النبذة الكافية

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: النبذة الكافية في أحكام أصول الدين (النبذ في أصول الفقه)
المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
 
مُقَدّمَة قَالَ الشَّيْخ الفيه الامام الْحَافِظ الْوَزير أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن احْمَد بن سعيد بن حزم الأندلسي الْقُرْطُبِيّ رضى الله عَنهُ الْحَمد لله الَّذِي خلقنَا ورزقنا وَجعل لنا السّمع والأبصار والأفئدة فنسأله أَن يجعلنا من الشَّاكِرِينَ وَصلى الله على سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله أتم صَلَاة وأفضلها وأزكاها وَعَلِيهِ من رَبنَا تَعَالَى ثمَّ منا أفضل السَّلَام وأطيبه ثمَّ على أَزوَاجه وَآله وَأَصْحَابه وتابعيهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
أما بعد
وفقنا الله تَعَالَى وَإِيَّاكُم لإيفاء مَا كلفنا وعصمنا وأياكم من مواقعة مَا عَنهُ نَهَانَا فاننا لما كتبنَا كتَابنَا الْكَبِير فِي الْأُصُول وتقصينا أَقْوَال الْمُخلفين وشبههم وأوضحنا بعون الله تَعَالَى وَمِنْه الْبَرَاهِين فِي كل ذَلِك رَأينَا بعد إستخارة الله تَعَالَى والضراعة اليه فِي عونه على بَيَان الْحق أَن نجمع تِلْكَ الْجمل فِي كتاب لطيف يسهل تنَاوله وَيقرب حفظه وَيكون ان شَاءَ الله عز وَجل دَرَجَة إِلَى الاشراف على مَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي ذَلِك وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
فصل
أعلمُوا رحمكم الله أننا لم نخرجنا رَبنَا الى الدُّنْيَا لتَكون لنا دَار اقامة لَكِن لتَكون لنا محلّة رَحْله ومنزله قلعة
(1/15)
 
 
وَالْمرَاد منا الْقيام بِمَا كلفنا بِهِ رَبنَا تَعَالَى مِمَّا بعث بِهِ الينا رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَط وَلذَلِك خلقنَا وَمن أَجله اسكننا هَذِه الدَّار ثمَّ النقلَة مِنْهَا الى احدى الدَّاريْنِ {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} ثمَّ بَين لنا تَعَالَى من الْأَبْرَار وَمن الْفجار فَقَالَ عز وَجل {وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَله عَذَاب مهين}
فَوَجَبَ انطلب كَيفَ هَذِه الطَّاعَة وَهَذِه الْمعْصِيَة فوجدناه تَعَالَى قد قَالَ {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ}
فأيقنا وَللَّه الْحَمد بِأَن الدّين الَّذِي كلفنا بِهِ رَبنَا وَلم يَجْعَل لنا مخلصا من النَّار إِلَّا باتباعه مُبين كُله فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجماع الْأمة وَأَن الدّين قد كمل فَلَا مزِيد فِيهِ وَلَا نقص وأيقنا أَن كل ذَلِك مَحْفُوظ مضبوط لقَوْل الله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون}
(1/16)
 
 
فصح من هَذَا صِحَة مستيقنة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَنه لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي وَلَا أَن يقْضِي وَلَا أَن يعْمل فِي الدّين إِلَّا بِنَصّ الْقُرْآن الْكَرِيم أَو نَص حكم صَحِيح عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو اجماع مُتَيَقن من أولى أَمر منا لَا خلاف فِيهِ من أحد مِنْهُم وَصَحَّ أَن من نفى شَيْئا أَو أوجبه فَإِنَّهُ لَا يقبل مِنْهُ إِلَّا ببرهان لِأَنَّهُ لَا مُوجب وَلَا نافي إِلَّا الله تَعَالَى فَلَا يجوز الْخَبَر عَن الله تَعَالَى إِلَّا بِخَبَر وَارِد من تقبله تَعَالَى أما فِي الْقُرْآن وَمَا فِي السّنة وَالْإِبَاحَة تَقْتَضِي مبيحا وَالتَّحْرِيم يَقْتَضِي محرما وَالْفَرْض يَقْتَضِي فارضا وَلَا مُبِيح وَلَا محرم وَلَا مفترض إِلَّا الله تَعَالَى خَالق الْكل ومالكه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
(1/17)
 
 
الْكَلَام فِي الْإِجْمَاع وَمَا هُوَ
بدأنا بالاجماع لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَاف فِيهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه لما صَحَّ عَن الله عز وَجل فرض اتِّبَاع الْإِجْمَاع بِمَا ذكرنَا وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} وذم تَعَالَى الإختلاف وَحرمه يَقُوله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} وَلم يكن فِي الدّين إِلَّا اجماع أَو أختلاف فَأخْبر تَعَالَى أَن الِاخْتِلَاف لَيْسَ من عِنْده عز وَجل فَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح ضَرُورَة ان الأجتماع من عِنْده تَعَالَى اذ الْحق من عِنْده تَعَالَى وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا اجماع أَو اخْتِلَاف فالاختلاف لبيس من عِنْد الله تَعَالَى فَلم يبْقى إِلَّا الاجماع فَهُوَ من عِنْد الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَمن خَالفه بعد علمه بِهِ اَوْ قيام الحدة عَلَيْهِ بذلك فقد اسْتحق الْوَعيد الْمَذْكُور فِي الْآيَة
فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الاجماع المفترض علينا اتِّبَاعه فوجدناه لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما
أما أَن يكون اجماع كل عصر من أول الاسلام الى انْقِضَاء الْعَالم ومجيء يَوْم الْقِيَامَة أَو اجماع عصر دون عصر فَلم يجز ان يكون الاجماع الَّذِي افْترض الله علينا اتِّبَاعه اجماع كل عصر من أول الاسلام الى انْقِضَاء الْعَالم لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لم يلْزم احدا فِي النَّاس اتِّبَاع الاجماع لِأَنَّهُ ستأتي أعصار بعده بِلَا شكّ فالاجماع اذن لم يتم بعد وَكَانَ يكون أَمر الله
(1/18)
 
 
تَعَالَى بذلك بَاطِلا وَهَذَا كفر مِمَّن اجازه اذا علمه وعاند فِيهِ فَبَطل هَذَا الْوَجْه بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَلم يبْقى إِلَّا الْوَجْه الآخر وَهُوَ أَنه اجماع عصر دون سَائِر الْأَعْصَار فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك لنعلم أَي الْأَعْصَار هُوَ الَّذِي اجماع أَهله هُوَ الَّذِي أذن الله تَعَالَى فِي ابتاعه وان لَا يخرج عَنهُ فَوَجَدنَا القَوْل فِي ذَلِك لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا
أما أَن يكون ذَلِك الْعَصْر هُوَ عصر من الْأَعْصَار الَّتِي بعد عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَو يكون عصر الصَّحَابَة فَقَط أَو يكون عصر الصَّحَابَة وَأي عصر بعدهمْ أجمع أَهله أَيْضا على شَيْء فَهُوَ اجماع
فَنَظَرْنَا فِي القَوْل الأول فوجدناه فَاسِدا لوَجْهَيْنِ برهانيين كافيين أَحدهمَا أَنه مُحَمَّد على أَنه بَاطِل لم يقل بِهِ أحد قطّ وَالثَّانِي أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط بِيَقِين لبرهانين أَحدهمَا قَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح ان كل من لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ بصادق فِي دَعْوَاهُ وَالثَّانِي أَنه لَا يعجز مخالفه عَن أَن يدعى كدعواه فَيَقُول أَحدهمَا هُوَ الْعَصْر الثَّانِي وَيَقُول الآخر بل الثَّالِث وَيَقُول الثَّالِث بل الرَّابِع وَهَذَا تَخْلِيط الاخفاء بِهِ فَيسْقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله
فَنَظَرْنَا فِي هَذَا القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من قَالَ ان أهل الْعَصْر الَّذِي اجماعهم هُوَ الاجماع الَّذِي أَمر الله تَعَالَى باتباعه
(1/19)
 
 
هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط فوجدناه صَحِيحا لبرهانين أَحدهمَا أَنه اجماع لَا خلاف فِيهِ من أحد وَمَا اخْتلف قطّ مسلمان فِي أَن مَا أجمع عَلَيْهِ جمع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون خلاف من أحد مِنْهُم اجماعا متيقنا مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ فانه اجماع صَحِيح لَا يحل لأحد خِلَافه وَالثَّانِي أَنه قد صَحَّ أَن الدّين قد كمل بقوله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء وَصَحَّ أَنه كمل فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل واذا كَانَ هُوَ كَذَلِك فَمَا كَانَ من عِنْد الله تَعَالَى فَلَا سَبِيل الى مَعْرفَته إِلَّا من قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي من عِنْد الله والا فَمن نسب الى الله تَعَالَى أمرا لم يَأْتِ بِهِ عَن الله عهد فَهُوَ قَائِل على الله تَعَالَى مَالا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا مقرون بالشرك وَوَصِيَّة ابيلس قَالَ الله تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ}
فاذن قد صَحَّ أَنه لَا سَبِيل الى معرفَة مَا أَرَادَ الله تَعَالَى الا من قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يكون الدّين الا من عِنْد الله تَعَالَى فالصحابة رضى الله عَنْهُم هم الَّذين شاهدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسمعوه فاجمعهم على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ هُوَ الاجماع المفترض اتِّبَاعه لأَنهم نقلوه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى بِلَا شكّ
(1/20)
 
 
ثمَّ نَظرنَا فِي القَوْل الثَّالِث وَهُوَ ان اجماع الصَّحَابَة اجماع صَحِيح وَأَن اجماع أهل عصر مَا مِمَّن بعدهمْ اجماع ايضا وان لم يَصح فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اجماع فوجدناه بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا
أما أَن يجمع أهل ذَلِك الْعَصْر على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واما ان يجمعوا على مَا لم يَصح فِيهِ اجماع وَلَا اخْتِلَاف لَكِن اما على أَمر لم يحفظ فِيهِ عَن أحد من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قَول وَأما على أَمر حفظ فِيهِ عَن بَعضهم قَول وَلم يحفظ فِيهِ عَن ساشرهم شَيْء فان كَانَ اجماع أهل الْعَصْر الْمُتَأَخر عَنْهُم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فقد غنينا باجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَوَجَب فرض اتِّبَاعه على من بعدهمْ وَلَا يجوز أَن يزِيد اجماع الصحابه قُوَّة فِي ايجابة مُوَافقَة من بعدهمْ لَهُم كَمَا لاتقدح فِيهِ مُخَالفَة من بعدهمْ لَو خالفوهم بل من خالفهم وخرق الأجماع الْمُتَيَقن على علم مِنْهُ بِهِ فَهُوَ كَافِر اذا قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ بذلك وَتبين لَهُ الْأَمر وعاند الْحق وان كَانَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا صَحَّ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهَذَا بَاطِل وَلَا يجوز ان يجْتَمع اجماع وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر وَأَن يمنعوا من الاجتمهاد الَّذِي أداهم الى الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة اذا أدّى انسان بعدهمْ دَلِيل الى مَا أدّى اليه دَلِيل بعض الصَّحَابَة لِأَن الدّين لَا يحدث على مَا قُلْنَا قبل وَمَا كَانَ
(1/21)
 
