الموافقات 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الموافقات
المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)
عدد الأجزاء: 7
 
فَبِهِ1 يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ مَا أُودِعَ مِنَ الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغيره مَا هُوَ أَدَاةٌ لَهُ، ضَلَّ عَنْ فَهْمِهِ، وتقوَّل عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
- وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَعْهُودِ الْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي لِسَانِهِمْ عُرْفٌ مُسْتَمِرٌّ، فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ عَنْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْرَى فِي فَهْمِهَا عَلَى مَا لَا تَعْرِفُهُ2.
وَهَذَا جارٍ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْهُودَ الْعَرَبِ أَنْ لَا تَرَى الْأَلْفَاظَ تَعَبُّدًا عِنْدَ مُحَافَظَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَتْ تُرَاعِيهَا أَيْضًا، فَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهَا بِمُلْتَزَمٍ، بَلْ قَدْ تَبْنِي عَلَى أَحَدِهِمَا مَرَّةً، وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ كَلَامِهَا وَاسْتِقَامَتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ:
أَحَدُهَا:
خُرُوجُهَا3 فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَوَانِينِ الْمُطَّرِدَةِ وَالضَّوَابِطِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَجَرَيَانُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَنْثُورِهَا عَلَى طَرِيقِ مَنْظُومِهَا4، وإن
__________
1 في الأصل: "فيه".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 168"، والاعتصام" "2/ 297"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 7- المقدمة"، و"الرسالة" "ص51، 52، 54، 55، 56، 57"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 15"، و"الإبانة" "ص54- جامعة الإمام".
3 أي: فيصح أن يجري ذلك في القرآن، ولكن بشرط أن لا يكون شاذًّا ونادرًا يخل بالفصاحة، فإن هذا -وإن كان جاريا في كلام العرب- لا يصح أن يقال به في الكتاب "د".
4 أي: في تجويز مخالفات للقياس المطرد، كصرف ما لا ينصرف، ومد المقصور وعكسيه، مع أنه أجيز في الشعر لضرورة الوزن ولا توجد ضرورة في النثر لمثله، فقوله: "وجريانها" عطف خاص على عام للبيان. "د".
(2/131)
 
 
لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ، وَتَرْكُهَا لِمَا هُوَ أَوْلَى فِي مَرَامِيهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي كَلَامِهَا وَلَا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ كَثِيرٌ قَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِغْنَاءَ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ عَمَّا يرادفها أَوْ يُقَارِبُهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَلَا اضْطِرَابًا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَالْكَافِي مِنْ ذَلِكَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ1، كُلُّهَا شافٍ كافٍ2، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الْعَارِفِينَ بِالْقُرْآنِ3 كَثِيرٌ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ أَهْلُ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقَ الْمُصْحَفَ، وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ قَارِئُونَ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ شك ولا إشكال، وإن كان بين القرائتين مَا يَعُدُّهُ النَّاظِرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ مقصود الخطاب، كـ: {مَالِكِ} و "مَلِكِ" [الفاتحة: 4] . "د".
{وَمَا يَخْدَعُون َ4 إِلَّا أَنْفُسَهُم} ، [البقرة: 9] .
__________
1 ومن ذلك تبديل لفظ بآخر، كتبينوا وتثبتوا مثلا. "د".
2 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر، ووردت لفظة: "كلها شافٍ كافٍ" في حديث أبي بن كعب عند أحمد في "المسند" "5/ 124"، وابنه عبد الله في "زياداته" "5/ 124، 125"، وأبي داود "1477"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 670"، وابن جرير في مقدمة "التفسير" "1/ 15"، والضياء في "المختارة" "3/ رقم 1173، 1174، 1175، 1176"، وإسناده صحيح، وجمع طرقه الشيخ عبد الفتاح القاري في جزء مفرد وهو مطبوع.
وللحديث لفظ آخر يأتي قريبا "ص138".
3 في "خ" زيادة: "على"، والصواب حذفها.
4 انظر ما تقدم: "1/ 537".
(2/132)
 
 
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} ، "لَنُبَوِّينَّهُمْ1 [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا] 2" [العنكبوت: 58] .
إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا3 لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ فَهْمِ مَا أُرِيدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَهَذَا كَانَ عَادَةَ الْعَرَبِ.
أَلَا تَرَى مَا حَكَى ابْنُ جِنِّي4 عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ5 أَيْضًا، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا الرُّمَّةِ يُنْشِدُ:
وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ ... عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لها سترا6
فقلت: أنشدني: "من بائس"، فقال: "يابس" و"بائس" وَاحِدٌ.
فَأَنْتَ تَرَى ذَا الرُّمَّةِ لَمْ يَعْبَأْ بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْبُؤْسِ وَالْيُبْسِ، لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْبَيْتِ قَائِمًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَصَوَابًا عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَحْوَلِ: "الْبُؤْسُ وَالْيُبْسُ وَاحِدٌ"، يَعْنِي: بِحَسَبِ قَصْدِ الكلام لا بحسب تفسير اللغة7.
__________
1 بالثاء المثلثة على ما قرأها حمزة والكسائي كما في "السبعة" "502"، وكذا في الأصل و"ط".
2 في "خ": "لنبوينهم"، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 كما في قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ، بكسر اللام للتعليل أو بفتحها على أنها فارقة. "د".
4 في "الخصائص" "2/ 469- ط العراقية"
5 في "ط": "وحكاه غيره"
6 الشخت: الحطب الدقيق، ولم أر تعليقا على البيت في كتب الأدب، ويلوح أن الضمائر المؤنثة في البيت كناية عن النار يذكيها البدوي بالوقود ويستعين على إشعالها بالريح، ثم يجلس إليها للاصطلاء وتدفئة يديه وأطرافه من البرد. "د".
قلت: والبيت في "ديوانه" "176"،وله رواية أخرى في "اللسان" "مادة فوت"
7 فمادة البؤس تدور على الشدة من الشجاعة وغيرها، ومادة اليبس تدور على الجفاف بعد الرطوبة ويلزمها الشدة ضد اللين، فهما متغايران متلازمان. "د".
(2/133)
 
 
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: أَنْشَدَنِي ابْنُ الأعرابي:
وموضع زبن1 لَا أُرِيدُ مَبِيتَهُ ... كَأَنِّي بِهِ مِنْ شِدَّةِ الرَّوْعِ آنِسُ2
فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَيْسَ هَكَذَا أَنْشَدْتَنَا، [وَإِنَّمَا أَنْشَدْتَنَا] 3: "وَمَوْضِعُ ضِيقٍ" فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَصْحَبُنَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ولا تعلم أن الزبن4 وَالضِّيقَ وَاحِدٌ؟!
وَقَدْ جَاءَتْ أَشْعَارُهُمْ عَلَى رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ، يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ5 لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى الْخُصُوصِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ مُرَادِفُهُ أَوْ مُقَارَبُهُ عَيْبًا أَوْ ضَعْفًا، إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا يَكُونُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَعْهُودُهَا الْغَالِبُ مَا تَقَدَّمَ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّهَا قَدْ تُهْمِلُ بَعْضَ أَحْكَامِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَبِرُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا اسْتَقْبَحُوا الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا لَهُ لَفْظٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ لَفْظٌ، فَقُبِّحَ "قُمْتُ وَزِيدٌ" كَمَا قُبِّحَ "قَامَ وَزِيدٌ"، وَجَمَعُوا في الردف بين "عمود" و"يعود" مِنْ غَيْرِ اسْتِكْرَاهٍ، وَوَاوُ عَمُودٍ أَقْوَى فِي المد،
__________
1 كذا في الأصل، وهو الصواب، وأورده هكذا ابن جني في "الخصائص" "2/ 469"، وابن منظور في "اللسان" "مادة ز ب ن، 13/ 195"، وقال: "ومقام زبن: إذا كان ضيقا لا يستطيع الإنسان أن يقوم عليه في ضيقه وزلقه"، وفي "المفضليات" "225": "ومنزل ضنك"، وتصحف في النسخ المطبوعة من "الموافقات" إلى "زير" بياء آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د" في الهامش: "المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن"!! انتهى.
قلت: ومعنى البيت: قد أنست بهذا المنزل لما نزلت به من شدة ما بي من الروع، وإن كان ضيقا ليس بموضع نزول.
2 من قصيدة المرقش الأكبر في "المفضليات" "ص225".
3 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها، وأثبتناها من "الخصائص" "2/ 469" لابن جني.
4 سبق في هامش1
5 في "ط": "أنهم ما كانوا يلتزمون".
(2/134)
 
