الواضح في أصول الفقه 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
المؤلف: أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، (المتوفى: 513هـ)
عدد الأجزاء: 5
 
والتبتلِ بحقوقِ الرعايا، وشدةِ الإشفاق، فأمّا الاجتهادُ فى الأحكامِ فلا، بدليل ما قدّمنا.
وأمّا الثاني وتعلقُهم بالمزيةِ وموازنتُها. ممزيةٍ مثلها، فباطلٌ. بمن تَقدمت صحبتُه، وكثُرت مخالطتُه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه لايُجعَلُ ذلكَ مؤثراً في جوازِ تقليدِ من دونَه فى ذلك المقام في الأحكام.
وكذلك الحال من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع المجتهد من التابعين لايُجعَل (1) .................................... ، ....................
 
(2 فصل
لايجوز التقليد للعالم، وإن ضاق الوقت.
 
فصل
في دلائلنا
فمنها: ما تقدم من قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأن المراد به كتاب الله وسنة رسوله، وكما منعناه من التقليد 2) مع سَعَتِه، فلا يجوزُ له التقليدُ مع ضِيقِه، كالقادر على النظرِ والاستدلالِ في مسائلِ الأصول.
ومنها: أنَّ من شرطِ الفُتْيا والعملِ بالحكمِ الاجتهادَ في طلبِ الدليلِ،
__________
(1) بعدها طمس في الأصل. ممقدار أربعة أسطر، وانظر "التبصرة" 410 - 411.
(2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "التبصرة" 412، و "العدة" 4/ 1237.
(5/254)
 
 
وما كان شرطاً لايجوزُ إسقاطُه لضيقِ الوقتِ، كالسُّؤالِ والاستفتاءِ في حقِّ العاميّ، لما كان سؤالُه للعالِم شرطاً لم يَجُزْ تركُه لضيقِ الوقت، كذلكَ الاجتهادُ في حقِّ العالم.
يوضِّحُ هذا: أنَّ شروطَ العباداتِ، كالطَّهارةِ للصَّلاةِ، واستقبالِ القِبْلة، الذي هو شبيهٌ بمسألتِنا، فإنَّه يحتاجُ إلى اجتهادٍ لايجوزُ تركُه، واستقبال أيِّ جهةٍ شاءَ، لضيقِ الوقتِ، كذلكَ الاجتهادُ لطلبِ حكمِ الحادثةِ.
 
فصل
في شبههم
فمنها: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهذا عامٌّ في كلِّ حالٍ إلا ما خصَّه الدليلُ.
ومنها: أنه مضطرّ إلى السُّؤالِ من جهةِ خوفِ الفَوَاتِ، والاضطرارُ يجيزُ التقليدَ، كالجهلِ في حقِّ العاميِّ لما كانَ مضطراً جازَ له التَّقليدُ، كذلك الخائفُ لفوتِ الوقتِ.
ومنها: أنَّه لا يَتَوصّلُ إلى معرفةِ حكمِ النَّازلةِ، فجازَ له التًقليدُ كالعاميَّ.
ومنها: أنَّ العالمَ يجوزُ له تقليدُ الصَّحابيِّ لمزيَّةِ الصَّحابيّ، كذلكَ ها هنا يجبُ أن يجوزَ لحاجة العالمِ، وخوفِ فوتِ تحصيلِ الحكمِ لضيقِ الوقت.
(5/255)
 
 
فصل
في الأجوبة عنها
فأمَّا الآيةُ، فإنها متناولةٌ لمن ليسَ من أهل العلم وهو العامي، إذ لا يجوزُ أن يكونَ معناها: يا أهلَ (1 العِلْمِ اسألوا أهل العلم، وإن أهلٍ الشيء مَن هو مُتأهلٌ لذلك الشيء، لا مَن حصل له ذلك الشىء1) ولأنه قال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 44]، والعالِمُ يعلمُ بالبيناتِ والزبرِ.
وأمّا قولُهم: لا يتوصلُ إلى معرفةِ الحكم، فلا (2) نسلِّم، بل قدرتُه على الاجتهادِ قدرةٌ على التوصُّلِ إلى تحصيل الحكمِ.
وأمَّا دعواهم أنَّه مضطرٌّ إلى التقليدِ، فغيرُ صحيح؛ لأنه إذا نظرَ وصدقَ الاجتهادَ، هَجَمَ به على الحكمِ، فلا ضرورةَ إلى (3) ما تشيرُ إليه من ضيقِ الوقتِ، والوقتُ ظرفٌ، والاجتهادُ شرطٌ، فلا يسقطُ الشَّرطُ لضيقِ الظرفِ، كسائرِ العباداتِ المؤقتةِ، لا يجوزُ تركُ شروطِها لخوفِ فواتِها، ولأَن يُجعلَ الإشكالُ في الدليلِ عذراً مبيحاً للتأخيرِ، أَوُلى من أن يجعلَ عذراً لإسقاطِ الاجتهادِ والرُّجوع إلى التقليدِ، لأنَّ التأخيرَ لتحصيلِ الشَّرطِ تأخيرٌ لمقصودٍ هو قادرٌ على تحصيله، فهو كالتاخيرِ لتحصيلِ الوقوع على القِبلةِ، ورفع الحدثِ باستعمالِ الماءِ، وغسلِ السترةِ النجسةِ.
__________
(1 - 1) طمس من الأصل، وقدرناه من "الإحكام" للآمدي 4/ 207.
(2) في الأصل: "لا".
(3) في الأصل: "إلا".
(5/256)
 
 
وأمّا التقليدُ للصَّحابي، فلا نسلِّمه على روايةٍ، بل لا يجوزُ لمجتهدٍ أن يقلِّدَ صحابياً، ولأنَّ مَنْ جعلَه حجَّةً جعلَه كالخبرِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمه على اجتهادِه بحكمِ تراتيب الأدلَّةِ، فأمَّا الوقتُ فلم يثبت أنه مقدَّمٌ على الاجتهاد.
وأمّا قياسُهم في جميع هذه الأدلَّةِ على العاميِّ، فغيرُ صحيح؛ لأنَّ العاميَّ متعطِّلٌ عن الاستدلالِ والاجتهاد، فلم يبق له طريقٌ إلاَّ التقليدُ، والعالمُ غيرُ متعطِّلٍ بذلك جوازُ العمل باجتهادِه في حقِّ نفسِه وفي تقليدِ العاميِّ له.
 
فصل
لا يتخيَّر العامِّي بين المُفتِين (1 فيقلد من شاءَ منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين الأدين والأورع، ومَن يُشارُ إليه أنه الأعلم، ذكره أحمد، وهو قول 1) ابن سُرَيج والقفال من أصحاب الشافعي، وجماعة من الفقهاء والأصوليين.
 
فصل
في أدلتنا
فمنها:
(2 ......... 2) للحكم بخبره، والاجتهادُ في الأرجع منه، كالدَّليلِ في
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، وانظر "المسودة" 462، و"الإحكام" للآمدي 4/ 237.
(2 - 2) طمس في الأصل. بمقدار خمس كلمات.
(5/257)
 
 
حقِّ المجتهدِ، ولاشكَّ أنَّ النفسَ إلى الأعلمِ والأورع أسكنُ، وبه أوثقُ، وما هو إلا كتخيُّر الدليلِ الأدل على الحكم في حقِّ العالمِ المجتهد.
ومنها: أنَّ طريق هذه الأحكامِ الطنُّ، والطنُّ في تقليدِ الأَعلَم والأَدْيَنِ أقوى، فوجب أن يكونَ المصيرُ إليه أَوْلَى.
فإن قيل: لو كانَ هذا واجباً، لوجبَ أن يتعلمَ الفقهَ ليكونَ مجتهداً في الحكمِ، فإنَّ ألاجتهادَ أقوى،
قيل: إذا سُمْنَاهُ تَعلّمَ الفقهِ كان على النّاسِ غاية المشقةِ ووقفت المعايشُ، فأمَّا إذا سُمْناه تَخيّرَ العالمِ الذي يقلده، فلا مشقةَ عليه.
 
فصل
في شبههِم
فمنها: قولُه تعالى: {فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كنتم لاتعلمون} [النحل: 43]، ولم يفصِّل بينَ الأعلمِ والأورع وغيره.
ومنها: أنَّ مَنْ كان له أن يقلّدَه إذا كان منفرداً عن غيرِه، جازَ له تقليدُه وإن من معه غيرُه، كالمساوي في الطبقةِ في العلمِ والورع.
ومنها: أننا إنَّما جوَّزنا للعاميِّ التقليدَ، لما في تكليفِ التعلمِ للفقهِ على الأعيانِ من المشفةِ، وهذا موجود في تكليفِ العاميِّ الاجتهادَ في أعيان المُفتِين، لأنه لايمكنُه الترجيحُ له إلاَ بعدَ الخبرةِ بما يرجَّحُ فيه، ومن لا معرفةَ
(5/258)
 
 
له بالعلمِ أصلاً، كيف يعرفُ طبقاتِ أَهْلِهِ والفاضلَ فيه من المفضول؟!
 
فصل
في الأجوبةِ عنها
فمنها: أنَّ الآيةَ أفادت أصلَ السُّؤالِ، وما ذكرناه من الأدلَّةِ أفادَ اختيارَ المسؤولِ، فلا حجة لهم فيها (1 ......................
وأما دعواهم أن الاجتهاد في أعيان المفتين فيه مشقة على العامي، فلا نوجبه، كما لم نوجب عليه الاجتهاد في مسائل العلم.
فنقول: نحن لم نوجب عليه الاجتهاد هناك 1) لأنَّه يحتاجُ إلى أدواتٍ لا تتحصَّلُ إلا على طِوال الأوقاتِ، واستيعابِ الأعمار، بخلافِ ترجيح ما بين رجلينِ، فهو بترجيح ما بين خبرين أشبهُ، وذلك أنَّه إذا شاعَ في النَّاسِ: أنَّ فلاناً أعلمُ وأورعُ، ووَجَدَ أهلَ الصِّناعةِ يقدِّمونَه ويعظمونه، علمَ بذلك أنَّه أرجحُ، وكفى بذلك طريقاً للمعرفةِ بالأرجح والأورع.
 
فصل
في الأفعال والأقوال قبل ورود الشَّرع ما حكمها؟
فالذي يقتضيه أصلُ صاحبنا: أنَّ مالم يَرِدْ السَّمعُ فيه بحظرٍ ولا إباحةٍ، لايوصف بحظر ولا إباحة، إذ ليسَ قبلَ ورودِ الشَّرع على أصلِه محسِّنٌ ولا مقبِّحٌ، والعقلُ عندَه غيرُ مبيح ولاحاظرٍ، ويحسِّنُ ولا يقبح.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(5/259)
 
 
والأليقُ بمذهبِه أن يقالَ: لانعلمُ ما الحكمُ.
وقد أخذَ شيخُنا -رحمهُ الله تعالى- من كلامِه في مسائِل الفروع روايتين: إحداهما: الحظر، والثانية: الإباحة (1).
وهذا إنَّما يصحُّ مع القولِ بنفي تحسينِ العقلِ وتقبيحِه، وإباحتِه وحظرِه، [و] أنَّ السَّمعَ لما وَرَدَ بحظرِ أفعالٍ في أعيان، وإباحةِ أفعالٍ في أعيان، وبانَ لنا بأنَّ لهذه الأعيان مالكاً بدليلِ العقل، وأنه أباحَ ما أباحَ، وحظرَ ما حظرَ: إمّا لمصلحةٍ أوَ نفى مفسدةٍ، أو لتحكّمٍ ومطلقِ إرادةٍ ابتلاءً وامتحاناً، رجعنا إلى مقتضى الشَّرع فيما سكتَ عنه من إباحةٍ أو حظرٍ حسب ما نذكره من الأدةِ المستنبطةِ من السَّمع، أو ما ثبتَ بدليلِ العقل، فهذا معناه مع تعطيلِ العملِ عن إباحةٍ أو حظرٍ، واختلفَ العلماءُ في هذا على مذاهب، فذهب المعتزلةُ البغداديون والاماميَّةُ وابن أبي هريرة (2 من أصحاب الشَّافعي إلى أيها على الحظر.
وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه: إنها على الإباحة، وبه قال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه السرخسيُّ 2).
وذهب إلى "القول بالإباحة أيضاً جماعةٌ من أصحاب الشَّافعي كابن (3)
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1238 - 1239.
(2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "العدة" 4/ 1240، و"التبصرة" 532 - 533.
(3) في الأصل: "وابن".
(5/260)
 
 
سُريج والمرُّودي (1) وهو قولُ أهلِ الظَّاهرِ، واختاره أبو الحسنِ التميمي من أصحابِنا.
وذهبت الأشعريةُ إلى أنَّها على الوقفِ، ولا يقالُ فيها بإباحةٍ ولا حظرٍ إلى أن يَرِدَ السَّمعُ بأحدِهما. وهو قولُ بعضِ أصحابنا، وهو أيضاً مذهبُ جماعةٍ من أصحابِ الشَّافعيِّ: الصَّيرفيِّ وأبي علي الطَّبري.
والقائلُ بالوقفِ إلى القائلِ بالحظرِ أقربُ منه إلى القائل بالإباحةِ؛ لأنه يحتجُّ عن الفتوى بالإقدام كما يحتجُّ الحاظر، والمبيحُ يفتي بالتناول.
وقد صوَّرَ قوم هذه المسألةَ في شخصٍ ولِدَ في جزيرةِ البحرِ، أو منقطع من الأرضِ لم يصل إليه السَّمعُ بإباحةٍ ولا حظرٍ، وظَفِرَ بأعيان تمتدُّ يدُه إليها بالتناولِ لحاجاتِه، كفواكه وحشائش: هل يُباحُ له تناولُهًا أو يَحرمُ عليه؟
والذي نحقِّقُهُ من المذهبِ أنَّ الحظرَ هو المنعُ، ولامانعَ عند جماعةِ العلماءِ إلاّ عقل أو سمع، فالفعل الممنوعُ منه في العقلِ ما كانَ فاعلُه مُسيئاً مستحقاً للذَّم، والمنعُ السَّمعي ما استحقَّ عليه الإثم والعقوبةَ.
فإذا كانَ مذهبُ صاحبِنا أنَّ العقلَ لايوجبُ ولا يحظُرُ، وأنَّ عبَّادَ
__________
(1) في الأصل: "المروزي" بالزاي، والمروُّذي نسبة إلى مَرْو الرُّوذ، وهو القاضي أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر، صاحب "الجامع" في المذهب، وألف شرحاً لمختصر المزنى، وألف في الأصول. توفي سنة اثنتين وستين وثلاث مئة. انظر "سير أعلام النبلاء" 16/ 166 - 167، و"طبقات الشافعية الكبرى" 3/ 12.
(5/261)
 
