الواضح في أصول الفقه 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
المؤلف: أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، (المتوفى: 513هـ)
عدد الأجزاء: 5
 
ويسقطُ بفعلِ واحدٍ منها أيّها فعل.
ومن ذلك قولهم: إنَه لو كانَ الواجبُ من المخيرّات واحداً لا بعينه، وأنه إنما تعين بفعلِ المكلفِ ونيتهِ، مع كونِ الله سبحانَه عالماً بما يختاره المكلفُ من الثلاثة وينويه، لكانَ ذلكَ معلوماً لله سبحانه، وهو الواجبُ عندَه، والمرادُ به له سبحانه، وأن يعلم أن غيره ليسَ بواجب، فيكونُ تخييره بين ما علم وجوبه، وبين ما علم أنه ليس بواجب، وما ليس بواجب، فهو النفلُ المتطوعُ به، وفي هذا خروج من إجماع الأمّة، فإن القائلينَ بأنَّ الواجبَ واحدٌ من الثلاثةِ لا يقولون: إنّ الواجبَ واحدٌ معين عندَ الله معلوم، وأنَّ غيرَه ليسَ بواجب.
 
فصل
يجمعُ الأجوبة عن شبههم
أمَّا تعلًقهم بتسويةِ الثلاثةِ في الأمرِ والإجزاء، فغيرُ موجب للكُلِّ، ولاللتسويةِ بينها في الوجوب، كما لم يوجب التسويةَ بينها في العقاب والمأثمِ عند الترك، ولا أوَجبَ التسويةَ بينها في إسقاطِ ما في الذّمةَ إذا جمع بين الكُلِّ في الفعل، ولأنَّ التخييرَ بلفظِ العموم، يتساوى فيه سائرُ الأعيانِ، فإنَّه لا يقول: أعتقْ عبداً من عبيدِك، واقتَل مشركاً من المشركين. إلا وكل عبدٍ يساوي غيرَه من العبيدِ، وكذلكَ المشركُ المنكرُ، ثم مع ذلك لم يقتضِ ذلك مساواتَهم في الإيجابِ، والمعنى في الأصل وهو المطلقُ، فذاكَ جمعٌ، وهذا تخييرٌ، وفرق بينهما، كما لو قال: اعتقْ عبيدَك، واقتل المشركين. اقتضى إيجابَ الجميعِ، ولو قال: اقتلْ مشركاً، وأعتقْ عبداً، لم يقتضِ إلا إيجابَ
(3/85)
 
 
قتلِ واحدٍ من العبيد، وقتل واحدٍ من المشركين.
وأما الجوابُ عن قولهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لنصب الله عليه دليلاً. فلا وجه للمطالبةِ بالدليلِ عليه، مع كونهِ قد جعلَ الاختيارَ من المكلَّفِ هو المعين له بالوجوب، كما إذا جعلَ التخييرَ إليه بلفظِ العموم، فإنَّه لما نكّر العبدَ فىَ العِتقِ، والمشركَ في القتلِ، صارَ العبدُ الذَي يبادره بالعتقِ، والمشركُ الذي يبادره بالقتل، هو الواجبَ عتقه وقتله، كذلك التخييرُ بلفظِ الخصوص.
ولأنَّ هذا باطل بالعقاب على تركه، فإنَّه لم يقم على المتروكِ المستحق به العقاب دليلًا، وَلا جعلَ إليه سبيلًا، ومع هذا فهو واحد، وباقي الثلاثة ليست كذلك، وكونُ المكلَّفِ المختارِ لا يعرفُ الأصلحَ له فيسلكُه ويقصده، ولا المفسدَ فيجتنبه، ولا يجوز أن يرد الاختيارَ إليه، لا يمنعُ أن يكونَ الباري لا يخير إلا إذا علم أنه لا يختار إلا الأصلحَ دونَ المفسد، ولو فصح الباري وصرَّح بذلكَ بأنْ يقول: أيها المكلف كفَر بأيِّ الثلاثة شئت، فمهما اخترتَ التكفيرَ به، فهو المختارُ لنا والمصلحةُ لك. وقد قلنا مثلَ ذلك في جواز ردِّ الاختيارِ والتكليفِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتشريع، فيقول الباري له: احكم بما شئتَ وما ترى، من غير قياسٍ ولا استنباطٍ، بل ما تراه فهو الحكم عندنا.
ولأنَ طلبَ الأصلح، وخوفَ مواقعةِ الأفسدِ، إنّما يكون فيما هو معيّن، فأمَّا إذا كان المأمورُ به غيرَ معيَّن، فإنه لا يجبُ البيان، لأنَّ الجميع متساوٍ.
وأما قولهم: إذا كفر ثلاثة، كلُّ واحدٍ منهم بغيرِ الذي كفر به
(3/86)
 
 
الآخرُ، فاستوعبوا الثلاثةَ أعيان، كانَ الجميعُ واجباً من حيث إنه سقطَ بها الوجوبُ عن ثلاثةٍ، كل واحد منهم قد وجب عليه نوع، فلماسقطَ بالثلاثةِ ثلاثُ كفاراتٍ واجباتٍ. دل على [أنَّ]، الثلاث واجبات، حيثُ سقطَ بها ثلاثة واجباتٍ، فلا يلزمُ، لأن كونَ الثلاثة في حق ثلاثةٍ من المكلفين لا يعتبرُ به الثلاثةُ في حق الواحدِ، فإنه لو أمرَ بلفظِ التنكير فقال: أعتق عبداً، كأعتقَ كُلُّ مُكَفر عبداً، كانَ جميعُ ما أعتقه المكفرون من العبيدِا واجباً، وَبمثله لو أعتقَ واحدٌ جميعَ أولئك العبيد، لم يكن الجميعُ واجباً، بل كانَ الواجبُ منهم واحداً.
وأمَّا تعلّقهم بفروض الكفايات، فهو الحجّةُ لنا، لأنه لما كان الفرضُ على الجميع، أثَمَ بتركه الجميعُ، فلو كانَ هاهنا الواجبُ الجميع، لأثم بتركهِ الجميعُ.
على أن فروضَ الكفاياتِ لو لم تجب على الكافة لاتكلَ بعضُهم على بعض، فلم يُفعل شيءٌ منها، وهاهنا إذا وجب واحدٌ لا يفضي تركُ اثنين إلى ترك الجميع، لأنه إذا نابَ واحدٌ عن آخر في حقِّ المكفِّر الواحِد، لم يخلدْ إلى تركِ الكل، بل غايةُ ما يخلدُ إلى تركِ الواحد والاثنين، وفي فعلِ الأخركفاية.
وأما قولُهم: إنَّ هذا يُفضي إلى أن يكونَ ما يختارُه المكلفُ من الأعيانِ الثلاثةِ هو الواجبَ عندَ الله، وما لم يختره ليس بواجب، وغيرُ الواجب هو النفل، وأحدٌ لا يقولُ إنَ الله خيَّر في هذهِ الأعيانِ الثلاثة بين واجَبٍ ونفل، فهو قولٌ مخالفٌ الإِجماعَ، فلم يبقَ إلا القولُ بأنَ الثلاثة واجبةٌ. فهذا لا يصحُّ من وجوه:
(3/87)
 
 
أحدها: أنا وإن قلنا بان الواجبَ تعين بالنيةِ، والفعلِ، إلا أنَه قبل الفعل والنيةِ غيرُ متعين، وليسَ إذا كانَ الله سبحانه عالماً بعين ما يفعلُه المكلفُ ويختاره ويعتقده وينويه، كان ذلكَ موجباً لتعيينه بالوجوبِ، كما أنه يعلمِ مَن الناهضُ من الأمة بفعلِ فروضِ الكفاية، ولا يوجب علمةُ سبحانه بذلك أن التعيين حاصل في حق من علمَ أنه ينهضُ بذلكَ، بل الفروضُ على مَآبها، فلا يتعين سقوطُ الفرضِ على الجميع إلا بفعل الناهض بذلك الفرضِ ونيتهِ واعتقادِه، وكذلكَ من قال له الشرع: أعتقْ عبداً، أو اقتل مشركاً. فإن الله سبحانَه عالم بمن يُصرف إليه العتق من العبيدِ، وُيقتلُ من المشركين، ومع ذلكَ لا يُجعل قبلَ الفعلِ متعيناً.
على أنه لو كانَ علمُ الله سبحانه بعين ما يفعلهُ المكلفُ ويختارهُ يجعلُه واجباً بعينه، لم يُستنكر أنْ يكون غيرُه نائباً منابَه، وسادّاً مسدّه، كما زعمَ بعضُ فقهاءِ أصحابِ أبي حنيفة أنَّ الصلاةَ في أول الوقتِ نفل، تمنعُ بقاءَ الفرض، وتنوب منابه في الوقت الأخير عند تحقق الفرض.
والمسبوكُ من هذه المسألة أن كُل شيء كان من هذا القبيل من التخيير بين آحاد عدد: كالشورى في الستةِ في باب الخلافة (1)،
__________
(1) تقصِدُ بالشورى في الستةِ: ما وردَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن طُعنَ واشتدَ ألمه فقيلَ له: أوصِ يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمرِ من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عنهم راضٍ، فسمّى علياً، وطلحة، وعثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً رضي الله عنهم. =
(3/88)
 
 
والأنواع الثلاثة في الكفارة، والأوقاتِ في الصلوات: الأول والأوسطِ والآخرِ، وما بين رمضانين لقضاء ما فات من صوم رمضان، لايحسُنُ أن يقال في ذلك كلّه: إن الوجوبَ عم الجميعَ، ولا إن الواجب واحد بعينه، بل يقال: إن الكُل متساوي الآحاد في صلاحيته لأداءِ الواجب به إن كان فعلًا، أو فيه إن كان وقتاً للفعل وظرفاً، فالخطأ ممن عمَّهَا بالوجوبِ في اللفظِ، وهذا هو الحاصلُ لنَا. والله أعلم.
 
فصل
ويدخلُ في ذلكَ مالا يتحقق أداءُ الواجب إلا به، كفعلِ صلواتٍ خمسٍ في حقِّ من فاتته صلاة من خمسٍ لَا يعلمُ عينها، والإِمساكِ في جزء من الليل لتحقق صوم جميعِ بياضِ اليوم، وغسلِ جزءٍ من قُصاصِ شعرِ الرأس ليتحقّق على جميع الوجه.
 