 
وجمعوا بين "سعيد" و"عمود" مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ فِي قِيَاسِهَا النَّظَرِيِّ، لَكِنَّهَا تُهْمِلُهَا وَتُولِيهَا جَانِبَ الْإِعْرَاضِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعَدَمِ تَعَمُّقِهَا فِي تَنْقِيحِ لِسَانِهَا.
وَالرَّابِعُ:
أَنَّ الْمَمْدُوحَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ مَا كَانَ بَعِيدًا عَنْ تَكَلُّفِ الِاصْطِنَاعِ، وَلِذَلِكَ إِذَا اشْتَغَلَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ بِالتَّنْقِيحِ اخْتُلِفَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ، فَقَدْ كَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَعِيبُ الْحُطَيْئَةَ، وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ1:
"وَجَدْتُ شِعْرَهُ كُلَّهُ جَيِّدًا" فَدَلَّنِي عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُهُ، وَلَيْسَ هَكَذَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ، إِنَّمَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ الَّذِي يَرْمِي بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ2، جَيِّدِهِ عَلَى رَدِيئِهِ"،وَمَا قَالَهُ هُوَ الْبَابُ الْمُنْتَهَجُ، وَالطَّرِيقُ الْمَهَيْعُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْ زَاوَلَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَقَفَ مِنْ هَذَا عَلَى عِلْمٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فِيهِمَا3 فَوْقَ مَا يَسَعُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الِاعْتِنَاءَ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ تَعْتَنِيَ الْعَرَبُ به، والوقوف عند ما حدته4.
__________
1 قوله في "الأغاني" "2/ 43- 44" بنحوه.
2 أي: عواجله وحواضره.
3 هذه النتيجة ليست هي المنتظرة في هذين الوجهين الأخيرين، بل كان ينتظر أن يأتي من الكتاب أو الحديث بما فيه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمي به الكلام على عواهنه جيده على غير جيده، ولعل ذلك لا يكون في الكتاب والسنة أصلا، وإذا كان هكذا كان المناسب حذف هذين الوجهين من المقام. "د".
4 في الأصل: "حدث"، وانظر في معنى ما ذكره المصنف: "مجاز القرآن" "1/ 8" لأبي عبيدة، و"الرسالة" "ص42" للشافعي، و"الصاحبي" "ص47-48" لابن فارس.
(2/135)
 
 
فَصْلٌ:
- وَمِنْهَا1: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْأَفْهَامِ وَالْفَهْمِ مَا يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، فَلَا يُتَكَلَّفُ فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْفَهْمِ وَتَأَتِّي التَّكْلِيفِ فِيهِ لَيْسُوا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ وَلَا مُتَقَارِبٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْأُمُورِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ مَصَالِحُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَتَعَمَّقُونَ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا لَا يُخِلُّ بِمَقَاصِدِهِمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا أَمْرًا خَاصًّا لِأُنَاسٍ خَاصَّةٍ، فَذَاكَ كَالْكِنَايَاتِ الْغَامِضَةِ، وَالرُّمُوزِ الْبَعِيدَةِ، الَّتِي تَخْفَى عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا تَخْفَى عَمَّنْ قُصِدَ بِهَا، وَإِلَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ مَعْهُودِهَا.
فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْزِلَ فَهْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مَعَانِيهِ مُشْتَرَكَةً لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحرف2، واشتركت فيه اللغات
__________
1 أي: القواعد.
2 أحسن ما رأيته في بيانه ما ذكره النويري في "شرحه للطيبة" في مقدمات الكتاب، وليس فيما عده الإمالة والترقيق لا شيء من صفات الحروف، بل هي أنواع سبعة ترجع لحذف لفظ أو زيادة لفظ كـ "تجري تحتها الأنهار" و"من تحتها"، وإبدال لفظ بمرادفه، كـ"تبينوا وتثبتوا"، وتقديم لفظ وتأخيره، وإبدال حركة بأخرى بتغير المعنى بسببها، ولكنه يكون كل منها صحيحا ومرادان إلى آخر ما ذكره "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "حكى القرطبي عن ابن حبان أن الاختلاف في معنى الأحرف السبعة بلغ خمسة وثلاثين قولا، وأظهر هذه الأقوال أن يكون المراد منها وجوه تغاير الألفاظ مع الاتفاق أو التقارب في المعنى، ومن أصحاب هذا القول من يرى لفظ السبعة مستعملا في الكثرة، ومنهم من يجعل هذا العدد الخاص مقصودا، ويذكر في بيانه الإبدال واختلاف تصريف الأفعال، واختلاف وجوه الإعراب والتقديم والتأخير والنقص والزيادة، والاختلاف بمثل الإمالة والترقيق والإدغام، واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع، ومن وجوه هذا التغاير ما ينشأ عن اختلاف اللغات، ومنها ما يكون في لغة وحده. "خ".
وانظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 389" وما بعدها".
(2/136)
 
 
حَتَّى كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَفْهَمُهُ.
وَأَيْضًا، فَمُقْتَضَاهُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا النَّمَطِ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَيْسَ كَالْقَوِيِّ، وَلَا الصَّغِيرَ كَالْكَبِيرِ، وَلَا الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، بَلْ كُلٌّ لَهُ حَدٌّ ينتهي إليه في العبارة1 الْجَارِيَةِ، فَأَخَذُوا بِمَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِمْ: بِالْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَكَلَّفَهُمْ بِغَيْرِ قِيَامِ حُجَّةٍ، وَلَا إِتْيَانٍ بِبُرْهَانٍ، وَلَا وَعْظٍ وَلَا تَذْكِيرٍ، وَلَطَوَّقَهُمْ فَهْمَ مَا لَا يُفْهَمُ وَعِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمْ، فَلَا حِجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حُجَّةَ الْمُلْكِ قَائِمَةٌ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] .
لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَهُمْ مِنْ حَيْثُ عَهِدُوا، وَكَلَّفَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَهُمُ الْقُدْرَةُ2 عَلَى مَا بِهِ كُلِّفُوا، وَغُذُّوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَقِيمُ بِهِ مُنْآدُهُمْ3، وَيَقْوَى بِهِ ضَعِيفُهُمْ، وَتَنْتَهِضُ بِهِ عَزَائِمُهُمْ: مِنَ الْوَعْدِ تَارَةً، وَالْوَعِيدِ أُخْرَى، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أُخْرَى، وَبَيَانِ مَجَارِي الْعَادَاتِ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِهَذَا الأمر دون الخلق الماضيين، بَلْ هُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَكُونُونَ مُشْتَرِكِينَ إِلَّا فِيمَا لَهُمْ مُنَّةٌ4 عَلَى تَحَمُّلِهِ، وَزَادَهُمْ تَخْفِيفًا دُونَ الْأَوَّلِينَ، وَأَجْرَى فَوْقَهُمْ فَضْلًا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
__________
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي "ماء/ ص 153": "العبارات"، وفي باقي النسخ المطبوعة: "العادة".
2 في "ط": "قدرة" بالتنكير.
3 في الأصل: "متادهم"، وقال في الحاشية: "هو جهة من الأود"، وفي "خ": "مناديهم"، وفسرها "د" في الهامش بقوله: "أي: معوجهم".
4 المنة: القوة ".
(2/137)
 