 
الأوثانِ والأصنامِ لايعاقبونَ على شيءٍ مما اعتقدوه، ولا على شيّء من الأفعالِ، وأن لاعذابَ ولا عقوبةَ قبل السَّمع، فلا وجهَ للقولِ بإباحةٍ قبلَ السَّمع ولا حظرٍ، فهذا أصل لاينبغي أن يُغفَلَ لأنه من أصولِ الدينِ، فلا يسقط حكمُه بمذهبِ أصولِ الفقه، فلا يبقى لكلام الرَّجلِ في مسائلِ الفروع بحظرٍ أو إباحةِ حكمٌ يخالفُ أصله في أصول الديانات، وإذا ساغَ لشيخنا -رضى الله عنه- أن يأخذ له أصلاً هو حظرٌ أو إباحةٌ من نهيه تارة فيما لم يرد فيه سمع كقطع السدر، وتارة في إباحة كتجويزه قطع النخل، فلِمَ لا يأخذ من كلامه الذي لا يُحصَى: لا أدري ما هذا، ما سمعت فيه شيئاً، أنا أجبن عن أن أقول بكذا، فيؤخذ منه أحد مذهبين: إمَّا الوقف أو الامساك عن الفتوى رأساً. وأن يقال فيما لم يرد فيه سمع: لا مذهب له إلا (1) الإمساك، فافهم هذا الأصل، فإنه يستمرُّ على قولِه في المتشابه من الآياتِ وظواهرِ الأخبار، وأنها لا تُفسَّرُ ولا تُؤَوَّل، فلا وجهَ للقطع بالقولِ بالإباحةِ أو الحظرِ مع عدمِ السَّمع وعدم قضيَّة العقل.
__________
(1) طمس في الأصل، واستدرك من "المسوَّدة" 482 - 483 نقلاً عن ابن عقيل.
(5/262)
 
 
فصل
في الدلائل على نفي القولِ بالإباحةِ والحظرِ
فمنها: أنَّ الإباحةَ إطلاق، والحظرَ منعٌ، وهو من بابِ الأفعالِ التي لاتقع إلاَّ من فاعلٍ، فلابدَّ للمنع من مانعٍ، ولابدَّ للإطلاقِ من مطلِقٍ، وذلكَ الحاظرُ والمبيحُ، [و] المانع [و] المطلق، ليسَ يعدو أحدَ سببين:
جمعٌ من قِبَل الله تعالى، أو عقل، فإذا كانت العقولُ عاطلةً عن قضيتي الحظرِ والإباحةِ، وكان السَّمعُ لايَرِدُ، فلا وجهَ للقولِ بواحدٍ من الحكمينِ مع عدمِ الدلالتينِ والطريقين، إذ لا مذهبَ بغير طريقٍ، فلا جوابَ لهذه المسألةِ على التحقيقِ إلا قول المسؤول (1): لا أعلم ما كان الحكمُ قبل الشرع، إذ لاطريقَ لي إلى العلمِ بالحكمِ.
ومنها: أنَّ هذه الأعيانَ قد بانَ بدلائلِ العقول أيها ملك للصَّانع القديمِ الذي ثبتَ وجودُه سبحانه وإيجاده للأعيان، وليس للعقل تحكم ولا حكم على ملكه سبحانه، والسَّمعُ بإذنِه في تناولِها والانتفاع بها لم يرد، فلا وجهَ لإباحتِها، فبطلَ بهذه الدلالةِ مذهبُ الإباحةِ.
ومنها: أنَّ المنعَ والحظرَ بطريقِ العقلِ لو كان ثابتاً، لما جازَ أن يَرِدَ السَّمعُ بإباحتِها؛ لاتفاقِ العلماءِ على أنه لايجوزُ أن يردَ السَّمع إلا بمجوَّزاتِ العقولِ، فأمَّا ورودُه. بما يخالفُها فلا، وفي هذِه الدلالةِ ما يبطلُ به
__________
(1) في الأصل: "الأقوال للسؤال".
(5/263)
 
 
القولُ بإباحتِها، لأنها لوكانت الإباحة بالعقل (1 ......... 1) على القول بالحظرِ أو الإباحةِ، التناولُ لها والانتفاعُ بها متقابلين تقابلاً لايظهرُ فيه ترجيح لبعضِ الأقوال على بعض، ولا يبقى سوى الاحجامِ عنها والكف والإمساك عن الفتيا فيها، وهو (2) الوقفُ حينِ الكشفِ بطريقِ السَّمع.
والدلالةُ على تقابلِ الأدلةِ: أنَّ القائلَ بالحظرِ إنْ تعلقَ بأنَّ هذه الأعيانَ ملك لله سبحانه، وما أذنَ في تناولها والانتفاع بها، فهي كأملاك الآدميين، قابَلَه أنها وإن كانت ملكَه، فنحنُ مماليكُه وعبيده، [و] في تركِ الانتفاع إتلاف لنا، ونَزيدُ عليها بالحرمةِ، وإذا تقابلَ الأمرُ بين إتلافِها وتلفِنا بتركِ تناولِها، كان تلفُها مع حفظِ نفوسِنا أَوْلَى.
وقابلَ ذلك أيضاً أنَّ أملاكَ الآدميين وَرَدَ السَّمعُ بحظرِها، وها هنا لم يَرِدْ بحظرها، فالتعويلُ في تحريمِ أموالِ الآدميينِ على الحظرِ السَّمعي، دون كونِها ملكاً لهم.
يبيِّن صحَّةَ هذا، وأنَّ المنعَ ليسَ لأجلِهم ولا لعدمِ إذنِهم بل للسَّمع: أنَّ الشَّرع لما أذنَ في أكلِ طعامِ الغيرِ عند الضَّرورةِ، واتقاء البرد ببنيانه، وإشعال حطبه، خوفاً على نفسِ غيرِ المالِك؛ أبيحَ مع ملكَه وعدم إذنِه، لإذنِ الشَّرع، وكذلك أبيحَ الاستظلالُ بظلِّ جداره، والاستضاءةُ بضوءِ نارِه بغيرِ رضاه، لما أذنَ فيه الشَّرع وإِنْ سَخِطَ.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(2) في الأصل: "سوى".
(5/264)
 
 
ويقابلُه أيضاً أنَّ الآدميَّ يستضرُّ بالانتفاع بأملاكِه لحاجته إليها، ومشاركته لغير المالك في الحاجة، وانفراده بالتخصيص بالملك، فالله سبحانَه لاضررَ عليه في تناوُلِها، ولأنه لا حاجةَ به إليها، ولانفعَ يلحقه بها، لاستحالةِ إلحاق الضَّرر والنفع به (1 ........... 1) لاضرر بتناولها، ولا نفعَ ببقائِها وإحجامنا عن الانتفاع بها، لامتناع ذاتِه سبحانه بغنائها واستحالة الحاجة عليها، وإنما خلقها لنا بحسبِ دواعينا إليها وحاجاتِنا، فصارت في القياسِ إلينا كظلِّ الجدارِ وضوءِ النَّارِ.
ولأنَّ الحكيم لايفعلُ شيئاً إلاَّ لغرضٍ ووجهٍ من الحكمةِ يقتضي فعلَه وخلقَه، والتقسيمُ يوجبُ أن يكونَ خَلَقها لنا ولانتفاعِنا بها، لأنه لا يخلو أن يكونَ خلقَها ليَنتَفعَ بها، وذلكَ محال، أو ليضرَّ بها غيرَه، وذلك لا يليقُ بالحكيم، فلم يبقَ إلا أنّه خلقَها لنفعِنا، وهذا يكفي في الحكمِ بإباحتِها.
فتقابل من ذلك أشياءُ نُبطِلُها، منها: أنَّهم قد أخلّوا ولم يستوفوا؛ فإنَّ من الأقسامِ ماهو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ: وهو أنَّ أفعالَ البارئ لا تُعللُ ولايضافُ إليه غَرَضٌ، وهذا يرد أصلَ تعليلِهم.
وأخلّوا في التقسيم مع ثبوتِ غرضٍ أو تعليلٍ قِسماً لم يذكروه: وهو أن يكونَ خلقَها ابتلاءً لنا.
والذي يوضِّحُ هذا وبطلانَ قولِهم: أنه لو كان ما ذكروه مانعاً من
__________
(1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر
(5/265)
 
 
حظرها، لما جاز أن يرد السمع بحظرها، لما ذكروه، وأنه لا ينتفع بها ولا يستضر بانتفاعنا بها، وأنه خلقها لنا، فكان يجب ألا يرد سمعٌ بالمنع لهذه التعاليل التي ذكروها، فإذا جاز ان يردها حظرها مع جميع ذلك، بطل القول بإباحتها قبل ذلك.
على أنه لأهل الحظر ان يقولوا: أن لم يكن مالكها منتفعاً بها، ولا مستضراً بتناولها، فقد تكون (1 في نفسها توجب لنا 1) بتناولها مفسدة (2) .............
للمتناول بصلاحه فيما يتناوله، وعدم كونه مضراً به مفسدة له، ونحن مع الاعيان قبل ورود السمع، كالجاهل بخواصَّ تلك العقاقير المجوَّز حصول الضرر فى تناول بعضه مع عدم العلم به.
وإذا لم يكن دليل أحد هذين المذهبين مترجحاً على الآخر لما ذكرنا، لم يبق الا الوقف الى أن يرد السمعُ بالكشف لحكمِ الله سبحانه فيها، أو بترجح دليل احدهما بما يوجب العمل به، وإسقاط المذهبِ الذى يخالفُه
 
فصل
فيما وجهوه على ما ذكرنا وما سنح لنا من الاعتراض
فمن ذلك قولهم: إذا كان ما قررتم من تعذر الادلة مانعاً لكم من القول بالإباحه والحظر، فهلا منعكم عن القول بالوقف. وكما أنَّ العقل
__________
(1 - 1) طمس فى الأصل.
(2) بعدها طمس فى الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(5/266)
 
 
لو منعَ وحظرَ، أو أباحَ وأطلقَ، لم يجز أن يردَ الشَّرعُ بخلافِه، كذلك إذا حكمَ بالحظرِ لايجوزُ أن يردَ الشَّرعُ بما يخالفُ قضيته من الحظرِ بالوقفِ، ولاقضيَّتَه بالاباحةِ إلى الوقف، فقد لزمكم من استدلالكم ما ألزمتمونا.
ومن ذلك: أن نسألكم عن أفعال وأقوالٍ مخصوصةٍ فعلها فاعل، وقالها قائلٌ قبل ورودِ السَّمع، وهي أنَّ عاقلا بالغاً نظرَ واستدلَّ فعرفَ بنظرِه واستدلالِه حدوثَ (1) العالَمِ، ووجودَ الصّانع، وأنَّه المنعمُ بالإيجادِ، وأنه الواحدُ، فهل يكون قولُه بالتثنيةِ والتثليثِ، أو بِقِدَمِ العالَم، أو سجودُه لصنم وصرفُ الشكر الصادرِ عنه إلى غير الواحد القديم الذي حكم بوحدته وإنعامه (2 ............................ 2) على ما قدمت.
وإن قلتَ بالإباحةِ، كان أكبرَ من ذلك لما في ذلك من كفرِ النعمِ، وصرفِ الشكرِ إلى غيرِه، ولمناقضة ما قدمت من أنْ لاطريقَ لكَ إلاً السَّمعُ، ولا سمع.
فيقال: إنَّ فرضَ السائلِ الداخلةِ تحتَ ما قرَّرنا من الأصلِ، تفريعٌ لما قد استقرَّ الخلافُ فيه، وعُلمَ من جملتِه مالا يَحسُنُ استدعاءُ الكلامِ في تفصيله، ونحن إذا قلنا بإبطالِ قضايا العقولِ في التحسينِ والتقبيح، والإباحة والحظرِ، لم نحكم في قولٍ ولا فعلٍ بحكمٍ، بل نكونُ منتظرين لما يَرِدُ به السَّمعُ، والشرع يأتي بالعجائب، ودلائلُ الإعجازِ الدَّالةُ على
__________
(1) في الأصل: "حدث".
(2 - 2) طَمسٌ في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(5/267)
 
 
صدقِ الرُّسل -صلوات الله عليهم- توجبُ الإذعانَ لتحسينِ ما حسَّنه الشَّرعُ، وممَّا جاءَ به الشرعُ ممّا لم يكن يتهدَّى إليه عقل أنْ أباحَ كلمةَ الكفرِ به سبحانَه، وهو المنعمُ الأوَّلُ، لتوقية النفسِ عند الإكراه، وأوجبَ الثباتَ للموتِ في صفِّ المشركين بذلاً لها، لإعلاءِ كلمةِ التوحيدِ، فتارةً حسَّنها حيث أباحها لدفع المكروه عن النفرِ، وتارةً أسقطَ حكمَ النفوسِ لإعلائها وجعلَ النفوس دونها، وكذلك السُّجودُ للصَّنمِ، فأمَّا مع سلوكِ الوقفِ في هذا الأصلِ، فلا (1) احجِمُ عن القول بهِ فيما صوَّرتُم من القولِ والفعلِ المعنيَّين.
وأمَّا قولكم: إنه يلزمكَ في الوقفِ إذا جاء الشَّرعُ بإباحةٍ أو حظرٍ ما ألزمتنا من ورودِ السَّمع بعد القولِ بالإباحةِ والحظر، فليس على ما ذكرتم، بل غاية ما يتبيَّنُ بمجيءِ الشَّرع بالإباحةِ أو الحظرِ الكشفُ عن (2 حكم الشَّرع 2) بالدليل الذي كنا ذهبنا إليه في الوقف (3)، ........... أو الحظرٍ لم يرد عليه قولُه، بل أرشدَه إلى قولٍ كان عنه واقفاً، ولإرشاده متوقعا.
والذي يوضخ هذا: أنَّ الواقِفَ لايسمّى بالمصير إلى الحكم راجعاً، بل يقالُ: إنه مستحِبّ وتابع ومرشد ومبيِّن، ولهذا يحسُنُ أن يقال لمن قال بالحظر: من أين قلت، ولم قلت؟ ولمَنْ قال بالإباحة كذلك. فلا يحسُن
__________
(1) في الأصل: "لا".
(2 - 2) غير واضحة في الأصل.
(3) بعدها طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(5/268)
 
 
عند العقلاءِ عتبٌ ولألومٌ لمن توقّفَ مع إبهامِ الأمرِ وعدمِ الدليل. والذي يكشفُ ذلك: أنَّه لا يحسنُ عند العقلاءِ عيب المتوقفِ لانتظارِ الدليل، ويحسُنُ عيبُ المقدم بالقولِ أو الفعلِ أو الحكمِ مع عدمِ الدليل، فليسَ القولُ بالإباحةِ والحَظْرِ من القولِ بالوقفِ بسبيل، والله أعلم.
 