فصل
وممّا يشبهُ ذلكَ ويقاربُه، اشتباهُ الحلالِ بالحرام مما لا يمكن تركُ الحرامِ إلا بتركِه، مثل أخيه ومرضعته بالأجانب، اشَتباهاً لا يمكنُ معه التمييز.
فهذا إن كان في دربٍ أو محلّةٍ أو قريةٍ صغيرةٍ، صارَ نساؤها كلُّهن محرماتِ الاستمتاعِ والنكاحَ في حقّه، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهن يحتملُ أنْ
__________
= أخرجه من حديث عمرو بن ميمون البخاري (3800)، وابن أبي شيبة 14/ 574 - 578، وابن سعد 3/ 340 - 342.
ووجهُ الدلالةِ في هذا: أن عمرَ بن الخطاب لم يقصد أن تعم الخلافة هؤلاء الستة، وانما قصد أن يختاروا واحداً منهم.
(3/89)
 
 
تكونَ هي المحرمةَ.
فيقال: الكُلّ محرماتُ: بمعنى لا يباحُ نكاحهنّ ولا المتعةُ بهن بملكِ يمين إن كن مملوكات، وكذلك المسلوخاتُ إحداهن ميتةٌ.
 
فصلٌ
ومن ذلك اشتباهُ الأواني، يُجعل الكُل محرماً استعمالُه وشربُه إذا لم يمكن التحري، أو أمكن لكنَّ [في]، أحدِها بولاً، أو كان لا تطلق عليها الِإباحةُ قبل التمييز، ويطلق على جملتها التحريمُ عند من لم يرَ التحرّي، ولا يطلق التحريم على جميعها عند من يرى التحري، ومن يرى التحري فيها يقول: إن فيها حراماً وفيها حلالًا يحصل تمييزه بالاجتهاد.
 
فصلٌ
إذا أمرَ الله سبحانَه بعبادةٍ، وعلقها على وقتٍ يتسع سعةً توفي على فعلها؛ كالصلاةِ تجبُ لدلوكِ الشمس إلى غَسَق الليل، كما قال اللهُ سبحانه (1)، فإنَّ الوجوب يتعلق بجميعِ الوقتِ وجوباً موسّعاً (2).
ومعنى قولنا: وجوباً موسّعاً، هو أنَّ الصلاةَ وجبت بأوَّلِ الوقتِ، وجعل أوله وأوسطَه وآخره وقتاً لأدائها، فلا يأثمُ المكلفُ بتركِها في
__________
(1) في قوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
(2) تقدم بحثُ هذه المسألةِ وبيانُها في الصفحة: 43.
(3/90)
 
 
وقتٍ إذا كان عازماً على فعلها، فيما بقي في الوقت متّسعاً لها، فمن أخلّ بالعزم كان آثماً بإهماله أمرَ الله سبحانَه حيث تركَ تلقيّه بتعبدٍ ما لا فعلاً ولا عزماً، وبه قال القاضي أبو بكر الأشعري (1)، وأصحاب الشافعي.
وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: يتعلّقُ بآخرِ الوقتِ الذي لا يتَسعُ إلا لفعلِ العبادةِ.
وقال أبو الحسن الكرخي: يتعلق بوقتٍ غير معين، ويتخير المكلّفُ بين فعلِها في أوَلهِ وأوسطِهِ وآخرهِ، ويتعيّن بالفعل.
وقال بعضُهم؛ أعني أصحابَ أبي حنيفة: إنْ فعلهَا في الوقتِ الأول وقعت نفلاً، يمنعُ وجوبَ الفعل وتقع مراعاة إن بقىَ المكلفُ على تكليفه إلى آخره تبيّنا أنها وقعت واجبةً، و [إن] لم يبق إلى آخره كانت نفلاً.
وقال بعض المتكلمين: إنَه مخيّر بين الأوقاتِ في إيقاعِ الفعل فيها، كما يتخيّر بينَ الأعيان في كفارةٍ للتخييرِ في التكفيرِ بها.
 
فصلٌ
مجموعُ أدلِتنا على تعلق الوجوب بالوقتِ الأوّلِ والأوسطِ والأخيرِ، وإفسادِ قولِ من خصصّ الوجوبَ بَالوقتِ الأخير، وإفسادِ قولِ من جعلَ الفعلَ في الوقتِ الأولِ نفلاً، ومذهبِ من جعله مراعىً بحالِ المكلف في آخرهِ.
فالدليلُ لصحةِ مذهبنا وأن فعلَ العبادةِ في الوقتِ الأولِ والثاني
__________
(1) يعني: الباقلاني، كما تقدم في الصفحة: 45.
(3/91)
 
 
والأخيرِ حصلَ بحكم الأمرِ، لأنَّ الله سبحانه حيث قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، أجمعنا عَلى أنَّه
لم يُرِدِ امتدادها بالتحريمِ عند الدلوك، والتسليم عند غسقِ الليل، فلم يبقَ إلا أنَه أراد امتداد الوقتِ والساعةِ لفعلِها أيً وقتٍ شاء من هذهِ الأوقاتِ التي أوَّلُها دلوكُ الشمسِ، وآخرها غسق الليل، ومحال إخراجُ وقتٍ منها عن تناولِ الوجوب مع اتجاهِ الأمرِ إليه، وليسَ يتلقى الوجوب إلا من صيغةِ الأمرِ التى تناولت هذا الوقتَ الممتد، ولا سيّما مع تفسيرِ الشرع لذلك، فإن جبريلَ صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في الوقتين، الأول والأخير، وقال له: يا محمد، "الوقت ما بين هذين" (1)، ولا يجوزُ أن يكون المراد بقوله: الوقت ما بين هذين، الوسط الذي لم يصلَ فيه هو وقت الوجوب، فلم يبقَ إلا أنَه أراد تعميم الطرفين والوسطَ بالوجوب، وإيقاعَ الفعلِ الواجب فيها.
ومن ذلك: أنَ المأمورَ المكلف إذا أوقعَ الفعلَ المأمورَ به في الوقتِ الأولِ أو الأوسطِ أو الآخرِ، أسقطَ به الفرضَ، وخرجَ به من عهدةِ الأمر، وما خرحَ به المكلف من عهدةِ الأمرِ فهو الواجب بالأمرِ، والأوقات متساويةٌ في ذلكَ من الأولِ إلى الآخرِ، فَدلَّ على أنْ الوجوب عمَّ الأوقاتِ.
ومن ذلكَ: إفسادُ قول من خص الوجوبَ بآخرِ الوقت، أنَّ تعليقَ
__________
(1) أخرجه من حديث طويل عن جابر:
أحمد 3/ 330 و 351، والترمذي (150)، والنسائي 1/ 363، والدارقطني 1/ 256 و 257، والبيهقي 1/ 268، والحاكم 1/ 195 - 196.
(3/92)
 
 
الوجوب بالشرطِ يُفيدُ أنه إذا حصلَ الشرطُ حصلَ الوجوبُ، والشرطُ الوقتُ المذكور، وهو مستمرٌ من دلوك إلىٍ غسق، فإذا لم يتعلق بالأوَلِ خاصةً، فلا وجهَ لتعلقهِ بالآخرِ خاصة، فلم يبقَ إلا تعميمُه بالوجوب، وهو ما ذكرناه.
يوضِّحُ هذا: أنَّ الأمرَ المتعلِّقَ بالأشخاص والأماكنِ إذا وردَ كورودِ نصِّ الكتاب في هذه الصلاةِ، لم يتخصصَ أحدُ الأشخاصِ ولا أحَد الأماكن، كذلكَ الأوقاتُ والأزمانُ، ومثال ذلك وقال: احصدوهم من ثنيّة كداء حتى تلقوهم بالصفا. تعلقَ وجوب القتلِ بكل موجودٍ في هذا المكان من الطرفِ الأولِ، وهو الثنيةُ، إلى الصفا، وهو الآخر. ومثالهُ من الأشخاص؛ اقتلوا لدخول بني فلان إلى أن ينتهيَ آخرُهم، أو ينتهيَ دخولُهم، فإن ذلكَ الأمرَ بالقتل لا ينحصر بمكانٍ ولا شخص مما علق عليه الأمرُ، بل يعم جميعَ ما عُلّقَ عليه الأمرُ، كذلك هاهنا.
ومن ذلك: أنها إذا فُعلت في أوَّلِ الوقتِ لم يحلَّ أن تقعَ واجبةً وجوباً مضيّقاً، أو تقعِ نفلاً، أو تقعَ مراعاةً بحالِ الفاعلِ لها في آخرِ الوقتِ، أو تقعَ واجبةً وجوباً موسّعاً، بمعنى أنَّها لم يتخصص وجوبُها بالوقتِ الذي وقعت فيه. ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت في الوقتِ المضيّق، كما قال بعض من خالفنا، لأن علامةَ التضييق حصولُ التأثيمِ بالِإخلالِ، وليسَ الأمرُ كذلك في التركِ لفعلِها في الوقتِ الأول.
ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت نفلاً، لأنَّه لو كان كذلك، لجازَ أن تنعقدَ بنية النفلِ، لأنها فيه وصفُها وحكمها، ولمّا لم تنعقد بنيّة
(3/93)
 
 
النفلِ، بطَلَ أن تكونَ نفلاً كسائرِ الواجباتِ إذا فُعلت في آخر الوقت، بل كان يجبُ أن تكون بنية النفل أخص منها بنية الفرض، إذ كانت نفلاً عند هذا القائل.
ولا يجوزُ أن تقع مراعاةً، لأن عباداتِ الأبدانِ المقصودةَ لا يجوزُ تقديمها على حال وجوبها من غير عذرِ، فإذا بطلت هذه الأقسامُ، لم يبقَ إلا أنها فعلت في وقت وجوبها الموسع، ولأنَه إذا كان جميعُ أجزاءِ الوقتِ منصوصاً على أن للمكلّفِ فعلَه بها، لم يجز أن يكونَ وقوعُه في بعضهِا واجباً مراعاةً لأنه خلافُ موجبِ النصّ، فبطلَ هذا المذهبُ، وفيما دلّلنا به على تعميمِ الوجوبِ للأوقاتِ كلِّها إفسادٌ لمذهبِ من قال: إن الوجوبَ يتعلّقُ بوقتٍ غير معيّن.
 