 
وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: "يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ ". قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" 1.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجْرَاءُ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى وِزَانِ الِاشْتِرَاكِ الْجُمْهُورِيِّ الَّذِي يَسَعُ الْأُمِّيِّينَ كَمَا يَسَعُ غَيْرَهُمْ.
فَصْلٌ:
- وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِالْمَعَانِي الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخِطَابِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا كَانَتْ عِنَايَتُهَا بِالْمَعَانِي، وَإِنَّمَا أَصْلَحَتِ الْأَلْفَاظَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَاللَّفْظُ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا أَيْضًا كُلُّ الْمَعَانِي، فإن
__________
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف، 5/ 194/ رقم 2944"، والطيالسي في "المسند" "رقم 543"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 518"، وأحمد في "المسند" "5/ 132"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" 3/ رقم 1168، 1169، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 14/ رقم 739- الإحسان، والشاشي في "مسنده" "3/ 362/ رقم 1480، 1481" من طرق عن عاصم عن زر عن أبي به.
وإسناده حسن، عاصم صدوق له أوهامن حجة في القراءة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه أبي بن كعب"، وقال قبل ذلك: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بين اليمان وأم أيوب وسمرة وابن عباس وأبي هريرة وأبي جهم بن الحارث بن الصمة وعمرو بن العاص وأبي بكرة".
قلت: وأقرب ألفاظها للفظ المصنف حديث حذيفة عند أحمد في "المسند" "5/ 405-406".
(2/138)
 
 
المعنى الإفرادي قد لا يُعْبَأُ بِهِ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيُّ مَفْهُومًا دُونَهُ، كَمَا لَمْ يَعْبَأْ ذُو الرُّمَّةِ "بِبَائِسٍ" وَلَا "يَابِسٍ" اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا مَا فِي "جَامِعِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ المخرَّج عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قرأ: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] ، قَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا هَذَا. أَوْ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا1.
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] : مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ2.
وَمِنَ الْمَشْهُورِ تَأْدِيبُهُ لِصَبِيغٍ3 حِينَ كَانَ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنِ {الْمُرْسَلاتِ} [الْمُرْسَلَاتِ: 1] ، وَ {الْعَاصِفَاتِ} [الْمُرْسَلَاتِ: 2] وَنَحْوِهِمَا.
وَظَاهِرُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مَعْلُومٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى فَهْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، فَرَأَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ تكلُّفٌ، وَلِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَةِ: 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: فَلَوْ كَانَ فَهْمُ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ التَّرْكِيبِيِّ، لَمْ يَكُنْ تَكُلُّفًا، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النَّحْلِ: 47] ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: التَّخَوُّفُ عِنْدَنَا التنقص، ثم أنشده:
__________
1 مضى تخريجه "1/ 49"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265".
3 مضى تخريجه "1/ 51"، وهو صحيح، وفي "خ": "ضبيع".
قلت: وفي حاشية الأصل قال: "صبيغ، كأمير، آخره معجمة".
(2/139)
 
 
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ1
فَقَالَ عُمَرُ: "أَيُّهَا النَّاسُ! تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ"2، فَلَيْسَ بَيْنَ الْخِبْرَيْنِ تَعَارُضٌ لِأَنَّ هَذَا [قَدْ] 3 تَوَقَّفَ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَاللَّازِمُ الِاعْتِنَاءُ بِفَهْمِ مَعْنَى الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي4 الْخِطَابُ ابْتِدَاءً، وَكَثِيرًا مَا يُغْفَلُ هَذَا النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِ5 وَالسُّنَّةِ، فَتُلْتَمَسُ غَرَائِبُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي6، فَتَسْتَبْهِمُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ، وَتَسْتَعْجِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَقَاصِدَ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ فِي غَيْرِ مَعْمَلٍ، وَمَشْيُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِرَحْمَتِهِ.
__________
1 التامك: السنام، والقرد: الذي تجعد شعره فكان كأنه وقاية للسنام، والنبع: شجر للقسي والسهام، والسفن: كل ما ينحت به غيره. "د".
في حاشية المخطوط ما نصه: "الرحل، بالحاء المهملة: ما يوضع على الدابة، والضمير في "منها" لناقة، وتامكا، على وزن فاعل: سنام الناقة، وقرد، بفتح القاف، وكسر الراء: لبد من السمن، وعود النبعة معروف، والسفن، بفتح السين والفاء: آلة القطع كالقدوم، يقول: إن الرحل قطع من ناقته سناما سمينا كما قطع القدوم شجرة النبع".
2 مضى تخريجه "1/ 58"، وهو ضعيف، وتقدم بيان ما في الشعر من الغريب بتفصيل، ولله الحمد.
3 ليست في الأصل ولا في "ماء".
4 في الأصل: "بني".
5 في الأصل: و"ط": "إلى الكتاب",.
6 ومن أطرف ما يحكى ما عزاه النعيمي في "الدارس في تاريخ المدارس" "1/ 25" إلى النووي بقوله: "وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لما قرأت في "التنبيه": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج"، أعتقد أن ذلك قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني".
ونقلها أيضا الذهبي في "تاريخ الإسلام" "ق 574- نسخة رامبور" والسخاوي في ترجمة الإمام النووي" "ص5، 6"، والسيوطي في "المنهاج السوي" "ص32" وعقب عليها بعضهم بقوله: "والظاهر أن الحياء كان يمنعه السؤال عن ذلك".
(2/140)
 
 
فَصْلٌ:
- وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ مِمَّا يَسَعُ الْأُمِّيَّ تَعَقُّلُهَا، لِيَسَعَهُ الدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهَا.
أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ -بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرْبِ لِلْفَهْمِ، وَالسُّهُولَةِ عَلَى الْعَقْلِ، بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ أَوْ بَلِيدًا-، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً، وَلَمْ تَكُنْ أُمِّيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ1.
وَأَيْضًا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لزمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ2، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَرِّفْ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا بِمَا يَسَعُ فَهْمُهُ، وَأَرْجَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَعَرَّفَتْهُ بِمُقْتَضَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَحَالَتْ3 فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11] ، وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لَا تَهْتَدِي إِلَيْهَا العقول، نعم، لا ينكر
__________
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 37".
2 انظر في ذلك: "البرهان" "1/ 105"، و"المستصفى" "1/ 56، 86-88، و"البحر المحيط" "1/ 220 و 388"، و"الإبهاج" "1/ 170"، و"سلاسل الذهب" "136"، و"روضة الناظر" "1/ 234- 235- ط الرشد"، و"المحصول" "1/ 2/ 363"، و"المسودة" "80"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"إرشاد الفحول" 9، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "187- 205" ليعقوب الباحسين.
3 في "خ": "وإحالة".
(2/141)
 
 
تَفَاضُلُ الْإِدْرَاكَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا1 يَكُونُ أَصْلًا لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُتَكَلِّفِينَ، كَمَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، بَلِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى قَالَ: "لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ " 2.
وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي3 عَامًّا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَأَخْبَرَ مَالِكٌ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ4، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ لِفَهْمِهَا مما
__________
1 في الأصل: "وما".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 6/ 336 / رقم 3276"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 119- 120م رقم 134" عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته".
وأورده مسلم بألفاظ مقاربة أخرى، واللفظ الذي عند المصنف هو من حديث أنس مرفوعا، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7296".
3 أما النهي عن كثرة السؤال، فقد ورد في غير حديث عند المصنف، منها حديث المغيرة المتقدم "1/ 48"، وأما النهي عن التكلف، فقد أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265" بسنده إلى أنس، قال: "كنا عند عمر، فقال: نُهِينا عن التكلف"، ومن المقرر في علم المصطلح أن قول الصحابي: "نُهِينا"، و"أُمِرنا" له حكم المرفوع.
4 أسند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 938/ رقم 1786" بسند عن مالك، قال: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه.... ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل".
(2/142)
 