فصل
رأيتُ لبعضِ المحققين في الأُصولِ كلاماً حسناً في التحسينِ والتقبيح
فقال: وقد يشتبه على قوم ما توجِدُهم رقَّة طباعِهم والإشفاق (1منهم على 1) الحيوانِ فيعتقدون كلَّ مؤلم ولاذع قبيحاً، ويتغطّى عليهم وجه الحسنِ والقبح، بمعتقدِهم أنَّ كل منكرٍ في طباعِهم صدرَ عن العقل، وهذا عينُ ما ذهبت إليه (2) البَراهمة في تقبيح ذبح الحيوان وإتعابِه في الأغراض المدخِل عليه أنواع الآلام، وبئس المحكَّمُ الطبعُ؛ فكَم ممَّا نهشُّ إليه وهو مُستَقْبح، وكم من موجِعِ وهو مستحسن، لما فيه من المصالح، كما قال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وربَّما دقَّ الفرقُ بينَ إنكارِ الطبع وإنكارِ العقل، ويظهره إقدامُ العاقل على طلب (3) .........
وكل حكيمٍ من خلقه قد تؤلم أفعاله وإن لم تكن قبيحةً.
__________
(1 - 1) غير واضح في الأضل.
(2) في الأصل: "من".
(3) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر.
(5/269)
 
 
فصول المسائل النظرياتِ في الكلام في القياس
فصل
القياسُ والاستدلالُ المستنبطانِ بالعقولِ طريق لاثبات الأحكامِ العقليةِ، نصّ عليه أحمدُ (1) حيثُ استدلَّ فيما تكلَّمَ به على نفاةِ الصِّفاتِ، ومن أثبتَ أنَّ الله نورٌ، وأنه في كلِّ مكان، وضربَ المقاييسَ حتى قال: فما بالُ البيتِ المظلمِ مع كونِ اللهِ نوراً وهو في كلِّ مكان؟!
وذكرَ أيضاً أنَّ الله محيطٌ بجميع خلقهِ، وليس في شيء من خلقه، وضربَ لذلك مثلاً: رجلاً في يدِه قدح من قارور صافٍ وفيه شيءٌ صافٍ، فإنَّ بصرَه يحيطُ فيه من غيرِ أن يكونَ فيه. وهذا مذهبُ سائرِ الفقهاءِ والأصوليين والمحقِّقين (2).
وذهب قوم من أصحاب الحديث وأهل الظًاهر إلى أنَّ حججَ العقولِ باطلةٌ، والنظرَ حرامٌ، والطريق إنَّما هو التقليد، أو ما يُعلمُ ضرورةً بطريق الحِسَ.
 
فصل
في الدَّلائل على إثباتِ النظرِ طريقاً، وإفسادِ القولِ بالتقليدِ في المعقولاتِ.
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1273، و "السؤَدة" 365.
(2) انظر "التبصرة" 416.
(5/270)
 
 
فمنها: أنَّ الله سبحانَه نصبَ أَدلَّةً على الإثباتِ، وحثَ على النَّظرِ فيها والتأمُّلِ لها، والاستدلالِ بها، وقد ذكِرَ ذلكَ في كثير من آي كتابه العزيزِ مثل قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إلى قوله: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] (1) ........ وإفساد وتطلّب لأسباب ما يَعرِض في العالَم من الأحوالِ وعللِ الأحكامِ، فهذا من داخل ثم نجد من خارج مذاهب مختلفة وأقاويل متكافئة، فلا طريق لنا إلى معرفة الصَّحيح والفاسد، وتخليصِ الحقِّ من الباطلِ، وتمييزِ ما يجب اعتقادُه، أو يجوزُ ممَّا لا يجبُ أو لا يجوزُ إلاَّ النظرُ والاستدلال.
ومنها: ما نجده وجميعُ العقلاء في نفوسهم عند دفع المَضارِّ واختلاف النافع، أو ترجيح أحد الطريقين على الآخر، مثل أن يدفعه العطشُ إلى قصدِ ماءٍ فِى مكانٍ بعَينه، فيجدُ في طريقِ الماء أثرَ الأسدِ، فإنَّه لايفزعُ في توقي أَحْفَز الضررينِ بأبطئهما (2)، ودفع أَكَدِّهما بأيسرهما، إلا إلى نظره واستدلاله في استخراج الأصوب من ذلك برأيه، أو المشاورة لغيره تقوية لرأيه برأي غيره، وهذا دليلٌ على أنَّ ذلك هو الطريقُ.
__________
(1) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر.
(2) في الأصل: "بان ابطاهما".
(5/271)
 
 
ومنها؛ بيانُ إفسادِ القول بالتقليد: أنَّ التقليدَ إنما هو الرُّجوعُ إلى قولِ الغيرِ، وقد ثبتَ أنَّ الاختلافَ حاصل بين مثبتٍ وناف، وموجب ومسقطٍ، ومحرمٍ ومبيحٍ، فإن قلدَ الكلَّ لم يصحَّ، فإنه لايصحّ أن يكونَ جامعاً بين الإثباتِ والنفي، والإباحةِ والحظرِ. وإن رجعَ إلى قولِ أحدهمِ، فلا وجهَ لتخصيصِ أحدِهم بالتقليدِ له والاتباع مع كون الآخر مساوياً له، فلا بدَّ من نوع ترجيحِ، وذلكَ لا يحصُلُ إلاَّ بالنَّظر الموجِبِ لترجيح قولِ أحدِهما على الآخر، والترجيحُ لايحصلُ في نفسِ من يقلِّده، بل في دليلِه وما أوجب له القولَ بذلك المذهَبِ، وهذا هو النظر الذي ندعوا إليه، ونوقِفُ عِرْفانَ الحقِّ عليه.
ومنها (1): ....... والمُتنبِّىءُ يدَّعي مثل ما يدَّعي النبيُّ، ولا مفزغَ لنا إلاَّ إلى النًظر المفرِّق بين الصَّادق والكاذب في المعجِز والمخرقة، فبطلَ القولُ بالتقليدِ.
ومنها: أن يقالَ: إنَّ مقالتكم هذه إذا دعوتم إليها مَنْ خالفَكم فيها بدليل ونظر، فإن دعاكم إلى مقالتِه فقال: أنا أدعوكم إلى مقالتي، ولستُ في دعائي لكم خارجاً عن معتقدِكم، بل أدعوكم إلى التقليدِ الذي هو طريقٌ لإصابةِ الحقِّ عندكم، ما الذي يكون جوابُكم؟ فلابدَّ من أحدِ أمرين: إمَّا وقوفكم وإيَّاه موقفا واحداً، أو عدولكم إلى بيانِ ما يوجبُ اتباعَه لكم دون اتباعِكم له، ولايحصلُ ذلك إلا بدليلٍ يصدر عن نظرٍ واستدلالٍ.
__________
(1) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر.
(5/272)
 
 
ومنها: أنْ يقال: هل مقالتكم هذه بنَفْي النَظر لاتخلو أن تكون عن ضرورةٍ، فكنا وإيّاكم سواءً في معرفة ذلك كسائرِ الضَّرورات، أو عن نظر، فكيف وقد أبطلتم النَّظر؟
وإن كان تشهّياً وتحكُّماً، فذلك يُسوّي بينكم وبين مخالفكم في القول.
 
فصل
في شبههم
فمنها: من طريقِ الظواهر: أنَّ الله سبحانه قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فلم يبقَ للرأي والنَّظرِ أثرٌ في الأحكام.
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلم يبق للرأي والنظرِ أثرٌ في الأحكام.
وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سئلَ عنِ الشَّيءِ توقَّف إلى أن ينزل عليه الوحي، فلو كان النظر طريقاً (1) ...........
ونهى عن الجدال الذي يسلكه أهلُ النَّظر فقال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4].
__________
(1) بعدها طمس فى الأصل بمقدار أربعة أسطر.
(5/273)
 
 
وقال النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -"مراءٌ في القرآنِ كفرٌ" (1) يقوله ثلاثاً. وقال: "إذا ذكِرَ القدرُ فأمسكوا" (2). وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -خرج وقومٌ يتجادلون عند حُجْرته وكأنَّ وجهَه يقطر دماً فقال: "يا قوم لاتجادلوا في القرآن، فإنَّما هلكَ الأمم قبلكم بهذا" (3).
وإذا نهى عن الجدال وهو من أثرِ النظر والبحث، دلَّ على أنَّه ليس بطريقٍ من طرقِ العلمِ، فوجب العدول إلى التقليدِ والتعويلُ عليه.
 
فصل
في الأجوبةِ عن هذه الطرق
فمنها: أن يقال: قد وردَ في الكتابِ والسُّنة ما يردّ هذا، فمن ذلك: أمرُه سبحانه بالاعتبارِ بقولِه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال سبحانه: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، فأمرَ بالاعتبارِ ومدحَ على التفكرِ للاستبصارِ، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 334.
(2) أخرجه الطبرانى في الكبير (10448)، وأبو نعيم في الحلية 4/ 108 من حديث ابن مسعود.
(3) أخرجه أحمد (6801)، ومسلم (2666)، والنسائى في "الكبرى" (8095).
(5/274)
 
 
النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الى قوله {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، فهذه الآي وأمثالُها حث على النظرِ، وهو التأمُّلُ فيما ابتدعَ من صنائعه استدلالاً على إثباته والتصديق لما جاءت به رسله ممَّا وعد، وتواعد به من البعث بعد الموت، (1 فلما جاء أحدُهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعظمٍ حائلٍ، ففتَّهُ بيده وقال: يا محمد، أيُحيي الله هذا بعدما أرى؟ قال له: "نعم، يبعث الله هذا ثم يُميتك ثم يُحييك تم يدخلك نار جهنم " (2). وقال سبحانه 1):
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78]، وفي قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أتمُّ حجَّةٍ، وأبلغ استدلالٍ (3)، لأنَّ مبدأ خلقِهْ الأول ترابٌ، وثانيَه ماءٌ مَهين، فإذا كانَ ابتداءُ خلقِه من نطفةٍ قذرة-، لايسوغُ له استبعادُ إعادتِه من رِمَةٍ نَخِرة.
ولما قال الآخر: أتزعم أنَّ الله يُعيدنا من الأرضِ أحياءً؛ قال له: يا أعرابي: أمررتَ بالأرضِ الجُرزِ الميتةِ، وعُدتَ وهي خضراءُ حيَّة تهتزُّ بالنباتِ؛ فقال: نعم، قال: وكذلكَ النّضورُ (4). وذلكَ عينُ المعنى الذي
__________
(1 - 1) طمس فِى الأصل، وقدرناه بحسب ما بعده.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 429 عن ابن عباس، وانظر "الدر المنثور" 5/ 269.
(3) في الأصل: "استدلالاً".
(4) أخرجه أحمد 4/ 11، 12، والبيهقى في "الأسماء والصفات" (1069)، والطيالسى (1089) عن أبي رزين العقيلي.
(5/275)
 
 
ضمَّنه الله فِى كتابه، فقال سبحانَه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] (1).
ولما قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]، {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، وهذا كلُّه حِجاجٌ وأجوبةٌ واقعة.
فأمَّا ما تعلقوا به من الآيات، فإنَّ إتمامَ الدّين إنّما كانَ بالنُّصوصِ والظواهرِ، وما تَضمَّنَها من الأمرِ بالنظرِ والتأمُّلِ في دلائلِ العِبَر، وفي استنباطِ المعاني الضمَّنةِ في النطوقِ وتعديتها إلى المسكوتِ، والدليلُ عليه: سلوكُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -هذه السالكَ بما ظهر منهم عند الحوادثِ من التجاذبِ بكتابِ الله وسنةِ رسوله، وهم أفهمُ بمعانى الكتابِ منا ومنكم، كخلافهم في مسألةِ الجد مع الإخوة، ولفظة الحرام، والخنثى والمعتَق بعضه، والعَوْل، والإكسال والإنزال وغير ذلك.
وأما قوله: (1 {تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فإنه لم يُرَدْ به: إلى ذات الله وذاتِ رسوله، وإنما الرادُ: إلى
__________
(1) خلط المؤلف رحمه الله بين آيتين: ففي [الروم: 24] {..... وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وفِى [فاطر: 9] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}.
(5/276)
 
 
حكمِ كتاب الله وحكمِ رسولِهِ، وحكمُ 1) الرَّسوِل، يعني سُنَّته، بدليل أنه لايوجدُ الرَّسولُ في كلِّ عصر، وإنَّما الموجودُ سنته، وهذا يعطي الرُّجوعَ إلى ما يوجب في الكتابِ والسُّنَّة، وما ليسَ فيهما فقد صُرِفنا فيه إلى الرَّأي، بدلائلِ الأخبارِ والآثارِ المرويَّةِ في ذلك، ولأنَّ ذلك راجعٌ إلى الأحكامِ الشَّرعيةِ، فأمّا العقليةُ فلها حكمها.
وأمّا قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] فإنَّما رجعَ إلى أحكامِ الفقهِ، والأمرُ للعوام، وأهلُ الذِّكرِ: المجتهدون.
ولأنَّ السُّؤالَ يعودُ إلى مَنْ ليس معه الآلةُ التي يتوصَّلُ بها، والعقلاءُ كلُّهم في العقلياتِ بمثابةِ المجتهدين في الشَّرعياتِ، لايَسألُ أحدٌ أحداً، ولا يقلِّدُ بعضُهم بعضاً.
وأمَّا قولُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام: "إذا ذُكِرَ القضاءُ والقدرُ فأمسكوا (2) " يعني: عن الاحتجاج بهما على التكليف، مثل قول عمر: ففيمَ العملُ؛ أفنتَّكِل؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"بل اعملوا وسدِّدوا وقاربوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلِقَ له" (3).
ونهيه عن الجدلِ في القرآن إنَّما عادَ إلى طلب المناقضةِ والمقابلة، ولهذا
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، واستُدرك من "العدة" 4/ 1314.
(2) تقدم ص 274.
(3) أخرجه بنحوه البخاري (4949)، ومسلم (2647) من حديث على بن أبي طالب.
(5/277)
 
 
قال سبحانه: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] وإنَّما الجدالُ الذي هو الكفرُ جِدال يتضمَّن المناقضةَ والمقابلة.
 