 
مُبَاحا فِي وَقت مَا بعد موت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ مُبَاح ابدا وَمَا كَانَ حرَام فِي وَقت مَا فَلَا يجوز بعده أَن يحل أبدا قَالَ الله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ}
وبرهان آخر وَهُوَ أَن هَؤُلَاءِ أهل هَذَا الْعَصْر الْمُتَأَخِّرين وَمن وافقوه من الصَّحَابَة أَنما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِيَقِين اذا لم يدْخل فيهم من روى عَنهُ الْخلاف فِي ذَلِك من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واذ لَا شكّ فِي أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ فقد بَطل ان يكون اجماع لِأَن الاجماع انما هُوَ اجماع جمع الْمُؤمنِينَ لَا اجماع بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَإِذا اجْمَعْ بعض دون بعض فَهِيَ حَال تنَازع فَلم يَأْمر تَعَالَى فِيهَا بِاتِّبَاع بعض دون بعض لَكِن بِالرَّدِّ الى الله تَعَالَى وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيطل هَذَا القَوْل بِيَقِين لَا مرية فِيهِ وَللَّه الْحَمد
ثمَّ نَظرنَا فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا لم يحفظ فِيهِ اجماع وَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لَكِن اما على حكم حفظ فِيهِ قَول عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون بعض أَو لم يحفظ فِيهِ عَن أحد مِنْهُم من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم شَيْء فوجدناه لَا يَصح لبرهانين
أَحدهمَا أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ لَا كلهم وَلم يَقع قطّ على أهل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اسْم جَمِيع الْمُؤمنِينَ لأَنهم قد سلف قبلهم خِيَار الْمُؤمنِينَ فاذن أهل كل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم انما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِلَا شكّ وَعَلِيهِ فقد بَطل أَن يكون اجماعهم اجماع الْمُؤمنِينَ وَلم يُوجب الله
(1/22)
 
 
تَعَالَى علينا قطّ اتِّبَاع سَبِيل بعض الْمُؤمنِينَ وَلَا طَاعَة بعض أولى الْأَمر وَأما الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فانهم فِي عصرهم كَانُوا جَمِيع أولى الْأَمر اذ لم يتكن مَعَهم أحد غَيرهم فصح أَن اجماعهم هُوَ اجماع جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبَطل ذَلِك القَوْل جملَة اذ لَا يحل لأحد أَن يُوجب فِي الدّين مَا لم يُوجِبهُ الله تَعَالَى على لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَيْضًا فَأَنَّهُ لَا يجوز لأحد الْقطع على صِحَة اجماع اهل عصر مَا بعد الصابة رضى الله عَنْهُم على مَا لم يجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة بل يكون من قطع بذلك كَاذِبًا بِلَا شكّ لِأَن الْأَعْصَار بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم من التَّابِعين فَمن بعدهمْ لَا يُمكن ضبط أَقْوَال جَمِيعهم وَلَا حصرها أَنهم ملاوا الدُّنْيَا وَللَّه الْحَمد من أقْصَى السَّنَد وخراسان وأرمينية وأذربيجان والجزيرة وَالشَّام ومصر وافريقية والأندلس وبلاد البربر واليمن وجزيرة الْعَرَب وَالْعراق والأهواز وَفَارِس وكرمان ومكران وسجستان وأردبيل وَمَا بَين هَذِه الْبِلَاد
وَمن الْمُمْتَنع أَن يُحِيط أحد بقول كل انسان فِي هَذِه الْبِلَاد وانما يَصح الْقطع على اجماعهم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة ببرهان أوضح وَهُوَ أَن الْيَقِين قد صَحَّ على أَن كل من وَافق من كل هَؤُلَاءِ اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهُوَ مُؤمن وَمن خَالفه جَاهِلا باجماعهم فَهُوَ كَافِر فقد سقط بذلك عَن أَن يكون من جملَة الْمُؤمنِينَ الَّذين اجماعهم اجماع وَلَيْسَ هَذَا الحكم جَارِيا على من خَالف أهل عصر هُوَ مِنْهُم وانما صَحَّ الْقطع على اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لأَنهم كَانُوا عددا محصورا مُجْتَمعين فِي الْمَدِينَة وَمَكَّة مَقْطُوعًا على أَنهم مطيعون لرَسُول
(1/23)
 
 
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَن من اسْتحلَّ عصيانة عَلَيْهِ السَّلَام فَلَيْسَ مِنْهُم بل هُوَ خَارج عَن الايمان مبعد عَن الْمُؤمنِينَ
فصح بِيَقِين لَا مرية فِيهِ أَن الاجماع المفترض علينا اتباعة انما هُوَ اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط وَلَا يجوز ان يجمع اهل عصر بعدهمْ على خطأ لِأَن الله تَعَالَى قد ضمن ذَلِك لنا بقوله تَعَالَى {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك} وَالرَّحْمَة انما هِيَ للمحسنين بِنَصّ الْقُرْآن فاذا كَانَ قطع على انه لم يكن خلاف فَهُوَ اجماع على حق يُوجب الرَّحْمَة وَلَا بُد واذا لم يكن قطع تَامّ باجماع على غير مَا يُوجب الرَّحْمَة بِنَصّ الْقُرْآن مَعَ مَا حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف ثَنَا أَحْمد بن فتح ثَنَا عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد ثَنَا أَحْمد بن عَليّ ثَنَا مُسلم بن الْحجَّاج ثَنَا سعيد بن مَنْصُور وَأَبُو الرّبيع الْعَتكِي وقتيبة قَالُوا ثَنَا حَمَّاد هُوَ ابْن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة عَن أبي أَسمَاء الرَّحبِي عَن ثَوْبَان قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يأتى أَمر الله وَزَاد الْعَتكِي وَسَعِيد فِي روايتهما وهم كَذَلِك
وَأخْبرنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْهَمدَانِي ثَنَا أَبُو اسحق الْبَلْخِي ثَنَا الْفربرِي ثَنَا البُخَارِيّ ثَنَا الْحميدِي ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم ثَنَا ابْن جَابر هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر قَالَ حَدثنِي عُمَيْر ابْن هاني أَنه سمع مُعَاوِيَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي أمة قَائِمَة بِأَمْر
(1/24)
 
 
الله مَا يضرهم من كذبهمْ وَلَا من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم على ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى وَبِمَا ذكرنَا آنِفا فِي ابطال الْقسم الثَّالِث بَطل قَول من قَالَ أَن مَا صَحَّ عَن طَائِفَة من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَلم يعرف عَن غَيرهم انكار لذَلِك فانه مِنْهُم اجماع لِأَن هَذَا انما هُوَ قَول بعض الْمُؤمنِينَ كَمَا ذكرنَا وَأَيْضًا فان من قطع على غير ذَلِك الْقَائِل بِأَنَّهُ مُوَافق لذَلِك الْقَائِل فقد قفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا اجرام قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} فليتق الله تَعَالَى كل امريء على نَفسه وليفكر فِي أَن الله تَعَالَى سَائل سَمعه وبصره وفؤاده عَمَّا قَالَه مِمَّا لَا يَقِين عِنْده بِهِ وَمن قطع على انسان بِأَمْر لم يوقفه عَلَيْهِ فقد وَاقع الْمَحْذُور وَحصل لَهُ الاثم فِي ذَلِك فان قيل هم أهل الْفضل والسبق فَلَو انكروا شَيْئا لما ستكتوا عَنهُ قُلْنَا وَبِاللَّهِ تالى التَّوْفِيق
هَذَا لَو صَحَّ لَك انهم كلهم علموه وسكتوا عَلَيْهِ وعذا مَا لَا سَبِيل الى وجوده فِي قَول قَائِل مِنْهُم أبدا لِأَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم تفَرقُوا فِي بِلَاد الْيمن وَمَكَّة والكوفة وَالْبَصْرَة والرقة وَالشَّام ومصر والبحرين وَغَيرهَا فصح ان من ادّعى فِي قَول روى عَن بعض الصَّحَابَة أما من الْخُلَفَاء أَو من غَيرهم ان جَمِيعهم عرفه فقد افترى على جَمِيعهم بِلَا شكّ وانما يقطع على اجامعهم فِيمَا يرى أَنهم عرفوه كالصوات الْخمس وَصِيَام شهر رَمَضَان والتحج الى الْكَعْبَة
(1/25)
 
 
وَتَحْرِيم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَالْخمر وَسَائِر مَا لَا شكّ فِي أَنهم عرفوه وَقَالَهُ بِهِ بِيَقِين لاشك فِيهِ هَذَا على أَن الْفتيا لم ترو إِلَّا عَن مائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثِينَ مِنْهُم فَقَط وهم أُرِيد من عشْرين ألفا فَبَطل مَا ظَنّه أهل هَذَا القَوْل بِلَا تَحْصِيل
واما الحنفيون والكاليون والشافعيون المحتجون بِهَذَا اذا وَافق تقليدهم فهم أَشد خلق الله تَعَالَى خلافًا لطائقة من الصَّحَابَة لَا يعرف لَهُم مِنْهُم مُخَالف كخلافهم مَا صَحَّ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس من ايجاب الْغسْل لكل صَلَاة أَو صَلَاتَيْنِ مجموعتين على الْمُسْتَحَاضَة وَعَن عَائِشَة أَن من يغْتَسل فِي كل يَوْم عِنْد صَلَاة الظّهْر وَلَا مُخَالف لَهُم يعرف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَغير ذَلِك كثير يبلغ مِائَتَيْنِ من الْمسَائِل قد جمعناها وَللَّه الْحَمد فِي كتاب
نعم وخالفوا الاجماع الصَّحِيح الْمُتَيَقن كخلافهم جَمِيع الصَّحَابَة أَوَّلهمْ عَن آخِرهم فِي اجازتهم مُسَاقَاة أهل خَيْبَر الى غير أجل قائلين لَهُم وَلَكنَّا نخرجكم اذا شِئْنَا طول خلَافَة ابي بكر وَعمر وَلَا مخالفهم لَهُم أصلا وَغير ذَلِك كثير قد تقصيناه عَلَيْهِم أَيْضا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَأما من قَالَ ان الاجماع اجماع أل الْمَدِينَة لفضلها وَلِأَن اهلها شهدُوا نزُول الْوَحْي فَقَوْل خطأ من وُجُوه أَحدهمَا أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَالثَّانِي ان فضل الْمَدِينَة بَاقٍ بِحَسبِهِ وَالْغَالِب على أَهلهَا الْيَوْم الْفسق بل الْكفْر من غَالِيَة الروافض فَنَقُول وانا لله وانا اليه رَاجِعُون على ذَلِك وَالثَّالِث ان الَّذين شهدُوا الْوَحْي انما هم الصَّحَابَة رضى
(1/26)
 