 
سُكِتَ عَنْهُ، أَوْ مِمَّا وَقَعَ نَادِرًا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ مُحَالًا بِهِ عَلَى آيَةِ التَّنْزِيهِ.
وَعَلَى هَذَا، فَالتَّعَمُّقُ فِي الْبَحْثِ فِيهَا وَتَطَلُّبُ مَا لَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِهِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْأُمِّيَّةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَمَحَتِ النَّفْسُ إِلَى طَلَبِ مَا لَا يُطْلَبُ مِنْهَا فَوَقَعَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا انْفِكَاكَ لَهَا مِنْهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
وَلِلْعُقُولِ قُوًى تَسْتَنُّ1 دُونَ مَدًى ... إِنْ تَعْدُهَا2 ظَهَرَتْ فِيهَا اضْطِرَابَاتُ
وَمِنْ طِمَاحِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ نَشَأَتِ الْفِرَقُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا.
وَأَمَّا الْعَمَلِيَّاتُ، فَمِنْ مُرَاعَاةِ الْأُمِّيَّةِ فِيهَا أَنْ وَقَعَ تَكْلِيفُهُمْ بِالْجَلَائِلِ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّقْرِيبَاتِ3 فِي الْأُمُورِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ كَمَا عَرَّفَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ، كَتَعْرِيفِهَا بِالظِّلَالِ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَ الْعِبَارَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، نَزَلَ4: {مِنَ الْفَجْرِ} .
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" 5.
__________
1 من استن الفرس قمص وهو أن ترفع يديها وتطرحهما معا وتعجن برجليهان وهو غاية الاعوجاج في سيرها، فلا تقطع به الطريق، وتؤذي راكبها. "د".
2 في الأصل: "تعده".
3 لعل الأصل "بالتقريبات"، أي فلم يكلفوا بما يقتضي الضبط التام للأوقات، بل بأمارات وعلامات تقريبية، مع أنها جعلت أمارات لجلائل الأعمال كالصلاة والصوم والحج. "د".
4 سيأتي تخريج ذلك "3/ 298".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم باب متى يحل فطر الصائم، 4/ 196 رقم 1954"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، 2/ 772/ رقم 1100"، والترمذي في "الجامع "أبواب الصوم، باب وقت انقضاء الصوم وخروج النهار/ رقم 698"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "8/ 34"-، وأحمد في "المسند" "1/ 28، 35، 48، 54"،والبيهقي في الكبرى "4/ 216، 237، 238" عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2/143)
 
 
وَقَالَ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا" 1.
وَقَالَ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" 2.
وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ مَعَ الْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْهُودِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ عُلُومِهَا3، وَلِدِقَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ4، وَأَجْرَى لَنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ مُجْرَى الْيَقِينِ، وَعَذَرَ الْجَاهِلَ فَرَفَعَ
__________
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في الصحيحين" بلفظ: "إنا" بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، 4/ 113/ رقم 1900، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" 4 / 119/ رقم 1906"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3 كيف يتفق هذا مع ما تقدم له في المسألة الثالثة؟ "د".
4 ذهب قوم منهم ابن شريح* إلى اعتبار منازل القمر والرجوع إلى المنجمين، وتأولوا على هذا الرأي قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا غم عليكم، فاقدروا له"، والمحقق أن المراد من قوله: "فاقدروا له" ما بينته رواية: "فإن غم عليكم، فاقدروا ثلاثين"، ورواية: "فأكملوا العدة ثلاثين"،ويؤيده من جهة النظر ما أومأ إليه المصنف من أن الصوم عبادة يتوجه الخطاب بها إلى المكلفين عامة، فلم يكن من اللائق تعليق الحكم فيها بما لا يعرفه إلا طائفة خاصة من الناس. "خ".
__________
* كذا في الأصل، ولعل الصواب: "سريج".
(2/144)
 
 
عَنْهُ الْإِثْمَ، وَعَفَا عَنِ الْخَطَأِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْجُمْهُورِ، فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ عَمَّا حُدَّ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا تَطَّلُّبُ مَا وَرَاءَ هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهَا مَظِنَّةُ الضَّلَالِ، وَمَزِلَّةُ الْأَقْدَامِ.
فَإِنْ قِيلَ1: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْقِيقِ2 النَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْكَامِ، وَمَظَانِّ الشُّبُهَاتِ، وَمَجَارِي الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ لِلنَّاسِ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهْلِكَاتِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى فَهْمِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَظَائِمَ وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ.
وَأَيْضًا، لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خَاصَّةً وَعَامَّةً، وَكَانَ لِلْخَاصَّةِ مِنَ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ عَرَبًا وَأُمَّةً أُمِّيَّةً، وَهَكَذَا سَائِرُ الْقُرُونِ إِلَى الْيَوْمِ، فَكَيْفَ3 هذَا؟
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ عَامَّةً، وَمَا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْمُتَشَابِهَاتُ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِمَا يُوصَلُ إِلَى فَهْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، فَأَيْنَ الِاخْتِصَاصُ بِمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ خَاصَّةً؟
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ، فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا إِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ إِلَهِيَّةٍ لَمْ يَفْتَحِ الشَّارِعُ لِفَهْمِهَا بَابًا غَيْرَ التَّسْلِيمِ والدخول تحت
__________
1 السؤال وارد على كلامه في الاعتقاديات والعمليات بدليل قوله: "فإن الشريعة قد اشتملت.... إلخ". "د".
2 في الأصل: "وتدقيق".
3 في الأصل: "وكيف".
(2/145)
 
 
آيَةِ التَّنْزِيهِ، وَإِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ، فَتَتَعَارَضُ أَحْكَامُهَا1، وَهَذَا خَاصٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَامٍّ2 هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا يُجَابُ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهَا أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهَا أَوَّلَ الْأَمْرِ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَعْرِضُ لِمَنْ تَمَرَّنَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَزَاوَلَ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ، وَامْتَازَ عَنِ الْجُمْهُورِ بِمَزِيدِ فَهْمٍ فِيهَا، حَتَّى زَايَلَ الْأُمِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ تَدْقِيقُهُ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا فَهِمَهُ نِسْبَةُ الْعَامِّيِّ إِلَى مَا فَهِمَهُ، وَالنِّسْبَةُ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَلَا يَبْقَى تَعَارُضٌ3 بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَيْسَ مَنْ لَهُ مَزِيدٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ كَمَنْ لَا مَزِيدَ لَهُ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ جَارٍ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ.
وَالِاخْتِصَاصَاتُ فِيهَا هِبَاتٌ مِنَ اللَّهِ لَا تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، بَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِيهَا، وَيَمْتَازُونَ هُمْ بِزِيَادَاتٍ في ذلك الأمر المشترك.
__________
1 أي أن المسألة تكون محتملة الدخول تحت قواعد شرعية مختلفة، فتتعارض أحكامها بحسب الظاهر، ويحصل الاشتباه. "د". وفي "ط": "تتعارض أحكامها".
2 في "خ": "هام".
3 كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"، وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين التسليم بالإشكال على ما سبق؟ "د".
(2/146)
 