فصل
في شبههم من الاستدلال بغير النَّقل والسَّمع
فمنها: أنَّ التقليدَ طريق لمعرفةِ الأحَكاَمِ الشرعيةِ، فجازَ أن يكونَ طريقاً لمعرفةِ الأصولِ العقليةِ.
ومنها: أنّه لو كان النَّظر طريقاً، لوجب إذا تغيَّر العِلم الذي أثمره أن لايتغير العلم الحاصل عندنا (1 .................... 1) فاسد؛ لأنّه يتضمنُ إثباتَ حكمِ الغائبِ من الشَّاهدِ، وجعلَ الضروري منه أصلاً لما ليس بضروريّ، وانقطاعُ الغائب عن الشَّاهد، والضَّروري عن الاستدلالي يمنع إلحاقَ أحدِهما بالآخر، وأخذَ حكمِ أحدِهما من الآخرِ.
ومنها: أنَّ النًظرَ لو كانَ معتَبراً صحيحاً، وطريقاً موصِلاً، لوجبَ أن يتحصَّلَ للكل ويشتركَ فيه جميع العقلاءِ، بدليل المعاييرِ في الكيلِ والوزنِ والذرع والأعداد، فلما لم يَجْتَمِعْ على كونهِ طريقاً ولا معياراً جميعُ العقلاءِ، بَطَل كلُّ مذهبٍ صدرَ عنه، وصار كالحزرِ والتبخيتِ.
ومنها: أنَّ القولَ بالنَّظرِ يفضي إلى أنَّ الإنسانَ لاينفكُّ عن فعلِ القبيح واعتقادِ الجهلِ، إنه قبلَ أن ينظر قد يعتقدُ المذهبَ الفاسدَ والشَّكَّ،
__________
(1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(5/278)
 
 
وذلك لاينفكّ منه كلّ عاقلٍ قبل نظرِه، فلا ينفكّ من ذلك إلاّ بما ذكرناه من اعتقادِه بعلمِ الضرورةِ أو تقليدِ مَنْ حصلَ الثقة بقولِه وخبرِه.
 
فصل
في الأجوبة عن شبههم
أمَّا قياسُهم أُصولَ الدينِ على فروعِه، فهذا نظر منهم، ومن العجبِ استدلالُهم بضربٍ من النَّظرَ على فسادِ النَّظرِ، فإن رَضُوا بالنَّظرِ طريقاً لإفسادِ النَّظرِ، فقد ناقضوا أصلَهم، وأبطلوا مقالتهم، لأنه (1) باطل، لأنَّ مسائلَ الفروع طريقها الظنّ، وإذا قلَّدَ العاميُّ عالماً بطرقِ الاجتهادِ، عدلاً مأموناً جَمَعَ (2) بين الصِّناعةِ والديانةِ، غلبَ على الظَنِّ إصابة الحكم، فأمَّا أصول الدينِ فإنَّ طريقَها العلمُ القطعيّ، ولهذا يُفسَّقُ ويبدَّع الخالفُ في الأصول دون الفروع.
جواب آخر: أن العلم بالفقه لا يحصل للعموم، (3 ............. 3) التغير الحاصل، والاختلاف الواقع، فإنه لا يمنع كونَ النَّظر صحيحاً وطريقاً للعلمِ، كما أنَّكم رضيتم هذه الطرَّيقة النَّظريَّة لإفسادِ الَنَّظر، وإنْ وصفتم النَّظر بما وصفتم من سرعة التَّغيير، ووقوع ألاختلاف. وقد أفسدتم أصلكم الذي أصَّلتموه من أنَّ النَّظرَ ليس بطريق، وعدتم تُفسدونَ
__________
(1) في الأصل: "فلأنه".
(2) في الأصل: "فجمع".
(3 - 3) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.
(5/279)
 
 
ذلك الأصلَ بتعويلكم على النّظرِ، على أنَّه لاعبرةَ بتقلّبِ أهل المذاهب ولا بمقامهم، فكم من ثابت مقيمٍ على باطل، قال الله تعالى إخباراً عن قومٍ أنهم قالوا: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، وكم من قومٍ رجعوا عن طريقِ الحقِّ إلى الباطلِ، فهذا وأمثالُه لاعبرةَ به، وإنما المعوَّلُ على الأدلَّةِ دونَ اعتقاداتِ الرِّجال، وإنما بَنَوْا هذا على تعويلهم على التقليدِ، والأُنسِ بالغير، والوحشةِ من الوحدةِ في الاعتقادِ، والعاقلُ مَنْ لم توحِشْه الوحدةُ، ولم تؤنِسه الكثرةُ، بل ثقَتُهُ بالدليلِ، وضعفه بعدمِ الدليل.
وأمَّا منعُهم من أخذِ حكمِ الغائبِ من الشَّاهدِ، وجعلِ الضَّروري من العلومِ أصلاً للاستدلالي، فإنه مجرَّدُ تحجُّرٍ وتحيُّزٍ بغيرِ دليل، ولأنَّ هذا عينُ النظرِ وحقيقتُه، فكيف (1) يمنعونَ النًظرَ بضربٍ من النًظر؟
ولأنَّ الأدلةَ أبداً تكون حاضرةً شاهدةً، والمدلولات غائبةً، إذ لو كانا شاهدين لم يكن أحدُهما بأوْلى من الآخر، فالغيمُ المُسِفُّ (2) دلالةٌ (3 على أنه يكون منه مطر 3)، وبُدُوُّ العشبِ وابتلالُ الأرض دلالة على غيث كان قد نزل، وتَصاعدُ الدخان دالٌ على أن شيئاً يحترق، وعلى هذا حكم الأدلةِ، فبناء الدار دالٌ على تَقَدَّم وجود بانٍ، وإحكامُها دالٌّ على
__________
(1) في الأصل: "كيف".
(2) أَسَفتِ السَّحابةُ: إذا دَنَتْ من الأرض. "القاموس": (سفف).
(3 - 3) غير واضح تماماً في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1285.
(5/280)
 
 
أن (1) بانيها كان حكيماً، ولو كان ما ذكروه صحيحاً لوجبَ أن لايصحَّ الحساب، فإنَّ (2) العملَ منه إنَّما هو حملُ خفي غامضٍ على جلي واضحٍ، ولما صحَّ ذلك بطَلَ ما استدلوا به على بطلان النَّظر.
وأمَّا قولُهم: لو كان صحيحاً لاشتركَ في معرفتِه الكلّ، كالمعاييرِ وسائرِ المقاديرِ من العدد والكيلِ والوزن والمساحةِ، فلا فرقَ بينهما عندنا، فإنَّه إذا كان محقِّقاً فِى الحساب قلَّ أن يُخطئَ المقدارَ مع صحَّةِ الاعتبارِ، وكذلكَ في النَّظرِ والاستدلال. وإن قصَّرَ في الاعتبارِ أخطأ في الموضعين وإن تفاوتا في الرُّتبة، كان أحدُهما أسرعَ حصولاً وأسهلَ طريقاً.
وأمَّا دعواهم: بأدتَّ القولَ بالنَّظرِ لاينفكُّ معه الإنسان من فعل القبيح، فليست دعوى صحيحةً؛ لأنَّ ذلك إنما يصيرُ قبيحاً بعد التكليفِ لإصابةِ الحقِّ ونفي الجهل، وذلك إنَّما يكون بعد النَّظرِ، فأمَّا الطالبُ الباحثُ فإنَّه لايقبحُ منه شكٌّ ولا ارتيابٌ حالَ نظرِه إلى أن يعلم، فإذا علمَ، قبُحَ منه الشَكُ والجهلُ.
وجوابٌ جامعٌ عن جميع طرقِهم: أنَّ جميعَ ما ذكروه من أخطارِ النَّظرِ فالتقليدُ فيه أخطر، لأنَّا على غيرِ ثقةٍ من قول الغير، فكم من داعيةٍ يدعو إلى باطل، وكم من مستتبعِ لغيرِه على غير بيّنةٍ مما يدعو إليه؟ وكم من مذهبٍ يُظهِرُ ضدَّ ما يعتقده اتقاءَ مخافةِ سلطانٍ، أو عوامَّ، أو ميلاً إلى
__________
(1) في الأصل: "كونه".
(2) في الأصل: "فإنه".
(5/281)
 
 
دولةٍ، ومَنْ عرف السَّبرَ كان إلى نظر نفسه أميل، وبه أوثق من الأخبارِ، لما قد تضمنته من الدَّواهي، والانسانُ لايكذب نفسه، ولايألوها نصحاً، وهو من قول غيره على شكِّ أو حُسن ظنٍّ، ومن نَظرَ نفسه عنى تحقيقٍ وقطعٍ.
 
فصل
يجوز التعبُّد بالقياس في الشَّرعياتِ عقلاً وشرعاً (1). نصَّ عليه أحمدُ فقال: لا يستغى أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإمام يَردُ عليه الأمرُ - يعني به حدوثَ الحادثةِ- أن يجمعَ لها النْاسَ، ويَقيسَ، ويشبِّه، كما كتب عمرُ إلى شُريح (2).
وكلامُ أحمدَ بالعملِ بالقياسِ كثير مبدَّد في المسائلِ التي نقلها عنه الدَّهماءُ من أصحابه، وجميعُ ما حكي عنه من ذمِّ الرأي إنْما أراد به مع معارضة السُّنة له، لَيجتمع قولاه، يوضِّحُ هذا قولُه في روايةِ أبي الحارث: وما نصنعُ بالرأي وفي الحديثِ غُنيةٌ عنه؟ وبهذا قالَ السَّلفُ من الصَّحابةِ والتابعين، وأنه قد وردَ السَّمعُ بذلك، وأكثر الفقهاءِ الأصوليين.
وقال جميعُ الشِّيعةِ وإبراهيمُ النظام وجماعةٌ من المعتزلةِ البغداديين مثل يحيى الاسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالةِ ورودِ التعبُّد به، وأنَّ الشَّرعَ قد وردَ بحظرِه ومنعهِ.
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1280.
(2) تقدم في الصفحة 195.
(5/282)
 
 
وقال بنفيه من الفقهاء أيضاً داودُ بن علىّ الأصفهاني، والقاساني، والنهرباني، والمغربي ومَنْ قال بقولِهمِ.
ثم إنَّ الكلَّ منهم افترقوا فرقتين، فقال مَنْ قدَّمنا ذِكرَه من المعتزلةِ البغداديين وغيرهم: إنَّه محال من جهةِ العقلِ ورودُ التعبدِ بالقياسِ في الأحكامِ.
وقال داودُ وابنُه ومَنْ صار إلى قولهما: إنه قد كان جائزاً من جهةِ العقلِ ورودُ التعبُّدِ به، لكن لم يَرِدْ بذلك، بل ورد بحظرِه ومنعِه.
واختلف المُحِيلون لورود التعبُّدِ به من جهةِ العقل في نسبة إحالة ذلك وعِلته، فقال بعضهم: إنما استحال ذلك لأنه لا يمكن معرفةُ الأحكامِ من جهته، لأنها مبنيَّة على الصالح التي لاتدركُ به، ولا بأمارة تؤدِّيه إلى غلبة الظن.
وقال بعضُهم: إنَّما أحاله العقلُ ولم يجوِّزه؛ لأنَّ في القولِ به ما يقتضي وجوبَ الحكم بالتضادِّ الممتنع.
وقال بعضُهم: إنَّما لم يَجُزْ، لأنَّه اقتصار على أدون البيانين مع القدرةِ على أعلاهما، وهو النَّصُّ، وذلك محال في صفتِه وحكمته.
فالذي ينبغي أن يبدأ به الدلالة على فسادِ مقالاتِهم أوَّلاً، ثم نُتبعُ ذلك بالتقريرِ لورود السَّمع بذلك إنْ شاء الله.
 