 
الله عَنْهُم لَا من جَاءَ بعدهمْ من أهل الْمَدِينَة وَعَن الصَّحَابَة أَخذ التابعون من أهل كل مصر وَالرَّابِع أَن كل خلاف وجد فِي الْأمة فَهُوَ مَوْجُود فِي الْمَدِينَة على مَا قد سلف فِي كتبنَا وَالْحَمْد لله تَعَالَى كثيرا وَالْخَامِس ان الْخُلَفَاء الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ لَا يَخْلُو حَالهم من اُحْدُ وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أما أَن يَكُونُوا قد بينوا لأهل الامصار من رعيتهم حكم الدّين أَو لم يبينوا فان كَانُوا قد بينوا لَهُم الدّين فقد اسْتَوَى اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي ذَلِك وان كَانُوا لم يبينوا لَهُم فَهَذِهِ صفة سوء قد اعاذهم الله تَعَالَى مِنْهَا فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ بِيَقِين وَالسَّادِس أَنه انما قَالَ ذَلِك قوم من الْمُتَأَخِّرين ليتوصلوا بذلك الى تَقْلِيد مَالك بن أنس دون عُلَمَاء الْمَدِينَة جَمِيعًا وَلَا سَبِيل لَهُم الى مَسْأَلَة وَاحِدَة أجمع عَلَيْهَا جَمِيع فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة المعروفون من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خالفهم فِيهَا سَائِر الامصار وَالسَّابِع انهم قد خالفوا اجماع اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي الْمُسَاقَاة كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي غير ذَلِك
فصل
واذا اخْتلف النَّاس على قَوْلَيْنِ فَصَاعِدا وَصَحَّ النَّص شَاهدا لأَحَدهمَا فَهُوَ الْحق واجماعهم فِي تِلْكَ المسئله هُوَ الْحجَّة اللَّازِمَة لِأَنَّهُ اجماع أهل الْحق واجماع اهل الْحق حق
فصل فِي نَوْعَيْنِ من الاجماع
غذا اجْتمعت الامة على اباحة شَيْء اَوْ تَحْرِيمه اَوْ ايجابه ثمَّ
(1/27)
 
 
ادّعى بَعضهم ان ذلتك الحكم تقد انْتقل لم يلْتَفت الى قَوْله تإلا بِنَصّ وَألا فَقَوله بَاطِل لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا اجماع مَعهَا وَلَا نَص من كتاب وَلَا سنة فَهِيَ سَاقِطَة لقَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} قصح ان من لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ صَادِقا أعنى فِي ذَلِك
وَأما اذا جَاءَ نَص بِحكم مَا ثمَّ خص الاجماع بعضه فَوَاجِب الانقياد للأجماع فان ادّعى مُدع ان ذَلِك التَّخْصِيص متماد وَخَالفهُ غَيره فاواجب قطع ذَلِك التَّخْصِيص وَالرُّجُوع الى النَّص اذ هُوَ الْبُرْهَان
برهَان ذَلِك ان دَعْوَى التَّخْصِيص هَاهُنَا عَارِية من الاجماع وَمُخَالفَة للنَّص فَهِيَ بَاطِلَة
فَالْأول نُسَمِّيه اسْتِصْحَاب الْحَال كَقَوْلِنَا فِيمَا ادَّعَاهُ قوم من فسخ النِّكَاح بالعنة وابالعيب قد صَحَّ النِّكَاح باجماع فَلَا يَزُول الا بِنَصّ اَوْ اجماع
وَالثَّانِي نُسَمِّيه أقل مَا قيل مثل ان النَّص ورد تَحْرِيم الْأَقْوَال ثمَّ جَاءَ اجماع باباحة شَيْء مِنْهَا فَلَا نُبيح مَا قَالَه قَائِل فِي ذَلِك بِزِيَادَة على مَا اباحه الاجماع فَهَذَا حكم الاجماع وَبَينه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل فِي الْكَلَام فِي حكم الِاخْتِلَاف
وَأما اذا لم يَصح اجماع فقد وَجب وُقُوع التَّنَازُع وَالِاخْتِلَاف لما ذَكرْنَاهُ من قَول الله تَعَالَى {وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} الْآيَة وَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك}
(1/28)
 
 
وَلما وصفناه من أَنه اذا لم يكن اجماع فَلَا بُد من الْخلاف ضَرُورَة لِأَنَّهُمَا متنافيان اذا ارْتَفع احدهما وَقع الآخر وَلَا بُد واذا كَانَ كَذَلِك فالمرجوع اليه هُوَ مَا افْترض الله تَعَالَى علينا الرُّجُوع اليه من الْقُرْآن وَالسّنة بقوله عز وَجل {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ عز وَجل عَن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فصح ان كَلَامه كُله عَلَيْهِ السَّلَام عَن وَحي من الله تَعَالَى اذا كَانَ فِيمَا تعبدنا بِهِ خالقنا تَعَالَى لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام {أَنا أعلم بِأَمْر دينكُمْ} الحَدِيث وَقَالَ تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فصح أَنه لَا يحل التحاكم عِنْد الِاخْتِلَاف الا الى الْقُرْآن وَالسّنة
فصل فِي النَّقْل الْمُتَوَاتر
فَأَما الْقُرْآن فمنقول نقل الكواف والتواتر وَأما السّنة فَمِنْهَا مَا جَاءَ متواترا وَمِنْهَا خبر الْآحَاد الْعدْل عَن مثله وَقد يَقع فِيهِ الْعدْل عَن العدلين وَعَن الثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة عَن الْوَاحِد وَهَذَا كثير وَهُوَ صَحِيح مُسلم مَوْجُود حَيْثُ طلب
فَأَما مَا نقل نقل الكواف فَلَا يخْتَلف اثْنَان من الْمُسلمين فِي وجوب الطَّاعَة لَهُ وان كَانَ بَعضهم قد خَالف فِي تَفْصِيل ذَلِك فنقلوا قَوْلهم وأخطأوا بِيَقِين
فصل فِي خبر الْوَاحِد وأنواعه
فَأَما مَا نَقله واححد عَن وَاحِد فينقسم أقساما ثَلَاثَة
(1/29)
 
 
احدها مَا نَقله الثِّقَة عَن الثِّقَة حَتَّى يبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْه مَا ينْقل كَذَلِك وَفِيهِمْ رجل مَجْرُوح أَو سيء الْحِفْظ أَو مَجْهُول وَمِنْه مَا نقل كَذَلِك وَالْقطع فِي طَرِيقه مثل ان يبلغ الى التَّابِع ثمَّ يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَذَا هُوَ الْمُرْسل وَأَن يَقُول تَابع أَو من دونه قَالَ فلَان الصاحب عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذَلِكَ الْقَائِل لم يدْرك ذَلِك الصاحب فَهَذَا هُوَ الْمُنْقَطع
فَنَظَرْنَا فِي هَذِه الْوُجُوه فَوَجَدنَا قوما يَقُولُونَ انها كلهَا سَوَاء وانها كلهَا يجب الْآخِذ بهَا وَهَذَا قَول جُمْهُور الحنفيين والمالكيين وَهَذَا خطأ لِأَن الْمُرْسل والمنقطع لَا يدْرِي من رَوَاهُ واذا لم يعرف من رَوَاهُ أثقه هُوَ أم غير ثقه فَلَا يحل الحكم فِي الدّين بِنَقْل مَجْهُول لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا كَيفَ ححاله فِي حمله للْحَدِيث
فقد يكون ثِقَة صَالحا وَيرد حَدِيثه اذا كَانَ مغفلا غير شابط وَلَا مُسْتَقِيم الحَدِيث سِيمَا اذا كَانَ كَاذِبًا اَوْ دَاعيا الى بِدعَة وكل هَذَا لَا يُؤمن فِي الْمَجْهُول الَّذِي يحْتَج بِهِ فِي الْمُرْسل وَقد أمرنَا تَعَالَى بترك مَا لم نعلم قَالَ تَعَالَى {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فَمن اخذ مَا اخبر بِهِ عَمَّن لَا يدْرِي من هُوَ فقد قَالَ عَليّ الله وعَلى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَا علم بِهِ وَهَذَا لَا يحل وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَجْهُول الْحَال
(1/30)
 
 
وَأما مَا رَوَاهُ الْمَجْرُوح فالمجروح فَاسق وَقد قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} وَمن حكم بِرِوَايَة مَجْهُول من مُرْسل اَوْ مَوْقُوف أَو مَجْهُول الْحَال فقد أصَاب قوما بِجَهَالَة وان لم يتثبت فليصبح على مَا فعل من النادمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى وَمن صَحَّ عَنهُ أَنه يُدَلس الْمُنْكَرَات على الضُّعَفَاء الى الثِّقَات فَهُوَ اما مَجْرُوح واما حكمه حكم الْمُرْسل فَلَا يجوز قبُول رِوَايَته وَلقَائِل ان يَقُول انه ادون حَالا من صَاحب الْمُرْسل لِأَنَّهُ قد يُرْسِلهُ عَن ثقه وَقد يُرْسِلهُ عَن غير ثِقَة فأخذنا بالآحوط فِي الْكَشْف عَن حَال الْمُرْسل عَنهُ وَلَيْسَ المدلس للمنكرات كَذَلِك فَهُوَ أَحَق بِالرَّدِّ مِنْهُ
وبالجمله فَلَا يحل أَن نخبر عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا بِمَا أَمر الله تَعَالَى ان يخبر عَنهُ بِهِ وَلم يَأْتِ نَص قُرْآن وَلَا سنة صَحِيحه وَلَا اجماع على وجوب قبُول خبر مُرْسل وَلَا مُنْقَطع وَلَا رِوَايَة فَاسق وَلَا مَجْهُول الْحَال عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يبْق الا مارواه القثة مبلغا الى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَظَرْنَا فِي هَذَا فوجنا برهانين يُوجب الله تَعَالَى بهما قبُوله وَلَا بُد
أَحدهمَا قَول الله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فأسقط الله عز وَجل عَن جَمِيع الْمُؤمنِينَ أَن يتفرقوا للتفقه فِي الدّين وانذار قَومهمْ بِمَا تفقهوا فِيهِ والطائفة فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى
(1/31)
 
 
مخبرا عَنهُ {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} هِيَ بعض الشَّيْء وَلم يخص قطّ بِلَفْظ الطَّائِفَة عددا دون عدد بل هِيَ لَفظه تقع على الْوَاحِد وعَلى أَكثر من الْوَاحِد الى مَا يُمكن وجوده وَلَو آلَاف آلَاف اذا كَانُوا مصافين الى غَيرهم
وبيقين نَدْرِي أَن الله تَعَالَى لَو أَرَادَ تَخْصِيص عدد دون عدد لبينه واذ لم يبين عز وَجل ذَلِك بِيَقِين نَدْرِي أَنه أَرَادَ الْوَاحِد فَصَاعِدا اذ محَال ان ينفرنا تَعَالَى ويلبس علينا قَالَ تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} فصح قبُول نذاره الْوَاحِد الثِّقَة النافر للثقة فِي الدّين والآخذ بنذارته لحذر مَا يخَاف من عِقَاب الله تَعَالَى فِي الْمعْصِيَة وَقبُول النذارة لَيْسَ الا رِوَايَة مَا يحمل النَّاذِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ إِلَّا فَاسق اَوْ عدل فَسقط قبُول الْفَاسِق بقوله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} فَلم يبْق الا الْعدْل فصح يَقِينا وجوب قبُول نذارته وَقبُول قَوْله فِيمَا روى لنا مِمَّا تفقه فِيهِ وبلغه الين عَن رَسُول عَن لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مبلغا ثِقَة عَن ثِقَة اَوْ ثِقَة عَن اكثر من وَاحِد اَوْ اكثر من وَاحِد عَن ثِقَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
والبرهان الثَّانِي هُوَ اجماع جَمِيع الامم مؤمنها وكافرها على ان رَسُول الله (صل) بعث رسله الى الْقَبَائِل والملوك داعين الى الله عز وَجل وَبعث الى كل جِهَة أَمِير يعلمهُمْ دينهم وَينفذ عَلَيْهِم احكام الله تَعَالَى فِي التَّعْلِيم لَهُم تَعْلِيم الصَّلَاة واحكامها وَالصَّوْم واحكامه وَالزَّكَاة واحكامها وَالْحج واحكامه وَالْجهَاد واحكامه والأقضية
(1/32)
 