فصل
في جمعِ الأسئلةِ على دلائلِ مسألةٍ في الأمرِ الموسَّع
قالوا: حصولُه في الوقتِ واقعاً موقعَ الامتثالِ، لا يدلُّ على وجوبهِ في ذلك الوقت، بدليلِ تقديمِ الزكاةِ وتعجيلها قبلَ الحول، وتقديم الثانيةِ من المجموعين على وقتها (1).
وأما تعلقكم بتناولِ الأمرِ للأوقاتِ كلّها، ليسَ بدلالةٍ على تساويها في الوجوب كما تساوت في الأمرِ، وانفرد أحدها بحصولِ المأثمِ بالتركِ فيه خَاصةً دونَ سائرِ الأوقات.
وأمّا قولكم: لو كان نفلاً لما أسقطَ فرضاً، ولصح بنية النفلِ، ولما
__________
(1) أي تقديم الثانية من الصلاة المجموعة جمع تقديم على وقتها.
(3/94)
 
 
وقع مراعى، فالزكاةُ المقدَّمة المعجّلة، فيها خصيصةُ النفل، حيث لا يأثمُ بتركها، ولا يلزمُ دفْعها، ولا يأمره الِإمامُ بإخراجها، ولا يقاتلُ عليها، فجميعُ خصائصِ الوجوب منتفيةٌ عنها، ثم إنّها تُسقطُ الفرضَ إذا حصل شرطُ الوجوب وهو حؤولُ الحولِ، فقد بان أنها وقعت مراعاةً بحؤولِ الحولِ اوعدمِ حؤوله.
 
فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ عن هذه الأسئلةِ
أما تقديمُ الزكاةِ وتعجيلُ الصلاةِ، فرخصةٌ حصلت لنوعِ منافع وأعذار ودفعِ مضار، لا بمطلقِ الأمرِ والرخصةُ غيرُ أمرِ الإيجاب، فلما اختلفا في السبب الذي أثار الفعلَ في الوقتِ الأولِ والوقتِ الثاني، فكان أحدُهما رخَصةً، والآخرُ بحكمِ الأمرِ والعزيمة.
وأمّا قولُهم: قد يستويان في الأمرِ، ويختلفان في الوجوب، كما استويا في الأمرِ واختلفا في المأثمِ، فغير لازمٍ، لأنَ الوقتَ الأَولَ لم يتعلقْ به المأثمُ، لأنَ العزمَ على الفعلِ فيما بقي من الوقتِ قامَ بدلًا، وناب عن تعجيل الفعل وتقديمهِ، والوقتُ الأخرُ لم يبقَ له خلف ولا بدلٌ، فلذلكَ حصلَ المأثم متعلقاً عنده، ولو انعدمَ العزمُ في الوقت الأول على الفعلِ في الوقتِ الآخر، لأثمَ من حين عزبَ عزمهُ وفرقٌ بينَ أن يبقى زمان تَلافٍ (1) وفعل، وبينَ انقضائِه.
كما أنَ من وجبت عليه كفارةُ تخيير، وكان له رقبة وكسوةٌ وإطعامٌ،
__________
(1) في الأصل: "تلافى".
(3/95)
 
 
فلم يعتق العبدَ حتى مات، فعزمَ على الكسوةِ، فلم يكسُ مسكيناً حتى احترقت أو سُرِقت، فعزمَ على الإطعامِ، فلم يُطعمْ حتى أكله الداجن، فإنه يأثم عند عدم الصنف الأخير، ولا يقالُ: أثم لأنَّ الوجوب اختصّ به، بل أثم لأنه فوّت العبادة، حيث أخّرها حتى فاتت الأعيان.
كذلك إذا فاتت الأوقاتُ كلها، وكذلكَ من أخرَ ما عليه من قضاءِ رمضان، لا يمكنُ إلا إذا أخره حتى لم يبقَ ما بينَ رمضانين زمانٌ يتسعُ لقضاءِ الفائتِ مِن صوم رمضانَ، ثم لا يدلّ ذلكَ على أنَّه لم يجب قضاءُ رمضان إلا فيَ ذلكَ الوقتِ الذي يتقدّر بمقدارِ الفائت. بل الصومُ ثابتٌ في ذمته من حين أفطر، وتقديمُ الزكاةِ قبل الحول، وتعجيلُ الصلاةِ في الجمع لا يكونُ به نفلاً، ولهذا لو نوى التطوّع بالزكاةِ المعجّلةِ لم تبرأ ذمته بها، ولا وقعت موقعَ الفرض، وكذلكَ الصلاةُ المجموعةُ، ولو نوى بالمقدمةِ إلى غيرِ وقتها نفلاً لم تنعقد فرضاً، ولا أسقطت الفرض.
 
فصلٌ
يجمع شبه المخالفين
فمن ذلك قولهم: لو كانَ الوجوبُ يعمُّ الوقتَ الأول والأوسطَ [و] (1) الأخيرَ لكانت خصيصته شاملة للأوقات الثلاث، وخصيصةُ الوجوب هي مأثمُ الترك، فأمَّا صيغةُ الأمرِ فليست من خصائص الوجوبِ لأنّها تتناولُ المندوبَ والواجبَ.
__________
(1) ليست في الأصل.
(3/96)
 
 
ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الوجوبُ متعلِّقاً بالوقتِ الأولِ لما جازَ تأخيرهُ إلى الأوسطِ، ولو تعلَّقَ بالأوسطِ لما جاز تأخيرهُ إلى الأخيرِ، لا إلى بدل، فلما جاز تأخيرُه إلى غير بدلٍ، غلمَ أنه ليس بواجبٍ كسائرِ النوافِل، إذ خصيصةُ النافلةِ ما جاز تركُها لا إلى بَدل.
ومن ذلك: قولُ من ذهبَ إلى أنَّ الوجوبَ يتعلَّقُ بواحدٍ من الأوقاتِ غير معيّن، لأنا وجدناه مخيراً بين فعلها في الوقتِ الأول أو الأوسط أو الآخرِ، وهذه خصيصةُ عدم التعيين، كالمخيرِ في واحدٍ من الأعيان المكفرِ بها، فإنَّه لا يقال: إنَ الواجب معين، كذلك الأوقات هاهنا.
 
فصل
في جمعِ الأجوبةِ عن شبههم
أمَّا قولُهم: إنَّ الأخيرَ من الأوقات اختَص بالمأثم، وهو خصيصةُ الوجوب، فلا يسلَّم، بل هو خصيصة الوجوب المضيّق، فأمَّا الوجوبُ الموسِّع، فليسَ المأثمُ من علاماتهِ ودلائله، والدليلُ عليه:
أنَّ الديونَ المؤجلة وقضاءَ رمضان واجبان، ولا يأثمُ بتأخيرهِما لكونِ وجوبهما موسعاً، فلأنَه إنما يأثم إذا تركَ الواجبَ إلى غير بدل.
وسنبيّن في جوابهم الثاني أنَّ التركَ هاهُنا إلى بدل، هو العزمُ على الفعلِ في الوقتِ الثاني أو الأخير، على أنَّ وقوفَ المأثمِ [على] (1) الوقت الأخير لا يَدُل على اختصاصِ الوجوب به، كما أنَّ فروضَ
__________
(1) ليست في الأصل.
(3/97)
 
 
الكفاياتِ لا يحصلُ المأثمُ على التركِ والإعراضِ ما دام في القرية من يُرجى فعلُه لذلكَ الفرض، مثل صلاةِ الجنازِة، فإذا أعرض الكُلُّ، كان بإعراضِ الأخير منهم ظهورُ الإثمِ أو حصولُه، ولم يَدُل ذلكَ على أنَّ الوجوب لم يعمَّ أهلَ القرية، بل اختصّ بآخرهم إعراضاً عن الفرض وتركاً له.
على أن نفيَ المأثم إنما يدُلُّ على نفي الوجوب إذا خلا التركُ عن عذر، فأمَّا الأعذارُ فمنها تُسقط مأثمَ التُّروَك والتأخيراتِ للواجبات، بدليلِ السفر يؤخِّرُ الصومَ، لأجل أنه عذرٌ (1)، وكذلك تأخيرُ الصلاةِ في الجَمع، وتركُ الجمعةِ للأشغال وخوف (2) تلف الأموال.
وهاهنا عذرٌ ظاهر، وهو أنا لو أثمناه بتأخيرِ الصلاةِ عن أول الوقت، وألزمناه فعلَها فيه، فإنَّ مصادفةَ الزوالِ والغروب لأشغالِهم مانعٌ لهم ومعوِّقٌ عليهم ما بهم إليه أشدُّ حاجة، وإن كلفنَاهم مراعاةَ الوقتِ الأوّلِ بتركِ الأشغالِ والتَّرصُّدِ لدخوله لأحْرَجَ وشقَّ، فلما عَلِمَ اللهُ سبحانَه ذلكَ من أحوالهم أسقط المأثم عنهم بالتأخيرِ، كما أسقطه بسائِر الأعذارِ المعيقة، كالسفرِ لأداءِ صوم رمضان وتوسعةِ ما بين رمضانين لقضائه، بخلافِ آخرِ الوقت، فإنَّ فيمَا سبقه من التوسعة غنىً عن رفع المأثمِ بتركها فيه، وفارقَ الواجبُ النفلَ من هذا الوجه، وهو
__________
(1) بدليل قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
(2) في الأصل: "وجوب".
(3/98)
 
 
أنَّه سقطَ المأثمُ لنوع عُذرٍ، والنفلُ يَسقطُ لغيرِ عذرٍ.
وأمّا قولُهم: لو كان واجباً في الوقتِ الأول والأوسطِ، لما جازَ بتركه فيهما وتأخيره عنهما لا إلى بَدَل. فنحن قائلون بموجبه وأنّه ما جازَ لا إلى بدل بل إلى بدل هو العزمُ على الفعل.
فإن قيل: فلو كانَ العزمُ بدلًا لكان يعتبرُ فيه نوعُ تعذرٍ كسائر كالأبدالِ، ولكان يَسقطُ المبدَلُ، لأن البدلَ ما ناب مناب المبدَل، كالأبدالِ في الكفاراتِ والطهاراتِ، ولما لم يَسقط الوجوبُ بالعزم بطل أن يكون بدلًا عن الفعل.
قيل: أمَّا التعذرُ فلا يعتبر لكثيرٍ من الأبدال، بل يُعتبر نوعُ مشقّة، بدليلِ المسحِ على الخفيّن مع القدرةِ على غسلِ الرجلين، والعدولِ عن العتق إلى الكسوةِ، وعن الكسوةِ إلى الإِطعام لا لعُذرٍ، لكنه توسعةٌ، لإِزالةِ مشقةِ التعيينِ للغَسل في الطهارةِ، والعتقَ في الكفارةِ.
وأمَّا كون العزم لا يُسقطُ وُجوبَ الفعل، فليس ببدل عن أصل الفعل، بل هو بدَل عن فضل التقديم وفعله، فإذا كان على الفعل من أولِ الوقتِ إلى أوسطهِ عازماً، ثم فعلَ في الوقتِ الأخير، صار كأنَّه بعزمه بدأ بالصلاة وطوَّلها إلى الوقت الأخيرِ، لأن تحقُّق العزم على الصلاةِ عملٌ بالقلب ممتدٌّ إلى حين فعلها، فصار كتطويلهَا بعد الشروع فيها، وإنَ لم يكن الإِحرامُ بها في الوقت الأوّل مسقطاً الائتمار (1) بها الممتد إلى حين خروج الوقت الأخير في حق من
__________
(1) في الأصل: "لا سيما" وهي تحريف.
(3/99)
 
 
طولها.
وعلى أنَّ صوم رمضانَ في السفر، وقضاءه في الحضرِ هو واجبٌ، وإن كان مُخيراً بين فعلِه وتركه لا إلى بَدَلٍ سوى العزمِ على الإتيانِ به في الوقتِ الثاني من وقت الترك.
وأما شبهةُ من جعل الوقت واحداً غيرَ معين، وأنَّه لما تخير بين الفعلِ فيها كان كأعيانِ التكفيرِ في كفارةِ التخيير، فالكفارةُ هي الحجة، لأنَّ التكفيرَ وجب من حين الحِنثِ، وإنما خيّرناه في أعيانِها، فلنقل: إنّ الصلاةَ واجبةٌ بالوقت الأول، وإنما خيَّره في الأوقاتِ لأدائها، فأيّ نوعٍ كفَّر به، فالوجوبُ سابقٌ له.
 