فصل
في دلائلنا
فمنها: أن نقول: إذا جازَ في العقلياتِ أن يثبت الحكمُ في الشَّيءِ
(5/283)
 
 
لعلةٍ، وتعرفُ تلك العلَّةُ بأنها علةُ ذلك الحكمِ بدليلٍ - وهو التقسيم والمقابلة- ثمَّ يقاسُ غيرُه عليه، جازَ أن يثبتَ الحكمُ في المشرَّعياتِ في عينٍ من الأعيانِ بعلةٍ، وينصب على تلك العلَّةِ دليلٌ يدلّ عليها، ثمَّ يقاسُ غيرُه عليه مثاله من العقليات والشرَّعيات، فإذا قسَّمنا في العقليات صفاتِ الحي واستقريناها فلم نجد منها ما يصلحُ أن يعلّل به كونه حياً سوى الحياة، ولا ما يعلّل به كونه عالماً سوي العلم، جعلنا علةَ كلِّ حي لكونِه حياً الحياةَ، وعلَّةَ كلِّ عالمٍ لكونه عالماً العلمَ.
وقسَّمنا صفاتِ الخمرِ، فلم نجد ما يصلحُ أن يكونَ علة تحريمها سوى الاشتداد المطربِ، فعَدَّينا الحكمَ إلى كلِّ شرابٍ فيه تلك الشِّدةُ.
ومنها: أنَّه لاخلافَ بين العقلاءِ أنَّه يحسنُ ويجوزُ من صاحبِ الشَّرع أن يقول: "لايقضي القاضي غضباناً" (1) لأنَّ الغضب يضلِّل رأيه، ويُعقِم فهمه، فقيسوا على الغضبِ ما كانَ في معناه من كلِّ مضلِّل للرأي مشعِّثٍ للفهم، كالجوع المفرطِ، والعطش، والإعياء المضجر لكثرةِ عملٍ أَوجَبَت تعباً، وحَرَّمتُ عليكم الخمرَ؛ لأنَّه شرابٌ فيه شدَّةٌ مطرِبةٌ تصدُّ عن ذكرِ اللهِ، وتوقعُ العداوةَ والبغضاءَ لتضليلها العقلَ، فقيسوا عليها ما في معناها من كلِّ شرابٍ.
فهذا وأمثالُه ممَّا يستبينُ به المعقلُ، ويستحسنُه العقلاءُ، وإذا كان تنقيحُه هكذا، حسُنَ أن ينصَّ على تحريمِ الخمرِ ثمَّ يأذنَ لنا في استخراج
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 525.
(5/284)
 
 
المعنى ونعدّي حكمَها إلى غيرِها من الأشربةِ، ولو كان هذا محالاً في العقل أو قبيحاً، لما حسُنَ التنصيصُ عليه.
ومنها: أنَّه لمْا جازَ أن يأمر بالتوجُّهِ إلى الكعبةِ لمن عايَنَها، جازَ أن ينصبَ عليها دلالةً لمن غابت عنه، بحائلٍ مانعِ، أو بُعدٍ شاسع، ثمَّ يتعبَّدُ باستقبالِ جهتِها بالاستدلالِ بتلك الدلالةِ التي نصبَها.
ومنها: أنَّ العاقلَ إذا صدقَ نظرُه واستدلالُه، أدركَ بالأمارات والأدلَّةِ الحاضرةِ المدلولاتِ الغائبةَ، فإذا رأى جداراً قد انشقَّ ومالَ، حكمَ بأنَّه سيهبط، وإذا رأى غيماً كثيراً مُسِفّاً، وهواءً رطباً، حكمَ بأنه سيُمطِر، وإذا رأى إنساناً بيدِه حديدةٌ مخضَّبةٌ بدمٍ خارجاً من بيتٍ فيه مقتولٌ، جازَ منا الحكمُ على أنَّه القاتل بهذه الأمارات، وإنْ جاز أن نخطىءَ في النَّادر.
فإذا رأى الشرعَ حَكَمَ بتحريمِ العصيرِ إذا اشتدَّ، وقد كان مباحاً قبل حدوثها، ثم إذا تخلَّلَ أبيح، غلب على ظنِّه أنَّ التحريمَ تابعٌ للشِّدَّة.
ومنها: أنَّ في التعبُّدِ به كبيرَ مصلحةٍ لاتحصل إلاَّ بالتعبدِ به، وهي إثابة المجتهدِ على اجتهادِه، وإعمال فكرِه، وبحثه لاستخراخ علَّةِ الحكمِ من المنصوصِ لتعدييه إلى غيرِ المنصوصِ، وذلك نوعُ تكليف باقٍ عليه، وما كان طريقاً إلى الصلحة للمكلَّف، كان وضعه مصلحةً، ولا عاقل يستقبحُ طرقَ الأصلح ولايُحيلها.
فإن قيل: لو كانَ الأمرُ على ما ذكرتم، لجازَ أن يخير بينَ الحكمِ بالنَصِّ أو الرأيِ والقياسِ، فلمَّا لم يجز العملُ بالقياسِ مع وجودِ النُّصوصِ، بطلَ ما ادَّعيتموه من حصولِ الأصلح فيه، ومن كونهِ طريقاً إلى معرفةِ
(5/285)
 
 
الأحكامِ الشَّرعية.
قيل: هذا لايصحّ لوجوه:
أحدها (1): ولِمَ إذا تساويا وجبَ التخييرُ بينهما؟! ولم لايكونان سواءً أو يترتب أحدهما على الآخر، ويكونُ التقديمُ والتأخير لمصلحةٍ يعلمُها، كتقديمِ عبادة على عبادةٍ، وإنْ كانتا (2) حسنتين، لكن كانَ التقديم لاحداهما هو الأصلحَ، والتأخيرُ للأخرى هو الأصلحَ، وقد جعلَ الأبدالَ في الكفاراتِ مخيَّرةً ومرتبةً، وكانَ جميعُ المخيَّرات متساويةً في الأصلح، والمرتبات كذلك، ولم يفترقا إلا في التَّقديمِ والتأخيرِ، كما أنه قد يعلمُ أنَّ الجمعَ بين الحسنين قبيحٌ، والتخييرَ حسنٌ وليس بقبيح، كذلكَ جاز أن يعلمَ أنَّ التخييرَ بين النصِّ والرأي قبيحٌ، والترتيب بينهما حسنٌ.
 
فصل
في شبههم
فمنها: أن قالوا: إذا تعبّدنا بالقياس، وغلبَ على الظنِّ تحريم بيع التفاضلِ في البُرِّ لكونه مكيلاً جِنساً، أو مطعوماً، أو قوتاً، أو مالاً، فما وجهُ الصلحةِ في تحريم ما هذه صفته متفاضلاً؟
فيقال لهم: هذا قولُ مَنْ يبعدُ عن فهمِ الكلامِ في هذا البابِ، لأنَّ
__________
(1) لم يذكر المصنف رحمه الله غير هذا الوجه.
(2) في الأصل: "كان".
(5/286)
 
 
المصالحٍ والألطاف في الأفعالِ التي علينا فيها تكليف، لاتكونُ مصالحَ (1) وألطافا لجنسها، ولا لوجهٍ في العقل يتميَّز وينفصل من غيره بدليل، كما نعلم انفصالَ أحكامِ الأجناسِ وحقائقها بقضيّة العقلِ، وإنَّما يكونُ الفعلُ المتعبَّدُ بتحليلِه أو تحريمِه أو إيجابِه أو الندبِ إليه مصلحةً وداعياً إلى فعل الحسن واجتنابِ القبيح، وليسَ يكونُ كذلكَ لصفةٍ هو في ذاتِه عليها.
وقد يكونُ مصلحةً في وقتٍ، وغيرَ مصلحةٍ في غيرِه، وهو في الوقتينِ على جنسِه وصفتِه وذاتِه، وقد يكونُ في الوقتِ الواحدِ مصلحةً لمكلَّفٍ، ومفسدةً لغيرِه على ما هو عليه من جنسِه وذاتِه وصفتِه، ولذلك ربما تختلفُ أحكامُ الشَّرائع، وتختلفُ تكاليفُ العقلاء فيه، فيجبُ على البعضِ منه ما يسقطُ عن غيرِه، وتختلفُ أحكامُ هذه الأَشياء في زمنِ النسخ.
وإذا كان كذلك، وجب أن يُقال: إنَّ جهةَ كونِ تحريمِ بيع البُرِّ متفاضلاً مصلحةً، علمُ اللهِ عزَّ وجلَّ بأنَّنا عند تحريمِ ذلك وكفِّنا عنه نكونُ أقربَ إلى الطاعةِ، وأبعدَ عن المعصيةِ، أو يكونُ نفسُ اعتقادِنا التحريم والانكفاف لأجلِ ذلك الدليل، مصلحةً لنا من حيث إنَّا بنينا على ذلك، وحملنا المقيس عليه، ولا انفصال عن ذلك.
ويقالُ لهم: إنَّكم بهذِه الطريقةِ والمطالبة ناقضون لمذهبكم في الأصلح، لأنَّكم قلتم: إنه لايعلمُ الألطافَ والمصالحَ في العباداتِ الشَّرعيةِ الاّ علاَّمُ الغيوب، وإنه لاسبيلَ لأحدٍ من الخلقِ إلى علمِ ذلك، وتقولون: إنَّه لايجوزُ
__________
(1) في الأصل: "مصالحاً".
(5/287)
 
 
أن يُطالَبَ أحد من الخلقِ بعلمِ ما لا سبيلَ إلى علمِه، ثم تطالبونا مع هذا القول بتعريفِكم وجهَ المصلحةِ في تعلُّقِ الأحكامِ بصفاتِ ما حلَّ أو حرُمَ، وهذا تعدِّ منكم ورجوعٌ عن قولِكم.
ويقالُ لهم أيضاً: إنَّنا إذا علمنا أنَّ العليمَ الحكيمَ لايتعبَّدُنان إلا بما فيه المصلحةُ، قطعنا أنَّ العباداتِ كلها مصالحُ، وإن لم نعلم وجهَ المصلحةِ في كلِّ واحدةٍ من العباداتِ بعينِه، ولا يكون جهلنا بوجهِ المصلحةِ في كلِّ شيء منها مُخرجاً لنا عن العلمِ بأنه مصلحةٌ في الجملةِ، ألا ترى أنَّ الصِّحةَ والمرضَ، والقوَّةَ والضَّعفَ، والغِنى والفقرَ، وكلَّ ما يفعلُه الله سبحانَه عندكم بالعبدِ، وإن لم يعلم على وجهِ التفصيلِ كونه مصلحةً ومن أي وجه، كان ذلك مصلحةً له.
والذي يكشفُ عن صحَّةِ ما قلناه، من أنه ليسَ من شرطِ المعرفةِ بكونِ الشَّيء مصلحةً أن يكونَ وجهُ المصلحةِ فيه معلوماً لنا، بدليلِ أعدادِ الركعاتِ، ومواقيتِ الصلواتِ، فكونُ الرُّكوع واحدأً، والسُّجود اثنتينِ، وتكليف الجوع والعطش في نهار الصوم، والتطيب للجمعة، والشعث للحجِّ، وتحريم العمَّةِ والخالةِ، وتحليل ابنتَيهِما، وتحريم قتل الصيد في الحَرَم والإحرام، والبُدْن في ذبح الهَدْي في الحرم والإحرام، فهذه كلُّها تكاليف فإذا قلنا لكم بأنها مصالحُ، دخلنا معكم في القول بالأصلح فيها، وإن جهلنا وجه الأصلح في كلِّ واحدٍ منها، فيَبْطُلُ ما تعلقتُم به من إبطالِ الأصلح بالجهلِ بوجهِ الأصلح، حتى إنّنا لو أوقفنا التزامَ التكليفِ على معرفةِ وجهِ كلِّ شيء منه في فعلٍ وتركٍ، وإيجابٍ وحظرٍ، لما لَزِمَنا شيء
(5/288)
 
 
من التكليفِ، إذ لا تتحقَّقُ لنا معرفةُ ذلك، وهذا يبطلُ جميعَ التكاليف، وما أدَى إلى ذلكَ باطلٌ.
على أني أقولُ: من المنكَرِ قولُ القائلِ: إن الله سبحانَه إنما تعبَّدَ العقلاءَ بالقياسِ لاستخراج جواهرِهم، وامتحانِ آرائهم، وما يعتريهم في ذلكَ من كَلِّ (1) القلوبِ بالأفكارِ، وتَهْذيبِها بالبحثِ والتدقيقِ المؤدي بها إلى الاستبصارِ واستثارةِ عِللِ الأحكام، ومقابلةِ أربابها يحزيلِ الثوابِ، وليرفَعَ الله منازلَ العلماءِ، وهل هذا إلاَّ عينُ الحكمةِ في تكليفِهم؟
كما أنه سبحانَه قسَّمَ منافعَهم الدنيوية بين كلياتٍ تولاَّها لاسبيلَ لهم إلى تحصيلِها، ولا التسبُّبِ إلى تأثير ما يحصلُ عندها، كالرياح والسَّحابِ والأمطارِ وخلقِ الحيوان لأنواع الأغراض، فجرت تلك مجرى النّصوصِ التي لاسبيلَ للعبدِ إلى تحصيلِ الأحكامِ الحاصلةِ بها والصَّادرةِ عنها، وبين جزئياتٍ وكَلَها إلى اكتسابِ خلقِه، واستخراجِها بصفاء نحائزهم (2) وصحَّة قرائحهم، كالحرثِ والحصادِ والدِّياس، وما يحتاجودت إليه من بناء الأكنان والبيوتِ، ونساجةِ الملابسِ وعملِ الأطعمه لتقريبها من التغذيةِ والتناول، وتركيبات الأدويةِ للأمراض، والجُنُن المانعة من الأذايا، كالدروع وما يقي الحرَّ والبرد من الملابسِ، فجمعَ لهم بين النعمتينِ؛ الكبرى التي تولاها، والصُّغرى التي ألهمهم توليها، وهداهم إلى تحصيلِها بما منحهم من صحَّةِ النحائزِ. وأدوات التحصيلِ من جَودةِ القرائح، وهذا
__________
(1) الكَلاَل: الاعياء. "القاموس": (كلل).
(2) النحيزَةُ: الطبيعة. "القاموس": (نَحَزَ).
(5/289)
 
 
دأبُهُ ومَشِيئتُه (1) سبحانَه في جميع الحيوانِ يتولى الأجنَّةَ في ظُلَم الأحشاءِ، بتولي التغذية، وإيصال الغذاءِ، فإذا ظهروا من بطونِ الأمهاتِ، سخرَ لهم القلوبَ للتربيةِ والتغذيةِ، فإذا نهضوا وكَلَهم إلى اكتسابِهم، فما الذي يبعدُ من فعلِه في التكليف؛ كذلك يتولى النُّصوصَ فيما لايتعدى العقلُ إليه، ويَكِلُهم في استخراج المعاني بالمقاييسِ الصَّحيحةِ عن الفطَرِ السَّليمةِ لتحصيلِ الأحكامِ من الحلالِ والحرام.
ومنها أن قالوا: وممَّا يدلُّ على إحالةِ التعبُّدِ بالقياسِ، أنَّه لو كانت المعاني المنتزعةُ من الأصولِ أدلةً على ثبوتِ الأحكامِ، وعللاً لها، لم يقف كونُها أدلًةً على ورودِ شيء يتصلُ بها، وحمعِ يُوقِفُ على كونِها أدلةً، كما أنَّ أدلَّة العقلِ لايقفُ كونُها أدَّلةً على شيءٍ سواها، ولا معنىً ينضمُّ إليها، ولا يدلُّ عليها. فيقال: إنها وإن كانت عللاً، فليست عللاً حقيقة ومعنىً، نفى (2) الحقيقة عنها أنها ليست موجبةً للأحكامِ لأنفسِها وأجناسِها وما هي عليه من الصِّفاتِ من ذواتِها، وإنما تصيرُ أدئة بالوضع والتوقيف، وكذلك وقفُ كونِها على المسمَّى أو الحكمِ بالوضع أو التوقيفِ، وكذلك وقف كونها دليلاً على جعلِ السَّمع لها أدلّةً، فسقط ما قالوه.
ومنها أن قالوا: ومما يدلُّ على إحالة التعدية، أنَّه لوصحَّ أن نُدرِكَ
__________
(1) في الأصل: "سببه".
(2) في الأصل: "نعنى".
(5/290)
 
