الحمد والشكر

الموضوع: الحمد والشكر.

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَامَاتِ الدِّينِ وَمَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قُرْبَةً يُحِبُّهَا اللهُ المَعْبُودُ، ذُو الكَرَمِ وَالجُودِ، وَبِهَا يُحْفَظُ المَوْجُودُ، وَيُسْتَجْلَبُ المَفْقُودُ، إِنَّهَا عُبُودِيَّةُ الحَمْدِ وَالشُّكْرِ، عُبُودِيَّةُ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ، وَجَوَّدَهُ العَيْنِيُّ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ... الآية)، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُ أَهْلَهُ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ وَالكَبِيرَ هَذِهِ الآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

قَالَ الشَّعْبِيُّ: الشُّكْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ.

وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ المِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لِلَّهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ». وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ.

وَإِنَّمَا كَانَ الحَمْدُ للهِ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ لِأَنَّ الحَامِدَ بِمَنْزِلَةِ الدَّاعِي الشَّاكِرِ الَّذِي يَدْعُو رَبَّهُ أَنْ يَزِيدَهُ وَيَرْضَى عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَنْ يَنْقَطِعَ المَزِيدُ مِنَ اللهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ مِنَ العَبْدِ".

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي مَرْحُومٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». فِيهِ ضَعْفٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالحَاكِمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" بِإِسْنَادٍ جَيٍّدٍ لَمْ يُضَعِّفْهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَنَّامٍ البَيَاضِيِّ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذلكَ حِينَ يُمْسِي، فَقَد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ".

وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ فِي الأَمْرِ بِالحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَمَكَانَتِهِمَا الكَبِيرَةِ كَثِيرَةٌ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشُّكْرَ هُوَ الغَايَةُ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ بَلْ هُوَ الغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ عَبِيدَهُ لِأَجْلِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ، بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمْسَى، قَالَ: "أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ ... الحَدِيث"، وَإذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ للهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ ... الحَدِيث". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي، وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ‏‏أَبِي أُمَامَةَ، ‏أَنَّ النَّبِيَّ - ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ‏‏كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ - وَقَالَ مَرَّةً: إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ - قَالَ‏: ‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ، وَقَالَ مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا، غَيْرَ مَكْفِيٍّ ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ ‏‏أَبِي سَعِيدٍ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ‏قَالَ:‏ كَانَ النَّبِيُّ - ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ‏‏إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، قَالَ:‏ ‏"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَحَسَّنَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ"، وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ.

وَعَنْ ‏‏أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، ‏‏قَالَ:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ‏إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، قَالَ‏: ‏"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى،‏‏ وَسَوَّغَهُ،‏ ‏وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ فِي الدُّرَرِ البَهِيَّةِ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ.

وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ - قَالَ النَّوَوِيُّ: بِالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَةَ الحَاجَةِ: "الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ... الحَدِيث".

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْطُبُ خُطْبَةً إِلَّا افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللَّهِ".

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ ابْتِدَاءِ الدُّعَاءِ بِالحَمْدِ للهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ تَخْتِمُ الدُّعَاءَ بِهِمَا، وَالآثَارُ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ".

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ.

وَافْتَتَحَ اللهُ كِتَابَهُ بِالحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: (وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلَّه رَبِّ العَالَمِينَ).

فَحَمْدُ اللهِ - جَلَّ وَعَلَا - مَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ وَآخِرِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الأُمُورِ المُهِمَّةِ وَآخِرِهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ نِعْمَةٍ، أَوِ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ".

 

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فِي مَقْتَلِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا يَسْتَأْذِنُهَا أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ قَالَ عُمَرُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ، قَالَ: الحَمْدُ للهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؟ فَيَقُولُ: فَمَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنا لكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَواتِ وَمِلْءَ الأرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، فَقَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "مَنِ المُتَكَلِّمُ؟" قَالَ: أَنَا، قَالَ: "رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا: أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالحَمْدُ للهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالحَمْدُ للهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مِنْ حَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ عَلَى آلَائِهِ وَنِعَمِهِ: التَّحَدُّثَ بِالنِّعَمِ، وَإِظْهَارَ أَثَرِهَا.

قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: كَانَ المُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ الحَسَنُ: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ، فَإِنَّ ذِكْرَهَا شُكْرٌ".

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: فِي البَابِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.

وَعَنْ ‌أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ ‌أَبِيهِ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَآنِي سَيِّئَ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللهُ. فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَكَ مَالٌ فَلْيُرَ عَلَيْكَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ عَرَفَ نِعْمَةَ اللهِ بِقَلْبِهِ، وَحَمْدَهُ بِلِسَانِهِ، لَمْ يَسْتَتِمَّ ذَلِكَ حَتَّى يَرَى الزِّيَادَةَ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

وَرَأَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ حَمَّالًا عَلَيْهِ حِمْلُهُ وَهُوَ يَقُولُ: الحَمْدُ للهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ، قَالَ: فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى وَضَعَ مَا عَلَى ظَهْرِهِ وَقُلْتُ لَهُ: أَمَا تُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى أُحْسِنُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ، غَيْرَ أَنَّ العَبْدَ بَيْنَ نِعْمَةٍ وَذَنْبٍ، فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ السَّابِغَةِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ لِذُنُوبِي، فَقُلْتُ: الحَمَّالُ أَفْقَهُ مِنْ بَكْرٍ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ القَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ.

قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: "لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ".

وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "إِنَّ اللهَ لَيُمَتِّعُ بِالنِّعْمَةِ مَا شَاءَ، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ عَلَيْهَا قَلَبَهَا عَذَابًا".

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "قَيِّدُوا نِعَمَ اللهِ بِشُكْرِ اللهِ".

اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْنَا، وَبِكَ آمَنَّا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَبِكَ خَاصَمْنَا، وَإلَيْكَ حَاكَمْنَا، فَاغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"، "وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ".

اللَّهُمَّ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

فَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.