فصل
إذا أمر الله تعالى نبيّهُ صلى الله عليه وسلم بعبادةٍ، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الممتحنة: 12] أو فعل فعلاً عُرِفَ انه واجب أو ندبٌ أو مباحٌ فتشركُه أمّته في حكمِ ذلك الأمرِ حتى يدُلَّ الدليلُ على تخصيصه (1).
وكذلك إذا أمر النبيُّ واحداً من أمته بأمرٍ تبعه الباقون من الأمّة في حكم ذلك الأمر، وإن حكم عليه بحدٍ في جريمةٍ أو كفارةٍ، كان
__________
(1) انظر: "العدة" 1/ 318، و "التمهيد" 1/ 277 و"شرح الكوكب المنير" 3/ 218، و"المسودة" من (3231) و"شرح مختصر الروضة" 2/ 411
(3/100)
 
 
ذلك عاماً في حق كل من ارتكب تلك الجريمة، كقطعهِ لسارقِ رداء صفوان (1) ونحوه، أشار إليه أحمد في مسألة الحرام في الطعام، إذا قال الرجلُ في طعامه: هو علي حرامٌ. فجعل حكمه حكمَ تحريم النبي صلى الله عليه وسلم العَسَل الذيمما شربه، فقالت عائشة: أجدُ منك رائحة المغافير (2)، وبتحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية (3).
فقد جعل حكمنا حكمه (4)، وإن كانت تحلةُ اليمينِ نزلت في النبيّ خاصة.
وكذلك قال أحمد: لا يُصلى قبل العيد ولا بعدَها، لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ قبلها ولا بعدَها.
وقالت الأشاعرةُ وبعض الشافعيةِ: ذلك يختص النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم دلالةُ التعميمِ لأمته، وكذلك يختص من خاطبه من أمّته إلى أن تقوم دلالةُ العموم (5)، وإليه ذهب أبو الحسن
__________
(1) سيأتي تخريجه في الصفحة 219.
(2) أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي لله عنها.
(3) ورد في الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1].
أخرجه النسائي 7/ 71، والحاكم في "المستدرك" 2/ 493، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4) في قوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
(5) انظر ذلك في "الإحكام" للآمدي 2/ 379 - 386 "التبصرة" للشيرازي =
(3/101)
 
 
التميمي من أصحابنا.
 
فصلٌ
في الدلالة على دخولِ غيرهِ صلى الله عليه وسلم في حكمِ خطابِه هو أنه صلى الله عليه وسلم جُعل مناراً للأحكام، وعَلَماً عليها، وقدوةً يُقتدى به فيها، فصارَ خطابُ الله سبحانه له خطاباً لجميع من دعاه إلى الِإسلام، وكذلك حسن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل: فطلِّقْهن، وهذا يدُلُّ على أنه إذا خاطبه فقد خاطب أمتهُ وجعل خطابُه له نائباً مناب خطابهم.
ومن ذلك قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 37]، فأخبر أنه إنّما أباحَهُ ذلك ليكونَ مبيحاً لجميع الأمةِ، ولو كان الأمر يخصُّهُ لما انتفى عنهم الحرجُ بنفي الحرجِ عنه، فصارَ كأنَّه يقول: أرخصنا لكَ في تزويجِ أزواجِ أدعيائكَ لنرخِّص لأمتكَ بذلك اقتداءً بك، ونزولاً على ما شُرع لك، فثبت بهذا أنهم مشاركوه في الحكم الذي يُخاطب به.
ومن ذلك: أنَّه كان إذا سُئل عن الحكمِ أجابَ بما يخصُّه، وأحال على نفسه وفعلهِ. فلما سئلَ عن الاغتسال، قال لأمَ سلمة: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي" (1). ولما سأله الرجلُ عن القُبلة في
__________
= ص (73)، و"البحر المحيط" للزركشي: 3/ 186 - 191.
(1) الذي ورد في سؤال أُم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت له صلوات الله وسلامه =
(3/102)
 
 
الصوم؛ قال: "أنا أفعل ذلك" (1).
ولما اختلف الصحابة رضوانُ الله عليهم في الإكسال والإنزال، رجعوا إلى عاثشة رضي الله عنها، فأخبرتهم بفعله صلى الله عليه وسلم وأنّه كان يغتسلُ من التقاءِ الختانين (2).
__________
= عليه: إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي، أفاحلهُ لِغُسْلِ الجنابة؟
فقال صلى الله عليه وسلم:" إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي عليك الماء وإذا أنت قد طهرت".
أخرجه: أحمد 6/ 289 و 314 و 315، ومسلم (330)، وأبو داود (251) و (252)، والترمذي (105) والنسائي 1/ 131، وابن ماجه (653)، وابن حبان (1198) والبيهقي 1/ 181، والدارمي 1/ 263.
أمَّا إفاضةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسهِ من الماءِ في الغُسل فقد ثبت بأحاديث أخرى في كيفية غسله عليه الصلاة والسلام منها حديث عائشة رضي الله عنها، وقد جاء فيه " ... ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، ثم يُصب عليه الماء".
أخرجه أحمد 6/ 143 و 173 ومسلم (321) (43) والنسائي 1/ 132، وابن حبان (1191).
(1) ورد قريباً من هذا من حديث عُمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل هذه- أم سلمة-" فأخبرته أن رسول الله يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفرَ الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله: "والله إني أتقاكم لله وأخشاكم له".
أخرجه مسلم (1108)، وابن حبان (3538) والبيهقي 4/ 234.
(2) ورد ذلك من حديث عائشة أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل الماء، قالت:" فعلتُ ذلكَ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا منه جميعاً"
أخرجه الشافعي 1/ 36، وابن الجارود (93)، والبيهقي في "السنن" 1/ =
(3/103)
 
 
وقولها: قَبَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فصلَّى ولم يتوضأ (1).
وإذا ثبت أنَّه مطلع الأحكام، صار خطابة خطاباً لهم، ولهذا كان يَتَراءى لهم في العبادات، فقالَ للأعرابيّ السائل عن الصلاة: "صلِّ
__________
= 164، وابن حبان (1175).
كما ورد عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختانُ الختانَ، فقد وجبَ الغُسلُ، فعلتُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا.
أخرجه أحمد 6/ 47 و 112 و 135 و 161، وابن أبي شيبة 1/ 86، والترمذي (108)، وابن ماجه (608)، وابن حبان (1176).
(1) ورد من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم -: "أنه قبل بعض نسائه ثم خرجَ إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت"
أخرجه أبو داود (179)، والترمذي (86)، والنسائي 1/ 104، وابن ماجه (502)، وأحمد 6/ 210، والبيهقي 1/ 126، والدارقطني 1/ 139، وقد أعله أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري، والدارقطني، والبيهقي، بعلة هي: أن حبيبَ بن ثابت لم يسمع من عروة شيئاً.
واستدرك ابن عبد البر عليهم ذلك مبيناً صحة الحديث وقال:" لا ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر منه وأجل وأقدم موتاً" وقال في موضع آخر:" لاشك أنه أدرك عروة". انظر "الاستذكار" 1/ 323 كما بيَّن الحافظ الزيلعي ورود هذا الحديث من طرق أخرى غير طريق حبيب بن ثابت عن عروة، وهذه الطرق يعضدُ بعضها بعضاً فيصح الحديث بها.
انظر "نصب الراية"1/ 73.
(3/104)
 
 
معنا" (1)، وطافَ راكباً ليقتديَ النّاس به في المناسك (2).
ومن ذلك: ورودُ تخصيصه صلى الله عليه وسلم في أحكام، مثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، ولو لم يكن خطابُه المطلقُ يقتضي دخولَ أمتهِ ومشاركتهم، لم يكن لبيان تخصيصهِ ببعضِ الأحكام معنى إذا كان كُلّ خطابٍ يتوجّه نحوه حالصاً له، فلما خصَّه ببعضِ الأحكام، عُلم أنَ بقيةَ الأحكامِ المتّجهةِ نحوه عامّةٌ لأمته.
ومن ذلك: أنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم عقَلت ذلك، فقالوا: نهيتَنا عن الوصالِ وواصلت، وأمرتَنا بفسخ الحج وما فسخت.
حتى بيّن الفرق فقال: "لست كأحدكم، إني أظلُّ عند ربي فيطعمني ويسقيني" (3)، "إني قلدت هديي"، وروي: "سقتُ الهدي، فلا أحلُّ
__________
(1) جاء ذلك من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن وقت الصلاة فقال: "صلّ معنا هذين الوقتين".
وتقدم تخريجه 1/ 194.
(2) عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيتِ على راحلتهِ يستلم الركنَ بمحجن.
أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (1272)، وأبو داود (1877)، والنسائي 5/ 233، وابن ماجه (2948)، والبيهقي 5/ 66.
(3) تقدم تخريجه 2/ 26.
(3/105)
 
 
حتى أنحرَ" (1)، فلو لم يُعلم أنَّ خطابَ الشرعِ لهم خطاب يدخلُ تحته، لما عابوا عليه ذلك، ولَما أجابهم.
 