 
معرفةَ الحكمِ وثبوتَ المصلحةِ فيه بالقياسِ وطريق الظنِّ، لصحَّ أن نُخْبِرَ عن الغيوبِ، وما يكونُ في المستقبلِ، وأن نُصِيبَ الصِّدقَ فيه بطريقِ القياسِ، ولما لم يجز ذلك، لم يجز استبدالُ علمِ الأحكامِ والمصالح بطريقِ القياسِ.
فيقال لهم: إنّ كلَّ شيءِ جعلَ عليه أمارةً أو دلالةً فليسَ من الغيوب، بل الغيبُ ما لا دليلَ عليه، وَانفردَ الله سبحانه بعلمِه، لأنّه لايقفُ علمُه على دليل، فإذا جعلَ الله سبحانَه الاسمَ والمعنى المُودَعَ في النَّصِ أمارةً على ثبوتِ الحكم، ثبتَ كونُهما دلالةً على الحكمِ، وعلى تعلّقِ المصلحةِ بتحريمِ كلِّ ما له ذلك الاسمُ والمعنى، فكذلكَ إذا جعلَ الله سبحانه لنا أمارةً على إصابةِ الصِّدقِ في جميع ما نخبر به، علمنا عند حصولها كوننا صادقين فيما نخبر به، وإذا تعبَّدنا بأن نخبرَ بذلك، عُلِمَ كونُ الصلحةِ متعلقةً في التعبُّدِ بذلك، فلو أنَّنا قدَّرنا قولَه تعالى لإنسانِ: إذا أظلَّك السَّحابُ، أو كَسَفت الشَّمسُ، فأَخبر عمَّا في بطونِ الحوَاملِ، وعن الغيوبِ المستقبَلة، فإنَّكَ لاتخبرُ إلاَّ بالحقِّ والصِّدقِ، لوجبَ أن نعلم بإظلال السَّحاب وكسوفِ الشَّمسِ حصولَ صدقِ ذلكَ الإنسانِ بجميع ما يخبرُنا به من كونِ ما في بطنِ الحاملِ ذكراً أو أنثى، وقدوم زيدٍ الغائب غُرَّةَ الشهر، ومجئ الغيث يومَ السبت، وموت عمرَ يومَ الأحد، وإذا جازَ أن يُجعَلَ إظلالُ السَّحابِ، وكسوفُ الشّمسِ، أمارةً على إطلاعِه سبحانه لبعض النَّاسِ على الغيوبِ التي لا يعلمها سواه، لم لاجاز أن يُجعَلَ بعض الأمارات لمجتهدٍ علامةً على الوقوفِ على حكمِه سبحانَه في الحادثةِ من تحليلٍ أو تحريم؟
(5/291)
 
 
ومنها: أن قالوا: القياسُ فعل القائس، ولا يجوزُ أن يتوصلَ بفعلِه إلى معرفة المصالح.
فيقال: لسنا نعرف المصلحةَ بنفس نَصبِ العلَّة، ولا بحملِ الفرع على الأصلِ الذي هو فعل القائس، وإنما نعلمُ ثبوتَ المصلحةِ في ذلكَ بتوقيفه على تعليقه الحكمَ بالعلةِ وقوله: ما وجدتموها فيه فاعلموا أنَّ حكمي فيه كذا وكذا، فنعلمُ المصلحةَ بحكمِ ما حكمَ به، وبكونِ المعنى دلالةً على ثبوتِ الحكم، وفِعْلنا إنَّما هو حملُ الفرع على الأصلِ، والله سبحانَه هو الدَّالُّ على وجوبِه، وهو سبحانَه -على أصلِهم- لا يَتعبَّدُ إلا بما فيه مصلحةٌ، فبطلَ ما قالوه.
ومنها: أن قالوا: لو صحَّ أن يتعبَّدَ بالقياسِ في أحكامِ الفروع التي ترد للمصلحةِ، لجازَ أن يتعبَّدَ بإثباتِ الأصولِ وإن كانت من المصالح، فلمَّا لم يجز إثباتُ الأُصولِ به، لم يجز إثباتُ الفروع.
فيقال لهم: ومَنِ الذي خبَّركم عنا. بمنع ذلك؟! بل القولُ عندنا في ذلك: أنَّه متى نصبَ لنا أدلَّةً على وجوبِ إثباتِ الحكم في الأصولِ، لآثبتنا صلاةً سادسةً، وحَجَّة ثانيةً، وصومَ شهر آخر، ولكن ليس في شىءٍ من الأصول صفةٌ جُعلَت أمارةً على إثبات أصل آخر، فلذلك امتنعنا، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الاجتهادِ في طلبِ القِبْلةِ ثبت في حقِّ البصيرِ؛ لأنه جَعلَ له إلى معرفتها طريقاً، ولم يثبت في حقِّ الضّريرِ حيث لم يَجعلْ له إلى معرفتها طريقاً. لذلك فإنَّ المنعَ من إثباتِ أصلٍ إنَّما كان لعدمِ الطريقِ، لا لكونه أصلاً، ولو عدمنا الطريقَ في الفروع لما أثبتناها إلا بالسَّمع.
(5/292)
 
 
ومنها: أن قالوا: لما ثبتَ أنَّ المصلحةَ في إثباتِ الأصولِ لما لم يصحَّ أنَّ تُعلمَ إلا سمعاً وتوقيفاً، لم يصحَّ أن يُعلمَ ثبوتُ الحكمِ في الفرع وكونُه مصلحةً إلا من هذا الطريق، لأنَّ ما يُعلم جليُّهُ من طريق، وجب أن يُعلَمَ خفيُّه منه، وهذا يوجب أنْ لا يثبت حكمُ الفرع، وتعلُّقُ المصلحة به إلا بالنص.
فيقالُ لهم: لِمَ سلمتم أنَّ ما عُلِمَ جليُّه من طريقٍ وجب أنْ يُعلَم خفيُّهُ منه، وما الدليل على ذلك؛ وما أنتم فِى هذا إلا بمثابة مَنْ قال: إذا وجب العلمُ ببعض الموجودات ضرورةً، وجب العلمُ بكلِّ موجودٍ ضرورةً، وإذا عُلِمَ بعضُها بدليل، وجب عِلْمُ جميعها بدليل، لتساوي صفة الوجود في كلِّ موجود، وكذلك يجب إذا عُلِمَ بعض الأمور بدَرْكِ الحاسَّة، أنْ يعلمَ سائرُها من ذلك الطرَّيق. وهذا كلّه باطلٌ، لأنَّ طريقَ العلمِ بوجود الشَّيء لا يجب أن يكون طريقاً للعلم بغيره، وكذلك يجب إذا علم قبح بعضِ المقبَّحات، وحُسْن بعض المحسَّنات عقلاً، والفرائض والعبادات العملية عقلاً وضرورة، وجب أن يكون طريقاً للعلم بحُسْن سائر العبادات، وقُبْح جميع المحظورات بضرورة العقل، وهذا باطلٌ عندهم، لأنَّ منه ما يعلم ضرورةً بطريق العقل، ومنه ما لا يعلم إلا بطريق السَّمع، ولو لم يَرِدْ سمعٌ لما عُلِمَ قبحُ ذلك، ولا حُسنُه، وهذا نقض لكلامهم ظاهر.
ثم يقال لهم: إننا لا نَدَّعي علمَ أحكامِ الفروع بقياسنا، وحَمْلِنا الفروعَ على الأصول، وإنما نعلم ذلك يحعل الصِّفة علامةً لنا على إثبات الحكم، فما يثبت الحكم في الفرع بالسَّمع والتوقيف، كما أثبت في
(5/293)
 
 
الأصل بذلك، غيرَ أنَّه مسموع في الأصل، ومستدل عليه في الفرع، وهذا كما نَعلمُ بعض المعلومات العقلية بضرورة العقل وبديهته، ونَعلمُ بعضها بدليله وحجته، وكله معلوم بالعقل، فكذلك نعلم ورود الحكم من الله سبحانه في بعض الأمور سماعاً ونصاً، ونعلمه في بعضها بدليل، وكلّه معلومٌ وثابتٌ بالسَّمع؛ لأنَّ السَّمعَ جعل المعنى أمارة على الحكم، ولو لم يرد ذلك لم يكن علامة تُبْطِلُ ما قالوه كلّه.
ويقال لهم أيضاً: إذا كانت العللُ العقلية تُدرَكُ صحتُها ...... والعلم بما أدّت إليه ببنائها على الأصول التي هي العلومُ الضرورية ومردودة إليها، وجب أيضاً أن لاتكونَ علومُ الحواسِّ والضَّرورات طريقاً للعلم بشيءٍ إلا ببنائها على علومٍ اخرى، وكذلك القولُ في أصول أصولها، وإذا لم تجب التسويةُ بين الفروع والأصولِ فِى هذا البابِ، لم يجب ما قالوه.
وكذلكَ إذا كنا قد اتفقنا على أنَّ علومَ الضَّرورةِ متناوِلةٌ للمعلوماتِ، بأنفسِها بغيرِ واسطةٍ، وبناؤها على علومٍ سواها، وجبَ أن تكون هذه سبيلَ علومِ النظر التي هي فروعُها حتى نحصِّلَ علوماً متناوِلة للمعلوماتِ، مبتدأة من غير نظرٍ ولا بناءٍ لها على علومٍ هي أصول لها متقدمةٌ عليها، وإذا لم يجب هذا باتفاق، سقطَ قولهم: إنَّ ما به ثبت الأصلُ، هو الذي به يجب ثبوتُ الفرع.
على أنَّ أصلَ الكلامِ منهم باطل؛ لأنَّ لكلِّ حقيقةٍ دركاً مخصوصاً،
(5/294)
 
 
بحاسَّةِ السَّمع تُدركُ الأصوات، وبحاسَّة (1) البصر تُدركُ الألوان، ودركُ الطُّعومِ بالذوقِ، ودركُ الرَّوائح بالشَّمِّ، ومعلوم أنَّه لايجوز أن يقالَ: لما كأنا حاسَّة منها تدركُ محسوساً مخصوصاً، يجبُ أن تدركَ غيرَه أو يُدركَ بغيرِها.
ومنها: أن قالوا: أجمعَ القائسونَ على أنَّ علةَ الحكمِ المستنبطةِ تحتاجُ إلى دليلٍ، وكونُها تحتاجُ إلى دليلٍ يمنعُ كونَها دليلاً، بل تكونُ بهذه الرتبةِ كالحكمِ، والحكمُ لمَّا افتقر إلى دليلٍ لم يكن دليلاً.
فيقال: ليسَ الأمرُ على ما ذكرتُم؛ لأنَّ قولَ الرَّسول لم يثبت كونُه صدقاً إلاَّ بدلالةِ الإعجاز، ولم يكن احتياجُه إلى دليلٍ مانعاً من كونه دليلاً على الأحكام، وكذلك القرآنُ ثبت كونُه صدقاً وكلاماً لله سبحانَه بدليلِ العقل، ومع ذلكَ فهو دالّ على الأحكامِ.
وحدثُ الأعراض وأصل ثبوتها إنّما كانَ بدليلٍ، ثم إنَّها في أنفسِها بعدَ ثبوتِها بالدليلِ- الذي لولاه لما ثبتَ العلمُ بوجودِها ولا بحدثها- كأنا دليلاً على حدثِ الأجسامِ، فكلُّ مستدِلِّ بهما عدا علمِ الحسِّ والضَّرورةِ، معلوم بدليلٍ، وإن كانَ دليلاً في نفسه.
ومنها: أن قالوا: لابدَّ أن يجعلَ الله للمكلَّفِ طريقاً إلى معرفةِ حكمِه، والقياسُ لا يجوزُ أن يكونَ طريقاً إلى ذلك، بدليلِ أنَّه لابدَّ فيه بإجماع القائسين من علةٍ يقاسُ عليها، والعلَّةُ: صفةٌ أو حكم في الأصل، وهي
__________
(1) في الأصل: "وحاسة".
(5/295)
 
 
محتملةٌ لتعلُّقِ الحكمِ بها، ومحتملةٌ أن لايتعلق الحكمُ بها، وأن يكونَ الحكمُ في الأصلِ غيرَ معلولٍ أصلاً، أو معلولاً عندَ الله بغيرِ ما ظنه القياسُ عليه، وما يصحُّ فيه هذا التجويزُ والاحتمالُ، لايكونُ دليلاً موصلاً إلى العلم.
فيقالُ: إننا متى غلبَ على ظنِّنا أنها علةٌ للتحريمِ أو التحليلِ بالطرد والجريانِ (1)، أو بالتأثيرِ، أو المقابلةِ والتقسيمِ، وجبَ بعد غلبةِ ظننا لذلك، القطعُ على أنها علةٌ للحكم، وصارَ غلبةُ الظنِّ لكونِها علةً، علماً قاطعاً على وجوبِ تحريمِ كلِّ ما وجدت فيهِ من غيرِ شكِّ في وجوبِ ذلك، وأنه حكمُ اللهِ الذي لاحكمَ لله غيرُه، كما لو قال: إذا ظننتَ أنَّ زيداً في الدارِ، ووجدتَ الظنَّ كذلكَ من نفسِك، فقد جعلتَ ظنك لذلكَ علماً على تحريمِ الطعامِ والشرابِ قطعاً عند ظنِّك كونَ زيدٍ في الدار، بتحريمِ ما جُعِلَ ذلك عَلَماً على تحريمه من غير شك وتجويز لخلافِ ذلك، فبَطلَ ما قالوه.
فهذا على قولِنا: إنَّ كلَّ مجتهد مصيب، وأمَّا إنْ قلنا: بأنَّ الحقَّ من قولِ المجتهدين في واحدٍ، فلا يمكنُ أن نقولَ: إنَّ ما غلبَ على ظنِّ المجتهدِ هو الحقيقةُ والقطعُ، وإنه حكم الله، وإنَّ ما ظنَّ المجتهدُ أنَّه علةُ الحكمِ هو العلةُ للحكم عند الله، لكنا نقولُ: إنها علةُ الحكمِ في غلبةِ الظنِ، وذلكَ كافٍ في إبطالِ ما تعلَّقوا من الترددِ، وأحكامُ الشَّرع على هذا؛ بدليلِ ما يرويه الواحدُ عن صاحبِ الشَّرع متردِّد، لكن تَرَجُّحُ خَبَرِهِ إلى جانبِ
__________
(1) في الأصل: "والحرمان".
(5/296)
 
