قِصَّةُ المَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

المَوضُوعُ: قِصَّةُ المَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ فِي قِصَّةِ المَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ العِبْرَةَ وَالعِظَةَ وَالدُّرُوسَ وَالمَوْعِظَةَ، قَالَ تَعَالَى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).

فَمَا مُوجَزُ قِصَّةِ المَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟

قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

أَفَادَتْنَا هَذِهِ الآيَةُ بِزَمَنَ قِصَّةِ هَؤُلَاءِ المَلَأِ (مِن بَعْدِ مُوسَىٰ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: بَعْدَ مُوسَى بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ دَاوُدَ وَمُوسَى مَا يَنُوفُ عَنْ أَلْفِ سَنَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

كَمَا أَفَادَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَنَّ الخِطَابَ مِنَ المَلَأِ مُوَجَّهٌ لِنَبِيٍّ بُعِثَ فِيهِمْ، (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ)، قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا النَّبِيُّ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُون.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ شَمْعُونُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْوِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُ: "كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى طَرِيقِ الاسْتِقَامَةِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا الأَحْدَاثَ، وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الأَصْنَامَ، وَلَمْ يَزَلْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُهُمْ عَلَى مَنْهَجِ التَّوْرَاةِ، إِلَى أَنْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً".

وَهَذَا التَّسْلِيطُ - يَا عِبَادَ اللهِ - كَانَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي الأُمَمِ العَاصِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).

لَقَدْ أَوْحَى اللهُ إِلَى هَذَا النَّبِيِّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، فَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ أَعْدَاءَهُمْ، وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ وَالمُلْكُ فِيهِمْ فَبَادَتْ عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَرْعَوْا هَذِهِ النِّعْمَةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ أَقَامَ اللهُ لَكُمْ مَلِكًا أَلَّا تَفُوا بِمَا الْتَزَمْتُمْ بِهِ مِنَ القِتَالِ مَعَهُ، فَأَكَّدُوا الْتِزَامَهُمْ بِذَلِكَ: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؛ أَيْ: وَقَدْ أُخِذَتْ مِنَّا البِلَادُ وَسُبِيَتِ الأَوْلَادُ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)؛ أَيْ: مَا وَفَوْا بِمَا وَعَدُوا؛ بِلْ نَكَلَ عَنِ الجِهَادِ أَكْثَرُهُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِهِمْ.

وَقَدْ ذَمَّ اللهُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

أَيْ: لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا مِنْهُمْ، فَعَيَّنَ لَهُمْ طَالُوتَ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَجْنَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْتِ المُلْكِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ المُلْكَ فِيهِمْ كَانَ فِي سِبْطِ يَهُوذَا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ السِّبْطِ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا)؛ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْنَا (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ؟)؛ أَيْ: ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ يَقُومُ بِالمُلْكِ.

وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ وَتَعَنُّتٌ، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.

ثُمَّ قَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ قَائِلًا: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ)؛ أَيِ: اخْتَارَهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِكُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ، فَلَسْتُ أَنَا الَّذِي عَيَّنْتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي.

وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا).

وَقَوْلُهُ: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ)؛ أَيْ: وَهُوَ مَعَ هَذَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَأَشَدُّ قُوَّةً وَصَبْرًا فِي الحَرْبِ، وَهَذِهِ مُؤَهِّلَاتٌ تَوَفَّرَتْ فِيهِ، قَالَ: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)؛ أَيْ: هُوَ الحَاكِمُ وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ المُلْكَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)؛ أَيْ: إِنَّ عَلَامَةَ بَرَكَةِ مُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَرُدَّ اللهُ عَلَيْكُمُ التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ أُخِذَ مِنْكُمْ.

(فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قِيلَ: مَعْنَاهُ فِيهِ وَقَارٌ وَجَلَالَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيهِ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَصَاهُ، وَرُضَاضُ الأَلْوَاحِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَادَ: وَالتَّوْرَاةُ.