فصل
في الدلالةِ على أن خطابه للواحِد من أمته وصحابته وحكمُه فيه خطابٌ لجميعهم، وحكم للجميع غير مختصٍّ بمن خاطبه وحكمَ فيه
قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله: "بُعِثْتُ إلى الأسود والأحمر" (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطابي للجماعة، قولي لامرأة قولي لمئة امرأة" (3). وقال:"حكمي على الواحد حُكمي على الجماعة" (4).
__________
(1) ورد ذلك من حديث حفصةَ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شأنُ الناس حلّوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إنّي لبدتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحِلُّ حتى أنحرَ".
تقدم تخريجه في 2/ 26.
(2) ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أُعطيتُ خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي: بُعثت إلى الأحمر والأسود .... ".
أخرجه أحمد 5/ 145 و 148، ومسلم (521)، وأبو داود (489)، والحاكم 2/ 424، وقال ابن حجر هذا حديثٌ صحيح.
انظر "موافقة الخُبرِ الخبرَ" 1/ 525.
(3) تقدم تخريجه 2/ 121.
(4) سلف تخريجه 2/ 121.
(3/106)
 
 
ومن ذلك تخصيصه لآحاد من أصحابه بالحكم وقصره عليه، كقوله لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة: "تجزئك ولا تجزىء أحداً، أو تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحدٍ بعدك" (1)، وقوله لأبي بكرة لما دخل الصف راكعاً: "زادَك اللهُ حرصاً ولا تَعدُ" (2)، وقوله للذي زوّجه بما معه من القراَن: "هذا لك وليس لأحدٍ بَعْدك" (3)، وكتخصيصه للزبير بلبس الحرير (4). ولو كان الحكمُ بإطلاقه خاصّاً لمن يخاطبه به، أو يحكم به عليه وفيه، لما كان لتخصيص أشخاصٍ عدّة معنى، مع كونِ كل مخاطب مخصوصاً بما خوطب به.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 98.
(2) سلف تخريجه 98/ 2.
(3) حديث: "قد زوجتكها بما معكَ من القرآن" وردَ من حديث سهل بن سعد الساعدي، أخرجه مالك 2/ 526، وأحمد 5/ 236، والبخاري (2310) و (5135) و (7417)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والنسائي 6/ 113، والبيهقي 7/ 144 و 236 و 242 وابن حبان (4093).
(4) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك قال: "رخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام في لبس الخرير، من حكِّةٍ كانت بهما".
أخرجه: أحمد 3/ 255 و 272، والبخاري (2921) و (2922) و (5839)، ومسلم (2076) (25)، وأبو داود (4056)، والنسائي 8/ 202، وابن ماجه (3592)، والبيهقي 268/ 3 و 269، وابن حبان (5430) و (5431).
(3/107)
 
 
ومن ذلك: إجماعُ الصحابة على رجوعهم فيما سئلوا عنه وحدَث من الحوادث، إلى قضاياه صلى الله عليه وسلم في أشخاص، وخطابه لأشخاص مخصوصين: مثل رجوعهم في حد الزنا إلى حكمه صلى الله عليه وسلم في ماعز (1). ورجوعهم في الجنين إلى حكمه في قصة حَمل بن مالك (2)، ورجوعهم في
__________
(1) رواه مسلم (1694)، وأبو داود (4431) من حديث أبي سعيد الخدري.
ورواه مسلم (1695)، وأبو داود (4433) من حديث بريدة، ورواه البخاري (5271) ومسلم (6191) وأبو داود (4428)، والترمذي (1428) من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (6824) ومسلم (1693)، وأبو داود (4421) و (4425) و (4426) و (4427) من حديث ابن عباس، ورواه أبو داود (4419) من حديث نعيم بن هزال.
ورواه مسلم (1692) وأبو داود (4422) و (4423) من حديث جابر بن سمرة، ورواه البخاري (5270) ومسلم (1751)، والتر مذي (1429) وأبو داود (4430) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) قصةُ حَمَل بن مالك وردت من حديث أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هُذيلٍ اقتتلتا، فرمت إحداهما الأُخرى بحجر، فأصاب بطنَها وهي حاملٌ، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أنَ ديّة ما فى بطنها غُرَّةٌ عبدٌ أو أمةٌ، فقال وليُّ المرأة التي غرمت: كيف أغرَمُ يا رسولَ الله من لا شربَ ولا أكل، ولا نَطَق ولا استَهَل، فمثلُ ذلك بَطل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَما هذا من إخوان الكُهان".
ووليُ المرأةِ هو حَمَلُ بن مالك بن النابغةِ الهُذَليّ وهو صحابي نزل البصرة.
أخرجه من حديث أبي هريرة.
البخاري (5758)، ومسلم (1681)، وأبو داود (4576)، والنسائي =
(3/108)
 
 
المفوضة إلى قصة بَروع بنت واشق (1)، ورجوعهم في المجوس في باب الجزية إلى وضعه صلى الله عليه وسلم الجزية على مجوس هجر (2)، وهذا منهم يدُلُّ على أنّهم علموا وعقلوا أنَّ حكمَه صلى الله عليه وسلم في الواحد حكمٌ في كلّ من تَجدَّدَ له مثلُ ذلكَ الأمرِ الذي حكم فيه، ما لم تقمْ دلالةُ التخصيص.
 
فصل
في اعتراضاتِهم وأسئلتهم على هذه الأدلّة
فمن ذلك قولهم: إن هذه كُلَّها أخبارُ آحاد مظنونةٌ، لا تصلحُ لِإثباتِ هذا الأَصلِ الذي طريقهُ العلْمُ.
__________
= 8/ 48، والترمذي (1410)، وابن ماجه (2639).
(1) المفوَّضة: هي المرأةُ التي لم يُفرض لها الصَداقَ في العقد، وقد سئلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حكم المتوفى عنها زوجها ولم يفرض لها الصداق في العقد، ولم يدخل بها، فقال: لها الصداق كاملاً، وعليها العدةُ، ولها الميراث، قال معقل بن سنان: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنتِ واشق بمثلِ ذلك أخرجه: أبو داود (2114) و (2115) و (2116)، والنسائي 6/ 121 - 123 والترمذي (1145) وابن ماجه (1891)، وابن حبان (4098) و (4099) و (4100) و (4101)، والحاكم 2/ 180 - 181. ووافقه الذهبي.
(2) حديث وضع الجزية على مجوس هَجَر:
أخرجه البخاري (3156) و (3157)، وأبو داود (3043)، والترمذي (1586) و (1587).
(3/109)
 
 
ومن ذلك قولُهم: إنما صاروا إلى العملِ بذلك بدلائلَ قامت وقرائنَ ظهرت أوجبت العمومَ وتعديةَ الأحكام ممن خوطبَ وحُكمَ عليه إلى غيرهِ، لا بنفس الخطاب والحكم.
 
فصل
في الأجوبةِ عما ذكروه
أما أخبارُ الأحادِ المتلقاةُ بالقبول، فصالحة عندنا لإثباتِ أصول الدياناتِ، ولأنَّ أصولُ الفقهِ لا يطلبُ لها القطعياتُ، ولو كانت كذلك لما سوَّغنا خلافَ المخالفِ، ولفسقنا أو كفرنا من خالفنا، كما قلنا في الأصولِ المتعلقةِ بالله سبحانه وبصفاته وما يجوزُ عليه وما يستحيل عليه، ومايجب له.
ولما كانت أدلةُ ذلك قطعية لم نسوَّغ الخلافَ فيها، وفسقنا المخالفَ لنا أو كفرناه على حسب موضعِ الخلافِ منها.
وأمَّا دعوى الدلائل، فالأصلُ عدمُها، ولو كانت موجودةً لكانت منقولةً، لا سيّما مع كثرةِ العملِ بذلك والبلوى به، والأصلُ عدمُها إلى أن يوضِّحوا الأدلة فيها.
 
فصل
يجمع شبهَهم في ذلك
فمن ذلك قولُهم: إن خطابَ الواحدِ موضوع في الأصل لذلك المخاطب، كما أن الخبرَ عنه موضوع له، ولما أخبرَ به عنه خاصةً، بدليلِ أنَّ أمرَ السيدِ لعبدٍ من عبيده لا يكونُ أمراً لغير من واجهه
(3/110)
 
 
بالأمر، وكذلكَ إذا أخبر عن الواحدِ من عبيدهِ لم يكن خبراً عن غيره، وإذا كان هذا هو أصلً الوضعِ، فتعديتهً إلى غيرهِ تحتاح إلى دليلٍ، ومتى قام دليل على التعدية اتفقنا على القولِ به، لأنه يخرجُ عن خصوصهِ بالدليلِ إلى العموم، كما يخرجُ العمومُ عن عمومهِ بالدليل إلى الخصوص.
والدليل الذي يتعدّى إلى غيرِ المخاطَبِ، هو الدليلُ الذي جعل خطابهَ صلى الله عليه وسلم لأهل عصرِه الموجودين من الأحياءَ العقلاءِ البالغين، خطاباً لمن لم يأتِ من أهلِ الأعصار المستقبلةِ المعدومين، وليس ذلك إلا دليلًا يدلّ على التعديةِ إلى أولئك. كذلك هاهنا.
وانَّما لم ينصرف الخطابُ إلى المعدومين بمطلقِ اللفظِ، لأنه لا يصلحُ للمعدوم بيا أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا، ولا باستدعاءِ الأعمال منهم والتَروكِ، كالصلاةِ والصيام، إذ لا وجودَ لهم، ولا حقيقةَ فضلاً عن أوصاف يصفهم بها من إيمَانٍ وغيره، ولا أعمال لهم يستدعيها، كذلكَ ليس في خطاب الواحدِ صلاح لخطاب الجماعة، فإذا جاءت دلالةٌ فصرفته إلى المعدَوم بان يقول: هذا خَطابي للقرنِ الدين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، وَللذين رأوني، ولمن بَلَغ، ممّن بعد عني وعنهم. حينئذٍ صرفنا ذلكَ إلى من قامت الدلالةُ على صرفِ الأمر إليه وتعديتهِ إلى خطابه.
فهذا من طريق اللغة واللسان، فأمَّا من طريق المعقول: فمن ذلك: أنَّ من المعلومِ أنَّ الأمرَ بالشيء قد يكون مصلحةً
(3/111)
 