 
الصِّدق لعدالتِه، واجتماع شروطٍ فيه أوجبت غلبةَ الظنِّ، أوجبَ ذلك بناء الحكمِ على قولِه، حظراً كانَ، أو إباحةً، أو إيجاباً.
ومنها: أنْ قالوا: لمًا كانت العلَّةُ العقليةُ لايصحُّ تقدمُها على الحكمِ، وكانَ حكمُها لو تأخَّرَ عنها أبطل كونَها علَّةً، وجبَ أن يدلَّ ذلك على فسادِ العلةِ الشَّرعيةِ، لأنَّ حكمَها متأخِّر عنها؛ لأنَّ الشِّدة تكونُ في الخمر، وإنْ لم يكن حراماً قبل الشَّرع، وفي الشَّرع أيضاً قبلَ نزولِ النسخ.
فيقال: إنها ليست على الحقيقةِ، ولو كانت موجبةً، كالعقليةِ لم توجد إلاَّ موجبةً لحكمها، وحكمُها مقارنٌ لها غيرُ متأخِّرٍ عنها، وإنَّما هي بمنزلةِ الاسم الذي هو علَمٌ على المسمّى بوضع اللُّغة، كذلكَ هي عَلم على الحكمِ بوضع الشَّرع، وتَخرجُ عن أن تكونَ عَلَماً بالنَّسخ وتكون عَلَماً على الضِّدِّ، وهي بعد أن جعلت علَّةً للحكم، وعلماً عليه لا تزال تدلُّ على الحكم ما دامت مجعولةً علةً، وتكون بعد النسخ وإعدامها عن كونِها علةً كعدم العلم في إعدام كون العالمِ عالماً، وعدم الحركةِ لكون المتحرك متحركاً، فالنسخُ لها كَالإعدام للعللِ العقليةِ، وما دامت موجودةً، فهي مقتضيةٌ للحكمِ اقتضاء العللِ العقليَّةِ.
ومنها: أن قالوا: لو كانَ من صفاتِ المحرم والمحلّلِ ما هو علةٌ توجب الجمع بينَه وبين ما لم يذكر في ذلكَ الحكمِ، لوجبَ أن يوجَبَ الجمعُ بينهما في جميع الأحكامِ.
فيقال: ما أبعدَ هذا! لأنَّ العلةَ العقليةَ توصاُ الجمعَ بين ما وجدت
(5/297)
 
 
فيهِ فِى الحكم، ولا توجبُ الجمعَ بينهما فِى جميع الأحكامِ، لأنها ليست علَّةً لجميعها، وكذلكَ العلةُ الشَّرعيةُ، وكذلكَ جريانُ الاسمِ المعلقِ به الحكمُ على الشيئين يوجبُ الجمعَ بينهما، ولا يقتضي الجمعَ بينهما في جميع الأحكامِ، فسقط ما قالوه.
ومنها: أن قالوا: لو جازَ أن تُجعَلَ بعضُ صفاتِ الأصلِ علة، لم يكن بأن تكونَ علّةً للحكم بأَوْلَى من غيرِها من الصِّفات، وهذا يوجبُ تكافؤَ الأدلّةِ، أو أن تكونَ جميعُ صفاتِ الأصلِ علةً للحكمِ، وذلكَ باطلٌ.
فيقال: ليسَ صفةُ الأصلٍ علةً من حيثُ كونُها صفةً، لكن لأجلِ جعلِ الشَّرع لها علةً وعلامة على الحكمِ بطريقِ الاستدلالِ عليها، كما تصيرُ علَّةً له بالنصِّ على أنَّها علة لا لكونِها صفةً، ولا يوجبُ ذلكَ جعلَ صفاتِ الأصلِ كلها علةً، وكما يصيرُ الاسمُ علامةً على الحكم، ولا يجوزُ أن يقال: ليس بعضُ أسماءِ الشَّىءِ بأن يُجعَلَ علةً على تحريمه، بأَوْلَى من بعضٍ إذا كان السَّمع قد جعله عَلَماً على تحريمه، وإذا ثبت هذا فسد ما قالوه.
ومنها: أن قالوا: إنَّ في الحكمِ بالقياسِ إيجابَ إثباتِ الخبرِ عن الله عز وجلَّ ورسوله- عليه الصلاة والسلام- بقياس، وهذا باطل، لأن الخبرَ عنهما وعن غيرهما لايصح أبداً ثبوته بقياس، والقائل بموجب القياس يتوسَّعُ في خبره عن الله بأنه قد حرَّمَ النبيذَ حيثُ حرَّمَ الخمر، وحرَّم التفاضل فِى الأرز حيث حرَّم التفاضلَ فِى البُرِّ، وهذا تجرُّؤٌ على الله سبحانه.
(5/298)
 
 
فيقال لهم: لسنا نخبرُ عن تحريمِ النَّبيذِ بالقياسِ، بل نخبر بذلك عن إخبار الله لنا بذلك، إذ قامت الدِّلالةُ عندنا على ثبوتِ القياسِ وأنَّه سبحانَه قد تعبَّدَنا به، وجعلَ العلَّةَ التي يستدلُّ عليها هو طريق العلم بصحتها، وغلبة الظن لكونها علة وعلامة، على أنه إذا وجدت فيه فحكمُه كذا وكذا، فكنا حينئذٍ مُخبِرين بإخبارِ الله عزَّ وجلَّ بتحريمِ الفرع بالخبرِ الذي حرمَ به الأصل، وصارَ ذلك بمثابةِ أن يقول لنا: إذا ظننتم أنَّ زيداً في الدارِ، فاعلموا أنني قد حرمت عليكم الطّعامَ والشَّرابَ والكلامَ، فإننا مع هذا القولِ إذا غلبَ على ظنِّنا كونه في الدارِ، علمنا قطعاً أنَّ الله تعالى قد أخبرنا بتحريمِ ذلك، وكذلك لو قال: إذا علمنا كونَ زيدٍ في الدَّارِ، فاعلموا أنَّ خالداً في المسجدِ، وجبَ متى علمنا أنَّ زيداً في الدارِ أن نعلمَ أنَّ خالداً في المسجد، وكنا مُخبِرين بذلكِ عن إخبارِ الله سبحانه لنا، لا بقياسٍ، ولا بكونِ زيدٍ في الدار.
وكذلكَ لو قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا تركتُ يدي على رأسي، أو تقلَّدتُ سيفي، فاعلموا أنَّ الله قد حرَّم عليكم كذا وكذا، كان ما نَشْهَدُهُ من تركِ يده على رأسه، أو تَقَلّدِهِ لسيفه، علامةً على أنَّ الله سبحانه قد أخبره بتحريمِ ذلك الذي أشارَ إليه، فنكونُ مُخبِرين بخبره عن اللهِ، لا بتلكَ الأمَارة.
وجوابٌ آخر: وهو فيما تعلَّقوا به من هذه الشُّبهات لنفي القياس، إنما هي شُبُهاتٌ لا يجوز أن يكون مثلُها نافياً للقياس، ولا دلالة على نفيه، وفي إبطالِ القياس بمثْل هذا ينقلب عليكم ما ذكرتم، فيقال لكم: إنكم
(5/299)
 
 
تخبرون بذلك عن الله، ولا يجوز الخبر عن الله سبحانه بما هذا سبيله، ولايقطع بمثله على نفي القياس، فنحن فيما أخبرنا عن الله على الوجه الذي ذكرنا بالتحريم أسعد منكم فيما تخبرونَ بهِ عن الله في نفي القياسِ، لأننا نستندُ بذلكَ إلى أماراتِ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم -وإجماع أصحابهِ بعده، وأنتم مخبرونَ بالمنع من ذلك من غير مستندٍ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ في إجازةِ القياسِ وتصحيحهِ إيجابَ تكافؤ الأدلةِ، وأن يكونَ حاكماً بالشَّيءِ وضدِّه، ومحرماً لما أحله، وذلكَ محالٌ.
وإنما وجب هذا لأنه لا صفةَ يدَّعي بعضُ القائسين أنها (1) علةٌ للتحريمِ، إلا ويجوزُ لغيره أن ينصبَ علّةً تقابلها موجبةً للتحليل، فلا يكونُ قولُ بعضِهم أَوْلى من قولِ بعضٍ، ولاعلةُ أحدهمِ بأن يكونَ الحكمُ متعلِّقاً بها أَوْلى من علّةِ غيرِه، وهذا هو القول بتكافؤ الأدَّلةِ والأحكامِ المتضادَّة، وذلكَ غيرُ جائز على الله سبحانه في شرائعه.
فيقال: لسنا نمنع تكافؤ الصِّفاتِ التي ينتزعها المختلفونَ من القائسينِ، وكونُ كلِّ صفةٍ منها دلالةً على تعلّقِ الحكمِ بها في حقِّ من غلَبَ على ظنِّه منهم أنَّ الحكمَ متعلِّق بها دون ما عداها، وأن تكونَ أحكامُ الله تعالى في الحادثةِ وتعليلُ حكمِها مختلفةً في حقوقِ المجتهدين، وفرضُه عليهم في ذلك مختلفٌ، لأن ذلك ليس بمُستبعَدٍ القولُ به، وسنوردُ في ذلكَ ما يقتضيه في موضعِه، حتى إنه إذا تساويا عندَ المجتهد تساوياً يمتنعُ معه
__________
(1) في الأصل: "أنه".
(5/300)
 
 
الترجيحُ، كانَ المجتهدُ مخيَّراً كما خُيِّر المكلَّفُ في بعضِ الكفاراتِ بين ثلاثة أشياء، لمّا تساوت الأعيانُ الثلاثةُ.
على أنّا لو سلمنا أنَّ الحقَّ عند الله في واحد وليس كلُّ مجتهد مصيباً، لما كان ما ذكروه دليلاً على ذلك، لأنَّهم توسَّعوا في الدعوى حيث قالوا: لا علَّةَ لبعض القائسين تدلُّ على التحريمِ، إلاَّ ويجوزُ لغيرِه أن ينصبَ علةً موجبةً للتحليل، لأنَّ هذا قولُ من ظَنَّ أنَّ العلل لكلِّ أحدٍ نصبُها بالتشهي، أو أنَّ الله سبحانه لم يجعل لعلَّةِ الحكمِ أمارة تمتازُ بها وتترجح على ما يشتبه على آحاد المجتهدين ويتوهَّمه علَّةً لحكمٍ يضاد ذلك الحكمَ، وليسَ الأمرُ على ما ظنَّه، بل العلَّةُ التي توجبُ حكماً من تحليلٍ أو تحريم لايجعلُ الله سبحانَه لها ما يُضادُّ حكمَها ممَّا يصحُّ به التعليل.
وما ذلكَ إلاَّ بمثابةِ اختلافِهم في الحكمِ، وتعلق كلِّ واحدٍ. مما يدعيه نصاً لله أو ظاهراً، وإن كانَ النَّصُّ من الله سبحانه لا يقعُ على حكمين مختلفين إلاّ وأحدُهما رافعٌ للآخرِ ناسخ له.
وهذا أصلٌ لنا، وأنَ الله سبحانه لا يجعلُ الأماراتِ على الحكمينِ المختلفينِ متساويةً، ولا بدَّ أن ينصبَ على علَّةِ الحكمِ دلالةً لا ينصبُها على علةٍ أُخرى، فتمتازُ بنصبِ تلكَ الأدلةِ عن توهُّمِ الأُخرى علَّة للحكمِ المضادِّ لحكمِ العلًةِ التي نصبَ عليها الدلالةَ.
ومنها: أن قالوا: قدِ اتفقَ العلماءُ على أنَّ اعتمادَ المعصيةِ، وإصابةَ المحظورِ قبيحٌ، وأنَّ الإقدامَ على ما لا يؤمنُ معه مواقعة المحظورِ قبيحٌ أيضاً، حتى إنَّ أكلَ الميتةِ ومباشرةَ الأجنبيةِ قبيحان، والاجتهادَ في مواقعتهما،
(5/301)
 