 
بِعَيْنِهِ، فَإِنِ امْتَازُوا بِمَزِيدِ الْفَهْمِ لَمْ يُخْرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ أَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ.
كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْوَرَعَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْجَلَائِلِ، كَالْوَرَعِ عَنِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَالْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنَ الْجَلَائِلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَصَارَ الَّذِينَ عَدُّوهُ مِنَ الْجَلَائِلِ دَاخِلِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بَعْضِ مَا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِكَوْنِ الْمَوْضِعِ مُتَأَكَّدًا لِبَيَانِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ لِدِقَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْخَوَاصُّ عَنِ الْعَوَامِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَانُونِ، فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْجَمِيعَ جَارُونَ عَلَى حُكْمِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ1 مَفْهُومٍ لِلْجُمْهُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ إِنَّمَا تَجِدُهُ2 فِي الْغَالِبِ فِي الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا حَدٌّ يُوقَفُ عِنْدَهُ، بَلْ وُكِلَتْ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ فِيهَا مَطْلُوبًا بِإِدْرَاكِهِ، فَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا قَرِيبًا فَهُوَ3 الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، وَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا هُوَ4 فَوْقَ الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت
__________
1 وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل في هذه الفصول بإثباتها، وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تفهم إلا بالوجه الذي يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين والجمهور، وبنى على هذه النتائج. "د".
2 على كل حال هو موجود، سواء أكان في هذا النوع فقط أم على الإطلاق، فلا ينحسم الإشكال. "د".
3 في الأصل: "هو".
4 في الأصل: "فهو".
(2/147)
 
 
الْأَمْرُ فِيهَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الدَّوَامِ فِيمَا1 دَخَلَ فِيهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا، بَلْ بِمَا هُوَ دُونَهَا، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَطْلُوبًا، وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يُعْتَبَرُ مَا جَاءَ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ2 بِسَبَبِهَا، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ3 الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ- وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ4- بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ، وَمِنْ هُنَا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا5 وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: "مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ". قَالَ لَهُ عُمَرُ: "لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّى أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملة، ويكون من ذا فتنة"6.
__________
1 في "خ": "فيها".
2 في الأصل: "يقل".
3 في "ط": "العلوم".
4 في "ط": "معتاداته".
5 في الأصل: "شيئا".
6 نحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم، وكتب "خ": من أقوى الدعائم في نجاح السياسة أن يفحص الرئيس مزاج الأمة ويسير في علاجها وترقية شأنها شيئا فشيئا للوجه الذي بسطه المصنف في هذا المقام، وقد يتخذ الأجنبي المتغلب هذه الطريقة محورًا يدير عليها سياسته في الشعوب الغافلة، فيوجس في نفسه أن يضع عليها من القوانين والتصرفات ما ينحدر بها إلى هاوية الشقاء والجهالة، ولكنه يحذر أن تطرحها جملة وتفضل الموت في مواقع الدفاع على الحياة تحت نير الأسر والاستعباد، فيأخذها بتلك القوانين والتصرفات رويدا رويدا حتى تألف مرارتها ويتهون عليها المقام تحت أعبائها".
(2/148)
 
 
وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ، فَكَانَ مَا كَانَ أَجْرَى بِالْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ1، وَكَانَ أَكْثَرُهَا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ، فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى التَّأْنِيسِ حِينَ كَانَتْ تَنْزِلُ حُكْمًا حُكْمًا وَجُزْئِيَّةً جُزْئِيَّةً؛ لِأَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْزِلْ حُكْمٌ إِلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ صَارَ عَادَةً، وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ عَنِ التَّكْلِيفِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِهِ رَأْسًا، فَإِذَا نَزَلَ الثَّانِي كَانَتِ النَّفْسُ أَقْرَبَ لِلِانْقِيَادِ لَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ.
وَلِذَلِكَ أُونسوا فِي الِابْتِدَاءِ2 بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا يُؤْنَسُ الطِّفْلُ فِي الْعَمَلِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ، يَقُولُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجِّ: 78] .
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النَّحْلِ: 123] .
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آلِ عِمْرَانَ: 68] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ: فَلَوْ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَتَكَاثَرَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَنْقَادَ إِلَيْهَا انْقِيَادَهُ إِلَى الحكم الواحد أو الاثنين.
__________
1 في "خ": "التأنيث".
2 ظاهر فيما كان من ذلك مكيا وسابقا، وأما ما كان مدنيا أو متأخرا كآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} ، فلا يظهر فيه قوله أونسوا في الابتداء، إلا أن يقال: إن مثله زيادة في التوكيد والتقرير كما هو شأن ما تكرر من المكيات في المدينة. "د".
قلت: والجملة في الأصل: "أنسوا في الابتداء"، وفي "ط": "ولذلك أيضا أُونسوا".
(2/149)
 
 
وَفِي الْحَدِيثِ: "الْخَيْرُ عَادَةٌ" 1 وَإِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ فعلا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ حَصَلَ لَهُ بِهِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ، وَانْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ، فَلَا يَأْتِي فِعْلٌ ثانٍ إِلَّا وَفِي النَّفْسِ لَهُ الْقَبُولُ؛ هَذَا فِي عَادَةِ اللَّهِ فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَعَادَةٌ أُخْرَى جَارِيَةٌ فِي النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ أَقْرَبُ انْقِيَادًا إِلَى فِعْلٍ يَكُونُ عِنْدَهَا فِعْلٌ آخَرُ مِنْ نَوْعِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ أَضْدَادَ هَذَا وَيُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ، فَكَانَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَكْرَهُ الْعُنْفَ2، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ3 وَالدُّخُولِ تَحْتَ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور.
__________
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80/ رقم 221"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 8/ رقم 310 - الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "19/ 385-386/ رقم 904"، و"مسند الشاميين" "رقم 2215"، وابن عدي في الكامل" "3/ 1005"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 20"، وابن أبي عاصم في "الصمت" "100"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 252"، و"تاريخ أصبهان" "1/ 345"،والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 22 عن معاوية مرفوعا، وإسناده حسن، والحديث في "السلسلة الصحيحة" لشيخنا الألباني "رقم 651".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة مرفوعا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
وأخرج برقم "2594" عنها رضي الله عنها مرفوعا: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
3 وقد مضى ذلك في التعليق على "ص142".
(2/150)
 
 
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى اعْتِبَارَيْنِ: [مِنْ جِهَةِ دلالته على المعنى الأصلي، و] 1 من جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِيِّ2، كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُسْتَفَادُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ، وَهَلْ يَخْتَصُّ بِجِهَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ أَوْ يَعُمُّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا؟
أَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَسَعُ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى حَالٍ، وَمِثَالُ ذَلِكَ صِيَغُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مُجَرَّدًا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ، فَهَلْ يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانٍ زَائِدَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
فَلِلْمُصَحِّحِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ هَذَا النَّوْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ لَا، وَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، [فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى] 3 الْأَصْلِيِّ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَمْ يُمْكِنْ إِهْمَالُهُ وَاطِّرَاحُهُ، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِذًا مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ من جهة كونها
__________
"1و 3" ساقط من الأصل، والمعنى الأصلي: هو لفظ القائل الذي يقصد به الأشياء أو يعمه، والمعنى التبعي: الذي هو الحال الذي يفهم منه زائدا على المعنى الأصلي. "ماء / 156".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للأصل".
(2/151)
 
 
بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَلَامًا فَقَطْ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَشْمَلُ مَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الْأَوْلَى، وَمَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، هَذَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى كَالصِّفَةِ مَعَ الموصوف كالفصل والخاصة، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ ضَائِرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَخْصِيصُ الْأُولَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ دُونَ الثَّانِيَةِ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مرجح، وذلك كله باطل، فليست1 الأولى إذا ذَاكَ بِأَوْلَى لِلدَّلَالَةِ2 مِنَ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُمَا مَعًا هُوَ الْمُتَعَيَّنَ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدِ اعْتَبَرُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَتِهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي"3، والمقصود الإخبار بنقصان
__________
1 في "خ": "ليست"
2 في "ط": "بالدلالة".
3 قال البيهقي في "المعرفة" "1/ 367": "وأما الذي يذكره بعض فقهائنا في هذه الرواية عن قعودها شطر دهرها لا تصلي، فقد طلبته كثيرا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسنادًا بحال، والله أعلم".
وقال ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في "الإمام" عنه: "ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من الوجوه"، كذا في "التلخيص الحبير" "1/ 162".
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "وهذا لفظ لا أعرفه"، وأقره محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 615"، ونقل كلامهما ولم يتعقبهما الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 193". وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب""1/ 46- ط المصرية القديمة" بعد ذكره: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه".
وقال النووي في "شرحه" المسمى "المجموع" "2/ 377": و"أما حديث " تمكث شطر دهرها"، فحديث باطل لا يعرف"،وقال في "الخلاصة": باطل لا أصل له"، وقال المنذري: "لم يوجد له إسناد بحال، وأغرب الفخر ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له، كذا قال، وابن أبي حاتم ليس هو بستيا إنما هو رازي، وليس له كتاب يقال له "السنن".
تنبيه:
في قريب من المعنى ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد، قال: "أليس إذا حاضت =
(2/152)
 