 
لشخصٍ بعينه، مفسدةً لغيره، لاختلافِ الأشخاصِ في ذلك، فاذا صرفَ الشارعُ الأمرَ إلى شخص بعينه، لم يجز الإقدامُ على تعديته إلى غيره إلا بعد العلمِ بأنه مصلحة للآخر، ولا سبيلَ لنا إلى العلم بمساواةِ المخاطَب لغيره إلا بدلالةٍ تقومُ من جهةِ من صدر الخطابُ عنه سبحانه. وما صارَ ذلك إلا بمثابةِ حكيم من حكماءِ الطب، أمرَ مريضاً بشرب دواءٍ، أو وَصَف له حِميةً عن نوعٍ من الغذاء فإنه لا يجوزُ أن يعدي ذلك الأمرَ، ويعم بذلكَ الدواءِ أو الحميةِ غيرَه إلا بدلالةٍ أو قرينة من جهةِ الحكيم الواصفِ، لتفاوتِ الأمزجةِ في الأشخاص، كذلكَ يجبُ هاهنا أن يمنعَ من التعديةِ إلى غيرِ المخاطب لتفاوتِ ما بين المكلفين من المصالحِ، وقد انكشفَ ذلك بما ظهرَ من مغايرةِ الشرعِ بين النساءِ والرجالِ والأحرارِ والعبيد، والمسافرِ والحاضرِ، والمريض والصحيح في صفاتِ التكاليفِ ومقاديرها، وان اجتمعوا كلُّهم في إرسالِ النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلا يلزمُ من تساويهم في إرسالهِ إليهم تساويهم في خطابهِ لهم، كما أنهم اجتمعوا في التكليفِ واختلفوا في أحكامِ التكليف.
قالوا: ولاسيَّما ماظهرمن تخصيصِ النبيّ صلى الله عليه وسلم من أُمته وتمييزه عنهم بإيجاب واجبات واباحةِ مباحات، وحظرِ محظورات لم يشاركه فيها أحد مَن أمّته، فكيفَ يجوزُ أن يعدى حكمُ خطابهِ إلى غيرِه من أمته، مع الحالِ المعلومةِ من تخصُّصه، بل لا يجوزُ ذلكَ إلا بدلالةٍ تعم أمته وتوجبُ تعدي حكمه إليهم.
(3/112)
 
 
فصل
يجمع الأجوبةَ عن شبههم
أمّا خطابُ الواحدِ ومواجهتُه بالأمرِ من طريقِ اللغةِ، فإنه يختصّ المخاطَب، ولا يقتضي بموجَب اللغةِ تعديتَه الأمرَ إلى غيره، إذ ليسَ في لفظِ الواحِد وخطابهِ ما يصَلحُ لغيرِه، لكنّ خطابَ الشرع تمهد تمهُداً صارَ وِزانُهُ من اللغة ما تمهد فيه العرفُ؛ وهو أنَه جعل مَن أوّل الوحي إليه مناراً ومتبعاً وقدوةً للأمة، فإذا قيل له: افعل كذا، دخلوا تبعاً، وصار في باب اللغةِ كالأمرِ بالركوب والمسيرِ ولقاءِ العدوّ لمن عُقِدَت له الأمارةُ، وجُعل له منصبُ الاقتداءَ به، فإنه اذا قيل له: اركب الى بني فلان، وحارب العدوَّ، وشن الغارةَ على بلاد كذا، كان ذلكَ منصرفاً إليه وإلى جيشه وأتباعه، وكذلكَ في الخبر عنه اذا قيل: ركبَ الأمير، ودخلَ بلدَ كذا، أو فتحَ ثغر كذا أو حصن كَذا. فإن ذلكَ كُله ينصرفُ إلى الأميرِ وجيشهِ وأتباعهِ دون اتحاده وتخصصه بما أُمِرَ به، أو أخبَر عنه.
فأمَّا قولُهم: إن المصالحَ والمفاسدَ قد تكونُ بحسب اختلاف الأشخاص. فذلك ليس بمعتبر، فإنَّ التكليفَ لا يقفُ على الأصلح، ولأنَّ استواءَ الكل فَي التكليف كافٍ في ذلك. وإن جاز أن يختلفوا في الأصلحِ، كاستواءِ الأصلِ والفرع في باب القياسِ لاجتماعهما في أمارةِ الحكم، وليس ما نصبه من الَدلائِل والآياتِ على كونهِ متبوعاً ومناراً للأحكام بأدونَ من أمارةِ شَبهٍ، أو لأدلةٍ تجمعُ بين المسكوتِ عنه، وهو الفرعُ، والمنطوق به، وهو الأصلُ في باب القياس، وإن جاز
(3/113)
 
 
أن يكونَ الأصلحُ في الأصلِ المنصوصِ عليه بالحكمِ، والمفسدةُ في تعديةِ الحكم إلى الفرع، فمن تجاسر على الإلحاقِ والتعديةِ بأمارةِ القياسِ لا يَجبُن عن إدخالِ الشخصِ المكلفِ الذي لم يخاطب مع من خاطبَه الشرع في الحكمِ الذي علقه عليه.
وفارقَ خطابَ السيدِ منا لعبيده، فإنَّه لو قال: أكرِم زيداً لأنه أسود، ولا تأكل السُّكرَ لأنه حلو. لم يوجب ذلكَ التعديةَ إلى كل أسود وكُل حلوٍ.
ولو قال صاحب الشريعة ذلك لوجبت التعديةُ إلى كل محلٍ وجدت فيه تلك الصفة. وأما تخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم بأحكامٍ لا يمنع من دخولنا معه في مطلق الأحكام، كما أن بعضَ الأحكام قد تقع تحكماً على غيرِ المعقولِ، وتخرج عن القياس، ولا يمنعُ جوازُ ذلك من عملِنا بالمعقول والقياس ما لم ترد دلالة التخصيص والتحكم.
 
فصل
إذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بأمرٍ شرعي، دخل هو في ذلك الأمر (1)، وبه قال أصحاب الشافعى في أحدِ الوجهين (2)،
__________
(1) انظر ذلك في "العدة" 1/ 339، و"المسودة" ص (32 - 34)، و"التمهيد" 1/ 269، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 222.
(2) وهو ما اختاره الجويني في "البرهان" 1/ 364، والغزالي في "المستصفى" 2/ 88 - 89، والرازي في"المحصول" 2/ 150، بشرط عدم وجودِ قرينة تفيدُ خروجَ المخاطِبِ من عموم خطابه.
(3/114)
 
 
خلافاً للوجه الأخر (1)، ولأكثر الفقهاء والمتكلمين (2)، وقد حكى شيخنا الإمام أبو يعلى بن الفراء كلامَ أحمد في عدة مواضعَ بما يعطي دخوله في أمره الشرع.
 
فصلٌ
يجمع أدلتنا في ذلك
فمنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ أصحابَه بالأمرِ فإذا تخلَّفَ عنه سألوه: ما بالُكَ لم تفعله؛ ولو لم يعقلوا دخولَه في الأمر لما سألوه.
فمن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ولم يفسخ، فقالوا له: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ، فلم يقل: وأين أنا منكم، وكيف يلزمني أنا ما أمرتكم به، بل عدل إلى الاعتذار بالأمر الذي يخصه، وهو سوقه للهَدي، فقال: "إني قلدت هدي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر" (3) وروي: " لو
__________
(1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وعليه أكثر الشافعية، وفق ما قرره الشيرازي في التبصرة ص (73)، والزركشي في "البحر المحبط" 3/ 192 فلا يدخل المخاطِبُ في عموم خطابه إلا بدليل.
(2) ذهب بعضُ الأُصوليين إلى مذهب توفيقي، يجمع بين القولين ومفاده: أنه إذا نظر إلى اللفظ بحسب وضعه اللغوي وعمومى المستغرق فمنه يشمل المخاطِب، واذا نظرَ إلى العرف والاستعمال اللغوي اقتضى خلاف ذلك.
انظر "البحر المحيط" 3/ 193.
(3) تقدم تخريحه 2/ 26.
(3/115)
 
 
استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرةً" (1)، وهذا يدُل على أن حكمه وحكمَهم في المشروعِ سواء.
ومن ذلك: أن حقيقةَ الأمرِ الصادرِ من جهتِه في أحكامِ الشرع أنه مخبر لا آمرٌ، ألا تراه كيف تلا: {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق: 1]، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، كما قيل له، والحاكي منا لكلامِ الأمرِ له بحذف: قل؛ لأنَّها أمرٌ بالبلاع، فيتشاغل بالبلاعِ لما أمِرَ به، ويدع كلمةَ الأمرِ وصيغتَه. والنبي صلى الله عليه وسلم أدَى كلمةَ الأمرِ له كما جاءت, ومن كانَ كذلكَ صارَ بالأمرِ الذي جُعل جهةً له آمراً له ولِمن بلغه من أمته، فكانَ تقدير كلِ صيغةٍ تردُ على لسانِه الكريم تشريعاً، والشرعُ شاملٌ له والكل متبع، فصارَ تحقيقُ ذلك أنَّه جهةٌ للأمر، لا آمرٌ حقيقةً، إذ المستدعي غيرَه بلسانِه وقوله. فمن هاهنا كان داخلاً، ومتى تحقق هذا كذا كان الخلافُ زائلًا مرتفعاً لأنه ليس أحد يقول: إنً الأمر يأمرُ نفسَه، وكيف يقول عاقلٌ ذلك، وشريطةُ الأمر أن تصدَر الصيغةُ من أعلى خِطاباً لأدنى، والواحدُ لا يكونُ أعلى من نفسه وأدنى منها، فلم يبقَ إلا ما ذكرنا أنَّه جهة لأمرِ الله ومبلغ عنه، لا آمر حقيقةً.
وأيضاً: فإنَّ الإلقاءَ من الله سبحانه إليه، وفي روعه آكدُ من اجتهادِه واستثارته، ثمً إنه إذا كان مجتهداً أفتى الغيرَ وكانت فتواه لنفسه وعلى نفسِه، قال صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسكَ وإن أفتاك
__________
(1) أخرجه من حديث جابر أحمد 3/ 325، والبخاري (1651)، ومسلم (1216) وأبو داو (1784)، والبيهقي 5/ 7، 8، 9.
(3/116)
 
 
المفتون" (1)، فما بلّغه الله إليه، ويعلم به غيره أولى في أن يدخل فيه ويكونَ إخباراً لنفسه وإعلاماً لها.
 