 
والتحري مع اختلاطهما بالمساليخ المذكاةِ، وبالمملوكاتِ من الاماءِ والزَّوجاتِ، قبيح، وهذه سبيل القائسينَ في الدِّماءِ والفروجِ؛ فإنهم لايأمنونَ مواقعةَ المحظورِ بتجويزِهم الخطأ على القائس، ومحال أن يَتعبَّدَ اللهُ سبحانه بما لا تؤمَنُ معه مواقعةُ الخطأ، كما أنه محالٌ أن يتعبدهم بطريق يُقطَع فيه بمواقعة المحظورِ والخطأ.
فيقالُ: إنَّ اللهَ سبحانَه قد بنى الاجتهادَ في الأحكامِ الشَّرعيةِ على أماراتٍ ظنِّيَّةٍ غيرِ قطعيةٍ، ولا مأمونٍ معها إصابةُ الخطأ، فمن ذلك الرجوع إلى خبر الواحد وشهادةِ الشاهدين في الدماء، والفُروج والأَموال والعقود، واللعان بين الزوجين، والتحالفِ بين المتبايعين المختلفين، والاجتهادِ في القِبلةِ عند الاشتباه، والبناء على الأصلِ في الشكوكِ العارضةِ كالشكِّ في الحدث، والشك في إيقاع الثلاثِ وما دونها، أو في أصل الطَّلاق والعتاق. وفي بناء الحكمِ على الأَصلِ تجويزٌ لمباشرةِ الفروج مع عدم الإذن، ونفيهِ الإباحةَ وبقاء الملك؛ لأنَّ البقاءَ على حكمِ الأصلِ لا يوجبُ العلمَ بشىءٍ من ذلكَ، لجوازِ أن تكونَ البيِّنةُ زوراً عند الله، ومع كونِ الشَّرع قد قطعَ على أنَّ أحد المتلاعنين كاذبٌ عند الله، ومع ذلك فقد بنى على هذا التجويزِ إباحةَ الدِّماءِ والأموالِ والفروج، وفسخَ العقودِ، ونقلَ الأملاكِ، لاسيَّما على قولِ مَنْ قال: إنَّ حكمَ الحاكمِ يحيلُ الحظرَ إباحةً، والإباحةَ حظراً، وما منعَ بالعفو عن الخطأ أن (1) ضمَّ إليه أجراً، فقال: "إذا اجتهدَ الحاكم فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ
__________
(1) في الأصل: "عن ضم".
(5/302)
 
 
فله أجر" (1)، وفارقَ المنعَ من الاجتهادِ في أعيانِ الفروج والمساليخ التي فيها مباح ومحظور، لأنَّ هناكَ عيناً قطعنا على حظرِها، وعيناً اختلطت بها، وفي مسائلِ الاجتهادِ ما قطعنا على عينٍ محظورة، فنحن بالدلائلِ والأماراتِ نستخرجُ حكمَ الله سبحانه.
ومنها: قولهم: لوكانَ القياسُ الشَّرعيُّ صحيحاً يجوزُ التَّعبُّد به، وهو لايثبتُ إلاَّ بعدَ ثبوتِ القياسِ العقلي، وهو أصله المردودُ قياس الشَّرع إليه، لوجب أن يجريَ مجرى عللِه المقيسِ عليها، فيجري القياسُ العقليُّ عليه، وقد ثبت أنَّ العلَّةَ العقلية إذا أوجبت حكماً، وجدت مثلها ونظيرها موجباً لذلك الحكم، وقد اتفقَ القائمون على أنَّه قد يكون مثلُ علةِ الحكمِ في الشيء غيرَ علة لثبوته في غيره، فوجب لذلك القضاءُ بفَسادها، وبطلانُ القياس عليها.
فيقال لهم: إننا لا نثبتُ القياسَ الشَّرعيَّ لثبوتِ القياسِ العقلي، ولا نعلم أنَّ العلَّةَ لتحريمِ الشيءِ وتحليلِه علةٌ لذلك بقَضِيَّةِ العقلِ بضرورتِه ودليل فيه، وإنَّما نصَحِّحُ القياسَ الشَّرعي وموجبه بالتوقيف على وجوبِه، ونعلمُ علةَ الأصل علَّةً بحكمةٍ يجعلُها سبحانه لنا عَلَماً على الحكم، ولولا ذلكَ لم يعلم كونُها علةً بما يعلما به كونُ عللِ العقلِ عللاً لأحكامها، وإذا كانَ ذلك كذلك، بطلَ ما بنيتم عليه أكثرَ شبهكم في هذا الباب، فكلامُكم في كثيرٍ منها إنَّما يتوجَّه على القائلين بوجوبِ القياسِ الشَّرعي من جهةِ العقل، فهذا فاسد عندنا بما نبيِّنه بعدُ إن شاء الله.
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 294.
(5/303)
 
 
على أنَّ ما قلتموه لا يجوزُ بعد ورودِ الشَّرع، والتعبدِ بالقياسِ، وجعلِ الصِّفة علةً للحكم وعلامة على ثبوتِه؛ لأنَّ تجويزَ وجودِها في بعضِ الأعيانِ مع عدمِ الحكمِ نقضٌ لها، سواءٌ كانت منصوصاً عليها أو مستنبطةً مستثارةً، فهو كلامٌ باطلٌ، وإن كانَ كلاماً على مجيزي تخصيصِ العللِ الشَّرعيةِ مع ثبوتِ القياسِ والتعبدِ به، وذلكَ غيرُ جائزٍ على ما نبيِّنه فيما بعدُ إن شاء الله.
فإن قيل: لا بدَّ لكم من القول بذلكَ، لأنَّ الله تعالى قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وحالُه - صلى الله عليه وسلم - وحالُ سائِر المؤمنين متساويةٌ، وقال عليه الصلاة والسلام في أُضحِيَّة أبي بُرْدة: "تُجزِئُك ولا تجزئ أحداً بعدك" (1) وجميعُ المكلفين متساوون، ولا معنى يختصّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بردة يوجب إفرادَهما عن جماعة المكلفين المتساوينَ حُكماً.
قيل: ليسَ الأمرُ على ما ذكرتم، لأنَّ هذين الحكمين ليسا معلولين، ولا يدلُّ على تعليلهما دليلٌ، وما نقولُ: إنَّ جميعَ أحكامِ الشَّرع معلولةٌ، بل الأكثرُ منها غير معللة، وهذان الحكمان من جملة ما لم يُعلل، ولا عرفنا له علَّةً دلَّ عليها بعضُ الأدلّةِ على العللِ الموجبةِ للتسوية بين النبي عليه الصلاة والسَّلام وبين غيرِه من ألامَّةِ في استباحة الموهوبةِ، ولا بينَ أبي بردةَ وبين غيرِه في الأضحية، وإذا كان كذلك سقطَ ما قالوه.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 98، تعليق (3).
(5/304)
 
 
على أنه يجوزُ أن تكونَ العلةُ الكرامةَ التي خُصَّ بها، وخَصَّ أبا بردة لأجلِ أنه حَرَصَ على الطَّاعةِ فبادرَ بما كان عنده ثم لم يحل فَسومِحَ كرامة له خاصة.
ومنها: أنَّ عللَ الأحكامِ فاسدةٌ لخروجها عن سُنَنِ العللِ العقليةِ، لأنَّ منها ما لا يثبتُ الحكمُ عندكم إلاَّ بمجموع أوصافٍ ينضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، وكلٌّ منها على حدته لا يُثبِت الحكم، فالعلل ما استقلت بإيجاب أحكامها، كالحركةِ استقلت بإيجاب حكمها، وهو كون ما قامت به من الأجسام متحرِّكٌ، وكذلكَ السَّوادُ والحياةُ لكونِ المحلِّ حياً.
فيقال: قد تكرَّر منَّا القولُ بأنَّها ليست موجبةً، وإنَّما هي أمارةٌ وعلامةٌ على الحكمِ، والأماراتُ والدلائلُ قد تكونُ في كشف ما كانت أمارةً عليه متعاضدةً، كالغيمِ تتعاضدُ أماراتُه من الكثافةِ، والدنوِّ والامتدادِ، وسقوط الجدار بانشقاقه وانتثاره، وكون الأمير في داره بفتح الباب ووقوف البوَّاب وضَجَّة الغِلمانِ إلى ما شاكَلَ ذلك، فهي من هذا القَبيلِ لا من قبيل العللِ الموجبةِ، وقد أَطَلْنا في هذا القول.
على أنَّ بعضَ المتكلِّمين من القائلين بالقياس لإثبات الأحكام قد أجاب عن هذا بأن قال: وقد ضربنا في إثبات القياس مثلاً وهو غرق السّفينة، بأنه معلل باعتماد الأثقال فيها، وإذا تعاضد حجر بعد حجر، وقفيز بعد قفيز، فهذا ما أغرقها، إنما حدث غرقُها باجتماع تلك الأثقال إذ لم يكنِ الواحد من الحجارة والقفزان محصِّلاً حكمَ العلة، وهو غرقُ السَّفينة، فمَنْ قال: إنَّ الغَرَقَ حصلَ بالجميع، جعل العلَّة مجموعَ أشياءَ
(5/305)
 
 
وأهلُ الأصول في ذلك على المذهبين، وسنبيِّن ذلك في باب العلل إنْ شاء الله.
ومنها: أن قالوا: إنَّ أحكامَ الشَّرع لم تَرِدْ على بناءِ القياسِ العقلي المجمَع على صحَّته، ولا قياسُ الأحكامِ الشَّرعية واردٌ بما توجبه قضية العقل، وعلى تقدير ما فيه من الأحكام، لأنَّ قضيةَ القياس العقلي توجبُ أنَّ كلَّ شيئيْن متماثليْن متساويين فحكمُهما متماثل متفق غير مختلِف، لأنَّ الأحكامَ تَتْبَعُ عللَها، فلا توجب الحركةُ انتقالَ الجسمِ ولُبْثه، ولا السوادُ سوادَ الجسم وكونه أبيضَ، بل السَّواد يوجب كون ما قام به من الأجسام كونه أسود، والبياض يوجب كونه أبيضَ، جئنا إلى عللكم وجدنا أنَّ الشَّرعَ قد وَرَدَ بالتسوية بين حكم المختلف في الصِّفة والمعنى، وبالمخالفة بين حكم المتفقين، بيان ذلك الحيضُ، والنفاسُ، والمنيُّ، والبول، والغائطُ، والمَذي، كلُّها خوارجُ من محل واحدٍ، والحكمُ مختلف في الغُسل وتحريمِ الوطء وإبطالِ الصَّوم، وأباح النظرَ إلى وجه الحُرَّة وهو مجمعُ المحاسنِ، وحرَّم النظر إلى شعرها، وسوَّى بين قتل الصَّيد عمداً وخطأً في إيجابِ الضَّمانِ، وهما مختلفان في الغايةِ، وسوَّى في إيجابِ القتل بين الرِّدَّةِ والزِّنى والقتل، وسوَّى في إيجاب الكفارة بين قتلِ النفسِ والوطءِ في رمضانَ وبين الطهار، وهي أمورٌ مختلفةٌ جداً، ومعلوم أنَّ هذا يبطل الاعتبارَ بالأمثال وتقريبِ بعضها إلى بعض في كلِّ الأحكام، فإنَّ غايةَ ما يمكن المجتهد أن يوجب للمتشابهين اللذين جمع بينهما اجتهاده، حكماً وجده لأحدهما فعدَّاه إلى الشبيه مثلاً، وقد بانَ من وضع الشَّرع أنَّ التساوي لا يوجب حكماً للمتساويين، فلا وجه للعمل بالقياس في
(5/306)
 
 
إثباتِ الأحكام الشَّرعية، ويوضح هذا كون الشدَّة في زمانِ لا توجب تَحريماً ولا مأثماً ولا حدّاً مع كونها تفسد العقل عند التغيرَ بشدة، وفي زمان آخر حرِّمت، وفي عصير العنب كفرت المعتقِد، وفسَّقت الشارب وفي عصير التمر لم توجب ذلك، بخلاف علل العقل التي لا تختلف بمحل ولا زمان.
فيقال لهم؛ أمَّا قولكم: إن قياسَ الشَّرع ورد بخلاف حكمِ العقل .... (1) وبناء أحكامه وقياساته فهو إطلاق، باطل، لأنَّه يوهم أنَّه مُحالات العقول، وأنه قد علم بضرورة العقل أو دليله استحالةُ ورود التعبد به. وهذا باطلٌ، وفيه وقعَ الخلافُ، وبالدلالة عليه طولبتم، بل لم يرد السَّمعُ فيه من التعبد به إلاَّ بما يجوز بالعقل ولا يحيله، ولو سلَّمنا أنَّه بما يحيله العقلُ لأجَّلنا ورودَ التعبُّدِ به، ولقطعنا على بطلانِ ثبوته من أَبَى بأنه من اللهِ عزَّ وجلَّ، فهذا جواب.
وأمَّا قولكم: إنَه قد جمع كثيراً من الأحكام بين المختلفين، وفرَّق، فيها بين المِثلين في الصِّفة، فإنَّه كلامٌ مُطرًّح، لأنَّنا قد بيَّنا فيما سلف أنَّ الصِّفَة التي تكون علةً للحكم، وعلامةَ عليه، لم تكن علَّةً لكونها صفةً نفسية، أو معنويةً، أو صورةً وبُنْية وهيئة، أو حكماً شرعياً في الأصل، وإنَّما يجب أن تكون علَّةً إذا دلَّ الدليلُ على تعلُّقِ الحكمِ بها وكونها أمارةً لوجوبه ودلالة عليها، فإذا ثبت كونُها علًةً مع التعبُّد بالقياس، وجب تعلُّقُ الحكمِ
__________
(1) هنا في الأصل قدر أربع كلمات غير مقروءة.
(5/307)
 
 
بها في كلِّ ما وجدت فيه، وإنِ اختلفَ ذلك في أحكامٍ وصفات أخر، ولو ورد النصُّ بمثل هذا لوجب باتفاقٍ القولُ به والقضاءُ بصحَّته، وأنَّه غيرُ خارج عن قضيةِ العقلِ، لأنه لو قال: حُرِّمت الخمرُ لشدَّتها وصدها عن ذِكْر الله، فأَلْحِقُوا بها كلَّ ما سواها في هذه الصِّفة، لوجبَ إلحاقُ النبيذِ وكلِّ مسكرٍ شديدٍ بها، وإنِ اختلفت أجناسها وهيئاتها (1)، وكذلك لو قال: قد ضربت التكليفَ على العاقل لكونه عاقلاً، لدخل في ذلك الطويلُ والقصيرُ، والأنثى والذكر، والصَّحيحُ والسقيمُ. وهذا هو الذي تقتضيه قضيَّةُ العقل، وقضيةُ علله، لأنَّ الجسمين متى اشتركا في وجودِ الحياة بهما وجب القضاءُ على تساوي حالهما وكونهما حيَّينِ، وإن كان أحدهما قاضياً والآخر تاجراً، أو أحدهما عالماً والاَخر جاهلاً، وإذا اجتمع الجسم والعَرَض في الوجود عن عدم قُضِي لهما بالحدوث، وإن اختلفا من كلِّ وجهٍ، وفيما عدا هذه الصِّفة. وأمثال هذا يكثر و