 
فِي خصوماتهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوعهم وَمَا يحل من ذَلِك وَمَا يحرم وَمَا يلْزم وَمَا يحل وَيحرم من المآكل والمشارب والملابس هَذَا مَالا خلاف فِيهِ فاذا قد الزمهم عَلَيْهِ السَّلَام طَاعَة اولئك الْأُمَرَاء وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام حَيّ غَائِب عَنْهُم فقد صَحَّ ان ذَلِك يكون بَاقِيا الى يَوْم الْقِيَامَة
وَبعد مَوته عَلَيْهِ السَّلَام بِيَقِين شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ تخبر عدل لَازم وَلَا فرق فان اعْترض معترض بِحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصدقهُ حَتَّى سَأَلَ النَّاس فَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن ذَا الْيَدَيْنِ انما أخبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَبَر عَن فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا عَن غَيره وأعلمه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام وهم وَلم يقدر عَلَيْهِ وَالسَّلَام انه وهم وامكن ان يكون ذَا الْيَدَيْنِ وهم فَلهَذَا تثبت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا لما عدا ذَلِك والا فَلَا خلاف فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْتِيهِ الْوَاحِد عَن قومه فيصقه وَيعْمل بِخَبَرِهِ وَيبْعَث مَعَه المخاطبة والوالي وَنَحْو ذَلِك وانه كَانَ يبْعَث الْمُصدق وَحده اَوْ اثْنَيْنِ فَيقوم الْحجَّة بذلك على من أَتَاهُ الْمُصدق وَيلْزمهُ اداء صدقته اليه وَهَكَذَا فِي كل شَيْء من الدّين
فان قيل الرَّسُول والأمراء كَانَت تَأتي مَعَهم وقبلهم وبعدهم بخبرهم قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
لَا شكّ فِي أَن الرفاق لم تأت بِجَمِيعِ الآحكام الَّتِي يُخْبِرهُمْ بهَا الْأُمَرَاء وَالرسل فَبَطل هَذَا الِاعْتِرَاض بِيَقِين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل الْعدْل السيء الْحِفْظ لَا يجوز ان تقبل رِوَايَته
لِأَن الله تَعَالَى أمرنَا بِقبُول نذارة من تفقه فِيمَا سمع وَمن سَاءَ حفظَة لم يتفقه فِيمَا سمع اذ التفقه انما هُوَ الْفَهم والتدبر فِيمَا حمله من الْآمِر الشَّرْعِيّ على صرافته حَسْبَمَا حمله اذ من الْمحَال ان يكون من سَاءَ حفظَة وَلم يتَيَقَّن مَا حمله تفقه
(1/33)
 
 
فِيمَا لم يتَيَقَّن مِمَّا لم يضبطه وَالْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْأمة فِي كل مَا ذكرنَا سَوَاء لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {طَائِفَة} وَقد صَحَّ الأجماع على أَن النِّسَاء وَالْعَبِيد والاماء يلْزمهُم الدّين كَمَا يلْزم الآحرار وَالرِّجَال وَلَا فرق وان اخْتلفت الْأَحْكَام فِي بعض ذَلِك بِدَلِيل لَا بِغَيْر دَلِيل
فصل
فاذا جَاءَ خبر الرَّاوِي الثِّقَة عَن مثله مُسْندًا الى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ على أَنه حق عِنْد الله عز وَجل مُوجب صِحَة الحكم بِهِ اذا كَانَ جَمِيع رُوَاته مُتَّفقا على عدالتهم أَو مِمَّن ثبتَتْ عدالتهم وان اعْترض معترض فِي بَعضهم مِمَّن لم يَصح اعتراضه أَو اعْترض بِمَا لَا يَصح الِاعْتِرَاض بِهِ برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَقد صَحَّ بِيَقِين افتراض الله علينا قبُول مَا رَوَاهُ لنا الثِّقَات وَمن الْبَاطِل الْمُتَيَقن مَعَ حفظ الله تَعَالَى الدّين ان يلْزمنَا قبُول شَرِيعَة باطله لم يَأْمر الله تَعَالَى هُوَ بهَا قطّ
هَذَا امْر قد أمناه بِضَمَان الله تَعَالَى ذَلِك لنا وَهَذَا بِخِلَاف شَهَادَة اشهود لِأَن الله تَعَالَى لم يضمن لنا قطّ ان الشُّهُود لَا يشْهدُونَ غلا الْحق بل قد بَين لنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انهم قد يشْهدُونَ بباطل اذ يَقُول عَلَيْهِ السَّلَام فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه بِشَيْء فَلَا يَأْخُذهُ فانما اقْطَعْ لَهُ قِطْعَة من النَّار وَمن الْمَعْلُوم ان كل من حَاكم اليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن بخصام اثْنَيْنِ فَقَط احدهما الحن بحجته من الآخر ابدا وانما يكون الحكم مرّة بِشَهَادَة من توجب الْحق شَهَادَته وَمرَّة يتَعَيَّن الحكم بِفضل لحن خطاب احدهما على الآخر
(1/34)
 
 
وَنحن على يَقِين من أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحكم الا بِحَق عِنْد الله تَعَالَى فصح أننا مأمورون بانفاذ مَا شهد بِهِ الشُّهُود الْعُدُول عندنَا وان كَانَ بَاطِلا فِي بَاطِنه وان نقْتل بذلك من لَا يحل لنا قَتله لَو علمنَا كذبهمْ أَو اغفالهم وَأَن نحكم كَذَلِك بِالْمَالِ الْمحرم أَخذه على الَّذِي يعلم بَاطِن الْقَضِيَّة وَكَذَلِكَ فِي الْفروج وَلَا فرق ومحرم عَلَيْهِم استحلال شَيْء من ذَلِك وَهَذَا مَوْجُود فِي الدّيانَة كَمَا ندفع المَال فِي فدَاء الْأَسير من كَافِر أَو ظَالِم لقد فرض علينا دفع المَال ان لم نقدر على استنقاذه الا بِهِ وَحرَام على الَّذِي يعطاه أَخذه وَلَيْسَ هَكَذَا قبُول الشَّرَائِع لِأَنَّهَا ذكر مَضْمُون حفظه من الله تَعَالَى
هَكَذَا نقطع بِأَن كل حَدِيث لم يَأْتِ قطّ إِلَّا مُرْسلا اَوْ لم يروه الا مَجْهُول لَا يعرف حَاله أحد من أهل الْعلم أَو مجرح مُتَّفق على جرحته أَو ثَابت الجرحه فانه خبر بَاطِل لم يقلهُ قطّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا حكم بِهِ لِأَن من الْمُمْتَنع ان يجوز أَن لَا ترد شَرِيعَة ححق الا من هَذِه الطَّرِيق مَعَ ضَمَان الله تَعَالَى حفظ الذّكر النَّازِل من عِنْده الَّذِي اوحاه الى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَ ضَمَانه تَعَالَى انه لم يضع من الدّين شَيْء اصلا وَلَا يضيع ابدا وَلَا بُد أَن يكون مَعَ كل عصر من الْعلمَاء من يضْبط مَا خفى عَن غَيره مِنْهُم ويضبط غَيره ايضا مَا خفى عَنهُ فَيبقى الدّين مَحْفُوظًا ال يَوْم الْقِيَامَة وَلَا بُد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَأما مَا كَانَ عندنَا عدلا فِي ظَاهر أمره وَكَانَ عِنْد غَيرنَا قد صحت جرحته فَهَذَا الَّذِي خَالَفنَا فِيهِ يكون محقا عِنْد الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ من جهلة انسان وَعرف عَدَالَته آخر فَالَّذِي عِنْده يَقِين عَدَالَته هوالمحق عِنْد الله تَعَالَى وانما يَنْبَغِي أَن
(1/35)
 
 
لَا يلبس الله تَعَالَى الْحق على خلقه وَلَا شَيْئا من دينه على جَمِيع خلقه اذ لَا يُوقن اُحْدُ مَكَان الْحق الْمُتَيَقن فِيهِ من الْبَاطِل وَهَذَا مَا لَا سَبِيل اليه الا بِضَمَان الله تَعَالَى حفظ الدّين ولشهادته تَعَالَى بِكَمَالِهِ وَأَنه قد أتم النِّعْمَة علينا فِيهِ ورضيه لنا دينا قَالَ جلّ ذكره {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا}
فصل
وَمن ادّعى فِي خبر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد تصح بِنَقْل الثِّقَات أَنه خطأ لم يصدق غلا ببرهان وَاضح من ثِقَة يشْهد انه حضر ذَلِك الرَّاوِي وَقد سَهَا فحرفه أَو أَن يقر الرَّاوِي على نَفسه بِأَنَّهُ أَخطَأ فِيهِ فَقَط وَكَذَلِكَ من ادّعى فِي خبر صَحِيح اَوْ فِي آيَة من الْقُرْآن أَنَّهَا منسوخه أَو مخصوصه فَقَوله بَاطِل الا أَن يَأْتِي بِنَصّ آخر شَاهد على ذَلِك أَو باجماع مُتَيَقن على مَا ادّعى والا فَهُوَ مُبْطل لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} فَمن قَالَ فِي آيَة أَو خبر صَحِيح انهما منسوخان اَوْ انهما ليسَا عى ل عمومهما وَلَا على ظاهرهما فقد قَالَ لنا لَا تطيعوا هَذِه الْآيَة وَلَا هَذَا الْخَبَر فَقَوله مَرْدُود وَقَول الله أَحَق وأصدق وَلَو أَرَادَ الله تَعَالَى مَا قَالَ لبينه بِعَين دَعْوَى هَذَا الْمُدَّعِي قَالَ تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم}
فصل
وَلَا يحل لأحد أَن يحِيل آيَة عَن ظَاهرهَا وَلَا خَبرا عَن
(1/36)
 