فصلٌ
في جمع شبههِم
فمنها أن الأمرَ استدعاءٌ وطلبٌ من الأعلى للأدنى، وهذا لا يتحققُ في الواحدِ أن يكونَ مستدعياً ومستدعىً فيه باستدعائه، ولا أعلى من نفسه. وأدنى.
ومن ذلك: أنَّ صيغةَ الأمرِ لنفسهِ على طريق الوحدةِ لا تصحُّ، ولا علّة في نفي صحّتها، إلا أنَ حقيقة الأمر لا تتسلط على الأنسانِ إلا من جهةِ غيره، كالمخبر لا يكونُ مخبراً لنفسه، ولا ناهٍ يها، ولا منادٍ بها، كذلكَ لا يكون آمراً لها. وإذا ثبتَ فسادُ ذلك في حق أمرِه لنفسِه على الوحدة، ثبتَ فسادُ القولِ بأنه أمرٌ لها في جملةِ غيرها من المأمورين.
 
فصلٌ
في الأجوبةِ عنها
أما الأول: فإنَّنا قائلونَ بموجبهِ، وأنَّه ليس بآمرٍ لنفسهِ، إنَّما هو مخبِرٌ بأمرِ الله سبحانَه، وأنَّ ما أخبر به فهو شرعهُ، وهو أوَّلُ داخلٍ في التزام ما شرعه اللة له ولأمته، وقد أوضحنا كونه مخبراً من حيث أنه يؤدي صيغةَ القول له أو الملقى في رُوعه بالوحي إلى قلبه، فيقول:
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 161.
(3/117)
 
 
قيل لي: قل كذا، هذا هو الحقيقة، لا أنه مبتدىءٌ باستدعاءٍ أوطلبٍ من جهة نفسه، ولهذا أعاد صيغ الأوامر بقوله: قل، واتل ما أوحي، ولو لم يكن مخبراً لوسعه أن يتلو ولا يحكي قول الملك له: اتلُ، ولا يقول: قل، بل يبتدىء فيقول: (أعوذ بربِّ الناس)، (أعوذ بربّ الفلق)، (إنما أنا بشر) ولا يقل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، وإلى أمثالِ ذلك في كتابِ الله.
وأمَّا إفرادُه لنفسه بالأمرِ، فبالصيغة التي تَرِدُ من قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، كذاك نقولُ وأنه يحسُنُ وقد كان ذلك، فأمَّا أوامرُه من غير الكتاب، فما هي إلا بطريقِ الكتاب، وهو الوحي إليه، فينطقُ تارةً بقرآن، وتارةً بكلامٍ يُضاف إليه إضافةً لا إضافةَ إنشاء، وكيف يُظن بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحكمٍ شرعيٍ من قِبَلِ نفسِه، فإذا بَطَلَ هذا، لم يبقَ إلا أنَّه مخبرٌ وحاكٍ، سواء كان ما ينطقُ به قرآناً أو غيره.
فإن قيلَ: فعندكم أنه قد يأمرُ بالحكم من طريقِ الاجتهاد، فإذا قالَ ذلكَ كَان أَمَراً من جهة نفسه، فيجبُ أن لا يدخلَ عندكم فيما يصدرُ عنه منَ اِلأمرِ الذي يقولُه عن اجتهاده.
قيل: اجتهادُه لا يُقَر فيه على خطأ، فمتى اجتهدَ ولم يُرد بالوحي كان إقرارهُ عَلى ما اجتهدَ فيه حُكمُ الله الذي جرى على قلبه ولسانِه صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ اختياره مستند إلى المنطوق به، فيأخذُ المسكوت عنه من المنطوق به، ومن تعلّق بمثالِ السيد مع عبيده، وأنَه لا يدخل في أمره لهم معهم، فقد أبعد النجعة، لأنَّ السيد أمرَ بنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم على ما سبق من أدلتنا، يخبر
(3/118)
 
 
عن غيره عن أمرٍ بنفس لنفسِه، فلا يلزم المثال ولا يشابه ما نحن فيه بحالٍ، لكنَّ المثال المسند للنبي أن يكون قد أمر بعضَ عبيده على بعضٍ، فإذا قال الآمر: (قيل اركبوا)، دخلَ الآمر في الجملةِ.
 
فصل
الأمر المطلق يشتملُ على العبيدِ، فلا يحتاج دخولهم فيه إلى قرينةٍ، ولا دليلٍ.
وقد أشار إلى ذلك في عدة مواضع (1)، فأدخلهم في باب الشهادة، والإيلاء، واللعان، وأسند ذلك إلى عموم الآي الوارد في ذلك (2).
__________
(1) أي: وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ذلك في عدة مواضع، وانظر إلى هذه المواضع في "العدة" 2/ 348، وراجع المسألة في "التمهيد"1/ 281، و"المسودة" ص (34)، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 242.
(2) يقصد عموم الآية الواردة في الشهادة مثل قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. حيث نقل عن الإمام أحمد القولُ بجواز شهادة المملوك إذا كان عدلًا، أخذاً بعموم الآيات الواردة في الشهادة.
وعموم الآيات الواردة بالإيلاء، بحيث نقل عن الإمام أحمد القول بأنَّ على العبد إيلاءً، وإيلاؤه أربعةُ أشهر، وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. فلم يفرِّق بين الحرِّ أو العبد.
وعموم الآيات الواردةِ في اللعانِ في قوله سبحانه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حيثُ يدخل العبيدُ في الخطابِ، وفق ما نقل عن الإمام أحمد.
(3/119)
 
 
وإلى هذا ذهبَ أكثر الناس، وهو قول أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الجرجاني الحنفي، وكُل من أنكر العموم من المحققين، وبه قال أصحابُ الشافعيِّ في أحد الوجهين (1).
وقال بعضهم: لا يدخلون في العموم، بل بدلالة تخصْهم.
وحكى أَبو سفيان (2) عن الرازي أنهم لا يدخلون فيما كان من حقوق الآدميين.
 
فصل
يجمع أدلتَنا على ذلك
فمنها: أنه قد دخلَ في الخطاب، وهو التكليفُ، ومن قال بالعموم وأثبتَه ولم يُدخل العبدَ في عموم الخَطاب، فقد أبعدَ وخلّط، وذلكَ أنَّ العبدَ يدخُل في جملةِ الناس والمؤمنينَ والمكلفين، فإن قال صاحب الشرع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يا أيها المكلَّفون، دَخَلَ في هذه الجُملِ لوقوعِ الاسمِ عليه على الوحدة، وكلُّ من
__________
(1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، حيث قال أكثر الشافعية إن العبيدَ يدخلون اتباعاً لموجب الصيغة. وهناك وجهان آخران:
أحدهما: أنَّ العبيدَ لا يدخلون الا بدليل لأنهم أتباع الأحرار.
والثاني: إن تضمن الخطابُ تعبداً توجه إليهم، وان تضمن ملكاً أو عقداً أو ولاية لم يدخلوا فيه.
انظر "البرهان" 1/ 356، و"المستصفى" 2/ 77، و "الإحكام" للآمدي 2/ 393، و "البحر المحيط" 3/ 181.
(2) هو محمد بن أحمد السرخسي سترد ترجمته في الصفحة 361.
(3/120)
 
 
دخل في اسمِ الواحدِ من الجملةِ، دخلَ في عمومِ الأسماءِ.
وقد ثبت أنه يحْسُن أن يقال له: يا إنسان، يا مؤمن، يا مكلف افعل كذا، أو لا تفعل كذا، وإذا قيلَ لثلاثة أعْبد: يا أيُّها الناس، يا أيها الدين آمنوا، يا هؤلاء المكلّفون. صح أيضاً، فلا وَجْهَ لنفي دخولهم في إطلاقِ قولِ الشرع: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الناس، لأنَ ما استحقوا به الخطاب، وصلحوا له في حالِ الانفرادِ موجود فيهم في حال اجتماعهم مع الأحرار.
ومن ذلك: أنَّ الرِّقَ ليس بمنافٍ للتكليفِ وخطاب الشرع، بل هو بلوى بحقّ ألزمه رقبته، إما امتحاناً أو عقوبةً لأجل الكَفر، وكلاهما لا يمنعُ اتجاهَ خطاب اللهِ سبحانَه إليه، كالمستحق قتلُه بقودٍ، ويدُه بقَطْعٍ في سرقة، وحبسه بدينٍ لآدمي، ومنافعه لعقدِ إجارةٍ عليه، وعقدِ نكاحٍ في حق المرأة، هذا كُلَّه لا يمنع اتجاه الخطاب إليه، كذلك الرّق.
ولذلك صح أن يملكه اثنان، ويتجه نحوه أمرهما ونهيهما، واذا لم يتنافَ ملكُ اثنين وما يوجبه ملكُهما، فأحرى أن لا يتنافى إطلاقُ خطاب اللهِ سبحانَه له وأمر آدميّ مالكٍ له بحكمِ الرّق، لا بحكمِ ملكِ جَواهره وعينِ ذاتِه، مع كونِ الآدمي في تملّكه دخيلًا، ومُلكِ اللهِ هو الأصل سبحانه في ملكِ الأعيانِ والجواهر.
 
فصل
جامعٌ لشبههم
فمنها: أن منافعَهم التي تحصلُ بها الأعمال، وتمتثل بها الأوامرُ مملوكةٌ عليهم لسادتِهم، فلا يلزمُهم حكم خطابِ خالقِه وخطابِ سيده
(3/121)
 
 
الذي ملكه الخالقُ رقِّه وألزمه طاعتَه.
ومن ذلك: أن أكثرَ أوامرِ الشرعِ لا تتجه نحوَه، ولا تلزمه، كالجمعةِ والجهادِ والحجِّ، ولا يصح تبرُّعه ولا إقرارُه بالحقوقِ البدنيةِ ولا الماليةِ ولا له ولا به، ولا يملكُ التصرّفَ في نفسِه، فلا وجهَ لاتجاه الخطاب نحوه.
ومن ذلك: أنه يملك منعَه من التعبُّدِ على وجهِ التطوّع والتنفّل، فلا يتّجه نحوه مطلق الخطاب لأجلِ حقِّ من مَلَك منعَه من التطوع بأمثالِ ما يحصل به خطابُ الشرع للأحرار.
 
