شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ

المَوْضُوعُ: شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ، "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)؛ فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجْرَ أَعْظَمَ.

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "إِنَّ الظُّلْمَ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا".

وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ ... اصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَشْهُرَ الحُرُمَ ... فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ".

 

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اخْتُصَّ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ بِمَزِيَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَشْهُرِ؛ فَعَنِ الحَسَنِ، قَالَ: "إِنَّ اللهَ افْتَتَحَ السَّنَةَ بِشَهْرٍ حَرَامٍ، وَخَتَمَهَا بِشَهْرٍ حَرَامٍ، فَلَيْسَ شَهْرٌ فِي السَّنَةِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ المُحَرَّمِ، وَكَانَ يُسَمَّى شَهْرَ اللهِ الأَصَمَّ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ".

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ سَمَّاهُ: "المَشْهُورَ فِي أَسْمَاءِ الأَيَّامِ وَالشُّهُورِ" أَنَّ المُحَرَّمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَهْرًا مُحَرَّمًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تَتَقَلَّبُ بِهِ، فَتُحِلُّهُ عَامًا وَتُحَرِّمُهُ عَامًا".

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ: "إِنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصُمُ الْمُحَرَّمَ، فَإِنَّهُ شَهْرُ اللهِ، فِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ، وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هُوَ اليَوْمُ الَّذِي تِيبَ فِيهِ عَلَى آدَمَ.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "قَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: المُحَرَّمُ شَهْرُ اللهِ الأَصَمُّ: فِيهِ يَوْمٌ تِيبَ فِيهِ عَلَى آدَمَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَمُرَّ بِكَ إِلَّا صُمْتَهُ".

وَفِي لَفْظٍ: "إِنَّ المُحَرَّمَ شَهْرُ اللهِ، وَهُوَ رَأْسُ السَّنَةِ، تُكْتَبُ فِيهِ الكُتُبُ، وَيُؤَرَّخُ فِيهِ التَّارِيخُ، وَفِيهِ تُضْرَبُ الوَرِقُ، وَفِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ قَوْمٌ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَمُرُّ بِكَ إِلَّا صُمْتَهُ"؛ يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ.

فَالتَّوْبَةَ التَّوْبَةَ يَا عِبَادَ اللهِ، تَوْبَةً صَادِقَةً عَامَّةً شَامِلَةً، نَاسَبَ التَّذْكِيرُ بِهَا أَنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمَ هُوَ أَوَّلُ أَشْهُرِ السَّنَةِ الهِجْرِيَّةِ، الَّذِي انْتَهَى رَأْيُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى أَنْ يُؤَرِّخُوا بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَلًا مِنْ تَارِيخِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ بِدَايَةُ السَّنَةِ بِدَايَةَ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ.

وَأَنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمَ فِيهِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، تَابَ اللهُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ، وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وَقالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفرُ اللهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فِي اليَوْمِ، أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنِ الأَغَرِّ بْنِ يَسَارٍ المُزَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَفْضَلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَتَأَمَّلْ فِي كَثْرَةِ اسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَأَمَّلْ فِي تَعْلِيمِهِ لِصِدِّيقِ الأُمَّةِ أَنْ يُقِرَّ وَيَعْتَرِفَ بِكَثْرَةِ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى مَغْفِرَةِ رَبِّهِ.

فَإِنَّ اعْتِرَافَ المَرْءِ يَمْحُو اقْتِرَافَهُ ... كَمَا أَنَّ إِنْكَارَ الذُّنُوبِ ذُنُوبُ

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى الاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ وَالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ.

مَنْ ذَا الَّذِي مَا سَاءَ قَطّ ... وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ؟!

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَيَتَعَيَّنُ افْتِتَاحُ العَامِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ تَمْحُو مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ.

قَطَعْتَ شُهُورَ العَامِ لَهْوًا وَغَفْلَةً ... وَلَمْ تَحْتَرِمْ فِيمَا أَتَيْتَ المُحْرَّمَا

فَلَا رَجَبًا وَافَيْتَ فِيهِ بِحَقِّهِ ... وَلَا صُمْتَ شَهْرَ الصَّوْمِ صَوْمًا مُتَمَّمَا

وَلَا فِي لَيَالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ الَّذِي ... مَضَى كُنْتَ قَوَّامًا وَلَا كُنْتَ مُحْرِمَا

فَهَلْ لَكَ أَنْ تَمْحُو الذُّنُوبَ بِعَبْرَةٍ ... وَتَبْكِي عَلَيْهَا حَسْرَةً وَتَنَدُّمَا؟

وَتَسْتَقْبِلَ العَامَ الجَدِيدَ بِتَوْبَةٍ ... لَعَلَّكَ أَنْ تَمْحُو بِهَا مَا تَقَدَّمَا!