وَقَوْلُهُ: (تَحْمِلُهُ المَلَائِكَةُ) قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ المَلَائِكَةُ تَحْمِلُ التَّابُوتَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَآمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ، وَأَطَاعُوا طَالُوتَ.

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَ بِأَرِيحَا، وَقِيلَ: كَانَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا: أَزْدَرَدُ.

وَقَوْلُهُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ)؛ أَيْ: عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ طَالُوتَ: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛ أَيْ: بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا أَنْ يُحْمَدَ وَيَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ طَالُوتَ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ خَرَجَ فِي جُنُودِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَيْشُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَاللهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ؛ يَعْنِي: نَهْرَ الشَّرِيعَةِ المَشْهُورَ، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي)؛ أَيْ: فَلَا يَصْحَبْنِي اليَوْمَ فِي هَذَا الوَجْهِ (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)؛ أَيْ: فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ رَوِيَ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَرْوَ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الجَيْشُ ثَمَانِينَ أَلْفًا.

وَعَنِ البَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَحَدَّثُ: أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَمِائَةٍ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ أَغْلَبَهُمْ خَالَفُوا فَشَرِبُوا مِنَ النَّهْرِ، وَأَنَّ الَّذِينَ امْتَثَلُوا فَلَمْ يَشْرَبُوا إِلَّا غُرْفَةً قَلِيلٌ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)؛ أَيْ: اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، فَشَجَّعَهُمْ عُلَمَاؤُهُمُ العَالِمُونَ بِأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عُدَدٍ. وَلِهَذَا قَالُوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وَهَذَا مَنْهَجُ المُؤْمِنِينَ فِي حُرُوبِهِمْ: أَنَّ القِلَّةَ المُؤْمِنَةَ الصَّابِرَةَ تَغْلِبُ الكَثْرَةَ الكَافِرَةَ الفَاجِرَةَ، وَإِنْ فَاقُوا المُؤْمِنِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).

قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)؛ أَيْ: لَمَّا وَاجَهَ حِزْبُ الإِيمَانِ وَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَالُوتَ لِعَدُوِّهِمْ أَصْحَابِ جَالُوتَ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)؛ أَيْ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا مِنْ عِنْدِكَ، (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)؛ أَيْ: فِي لِقَاءِ الأَعْدَاءِ، وَجَنِّبْنَا الفِرَارَ وَالعَجْزَ، (وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ).

قَالَ تَعَالَى: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)؛ أَيْ: غَلَبُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ بِنَصْرِ اللهِ لَهُمْ، (وَقَتَلَ دَاوُدَ جَالُوتَ).

وَيُقَالُ: إِنَّ المَلِكَ طَالُوتَ قَدْ وَعَدَ دَاوُدَ إِنْ قَتَلَ جَالُوتَ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُشَاطِرَهُ نِعْمَتَهُ، وَيُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ؛ فَوَفَّى لَهُ.

ثُمَّ آلَ المُلْكُ إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ مَا مَنَحَهُ اللهُ مِنَ النُّبُوَّةِ العَظِيمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ)؛ أَيِ: الَّذِي كَانَ بِيَدِ طَالُوتَ، (وَالحِكْمَةَ)؛ أَيِ: النُّبُوَّةَ بَعْدَ شَمْوِيلَ، (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)؛ أَيْ: مِمَّا يَشَاءُ اللهُ مِنَ العِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ خَطَايَانَا وَذُنُوبَنَا كُلَّهَا، اللَّهُمَّ وَأَنْعِشْنَا، وَاجْبُرْنَا، وَاهْدِنَا بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ.

اللَّهُمَّ إِنا نسْأَلُكَ رِزْقًا طَيِّبًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي جَعَلْتَهُ لنا عِصْمَةً، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي جَعَلْتَ فِيهَا مَعَايِشَنَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي جَعَلْتَ إِلَيْهَا مَرْجِعَنَا، اللَّهُمَّ نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ نَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.