 
الدِّينِ، لَا الْإِخْبَارُ بِأَقْصَى الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ1 اقْتَضَتْ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَلَوْ تُصُوِّرَتِ الزِّيَادَةُ لَتَعَرَّضَ لَهَا.
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنَجَاسَةٍ لَا تُغَيِّرُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإناء حتى يغلسها" 2 الْحَدِيثَ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ لكان توهمه لا يوجب.
__________
= لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها؟ "،ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها"، ومن حديث أبي هريرة كذلك، وفي "المستدرك" من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: "فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة". قلت: وهذا وإن كان قريبا من معنى الأول، لكنه لا يعطي المراد من الأول، وهو ظاهر من التفريع، والله أعلم، وإنما أورد الفقهاء هذا محتجين به على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، ولا دلالة في شيء من الأحاديث التي ذكرناها على ذلك، والله أعلم. قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 162- 163".
ولقد تلقى المتأخرون ما أطلقه ابن منده والبيهقي وغيرهما من أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، كما تراه في "المقاصد" "ص164"، و"مختصر المقاصد" "ص88"، و"التمييز" "ص62"، و"الكشف" "1/ 39"، و"المصنوع" "ص85"، و"الدرر المنتثرة" "ص113"، و"الأسرار المرفوعة" "ص177- 178"، و"الغماز على اللماز" "ص85"و "النخبة البهية" "ص48"، واللؤلؤ المرصوع" رقم 153".
1 أي: فالمقام يقتضي ذكر أقصى ما يقع لها من الحيض الذي يمنع الصلاة وينقص به الدين. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، 1/ 263/ رقم 162"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا، 1/ 233/ رقم 278" والمذكور لفظه عن أبي هريرة وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على كتاب "الطهور" "رقم 279".
قال الشيخ "د": "وتمامه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال الأئمة: "إنه مستحب، أي لهذا التوهم، أن تكون يده مست نجاسة من ذكره أو غيره، فأخذ منه الشافعي الحكم المذكور".
(2/153)
 
 
الِاسْتِحْبَابَ، فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ تَحُلُّهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ، لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِمَّا قُصِدَ ذِكْرُهُ.
وَكَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14] ، فَالْمَقْصِدُ فِي1 الْآيَةِ الْأُولَى بَيَانُ مُدَّةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مُدَّةَ الْفِصَالِ قَصْدًا، وَسَكَتَ عَنْ بَيَانِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَحْدَهَا قَصْدًا، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُدَّةً فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية [البقرة: 187] إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا وَصِحَّةِ الصِّيَامِ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ تَقْتَضِي2 ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَ الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى بَيَانِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ3.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] .
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ4 بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لغير الله
__________
1 في الأصل و"ط": "فالقصد".
2 في الأصل: "يقتضي".
3 الدلالة في هذه الآية وما تقدمها من قبيل دلالة الإشارة التي هي دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى المقصود من السياق، وهي أحد أقسام المنطوق غير الصريح كدلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء. "خ".
4 أي: الأصلي الذي سيق له التركيب، أما كونه لا يملك، فهو معنى تبعي ولازم من إثبات كونه عبدا ونفي كونه ولدا، لأنه لما نفى الولدية بسبب العبودية وهو المقصود الأصلي، دل على أن هناك تنافيا بين الولدية والعبودية، فالولد لا يملك ولا يكون عبدا، فقوله: "لكنه" الضمير فيه لقوله لا أن الولد لا يملك، وقوله: "وأن لا يكون" سقط منه في الأصل حرف العطف ولا غنى عنه، والمعنى أن كون الولد لا يملك لزم من أمرين في الآية وهما نفي الولد وإثبات ألا يكون إلا عبدا، وكلاهما صريح الآية ومنطوقها، وكونه لا يملك لازم لهذين المعنيين، لأنه إذا كان هناك تنافٍ بين الولدية والعبودية أي الملكية فالولد لا يملك، حتى صح الاستدلال بتنافيهما. "د".
(2/154)
 
 
وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد، إلا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ، لَكِنَّهُ لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ1 أَنْ2 لَا يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا إِلَّا عَبْدًا، إِذْ لَا مَوْجُودَ3 إِلَّا رَبٌّ أَوْ عَبْدٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الْحُبُوبِ وَكَثِيرِهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" 4 الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّ المقصود5 تقدير
__________
1 أي: بقوله: {سُبْحَانَهُ} ، وبالحصر في قوله: {بَلْ هُمْ عِبَادٌ} . "د".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وأن" بزيادة واو، وفي "ط": "المنسوب لها".
3 هذا كلام آخر دليل على الحصر الذي قبله. "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، 3/ 347/ رقم 1438"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع 2/ 252 / رقم 1596"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة" باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها 2/ 75/ رقم 635"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر، 5/ 41" وابن ماجه في "السنن": "كتاب الزكاة، باب صدقة الزروع والثمار 1/ 581/ رقم 1817" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه زيادة وتتمة ستأتي عند المصنف "ص3/ 162".
وأخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة" باب ما فيه العشر أو نصف العشر 2/ 675/ رقم 981"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 41، 42"، من حديث جابر.
وفي الباب عن معاذ وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم جميعًا.
5 من أين للمؤلف هذا؟ ولم لا يكون المقصود إفادة المعنيين المخرج والمخرج منه قصدًا أصليًّا؟. "د".
(2/155)
 
 
الْجُزْءِ الْمُخْرَجِ لَا تَعْيِينَ الْمُخْرَجِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ كُلُّ عَامٍّ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ1، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَخْذِ بِالتَّعْمِيمِ اعْتِبَارًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَقْصُودِ، [وَإِنْ] 2 كَانَ السَّبَبُ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَابُ السَّعْيِ لَا بَيَانَ فَسَادِ الْبَيْعِ3.
وَأَثْبَتُوا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ 4 قِيَاسًا كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، مَعَ5 أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ" 6 مُطْلَقُ الملك،
__________
1 لعله يريد أنه حينئذ يكون القصد الأصلي الإجابة على قدر السبب، ويكون الزائد من قبيل ما نحن فيه ليس مقصودا أصليا بل تبعي، وهو محل تأمل؛ لأن الدلالة عليه في مثل الحديث بنفس صيغة العموم، وهي ما بأصل الوضع، فليس من باب اللازم كما يدل عليه قوله: "اعتبارا بمجرد اللفظ"، وقوله: "ومثله" ليس المراد المماثلة الخاصة وأن الحديث السابق مما ورد على سبب، فإنهم لم يذكروا أن حديث الزكاة المذكور نزل على سبب بل المراد المماثلة العامة في أصل الموضوع، وهو الاعتداد بالمعاني الثانوية في استنباط "الأحكام" الشرعية كبقية الأمثلة السابقة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 يريد أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عنه، وهو متمشٍ مع ما سبق في الموضوع. "د".
4 وهو ما قُطع فيه بنفي الفارق كمثاله، فإن قصد الشارع للحرية لا فرق فيه بين الذكر والأنثى قطعا. "د".
5 الظاهر الواو بدل مع، والمعنى أن اللفظ بحسب وضعه دال على خصوص الذكر، لكنهم حملوا الأنثى عليه في سريان العتق؛ لأنه لا فارق، ولزم من كونه لا فارق أن يكون مقصود الشارع بالعبد هنا مطلق الملك مجازا، وهو معنى تبعي لا أصلي. "د".
6 تمام الحديث: "وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، 5/ 132 / رقم 2491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العتق، باب منه، 2/ 1139/ رقم 1501"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب العبد يكون بين الرجلين ... 3/ 629/ رقم 1346"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العتق، باب من روي أنه لا يستسعى، 4/ 256/ رقم 3940"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق، 7/ 319"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب العتق، باب من أعتق شركا له في عبد 2/ 844/ رقم 2527"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2/156)
 