 
ظَاهِرَة لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَقَالَ تَعَالَى ذاما لقوم {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَمن حَال نصا عَن ظَاهره فِي اللُّغَة بِغَيْر برهَان من آخر اَوْ اجماع فقد ادّعى ان النَّص لَا بَيَان فِيهِ وَقد حرف كَلَام الله تَعَالَى ووحيه الى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن مَوْضِعه وَهَذَا عَظِيم جدا مَعَ أَنه لَو سلم من هَذِه الْكَبَائِر لَكَانَ مُدعيًا بِلَا دَلِيل
وَلَا يحل أَن يحرف كَلَام اُحْدُ من النَّاس فَكيف كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي هُوَ وَحي من الله تَعَالَى وَمن شغب فِي هَذَا بقول قَائِل من الْعلمَاء فَلَيْسَ قَول اُحْدُ دون قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذب هُوَ وَحي من الله تَعَالَى وَمن شغب فِي هَذَا القَوْل قَائِل من الْعلمَاء فَلَيْسَ قَول أحد دون قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة وَقد أوضحنا أَن من شغب بِهَذَا من هَؤُلَاءِ فانهم أترك خلق الله تَعَالَى لقَوْل الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فضلا عَن غَيرهم وان أَصْحَاب الظَّاهِر من أهل الحَدِيث رضى الله عَنْهُم أَشد اتبَاعا وموافقة للصحابة رضوَان الله عَلَيْهِم مِنْهُم وينا ذَلِك مسئلة مَسْأَلَة فِي كتَابنَا الموسوم بالايصال الى فهم كتَابنَا الموسوم بالخصال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فَالْوَاجِب ان لَا يُحَال نَص عَن ظَاهره الا بِنَصّ آخر صَحِيح مخبر انه على غير ظَاهره فتنبع فِي ذَلِك بَيَان الله تَعَالَى وَبَيَان رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا بَين عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله تَعَالَى {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} أَنه مُرَاده تَعَالَى بِهِ الْكفْر كَمَا قَالَ عز وَجل {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} أَو باجماع مُتَيَقن كاجماع الْأمة على أَن قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(1/37)
 
 
انه لم يرد بذلك العبيد وَلَا بنى الْبَنَات مَعَ وجود عاصب وَنَحْو هَذَا كثير أَو ضَرُورَة مَانِعَة من حمل ذَلِك على ظَاهره كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ} فبيقين الضَّرُورَة والمشاهدة نَدْرِي ان جَمِيع النَّاس لم يَقُولُوا أَن النَّاس قد حمعوا لكم
وبرهان مَا قُلْنَا من حمل الْأَلْفَاظ على مفهومها من ظَاهرهَا قَول الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فصح ان الْبَيَان لنا انما هُوَ حمل لفظ الْقُرْآن وَالسّنة على ظاهرهما وموضوعهما فَمن أَرَادَ صرف شَيْء من ذَلِك الى تَأْوِيل بِلَا نَص وَلَا اجماع فقد افترى على الله تَعَالَى وعَلى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَالف الْقُرْآن وَحصل فِي الدعاوي وحرف الْكَلم عَن موَاضعه
وَأَيْضًا فَيُقَال لمن أَرَادَ صرف الْكَلَام عَن ظَاهره بِلَا برهَان ان هَذَا سَبَب الى السفسطة وابطال الْحَقَائِق كلهَا لِأَنَّهُ كلما قلت أَنْت وَغَيْرك كلَاما قيل لَك لَيْسَ هَذَا على ظَاهره بل لَك غَرَض آخر وَكلما أكدت قيل لَك لَيْسَ هَذَا ايضا على ظَاهره وَلم تنفك مِمَّن يَقُول لَك لَعَلَّ ابطالك للظَّاهِر لَيْسَ على ظَاهِرَة وَهَذَا كَمَا ترى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
فصل
فاذا وَقعت اللَّفْظَة فِي اللُّغَة على مَعْنيين فَصَاعِدا وقوعا مستويا لم يجز أَن يقْتَصر بهَا على احدهما بِلَا نَص وَلَا اجماع
(1/38)
 
 
لَكِن يحمل على كل مَا يَقع عَلَيْهِ فِي اللُّغَة وَلَا بُد لما ذكرنَا من ذمّ من حرف كَلَام الله عَن موَاضعه واذا جَاءَ فِي الْقُرْآن لفظ عَرَبِيّ مَنْقُول عَن مَوْضِعه فِي اللُّغَة الى معنى آخر كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج فان هَذِه الفاظ لغوية نقلت الى مَعَاني شَرْعِيَّة لم تكن الْعَرَب تعرفها قبل ذَلِك فَهَذَا لَيْسَ مجَازًا بل هِيَ تَسْمِيَة صَحِيحَة لِأَن الله تَعَالَى خَالق اللُّغَات تعبدنا بِأَن نسمى هَذِه الْمعَانِي بِهَذِهِ الْأَسْمَاء وَأما يتعبدنا الله تَعَالَى بِتَسْمِيَة ذَلِك الْمَعْنى فَهَذَا هُوَ الْمجَاز مثل قَول الله تَعَالَى {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} وَمَا أشبه ذَلِك
فصل
وَلَا يحل أَن يُقَال فِي آيَة أَو خبر صَحِيح هَذَا مَنْسُوخ لما ذكرنَا من أَن قَائِل ذَلِك مسْقط لطاعة ذَلِك النَّص إِلَّا بِنَصّ آخر يبين أَن هَذَا مَنْسُوخ أَو اجماع مُتَيَقن على نسخه وَألا فَلَا يقدر أحد على اسْتِعْمَال النَّص وَأما مَا دَامَ يمكننا جمع النُّصُوص من الْقُرْآن وَالسّنة فَلَا يجوز تَركهمَا وَلَا ترك أَحدهمَا لِأَن كليهمَا سَوَاء فِي وجوب الطَّاعَة وَلَيْسَ بَعْضهَا فِي وجوب الطَّاعَة أولى من بعض قَالَ تَعَالَى {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} فَالْوَاجِب حِينَئِذٍ أَن يسْتَثْنى الْأَقَل من الْأَكْثَر اذ لَا يُوصل الى استعمالهما جَمِيعًا الا بذلك فان عجزنا عَن ذَلِك فَلَا يجوز التحكم فِي جَمعهمَا الا بِغَيْر مَا ذكرنَا لِأَنَّهُ تحكم بِلَا برهَان مثل أَن يَقُول قَائِل اسْتعْمل هَذَا النَّص فِي وَجه
(1/39)
 
 
كَذَا وَهَذَا النَّص فِي وَجه كَذَا فَهَذَا لَا يحل لَهُ لِأَنَّهُ شرع فِي الدّين لم يَأْذَن الله تَعَالَى بِهِ
وَلَا يجوز ان نخبر عَن مُرَاد الله عز وَجل وَلَا عَن مُرَاد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِغَيْر خبر وَارِد عَن الله تَعَالَى بذلك أَو عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمن هَذَا مَا قد صَحَّ من نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن اسْتِقْبَال القبله واستدبارها لبول اَوْ غَائِط من طَرِيق أبي أَيُّوب الآنصاري وَغَيره
وَعَن أبي عمر انه رأى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس مستدبر الْكَعْبَة لِحَاجَتِهِ فَقَالَ قوم يسْتَعْمل النَّهْي فِي الصَّحَارِي وَيسْتَعْمل الأباحة فِي الْبُنيان وَهَذَا خطأ لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يقل قطّ أَنِّي أبحث هَذَا فِي الْبناء وحظرته فِي الصَّحَارِي وَلَا فرق بَين قَول هَؤُلَاءِ وَبَين من قَالَ لَا أُبِيح ذَلِك إِلَّا بِالْمَدِينَةِ اذا كَانَ على لبنتين والا فَلَا
وكل هَذَا لَا يحل القَوْل بِهِ لِأَنَّهُ شرع فِي الدّين لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى وَمثل هَذَا فَالْوَاجِب فِيهِ الْأَخْذ فِيهِ بِالزَّائِدِ على مَعْهُود الأَصْل وَلَا بُد
برهَان هَذَا أننا نعلم اذا ورد نصان فِي أَحدهمَا اسقاط فرض وَفِي الآخر ايجابه بِعَيْنِه أَو فِي أَحدهمَا اباحة شَيْء وَفِي الآخر تَحْرِيم ذَلِك الشَّيْء فبيقين نَدْرِي أَن الْمُسلمين قد كَانُوا بُرْهَة مَعَ نَبِيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يلْزمهُم ذَلِك
(1/40)
 
 
الْفَرْض وَلَا حرم عَلَيْهِم ذَلِك الشَّيْء ثمَّ بِيَقِين نَدْرِي أَنه حِين نطق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بايجاب ذَلِك الشَّيْء أَو بِتَحْرِيم مَا حرم فقد نسخت الْحَالة الأولى وَارْتَفَعت بِشَيْء هُوَ يَقِين لَا شكّ فِيهِ وَمن الْبَاطِل ترك مَا يتَيَقَّن أَنه مَنْسُوخ وَهَذَا لَو جَازَ لجَاز أَن تعود الْحَالة الأولى الَّتِي قد تَيَقّن نسخهَا وَتبطل الْحَالة الثَّانِيَة الَّتِي قد تَيَقّن أَنَّهَا ناسخة فَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ مَا فَعَلُوهُ تركا لليقين وَحكما بالظنون وَالله تَعَالَى قد أنكر هَذَا فَقَالَ {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اياكم وَالظَّن فانه أكذب الحَدِيث فَكيف وَنحن نقطع ونشهد بِشَهَادَة الله تَعَالَى أَنه قد ضمن لنا تَعَالَى حفظ الذّكر وَالدّين وانه قد كمل فَلَو نسخ النَّاسِخ لبين ذَلِك بَيَانا جليا فاذا لم يفعل تَعَالَى ذَلِك فنشهد بِشَهَادَة الله تَعَالَى ان النَّاسِخ بَاقٍ محكما الى يَوْم الْقِيَامَة وان الْمَنْسُوخ بَاقٍ مَنْسُوخا الى يَوْم الْقِيَامَة لَا نشك فِي ذَلِك وَلَا يجوز الْبَتَّةَ ان يشكل شَيْء من الدّين حَتَّى يخفى على جَمِيع النَّاس مَوضِع الْحق وَحَتَّى يصيروا الى الحكم بِالظَّنِّ نبرأ الى الله تَعَالَى من هَذَا القَوْل كبراءتنا اليه تَعَالَى من الشّرك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل
والمبادرة الى انفاذ الْأَوَامِر وَاجِب لقَوْله تَعَالَى {وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين} وَمن تَأَخّر لم يُسَارع الا أَن يُبِيح التَّأْخِير نَص فَيُوقف عِنْده كَمَا جَاءَ فِي اباحة تَأْخِير الصَّلَاة الى آخر وَقتهَا
(1/41)
 
 
فصل
وَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت وجوب الْعَمَل بذلك الْأَمر اذ فِي تَأْخِيره الباس وَقد أمنا ان يلبس الله تَعَالَى علينا دينه بل هُوَ مُبين لَهُ على لِسَان من افْترض عَلَيْهِ الْبَيَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَالْقُرْآن ينْسَخ الْقُرْآن وَالسّنة تنسخ الْقُرْآن أَيْضا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فاذا ذَلِك كَذَلِك فَالْكل من عِنْد الله وبوحيه تَعَالَى سمى هَذَا كتابا وسمى هَذَا سنة وَحِكْمَة قَالَ تَعَالَى {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا}
فان قيل السّنة لَيست مثلا لِلْقُرْآنِ وَلَا خيرا مِنْهُ وانما هِيَ بَيَان لِلْقُرْآنِ قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق السّنة مثل الْقُرْآن فِي وجوب الطَّاعَة لَهما اذا صحت السّنة قَالَ تَعَالَى {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} والنسخ بَيَان وَرفع لِلْأَمْرِ فالناسخ مُبين أَن حكم الْمَنْسُوخ قد ارْتَفع وانْتهى أمره قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد يَأْتِي الْخَبَر بِمَا هُوَ خير لنا مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن من رفق وَتَخْفِيف وَالْقُرْآن قد بَين السّنة أَيْضا قَالَ تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء}
(1/42)
 
