلَاحٍ، أَوْ فِي قَالِبِ حَسَدٍ وَفُجُورٍ وَقَدْحٍ؛ لِيُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ تَمَسْخُرٍ وَلَعِبٍ؛ لَيُضْحِكَ غَيْرَهُ بِاسْتِهْزَائِهِ وَمُحَاكَاتِهِ وَاسْتِصْغَارِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُ: تَعَجَّبْتُ مِنْ فُلَانٍ: كَيْفَ لَا يَفْعَلُ كَيْت وَكَيْت؟ وَمِنْ فُلَانٍ: كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ كَيْت وَكَيْت؟ وَكَيْفَ فَعَلَ كَيْت وَكَيْت؟ فَيُخْرِجُ اسْمَهُ فِي مَعْرِضِ تَعَجُّبِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الِاغْتِمَامَ فَيَقُولُ: مِسْكِينٌ فُلَانٌ، غَمَّنِي مَا جَرَى لَهُ، وَمَا تَمَّ لَهُ، فَيَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّهُ يَغْتَمُّ لَهُ وَيَتَأَسَّفُ، وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى التَّشَفِّي بِهِ، وَلَوْ قَدَرَ لَزَادَ عَلَى مَا بِهِ، وَرُبَّمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ لِيَشْتَفُوا بِهِ، وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْمُخَادَعَاتِ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ غَضَبٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ، فَيُظْهِرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الْقَوْلِ، وَقَصْدُهُ غَيْرُ مَا أَظْهَرَ. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انْتَهَى.

وَقَدْ أَجَازَ العُلَمَاءُ الغِيبَةَ لِأَحَدِ أَسْبَابٍ سِتَّةٍ، جَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي هَذَيْنِ البَيْتَيْنِ:

الذَّمُّ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ ... مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ

وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ ... طَلَبَ الإِعَانَةَ فِي إِزَالَةِ مُنْكَرِ

وَشَرْحُهُمَا: أَنَّ الغِيبَةَ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرْعِيٍّ، لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا، وَهُوَ سِتَّةُ أسْبَابٍ:

الأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ، فَيَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ والقَاضِي وغَيرِهِمَا.

الثَّانِي: التَّعْرِيفُ، فَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ، كَالأَعْمَشِ، جَازَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ التَّنَقُّصِ، وَلَوْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى.

الثَّالِثُ: التَّحْذِيرُ، كَالمُشَاوَرَةِ فِي المُصَاهَرَةِ أَوِ المُعَامَلَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِنِيَّةِ النَّصِيحَةِ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ.

الخَامِسُ: الاسْتِفْتَاءُ، فَيَقُولُ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، فَالتَّعْيِينُ – كَأَخِي - جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، وَلَكِنَّ الأَحْوَطَ أَنْ يَقُولَ: مَا تَقُولُ فِي شَخْصٍ ظَلَمَنِي بكَذَا؟

السَّادِسُ: الاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، فَيَقُولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ المُنْكَرِ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا، فازْجُرْهُ عَنْهُ، ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلَ إِلَى إِزَالَةِ المُنْكَرِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِنِ اغْتَابَهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ؛ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ أَنِّي اغْتَبْتُكَ، وَقَدْ قِيلَ: بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَمَا أَسَاءَ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "كَفَّارَةُ الْغِيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ اغْتَبْتَهُ".

وَذُكِرَ أَنَّهُ إِذَا تَابَ فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَسَاءَ إلَيْهِ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.

اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَا شَيْءَ قَبْلَكَ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَكَ، نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ نَاصِيَتُهَا بِيَدِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْكَسَلِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْغِنَى، وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، اللَّهُمَّ نَقِّنَا مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِنا وَبَيْنَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ الدُّعَاءِ، وَخَيْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَخَيْرَ النَّجَاحِ، وَخَيْرَ الْعَمَلِ، وَخَيْرَ الثَّوَابِ، وَخَيْرَ الْحَيَاةِ، وَخَيْرَ الْمَمَاتِ، وَثَبِّتْنا وَثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَارْفَعْ دَرَجَاتِنَا، وَتَقَبَّلْ صَلَاتَنَا، وَاغْفِرْ خَطِيئَاتِنَا، وَنَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ، آمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، آمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فُعِلَ، وَخَيْرَ مَا عُمِلَ، وَخَيْرَ مَا بَطَنَ، وَخَيْرَ مَا ظَهَرَ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ، آمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ ذِكْرَنَا، وَتَضَعَ وِزْرَنَا، وَتُصْلِحَ أَمْرَنَا، وَتُطَهِّرَ قُلُوبَنَا، وَتَغْفِرَ ذُنُوبَنَا، وَتَحْفَظَ فُرُوجَنَا، وَتُنَوِّرَ قَلُوبَنَا، وَتَغْفِرَ ذُنُوبَنَا، وَنَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ، آمِينَ. اللَّهُمَّ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.