 
لَا خُصُوصُ الذَّكَر ...
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَجَمِيعُهَا تَمَسُّكٌ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لَا بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحٌ مَأْخُوذٌ بِهِ.
وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَيْضًا بِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالْفَرْضِ خَادِمَةٌ لِلْأُولَى وَبِالتَّبَعِ لَهَا، فَدَلَالَتُهَا عَلَى مَعْنًى إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَمُقَوِّيَةٌ لَهَا، وَمُوَضِّحَةٌ لِمَعْنَاهَا، وَمُوقِعَةٌ لَهَا مِنَ الْأَسْمَاعِ مَوْقِعَ الْقَبُولِ، وَمِنَ الْعُقُولِ مَوْقِعَ الْفَهْمِ، كما تقول فِي الْأَمْرِ الْآتِي لِلتَّهْدِيدِ أَوِ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فُصِّلَتْ: 40] .
وَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَانِ: 49] .
فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْأَمْرُ1، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ في التهديد أو الخزي،
__________
1 أي: فليس المقصود المعنى الأصلي، والتهديد مثلا هو المعنى التبعي، وأن كلا منهما* يأخذ منه حكم، بل المعنى المقصود هنا في الحقيقة هو التهديد مثلا، أما طلب الفعل، فليس مقصودا، وكأن المعنى الأصلي هو المقوي للمعنى التبعي، وهذا وإن كان عكس ما قرره، إلا أنه يفيد أنهما لا ينفكان في الدلالة على المعنى المقصود وتقويته ووقوعه الموقع من الفهم، ولو قال ذلك، لكان أتم، ولعله يقول: إن الصيغة موضوعة** للتهديد، وأنه معنى أصلي لها أيضا، والأمر هو المعنى الثانوي مبالغة في التهديد. "د".
__________
* في المطبوع: "منها".
** في المطبوع: "موضوع".
(2/157)
 
 
فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حُكْمٌ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ، وَكَمَا نَقُولُ فِي نَحْوِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يُوسُفَ: 82] : إِنَّ الْمَقْصُودَ: سَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَلَكِنْ جُعِلَتِ الْقَرْيَةُ مَسْئُولَةً مُبَالَغَةً1 فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالسُّؤَالِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ ينبنِ عَلَى إِسْنَادِ السُّؤَالِ لِلْقَرْيَةِ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هُودٍ: 107] بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا تَفْنَيَانِ وَلَا تَدُومَانِ2، لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ بِالتَّأْبِيدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ انْقِطَاعُ مُدَّةِ الْعَذَابِ لِلْكُفَّارِ3 ... إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يؤتى على حصرها، وإذا كان
__________
1 فهو تقوية للمعنى المقصود، حتى كأنه لا يدع أحدا من أهلها بدون سؤال. "د".
2 قال بعضهم: المراد بالسموات والأرض هذه الأرض المشاهدة، والكواكب والأفلاك الموجودة، وهذه تبدل وتغير قطعا كما في النصوص، وإن المراد بهذا التعليق التأبيد كما هو معهود العرب في مثله نحو: ما طلع نجم، وما غنت حمامة، مما يقصد به التأبيد لا التعليق، فكون السماوات والأرض تفنيان لا يؤثر في هذا المعنى المقصود وهو التأبيد، ولكن التعليق يقوي هذا المعنى ويوقعه في الفهم الموقع، أما على القول بأن المراد بالسموات والأرض جنسهما، وأنه لا بد من أرض وسماء للجنة والنار غير هذين، وأن التعليق على دائم يقتضي الدوام، فلا يكون مما نحن فيه، فلذا قال: "بناء على القول بأنهما تفنيان"، وبهذا تعلم أن كلام بعضهم هنا انتقال نظر، فإنه ليس الكلام في بقاء الجنة والنار وفنائهما كما هو واضح، فإن القول بأن الجنة تفن لم يقل به مسلم فضلا عن أن نبني عليه استدلالا كهذا. "د".
3 القول بأن الجنة والنار تفنيان هو مذهب جهم بن صفوان إمام الجهمية، وقد تحطمت عقيدتهم الإسلامية على صخرة هذه المقالة، ودخلوا في زمرة المخالفين لصريح كتاب الله وسنة=
(2/158)
 
 
كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِلْجِهَةِ الْأُولَى، فَإِذًا لَيْسَ لَهَا خصوص حكم يؤخذ منها زئدا عَلَى ذَلِكَ بِحَالٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا مَوْضِعُ خُصُوصِ حُكْمٍ يُقَرَّرُ شَرْعًا دُونَ الْأُولَى لَكَانَتْ هِيَ الْأَوْلَى1، إِذْ كَانَ يَكُونُ تقرير2 ذلك المعنى مقصود بِحَقِّ الْأَصْلِ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأَوْلَى لَا مِنَ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مِنَ الثانية، هذا خلف لا يمكن
__________
= رسول الله، وما القول بأن الجنة أبدية والنار فانية، فقد حكاه الشيخ ابن تيمية عن بعض الصحابة والتابعين، وتصدى ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" إلى ترجيحه وبسط أدلته. "خ".
قلت: كذا قال الشيخ "خ" رحمه الله تعالى، ولم يصب في ذلك، فقد حكاه ابن تيمية وتبعه ابن القيم، فأسهب في هذا المبحث في كتابيه "شفاء العليل" "ص528-552"، و"حادي الأرواح" "ص276-311"، وذكر أدلة القائلين بالفناء، وسكت عليها، فأوهم أنه يرى فناء النار، مع أنه صرح في كتابه "الوابل الصيب" "ص29" أن نار الكافرين والمنافقين لا تفنى، وأن نار عصاة الموحدين هي التي تفنى، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وهذا ما صرح به ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "1/ 157"، و"درء تعارض العقل والنقل" "1/ 305"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 304"، وله "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار" ذكرها يوسف بن عبد الهادي في "فهرسته" "ق 26/ أ"، وانظر في المسألة: "رفع الأستار" للصنعاني مع مقدمة شيخنا الألباني، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة" "ص246-267" لصلاح مقبول، و"دفع إيهام الاضطراب" "ص122" للشنقيطي، و"دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية" لأخينا مراد شكري "ص111-119"، و"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" لعلي بن علي جابر الحربي، نشر دار طيبة- مكة المكرمة.
1 أي: لكانت جهة تقصد قصدا أوليا، فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. "د".
2 في الأصل: "تقدير".
(2/159)
 
 
لَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَهَا دَالَّةً بِالتَّبَعِ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا دَالَّةً بِالْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ ثَانِيًا كَمَا نَقُولُ فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ: إِنَّهَا مَقَاصِدُ أَصْلِيَّةٌ وَمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ، وَالْجَمِيعُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَيَصِحُّ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ1 في أحكام التكليف حسبما يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ هُنَا: إِنْ دَلَالَةَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَمْنَعُ2 قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى فَهْمِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهَا مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ تِلْكَ مِنَ الأخذ بها عملا، وإذا اتحدت النسبةكان التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَزِمَ مِنِ اعْتِبَارِ إِحْدَاهُمَا اعْتِبَارُ الْأُخْرَى، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ إِهْمَالِ إِحْدَاهُمَا إِهْمَالُ الْأُخْرَى.
لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا -إِنْ سُلِّمَ- مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ قَضَاءِ الوَطَر مَثَلًا صَحِيحًا، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ النَّسْلُ، فَغَفْلَةُ الْمُكَلَّفِ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا فِي قَصْدِ الشَّارِعِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا: إِنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، فِي نَفْسِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، فَالْمَعْنَى التَّبَعِيُّ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ بِقَصْدِ قَضَاءِ الْوَطَرِ إِنْ كَانَ دَاخِلًا مِنْ وَجْهٍ تَحْتَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ دَاخِلٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَحْتَ الْحَاجِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ فِي نَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَإِذَا دَخَلَ تحت أصل الحاجيات، صح
__________
1 في الأصل استظهر ناسخ الأصل أن هناك كلمة أمور أو أحكام هنا.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "ممتنع".
(2/160)
 