 
والنسخ لَا يجوز إِلَّا فِي الْأَوَامِر أَو فِي لفظ خبر مَعْنَاهُ معنى الْأَمر وَلَا يجوز النّسخ فِي الْأَخْبَار لِأَنَّهُ ان كَانَ يكون كذبا وَقد تنزه الله تَعَالَى عَن ذَلِك وَكَذَلِكَ الرُّسُل واما دَلِيل صِحَة النّسخ فَقَوْل الله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
فِي الْأَوَامِر والنواهي واوامر الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا فرض ونواهي الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا تَحْرِيم وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول فِي شَيْء مِنْهَا هَذَا ندب أَو كَرَاهِيَة الا بِنَصّ صَحِيح مُبين لذَلِك أَو اجماع كَمَا قُلْنَا فِي النّسخ قَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَمعنى النّدب والكراهية انما هُوَ ان شِئْت أفعل وان شِئْت فَلَا أفعل هَذَا موضوعهما فِي اللُّغَة وَلَا يفهم من أفعل ان شِئْت لَا تفعل وَلَا يفهم من لَا تفعل ان شِئْت افْعَل وَمن ادّعى هَذَا فقد جَاءَ هُوَ بالمحال وَقد افْترض الله تَعَالَى علينا طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن قَالَ هَذَا الْأَمر ندب وَهَذَا النَّهْي كَرَاهِيَة فانما يَقُول لَيْسَ
(1/43)
 
 
عَلَيْكُم ان تطيعوا هَذَا الْأَمر وَلَا هَذَا النَّهْي وَهَذَا خلاف لله عز وَجل مُجَرّد
فصل
والاباحة تَنْقَسِم اقساما ثَلَاثَة ندب يُؤجر على فعله وَلَا يَعْصِي بتركة وَلَا يُؤجر وكراهية يُؤجر على تَركهَا وَلَا يَعْصِي بِفِعْلِهَا وَلَا يُؤجر ومباح مُطلق لَا يُؤجر على فعله وَلَا على تَرِكَة وَلَا يَعْصِي بِفِعْلِهِ وَلَا بِتَرْكِهِ
فصل
فِي الْأَفْعَال وأفعال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النّدب لَا على الْوُجُوب الا مَا كَانَ مِنْهَا بَينا لأمر أَو تنفيذا لحكم مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ان دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ وَأَبْشَاركُمْ عَلَيْكُم حرَام ثمَّ نجد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد سفك دَمًا أَو انتهك بشرة اَوْ اسبتاح مَالا اَوْ عرضا فندري ان ذَلِك الْفِعْل مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض انفاذه لِأَنَّهُ لم يستبح شَيْئا من ذَلِك بعد التَّحْرِيم الا بِفَرْض وَاجِب وَهَذَا اذا كَانَ مَعَ ذَلِك قرينه أَمر مثل ان يخبر ان من فعل كَذَا فَعَلَيهِ كَذَا وَكَذَا وعاقبوا من فعل كَذَا ثمَّ يفعل هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام بِهِ فعلا مَا فَهُوَ فرض فانه بَيَان لأمر فان تعرى من الْأَمر فانما هُوَ اباحة بعد التَّحْرِيم فَقَط لأننا على يَقِين من خُرُوجه عَن التَّحْرِيم الى الاباحة وعَلى شكّ من وُجُوبه
برهَان مَا قُلْنَا فِي الْأَفْعَال قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْلَا أَن أشق على أمتى لأمرتهم بِالسِّوَاكِ لكل صَلَاة وَكَانَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام يكثر السِّوَاك لكل صَلَاة وَكَانَ انه لَو أَمرهم بذلك لوَجَبَ ولشق عَلَيْهِم وَأَنه اذا لم يَأْمُرهُم لم يجب عَلَيْهِم فعله
(1/44)
 
 
وَمَا حَدثنَا أَيْضا عبد الله بن يُوسُف (ثَنَا) أَحْمد بن فتح عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى أَحْمد بن مُحَمَّد أَحْمد بن عَليّ مُسلم بن الْحجَّاج حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا الرّبيع بن مُسلم الْقرشِي عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس قد فرض الله عَلَيْكُم الْحَج فحجوا فَقَالَ رجل أكل عَام يَا رَسُول الله قَالَ فَسكت وَقد قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلما اسْتَطَعْتُم ذروني مَا تركتكم فانما هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ فاذا امرتكم بِشَيْء فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم واذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَدَعوهُ
وَفِيه تَنْبِيه على بطلَان الْقيَاس وَعدم صدق ظنونه فانه قَاس الْحَج على الصَّلَاة المتكررة فِي الْيَوْم والليله خمس مَرَّات وعَلى الصَّوْم الْوَاجِب فِي كل عَام وعَلى الزَّكَاة فِي وُجُوبهَا اذا مَا وجد مَا يتَعَلَّق بِهِ فاجيب بِالرَّدِّ وَأمر بِمَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من ترك التَّعَرُّض للسؤال وَفِيه دلاله على أَن الْمَسْكُوت عَنهُ لَيْسَ لأحد أَن يفتح فِيهِ حكما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَانِ الخبران برهَان صَحِيح فِي وجوب فرض وابطال دَعْوَى النّدب وَالْوَقْف فِيهَا وَفِي الآخر مِنْهُمَا أَن مَا أَمر بِهِ فَوَاجِب أَن يُؤْتى مَا اسْتَطَاعَ الْمَأْمُور وَمَا نهى عَنهُ فَوَاجِب تَركه وَمَا ترك فَلم يَأْمر بِهِ وَلَا نهى عَنهُ فَهُوَ عَفْو مَتْرُوك فبالضرورة نَدْرِي أَن مَا خرج عَن أَن يَأْمر بِهِ أوينهي عَنهُ فَهُوَ غير وَاجِب وَلَا محرم وأفعاله خَارجه عَمَّا أَمر بِهِ وَعَما نهى عَنهُ فَهِيَ غير وَاجِبَة وَلَا محظورة وَأَيْضًا فان الله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ وَإِن تسألوا عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم}
(1/45)
 
 
فصح ان مَا لم ينزل بِهِ الْقُرْآن وَالْوَحي فَهُوَ مَعْفُو عَنهُ وأفعاله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خَارجه عَمَّا نزل الْقُرْآن بايجابه فَهُوَ عَفْو وَقَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} فقد جَاءَ الْوَعيد على خلاف الْأَمر الَّذِي هُوَ بالنطق وَقَالَ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} فقد جعل تَعَالَى لنا أَن نأتسي بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام
فان قيل أَن الله يَقُول {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} فانه يدْخل فِيهِ فعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن الْأَمر يعبر بِهِ عَن الْحَال فَنَقُول الْأَمر على خلاف مَا يظنّ أَي الْحَال وتوضيح ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يجوز هَذَا لِأَن تَخْفيف الله تَعَالَى عَنَّا بِمَا سكت عَنَّا فِيهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم ينزل بِهِ الْوَحْي فَضِيلَة والفضائل لَا تنسخ وَأَيْضًا فان هَذِه الْآيَة انما جائت بعقب ذكر المتسللين لَو اذا عَنهُ وَعَن دُعَائِهِ فصح أَن الْأَمر الْمَذْكُور فِيهَا انما هُوَ الْأَمر بالْقَوْل فَقَط وَأَيْضًا فانه لَا خلاف فِي أَن أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست فرضا عَلَيْهِ بمجردها واذا لَيست فرضا عَلَيْهِ لِأَن الأَصْل فِيهَا غير فرض فمحال أَن تصير بِغَيْر أَمر بهَا فرضا علينا بِالدَّعْوَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى وَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى
(1/46)
 
 
{وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} حجَّة لمن قَالَ بِوُجُوب الْأَفْعَال لمجردها لِأَن الاتيان فِي لُغَة الْعَرَب هُوَ الاعطاء وَلَا يَقع فِي اللُّغَة على الْفِعْل اعطاء وانما هَذَا فِي الْأَوَامِر والنواهي لَا سِيمَا وَقد وصل الْآيَة بقوله عز وَجل {وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَلَو كَانَت الْأَفْعَال لمجردها تفِيد الْوُجُوب لَكَانَ تكليفنا بِمَا لَا يُطَاق من الْمَشْي حَيْثُ مَشى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأكل كَمَا أكل وَالشرب كَمَا شرب نعم وَالسُّكْنَى حَيْثُ سكن وَمَا أشبه هَذَا
وَوُجُوب هَذَا بَاطِل باجماع وَخلاف لاتباعه ايضا لِأَن حَقِيقَة ابتاعة ان نَكُون لَهُ وَلم يفْرض عَلَيْهِ مُبَاحا لم يفْرض علينا وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَركه كَانَ لنا تَركه وَكَانَ لنا فِيهِ الْفضل كَمَا كَانَ لَهُ فِيهِ الْفضل وَلَا مزِيد
وَلَا يَنْبَغِي ان نخص بعض الْأَفْعَال دون بعض ونفرق بَين أقسامها بِلَا دَلِيل الا فِيمَا ورد مِنْهَا فِيهِ الْأَمر وَالْأَمر هُوَ الْمُوجب لَهَا لَا هِيَ لمجردها فان قَالُوا فان الله تَعَالَى قَالَ {لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} قَالُوا قَوْله تَعَالَى {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} وَعِيد وتهديد فان هَذَا لَيْسَ كَمَا تَأَوَّلَه وَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} وَعِيد أصلا وَلَو كَانَ ايجابا أَو وَعدا أَو وعيدا لَكَانَ اللَّفْظ على من كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر فَلَمَّا جَاءَ النَّص بِلَفْظ {لمن كَانَ يَرْجُو الله} صَحَّ أَن ذَلِك لأهل هَذِه الصّفة لَا عَلَيْهِم وَهَذَا بَين وَا ضح
(1/47)
 