 

وَإِنَّ مِنْ مَقَامَاتِ الصَّبْرِ وَالمُرَابَطَةِ عَلَى الطَّاعَةِ أَنْ يَفْتَتِحَ المُسْلِمَ سَنَتَهُ بِصَوْمِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، أَوْ بِصَوْمِ بَعْضِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: قَدْ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المُحَرَّمَ شَهْرَ اللهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُضِيفُ إِلَيْهِ إِلَّا خَوَاصَّ مَخْلُوقَاتِهِ.

شَهْرُ الحَرَامِ مُبَارَكٌ مَيْمُونُ ... وَالصَّوْمُ فِيهِ مُضَاعَفٌ مَسْنُونُ

وَثَوَابُ صَائِمِهِ لِوَجْهِ إِلَهِهِ ... فِي الخُلْدِ عِنْدَ مَلِيكِهِ مَخْزُونُ

وَفِي شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، لَهُ تَارِيخُهُ وَفَضْلُهُ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ، فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَا يَصُومُهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَهُ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَحُرْمَةٌ قَدِيمَةٌ، وَصَوْمُهُ لِفَضْلِهِ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ صَامَهُ نُوحٌ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الهَجْرِيِّ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَتْ تَصُومُهُ الأَنْبِيَاءُ فَصُومُوهُ أَنْتُمْ". خَرَّجَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَصُومُونَهُ، وَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَصُومُهُ، قَالَ دَلْهَمُ بْنُ صَالِحٍ: قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ: عَاشُورَاءُ مَا أَمْرُهُ؟ قَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ ذَنْبًا فَتَعَاظَمَ فِي صُدُورِهِمْ، فَسَأَلُوا: مَا تَوْبَتُهُمْ؟ قِيلَ: "صَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمِ العَاشِرِ مِنَ المُحَرَّمِ".

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا"، أَمَّا بَعْدُ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ - أَيِ اليَهُودَ - يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ»، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ اليَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَصُومُوهُ أَنْتُمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ»، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فَفِي الحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ مُخَالَفَةُ الكَافِرِينَ وَعَدَمُ مُوَافَقَتِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ.

وَالمُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَصُومَ اليَوْمَ التَّاسِعَ مَعَ اليَوْمِ العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَقَدْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ قَوْلِهِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: خَالِفُوا اليَهُودَ، صُومُوا التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ صَامَ التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ، وَعَلَّلَ بِخَشْيَةِ فَوَاتِ عَاشُورَاءَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ، وَيُوَالِي بَيْنَ اليَوْمَيْنِ خَشْيَةَ فَوَاتِهِ.

وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَيَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَنِي.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَ الاخْتِلَافِ فِي هِلَالِ الشَّهْرِ احْتِيَاطًا ... وَمِمَّنْ رَأَى صِيَامَ التَّاسِعِ وَالعَاشِرِ: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ إِفْرَادَ العَاشِرِ بِالصَّوْمِ ... وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ؛ مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَالَ: رَمَضَانُ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَاشُورَاءُ يَفُوتُ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنْ يُصَامَ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ". انْتَهَى.

فَإِنِ اقْتَصَرَ المُسْلِمُ عَلَى صَوْمِ اليَوْمِ العَاشِرِ جَازَ، وَتَرَكَ الأَفْضَلَ.

وَلَا يَصِحُّ فِي صَوْمِ اليَوْمِ الحَادِي عَشَرَ حَدِيثٌ.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا: أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ وَبَعْدَهُ يَوْمٌ، وَيَلِي ذَلِكَ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ، وَيَلِي ذَلِكَ إِفْرَادُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ بِالصَّوْمِ". انْتَهَى.

أَلَا وَاعْلَمُوا - رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَالصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَلَا صَحَّ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى العِيَالِ فِيهِ حَدِيثٌ. وَكُلُّ حَدِيثٍ فِي اسْتِحْبَابِ الاكْتِحَالِ وَالاخْتِضَابِ وَالاغْتِسَالِ فِيهِ فَمَوْضُوعٌ.

وَأَمَّا اتِّخَاذُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا لِأَجْلِ قَتْلِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمِنْ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَضَلَالَاتِهِمْ.

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا خَطِيئَاتِنَا وَجَهْلَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا جِدَّنَا وَهَزْلَنَا؛ وَخَطَئَنَا وَعَمْدَنَا؛ وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.

اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.