 
إِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرَجَعَ إِلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا بِالتَّبَعِيَّةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْجِهَةَ التَّابِعَةَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّأْكِيدِ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا وَضَعَتْ كَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِلْأُولَى يَقْتَضِي أَنَّ مَا تُؤَدِّيهِ مِنَ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، فَلَوْ جَازَ أَخْذُهُ مَنْ غَيْرِهَا، لَكَانَ خُرُوجًا بِهَا عَنْ وَضْعِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى حُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا في الأولى خروج لها عن كونها تَبَعًا لِلْأُولَى، فَيَكُونُ اسْتِفَادَةُ الْحُكْمِ مِنْ جِهَتِهَا عَلَى غَيْرِ فَهْمٍ عَرَبِيٍّ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِفَادَةِ الْأَحْكَامِ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَإِمَّا إِلَى جِهَةٍ ثَالِثَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ1.
فَأَمَّا مُدَّةُ الْحَيْضِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَيْهَا، وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ2: إِنَّ أَكْثَرَهَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَإِنْ سُلِّمَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ3، وَفِيهِ الْكَلَامُ.
وَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ 4 أَوْ غَيْرِهِ، وَأَقَلِّ مُدَّةِ.
__________
1 أي: وإما لا استفادة أصلا كما في مدة الحيض على الشق الأول قبل التسليم، فإنه يمنع دلالة الحديث عليها، ويحتمل أنه يشير بالجهة الثالثة إلى ما سيأتي له في الفصل التالي من التأسي بالآداب القرآنية. "د".
2 في الأصل و"ط": "الحنفي".
3 أي: بل بدلالة غير وضعية، وكلامنا إنما هو في مستتبعات التراكيب، أي: دلالة الألفاظ. "د". قلت: انظر المسألة وأدلتها في "الخلافيات" "3/ رقم 48- وتعليقي عليها".
4 غير واضح؛ لأنه إما أن يكون ما تقدم في الاستدلال من نفس كلام الشافعي أو لا، فإن كان الأول، فهذا الجواب غير ظاهر؛ لأن صريح الكلام يمنع هذا الجواب، وإن كان الثاني، فكيف ساغ نسبة هذا الدليل للشافعي من طرف المصحح؟ "د"
(2/161)
 
 
الحمل مأخوذة مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى1 لَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ2، وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَدِ لَا يُمْلَكُ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَمَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ، فَالْقَائِلُ بِالتَّعْمِيمِ إِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا أُخِذَ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهَكَذَا الْعَامُّ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَمَنْ قَالَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} 3 [الْجُمُعَةِ: 9] ، فَهُوَ عِنْدُهُ مَقْصُودٌ لَا مُلْغًى، وَإِلَّا، لَزِمَ التَّنَاقُضُ فِي الْأَمْرِ4 كَمَا ذُكِرَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، لَمْ يَجْعَلُوا دُخُولَ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ بِخُصُوصِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُفْرَضُ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُهُ أَلْبَتَّةَ، وَكَمَا أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّالِثِ، كَذَلِكَ يُمْكِنُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: "فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا يُمْكِنُ إِهْمَالُهُ"، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي اسْتِقْلَالِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، فَالصَّوَابُ إِذًا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، والله أعلم.
__________
1 ليس هنا لفظ وضع للدلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، بل إنما أخذ ذلك من عملية جمع وطرح، فكان الباقي هو العدد المذكور، وهو من باب اللزوم قطعا، "د".
2 أي: فيتوقف صحة الكلام على ثبوت هذا المعنى، وهو ما يسمى اقتضاء على بعض الاصطلاحات. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
4 في "ط": "في الاستدلال".
(2/162)
 
 
فَصْلٌ:
قَدْ تَبَيَّنَ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَقْوَى مِنَ الْجِهَتَيْنِ جِهَةُ الْمَانِعِينَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ زَائِدٍ أَلْبَتَّةَ.
لَكِنْ يَبْقَى فِيهَا نَظَرٌ آخَرُ رُبَّمَا أَخَالُ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى معانٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، هِيَ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَتَخَلُّقَاتٌ حَسَنَةٌ، يُقِرُّ بِهَا كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَيَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّلَالَةِ جُمْلَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشَكَلُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَمْثِلَةٍ سَبْعَةٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِالنِّدَاءِ1 مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ، وَمِنَ الْعِبَادِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، إِمَّا حِكَايَةً، وَإِمَّا تَعْلِيمًا، فَحِينَ أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَاءَ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْبُعْدِ، ثَابِتًا غَيْرَ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 56] .
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزُّمَرِ: 53] .
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الْأَعْرَافِ: 158]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: 104] .
فَإِذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، جَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ [فَلَا تَجِدُ فِيهِ نِدَاءً بِالرَّبِّ تَعَالَى بِحَرْفِ] نِدَاءٍ ثَابِتٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ منزه عن التنبيه.
__________
1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع. "د".
(2/163)
 
 
وَأَيْضًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ حُرُوفِ النِّدَاءِ لِلْبَعِيدِ، وَمِنْهَا "يَا" الَّتِي هِيَ أُمُّ الْبَابِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الدَّاعِي خُصُوصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186] .
وَمِنَ الْخَلْقِ عُمُومًا، لِقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] .
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التنبيهُ عَلَى أَدَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ حَرْفِ النِّدَاءِ.
وَالْآخَرُ: اسْتِشْعَارُ الْقُرْبِ.
كَمَا أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحَرْفِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ إِثْبَاتُ التَّنْبِيهِ لِمَنْ شَأْنُهُ الْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ وَالْغَيْبَةُ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ارْتِفَاعِ شَأْنِ الْمُنَادَى وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، إِذْ هُوَ فِي دُنُوِّهِ عالٍ، وَفِي عُلُوِّهِ دانٍ، سُبْحَانَهُ!
وَالثَّانِي:
أَنَّ نِدَاءَ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ نِدَاءُ رَغْبَةٍ وَطَلَبٍ لِمَا يُصْلِحُ شَأْنَهُ، فَأَتَى فِي النِّدَاءِ الْقُرْآنِيِّ1 بِلَفْظِ: "الرَّبِّ" فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ، تَنْبِيهًا وَتَعْلِيمًا لِأَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ بِالِاسْمِ الْمُقْتَضَى لِلْحَالِ الْمَدْعُوِّ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يُصْلِحُ الْمَرْبُوبَ، فَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ بَيَانِ دُعَاءِ الْعِبَادِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] إِلَى آخِرِهَا، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .
__________
1 أي: وأما الدعاء في الحديث، فالشائع فيه لفظ الجلالة، ولكل سرٌّ وحكمة، وسيأتي له التعبير بكثرة بدل "عامة". "د".
(2/164)
 
 
وَإِنَّمَا أَتَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الْأَنْفَالِ: 32] مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ بِلَفْظِ الرَّبِّ"؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ1 بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دَعَوْا بِهِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُنَافِيهِ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} الآية: [المائدة: 114] ، فَإِنَّ لَفْظَ الرَّبِّ فِيهَا مُنَاسِبٌ جِدًّا.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ أَتَى فِيهِ الْكِنَايَةُ فِي الْأُمُورِ الَّتِ