 
وَأَيْضًا فانه لَا يُقَال فِيمَا هُوَ فرض علينا {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله} فِي وجوب هَذَا الْفَرْض عَلَيْهِ أُسْوَة حَسَنَة وَأَيْضًا فاذا كَانَت الْأَفْعَال فرضا كَمَا أَن الْأَوَامِر فرض لم يبْقى شَيْء يكون بِهِ عَلَيْهِ فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة فَيبْطل معنى الْآيَة وفائدتها وَهَذَا لَا يجوز
وَوجه آخر وَهُوَ انما ندب الله تَعَالَى الى التأسي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذِه الْآيَة الْمُسلمين لَا الْكفَّار والمسلمون هم الَّذين يرجون الله تَعَالَى وَالْيَوْم الآخر وَلم ينْدب قطّ كَافِرًا الى التأسي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الْآيَة وَلَا منعُوا أَيْضا من ذَلِك فَبَطل دَعْوَى الْوَعيد فِي اللَّفْظ جمله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
واما قَوْله تَعَالَى {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} فان هَذِه قَضِيَّة قَائِمَة بِنَفسِهَا مكتفيه بحكمها غير مُتَعَلّقه بِمَا قبلهَا وَلَا مَا قبلهَا مفتقر اليها وَلَا مُعَلّق بهَا وَلَا دَلِيل على ذَلِك أصلا فحصلوا أَيْضا على دَعْوَى ثَانِيَة بِلَا برهَان وَأَيْضًا لَو قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى وَمن يتول فان الله غَنِي عَمَّن تولى على ظَاهر الْآيَة وَقَالَ من يتَوَلَّى انى لَيْسَ لي أُسْوَة بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِمَا فِيهِ من أُسْوَة حينة فَمن قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِر فَهَذَا هُوَ الْمُتَوَلِي عَن الْآيَة حَقًا لَا من ترك ان يأتسي غير مُمْتَنع وَلَا رَاغِب عَن التأسي وَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ قولا لَا دَافع لَهُ وَهَذَا بَين جدا
وَأَيْضًا فان الْقَائِلين بِهَذَا تعلقوا بذلك فِي مسَائِل يسيرَة جدا وَتركُوا مَالا يحصي من أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام فقد تناقضوا فان ادعوا اجماعا على انها لَيست فرضا كَانَت دَعْوَى زَائِدَة وافتراء على الْأمة وكل دَعْوَى لَا يقوم بِصِحَّتِهَا دَلِيل فَهِيَ باطله قَالَ الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين}
(1/48)
 
 
فصل آخر
واذا خَالف وَاحِد من الْعلمَاء جمَاعَة فَلَا حجَّة فِي الْكَثْرَة لِأَن الله تَعَالَى يَقُول وَقد ذكر أهل الْفضل وَقَلِيل مَا هم وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} ومناعة الْوَاحِد مُنَازعَة توجب الرَّد الى الْقُرْآن وَالسّنة وَلم يَأْمر الله تَعَالَى قطّ بِالرَّدِّ الى الْأَكْثَر والشذوذ هُوَ خلاف الْحق وَلَو أَنهم أهل الأَرْض لَا وَاحِد
برهَان ذَلِك ان الشذوذ مَذْمُوم وَالْحق مَحْمُود وَلَا يجوز أَن يكون المذموم مَحْمُودًا من وَجه وَاحِد وَيسْأل من خَالف هَذَا عَن خلاف الِاثْنَيْنِ للْجَمَاعَة ثمَّ خلاف الثَّلَاثَة لَهُم ثمَّ الابعة وَهَكَذَا ابدا فان حد حدا كَانَ متحكما بِلَا دَلِيل فقد خَالف أَبُو بكر رضى الله عَنهُ جُمْهُور الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وشذ عَن كلهم فِي حَرْب أهل الرِّدَّة وَكَانَ هُوَ الْمُصِيب ومخالفه مخظئا برهَان ذَلِك الْقُرْآن الشَّاهِد بقوله ثمَّ رُجُوع جَمِيعهم اليه
فصل
وَلَا حكم للخطأ وَلَا للنسيان وَلَا للاكراه الا حَيْثُ اوجب لَهُ النَّص حكما وَلَا فَلَا يبطل شَيْء من ذَلِك عملا وَلَا يصلح عملا مِثَال ذَلِك من أكره على الْمَشْي فِي الصَّلَاة أَو نسى فَصلَاته تَامَّة وَمن نسي فصلى قبل الْوَقْت أَو أكره على ذَلِك لم تجزه وَهَكَذَا فِي كل شَيْء
(1/49)
 
 
برهَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَمَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عَفا لأمته عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ
فصل
وَلَا يَصح عمل من اعمال الشَّرِيعَة الا بنية مُتَّصِلَة باول الشُّرُوع فِيهِ لايحول بَين النِّيَّة وَالدُّخُول فِي الْعَمَل زمَان اصلا برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
انما الاعمال بِالنِّيَّاتِ وَلكُل امرىء مانوى
وَقد صَحَّ ان اعمال الشَّرِيعَة كلهَا عبَادَة وَدين فَلم يامر الله تَعَالَى بِنَصّ الْقرَان الا ان نؤدى كل ذَلِك بالاخلاص والاخلاص هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ الى ذَلِك وَهُوَ النِّيَّة نَفسهَا
فصل
وكل مَا صَحَّ بِيَقِين فلايبطل بِالشَّكِّ فِيهِ سَوَاء الطَّهَارَة وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالْملك وَالْعِتْق والحياة وَالْمَوْت والايمان والشرك وَالتَّمْلِيك وانتقاله وَغير ذَلِك برهَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَالشَّكّ وَالظَّن شَيْء وَاحِد لَان كليهمَا امْتنَاع من الْيَقِين وان كَانَ الظَّن اميل الى اُحْدُ الْوَجْهَيْنِ الا انه لَيْسَ يَقِينا وَمَا لم يكن يَقِينا فَهُوَ شكّ وَلَا يحل الْقطع بِهِ
(1/50)
 
 
فصل وكل عمل فِي الشَّرِيعَة فَهُوَ اما مُعَلّق بِوَقْت مَحْدُود الطَّرفَيْنِ أَو بِوَقْت مَحْدُود المبدأ غير مَحْدُود الآخر فَمَا كَانَ مُعَلّقا بِوَقْت مَحْدُود الطَّرفَيْنِ لم يجز ان يُوفي بِهِ فِي غير وقته وَلَا قبل وقته وَلَا بعده الا بِنَصّ اَوْ اجماع بالمجيء بِهِ فِي غير وقته فَيُوقف عِنْده والا فَلَا كَالصَّلَاةِ وَصِيَام رَمَضَان وَالْحج وَالْأُضْحِيَّة وَنَحْو ذَلِك وَمَا كَانَ مُعَلّقا بِوَقْت مَحْدُود الأول غير مَحْدُود الآخر فَلَا يَجْزِي قبل وقته فاذا وَجب لدُخُول وقته لم يسْقط ابدا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَات وَقَضَاء الْمُسَافِر وَالْمَرِيض وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء والمبقى فِي رَمَضَان وَمَا أشبه ذَلِك
برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها} وَقَوله تَعَالَى {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَقَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وبيقين يدْرِي كل ذِي حس أَن من صلى الصَّلَاة قبل وَقتهَا أَو بعد خُرُوج وَقتهَا عَامِدًا أَو صَامَ رَمَضَان قبل وقته أَو بعد خُرُوجه عَامِدًا أَو أدّى الزَّكَاة قبل وَقتهَا أَو حج قبل الْوَقْت أَو بعد الْوَقْت فقد تعدى حُدُود الله فَهُوَ ظَالِم فِي ذَلِك وَعَمله ظلم وَالظُّلم لَا يَجْزِي من الطَّاعَة وَكَذَلِكَ بِلَا شكّ أَنه قد عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمر الله تَعَالَى وَوضع عمله فِي غير مَوْضِعه فَهُوَ مَرْدُود بِلَا شكّ
فصل
وَمَا صَحَّ وُجُوبه غير موقت بِنَصّ أَو اجماع ففلا يسْقط الا بِنَصّ اَوْ اجماع وَمَا لم يحب فَلَا يجب الا بِنَصّ اَوْ اجماع
(1/51)
 
 
والبرهان فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فصح أَنه لَا يجب شَيْء الا بِنَصّ اَوْ اجماع فاذا وَجب شَيْء بِنَصّ اَوْ اجماع فَمن ادّعى اسقاطه بِغَيْر نَص اَوْ اجماع فقد عَارض أَمر الله تَعَالَى بِالرَّدِّ من قبل نَفسه فَأمره هُوَ الْمَرْدُود قطعا والمطرح وَأما أَمر الله فمقبول لَازم وَكَذَلِكَ من أَرَادَ الزام شَيْء بِغَيْر نَص أَو اجماع فَهُوَ شَارِع فِي الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله فَهُوَ بَاطِل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب} هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام لتفتروا على الله الْكَذِب
فصل
وَلَا يلْزم الْخَطَأ الا عَاقِلا بَالغا قد بلغه الامر قَالَ الله تَعَالَى {لأولي الْأَلْبَاب} وَقَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ}
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث فَذكر الصَّبِي حَتَّى يبلغ وَالْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَهَذَا فِي شرائغ أَعمال الْأَبدَان وَأما فِي لَوَازِم الْأَمْوَال فخلاف ذَلِك لِأَن الْحُكَّام هم المخاطبون بأخراجها
فصل
والأستثناء جَائِز من جنس الشَّيْء وَمن غير جنسه قَالَ تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} وَهَذَا ابْتِدَاء كَلَام وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء من جملَة يبْقى مِنْهَا أَصْلهَا لِأَن الِاسْتِثْنَاء مَعْرُوف فِي لُغَة الْعَرَب فَلَا يجوز الْمَنْع مِنْهُ بِغَيْر نَص وَلَا أجماع
(1/52)
 
 
فصل وكل من روى عَن صَاحب وَلم يسمه فان كَانَ ذَلِك الرَّاوِي مِمَّن لَا يجهل صِحَة قَول مدعي الصحبه من بُطْلَانه فَهُوَ خبر مُسْند تقوم بِهِ حجَّة لِأَن جَمِيع الصَّحَابَة عدُول قَالَ الله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون وَالَّذين تبوؤوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} فَشهد الله تَعَالَى لجَمِيع الْمُهَاجِرين والانصار بِالصّدقِ والفلاح فقد تَيَقنا عدالتهم
وان كَانَ الرَّاوِي مِمَّن يُمكن ان يجهل صِحَة قَول مدعي الصُّحْبَة فَهُوَ حَدِيث مُرْسل اذ لَا يُؤمن فَاسق من النَّاس ان يَدعِي لمن لَا يعرف الصحابه أَنه صَاحب وَهُوَ كَاذِب فِي ذَلِك فَأَما اذا روى الرَّاوِي الثِّقَة عَن بعض أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَبرا فَهُوَ حجه لِأَنَّهُنَّ لَا يُمكن ان يخفين عَن اُحْدُ من أهل التَّمْيِيز فِي ذَلِك الْوَقْت
فصل
واذا روى الصاحب حديثنا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى عَن ذَلِك الصاحب أَنه فعل خلافًا لما روى فالفرض الْحق أَخذ رِوَايَته وَترك مَا روى عَنهُ يَعْنِي أَن يُؤْخَذ بِمَا رَوَاهُ لَا بِمَا رَآهُ من فعله أَو فتياه لبراهين أَحدهمَا ان الْفَرْض علينا قبُول نَقله عَن النَّبِي (صلع)
(1/53)
 
 
لَا قبُول اخْتِيَاره اذ لَا حجه فِي أحد دون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَثَانِيها أَن الصاحب قد ينسى مَا روى فِي ذَلِك الْوَقْت وَرُبمَا ينساه جمله كَمَا نسى عمر قَول الله تَعَالَى {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} وَقَوله تَعَالَى {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} حَتَّى قَالَ {مَا مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يَمُوت حَتَّى يكون آخِرنَا} فَلَمَّا ذكر بالاية خر الى الأَرْض وَحَتَّى قَالَ على الْمِنْبَر لَا يزيدن أحدكُم فِي صدقَات النِّسَاء على أَربع مائَة دِرْهَم فَلَمَّا ذكرته امْرَأَة بِالْآيَةِ ذكر وأذعن وَقد يذكر الصاحب مَا روى الا أَنه تَأَول فِيهِ تَأْوِيلا يصرفهُ بِهِ عَن ظَاهره كَمَا تَأَول قدامَة بن مَظْعُون رضى الله عَنهُ قَول الله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} الْآيَة
وَثَالِثهَا أَنه لَا يحل لأحد البته أَن يظنّ بالصاحب أَن يكون عِنْده نسخ لما روى فيسكت عَنهُ ويبلغ الينا الْمَنْسُوخ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} وَقد نزههم الله تَعَالَى عَن هَذَا
وَرَابِعهَا ان الله تَعَالَى يَقُول {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} فضمان الله تَعَالَى قد صَحَّ فِي حفظ كل مَا قَالَه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَطل أَن يكون عِنْد أحد من الصحابه رَضِي الله عَنْهُم شَيْء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا
(1/54)
 
 
يبلغهُ والصاحب لَيْسَ مَعْصُوما من الْوَهم فِي اخْتِيَاره وَهُوَ مَعْصُوم من طي الْهَدْي وكتمانه وخامسها ان يُقَال لَا بُد من توهين احدى الرِّوَايَتَيْنِ وتوهين الرِّوَايَة عَن الصاحب فِي خِلَافه لما روى اولى من توهين رِوَايَته عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن هَذِه هِيَ المفترض علينا قبُولهَا وَأما مَا كَانَ مَوْقُوفا على الصاحب فَلَيْسَ فرضا علينا الطَّاعَة بِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَالْقَوْل بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يحْتَمل الا وَجها وَاحِدًا وَاجِب وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} فصح أَنه لَيْسَ سَفِيها وَمثل قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام فصح ان كل مُسكر حرَام فَهَذَا الدَّلِيل هُوَ النَّص بِنَفسِهِ
فصل
والمتشابه من الْقُرْآن هُوَ الْحُرُوف الْمُقطعَة والأقسام فَقَط اذ لَا نَص فِي شرحها وَلَا اجماع وَلَيْسَ فِيمَا عدا ذَلِك متشابه على الاطلاق قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَين ذَلِك مُشْتَبهَات لَا يعلمهَا كثير من النَّاس فصح أَنه يعلمهَا بعض النَّاس قَالَ تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء}
فصل
وَلَا يلْزم الْفَرْض الا من اطاقه الا ان يَأْتِي نَص أَو اجماع بِأَنَّهُ يلْزمه ويؤديه عَنهُ غَيره فيجزيه قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت}
(1/55)
 
 
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَلما أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَرْأَة أَن تحج عَن أَبِيهَا وَهُوَ شيخ زمن لَا يُطيق النقلَة وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه وَأمر بِقَضَاء الْحَج عَن الْمَيِّت وَقَالَ دين الله أَحَق أَن يقْضى أَو أَحَق بِالْقضَاءِ وَجب الأنقياد لكل ذَلِك فَيَقْضِي الْحَج فَرْضه ونذره عَن الْمَيِّت وَعَن الْحَيّ الْعَاجِز وَيَقْضِي صَوْم النذور وَالْفَرْض عَن الِاسْتِحَاضَة وتقضي الصَّلَاة المنسية والمنوم عَنْهَا وَسَائِر النذور
فصل
وكل مَا صَحَّ أَنه كَانَ فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا حجَّة فِيهِ حَتَّى نَدْرِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرفه وَلم يُنكره لِأَنَّهُ لَا حجَّة فِي سواهُ قَالَ الله تَعَالَى {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل}
فصل
وَالْحجّة لَا تكون الا فِي نَص قُرْآن أَو نَص خبر مُسْند ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو فِي شَيْء رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَام فأقره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفترض عَلَيْهِ الْبَيَان قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
(1/56)
 
 
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} والآيات مَا أنزل تَعَالَى من الْقُرْآن وَالْحكمَة مَا أوحى من السّنة
فصح يَقِينا انه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدع شَيْئا من الدّين الا يُبينهُ من الْكتاب بِالْكتاب أَو من الْكتاب بِالسنةِ أَو من السّنة بِالسنةِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقر على مُنكر فاذا علم عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا وَلم يُنكره فَهُوَ مُبَاح حَلَال وَلَيْسَ غَيره كَذَلِك لِأَن غَيره يخطيء وينسى وينفي ويتثقف لبَعض الْأَمر
فصل
وَالْحق من الْأَقْوَال كلهَا ف وَاحِد وسائرها خطأ قَالَ الله تَعَالَى {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق واذا كَانَ فِي المسأله أَقْوَال مُتعَدِّدَة محصورة فبطلت كلهَا الا وَاحِدًا فَذَلِك الْوَاحِد هُوَ الْحق بِيَقِين لِأَنَّهُ لم يبْق غَيره وَالْحق لَا يخرج عَن أَقْوَال جَمِيع الْأمة لما ذكرنَا من عصمه الآجماع
فصل
وَلَا يحل الحكم بشريعة نَبِي من قبلنَا لقَوْله تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} فان ذكرُوا قَول الله تَعَالَى
(1/57)
 
 
{فبهداهم اقتده} قُلْنَا نعم فِيمَا اتَّفقُوا فِيهِ لَا فِيمَا اخْتلفت فِيهِ شرائعهم قَالَ الله تَعَالَى {مَا يُقَال لَك إِلَّا مَا قد قيل للرسل من قبلك إِن رَبك لذُو مغْفرَة وَذُو عِقَاب أَلِيم} فَمَا اتَّفقُوا فِيهِ كالتوحيد وَنَحْوه فَهُوَ حق وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ فَلَا يُمكن الْأَخْذ بِجَمِيعِ ذَلِك وَلَا يجوز ان يُؤْخَذ بعض دون بعض لِأَنَّهُ تحكم بِلَا برهَان فان قيل نَأْخُذ بشريعة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لانه آخِرهم قُلْنَا هَذَا خطأ ببرهانين أَحدهمَا ان الله تَعَالَى منع من هَذَا بقوله {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} فَأخْبرنَا ان الَّذِي الزمنا هُوَ مِلَّة ابراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِي مِلَّة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ تَعَالَى {وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} فقد منع عز وَجل من الْأَخْذ بِالتَّوْرَاةِ والانجيل الْمنزل على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بالزامه ايانا شَرِيعَة ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام والبرهان الثَّانِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضلت على الْأَنْبِيَاء بست فَذكر مِنْهَا أَن النَّبِي كَانَ يبْعَث الى قومه خَاصَّة وَأَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعث الى الْأَحْمَر وَالْأسود وَالنَّاس كَافَّة واذ قد صَحَّ هَذَا فقد بَطل ان يلْزمنَا شَرِيعَة أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حاشي شَرِيعَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَط لِأَنَّهُ لم يبْعَث الله تَعَالَى الينا أحد من الْأَنْبِيَاء غَيره عَلَيْهِ الصَّلَاة
(1/58)
 
 
السَّلَام وأنما كَانَ غَيره يبْعَث الى قومه فَقَط لَا الى غير قومه
فصل
وَالْفَرْض ان يحكم على كل مُؤمن وَكَافِر بِأَحْكَام الاسلام أَحبُّوا أم كَرهُوا لقَوْل الله تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله} وَلقَوْله تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك}
فصل فِي الرَّأْي
لَا يحل لأحد الحكم بِالرَّأْيِ قَالَ الله تَعَالَى {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاتخذ النَّاس رؤسا جُهَّالًا فأفتوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام
وَهَذَا حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَغَيره وحدثناه أَبُو بكر حمام بن أَحْمد القَاضِي قَالَ حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد التاجي قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن
(1/59)
 
 
عبد الْملك بن أَيمن قَالَ أَبُو ثَوْر ابراهيم بن خَالِد قَالَ وَكِيع عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا ينْزع الْعلم من صدر الرِّجَال وَلَكِن ينْزع الْعلم بِمَوْت الْعلمَاء فاذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رؤسا جُهَّالًا فأفتوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا قَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ لم يزل أَمر بني اسرائيل مُسْتَقِيمًا حَتَّى نَشأ فيهم أَبنَاء سَبَايَا الْأُمَم فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رضى الله عَنهُ وَصَحَّ عَن عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ اتهموا الرَّأْي وَقَالَ سهل بن حنيف اتهموا آراءكم على دينكُمْ وَقَالَ على بن أبي طَالب رضى الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُفَّيْنِ أَحَق بِالْمَسْحِ وَهَكَذَا جَاءَ عَن غَيرهم من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم
فان ذكرُوا حَدِيث معَاذ
أجتهد رَأْيِي وَلَا آلو فانه حَدِيث بَاطِل لم يروه اُحْدُ الا الْحَارِث بن عَمْرو وَهُوَ مَجْهُول لَا يدْرِي من هُوَ عَن رجال من أهل حمص لم يسمهم وَمن بَاطِل الْمَقْطُوع بِهِ أَن يَقُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ
فان لم تَجِد فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله وَهُوَ يسمع وَحي الله اليه {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} و {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} فَمَا كمل بِشَهَادَة الله تَعَالَى فَمن الْبَاطِل أَن لَا يُوجد فِيهِ حكم نازله من النَّوَازِل فَبَطل الرَّأْي فِي الدّين مُطلقًا
(1/60)
 
 
فصل
وَلَو صَحَّ لما خلا ذَلِك من أَن يكون خَاصَّة لِمعَاذ لأمر علمه مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيدل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
أعلمكُم بالحلال وَالْحرَام معَاذ فسوغ اليه شرع ذَلِك أَو يكون عَاما لِمعَاذ وَغير معَاذ فان كَانَ خَاصّا لِمعَاذ فَلَا يحل الْأَخْذ بِرَأْي أحد غير معَاذ وَهَذَا مَالا يَقُوله أحد فِي الأَرْض وان كَانَ عَاما لِمعَاذ وغيرمعاذ فَمَا رَأْي اُحْدُ من النَّاس أولى من رأى غَيره فَبَطل الدّين وَصَارَ هملا وَكَانَ لكل اُحْدُ ان يشرع بِرَأْيهِ مَا شَاءَ وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأَيْضًا فانه لَا يَخْلُو الرَّأْي من ان يكون مُحْتَاجا اليه فِيمَا جَاءَ فِيهِ النَّص وَهَذَا مَالا يَقُوله اُحْدُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ يجب بِالرَّأْيِ تَحْرِيم الْحَلَال وَتَحْلِيل الْحَرَام وايجاب مَالا يجب واسقاط مَا وَجب وَهَذَا كفر مُجَرّد وان كَانَ انما يحْتَاج اليه فِيمَا لَا نَص فِيهِ فَهَذَا بَاطِل م وَجْهَيْن