فصل
في جمع الأجوبةِ عن شبههم
إنَ تملُّكَ السادةِ لمنافعِهم لا يمنعُ اتجاهَ مطلقِ أمرِ الله سبحانَه إليهم، كما لم يمنع خاصَّ خطابِه لهم، ولو كانت حقوقُ الموالي وسادة العبيد مانعةً من دخولهم في عموم خطاب الله، لمنعتْ من اتجاهِ أوامرِه الخاصَّةِ إليهم، كآحادِ الأدميين نحو المالكين، لما لم يلزمهم عام أمرهم لأجلِ حقوقِ أموالهم وتملكِ منافِعهم عليهم لم يلزمهم خاصُّ أمرهم لهم، وخطابُهم إيّاهم.
ولأنَّ تمليكَ منافِعهم بلوى من الله، وتكليفٌ منه إياهم طاعةَ سادتِهم في خدمتِهم وصرفِ منافعِهم في امتثالِ أوامرهم، والله سبحانه لا يمنع بعضَ أوامره بعضاً، عقوباتٍ كانت أو عباداتٍ، فإن الرِّق لا
(3/122)
 
 
يخلو من أن يكونَ بلوى أو عقوبةً، لأنَّه في الأصلِ أثرُ الكفرِ، وايجابُ الحدودِ والقصاصِ لا يمنعُ من دخولِ من لزمَه ذلك في مطلقِ أوامرِ الله سبحانَه، وان كانت بلوى كانت بمثابةِ الأمراضِ والفقرِ وغيرِ ذلك، وهي غيرُ مانعةٍ من دخولِ الممتَحنِ في عمومِ الخطابِ، وكما لم يمنع كلًّ ذلك اتجاهَ خاصِّ الخطابِ نحوهم.
وأمَّا خروجُهم من بعضِ الأوامرِ كالجمعةِ والجهابِ فما دخلوا فيه من أوامرِ الشرع أكثر، كالصلواتِ والصيام والكفاراتِ والحدودِ، فإنْ تعلقتم بما خرجوا منه، تعلقَ عليكم بمادَخلوا فيه.
على أن الذي خرجوا منه خرجوا بأدلةٍ أوجبت إخراجَهم، وما دخلوا فيه فمطلقُ الأمرِ والخطاب.
ولأنَّ الفقراءَ والزمنى والمرضى والمسافرين أخرجهم العجزُ عن كثيرٍ من العبادات أصلًا تارةً ومقداراً أخرى، ثم دخلوا في مطلق الأمر حيث كان خروجُهم عما خرجوا عنه بعجْزٍ وعذرٍ قامت بإخراجهم لأجله أدلَّة، فكذلك هؤلاء، وأما تملّكُ سيدِه منَعَه من النوافلِ، لا يمنعُ دخولَه في مطلقِ أمرِ الله له بالفرائضِ، كما أنه يمنعُه من سائر النوافل، ولا يمنعُه ذلكَ دخولَه في الأمرِ الخاصّ له بالفرائض، فهو في باب الأوامر الخاصة والفرائض الناجزة كالحر، ولهذا صححنا فرائضه عن حال إباقه ولم تخرجوها في حقَه عن كونِها قربةً، ولم نصحَّح نحن منه النوافلَ رأساً، وأنتم أخرجتموها عن كونها قربة، ما ذلكَ إلا لأنَّه فى الفرائضِ كالحرِّ، وفارقَ بهذا ما أشاروا إليه من أوامرِ الأجانب لأنهم لا مُلكَ لهم ولا حق، والله سبحانه مالكٌ لكلِّ المالكين، فلاَ يمنعُ من ألجاه أمرُه حق أضعفِ المالكين، ومن ملكه أضعف
(3/123)
 
 
الملكين، كما لم يمنع اتجاهَ خصوص أمرِه ونهيه، بخلافِ الأجنبي من المخلوقين.
 
فصل
ويدخل النساء في مطلق الأمر (1).
وبه قال ابن داود.
خلافاً لأكثر أصحاب أبي حنيفة (2) وللأشعرية، ووافقهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني.
وأصحابُ الشَّافعيِّ لا يُدخلون إلا بقرينةٍ أو دلالةٍ (3).
__________
(1) هو رأيُ أكثرِ الحنابلة، وخالفَ في ذلك أبو الخطاب فرأى أن الأقوى عنده هو أن المؤنث لا يدخلُ في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير، إلا أنَّه نصرَ قولَ الحنابلة في الأدلة.
انظر "العدة" 2/ 351، و"التمهيد" 1/ 290، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 334.
(2) مذهبُ الحنفية كما- قرره السرخسي في "الأُصول" 1/ 334 أن جمع المذكر السالم يتناولُ الذكورَ والِإناثَ جميعاً، ولا يتناولُ الِإناثَ المفردات انظر "أصول السرخسي" 1/ 334، وهذا ما يؤكده ابن الهمام في "التحرير" حيث يقول بعد عرضه لأدلة أكثر الأصوليين القائلين بعدم دخول الِإناث في جمع المذكر السالم، ولأدلة الحنابلة القائلين بدخولهن:
"وحينئذ ترجح الحنابلة- أي قولهم- وهو قول الحنفية" انظر "تيسير التحرير" 1/ 334.
(3) هو رأيُ أكثرِ الشافعية وهو الراجح المعتمد عندهم، انظر "المستصفى" =
(3/124)
 
 
فصل
في جمع أدلتنا
فمنها: أن عادةَ أهلِ اللغةِ تغليبُ جمعِ التذكير إذا اجتمعَ المذكرُ والمؤنثُ في الخبرِ والأمر، فيقول قائلهُم للنسوة على الانفراد: ادخُلن، وإذا كان معهم ذكور قال: ادخلوا، قال الله سبحانه لآدم وحواء: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، وهذا خطاب الذكور.
وتقول العربُ للمرأةِ: قومي، وللثلاث: قُمْن، وللرجلِ والمرأتين: قوموا، وكذلك عادتُهم تغليبُ جمعِ ما يعقلُ إذا كان معه من لا يعقِل، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] حتى إنه إذا وصفَ ما لا يعقلُ بصفةٍ تختصُ من يعقل غُلِّب فيه جمعُ من يعقل، قال الله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهذا جمعُ ما يعقل لما وصفها بالسجود، وهو فِعلُ من يعقل، جمعها جمع من يعقل.
فإذا ثبتَ هذا من عادةِ العرب، وورد في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] دخلَ فيه المؤنثُ تَغليباً للتذكير، وكذلك في التثنية تقولُ العرب في الرجل والمرأة: قاما، وهذه
__________
= 2/ 79، و"التبصرة" ص (77)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 386، و"البحر المحيط" 3/ 178.
(3/125)
 
 
صورةٌ تثنيةِ الذكرين، والله أعلم.
ومن ذلك: أنَّ أكثرَ أوامرِ الشرع خطابُ المذكَّر، والإجماعُ منعقدٌ على دخولهنَّ في الخطابِ، وما ذَاكَ إلا اعتماداً على دخولهنّ في خطابِ المذكر تبعاً.
ومن ذلك: أنَّ العربَ دأبها تُغلبُ الأكثرَ على الأقل، ومعلومٌ أننا غلبنا التذكيرَ على التأنيث، وإن كان عددُ الإناث أكثرَ دلَّ على أنَّه الوضع الأصلي.
ومن ذلك: أنَّ الغالبَ أنَّ النساءَ تابعاتٌ للرجال، وقلَّ أن يختص في الخطاب نساء حلةٍ أو قريةٍ أو بلدةٍ في مكاتبةٍ أو مخاطبة، إنما يُسْتَتْبَعْنَ استتباعاً، ويستهجنُ من العربي أن يقول لأهل بلدٍ: أنتم الآمنون، ونساؤكم آمنات، بل إذا قال: أنتم آمنون، تبعَ النساءُ في ذلك، وكذلكَ إذا كان بحضرته رجال ونساء فقال: قوموا، سَمُجَ في اللغة أن يقول: وقمن.
فعادة أهل اللغة في الاستتباع لهن مغنية عن تخصيصهن بالخطاب، فكان مطلقُ خطابِ الشرع كذلك، حتى إنَ في البهيم من الحيوان يسمجُ أن يقولَ الرجلُ: عندي مئةٌ من الخيل، ومئةٌ من الجمال، كما يقول: مئة من الرقيق معَدّات ومُعَدّون، لتبعهم ولتبعهنّ، بل يُطلِقُ الجمعَ الصالح للذكورِ فقط قنوعاً به وتعويلاً عليه.
(3/126)
 
 
فصل
في جمع الأسئلة على ذلك
فمنها: أنْ قالوا: تغليبُ العربِ للتذكيرِ في بابِ الجمع لا يمنعُ انصرافَ جمعِ التذكيرِ إلى ما وُضِعَ له، كما أنهم قد غلبوا أسماءَ المجازِ على الحقائقِ في قولهم: راوية، وغائط، فوضعوه لغيرِ ما وُضع له في الأصل، وكذلك الوطءُ، ولم يعطِ ذلكَ أن نصرف إطلاقَ اللفظِ إلا إلى الوضعِ الأول دونَ ما غلّبوه من الوضع الثاني وهو المجاز والاستعارة.
ومن ذلك: قولهم: إفاضةُ التذكيرِ على التانيثِ حالَ الجمع لا ئعطي أنْ يدخلن في الِإطلاقِ، بدليلِ إفاضةِ السوادِ والقمَرية والعدل لأحد المسميَيْن إلى صاحبه في قولهم: بتنا على الأسودين (1)، وعدل العمرين (2)، ولنا قمراها (3)، وإن كان الأسود وعمر والقمر أحدهما والِإطلاق له حكمه.
ومن ذلك: قولهم: إنَّ لهن خطاباً يَخُصهن، وجمعاً ينفردن به في الواحدةِ والاثنتين، وقد تقاصر عليهنَّ التذكيرُ عند اجتماعهن بالذكورِ، فيقابل الاستعمال في اللغة، وبقي أمرُ التكليفِ واشتغالُ الذمةِ به على مقتضى أصلِ أدلةِ العقولِ من البراءة، إلا أن تقومَ دلالةُ الاشتغالِ للذممِ وإيجابِ الحقوقِ والعبادات.
__________
(1) الأسودان هما التمر والماء.
(2) والعمران: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(3) والقمران: هما الشمس والقمر.
(3/127)
 
 
فصل في جمع الأجوبة عن الأسئلة
أمَّا إلزامُنا المجازَ المغلَّبَ استعمالُه، فإننا لو سألنا الواحدَ من أهلِ اللغة: ما أردتَ بقولك: وطئت أمتي؟
لقال: جامعتُ وفعلتُ الفعلَ المخصوص.
فإذا قيل له: فيحسُنُ النفيُ بأن تقول: ما وطئتُها، لكن فعلتُ كيْتَ وكيْت؟
لقال: نعم يحسنُ النفيُ بحكمِ الوضعِ الأصلي.
فأمَّا في مسألتنا، إذا قال في امرأةٍ ورجل قاما، وقيل له: ما أردت؟ قال: الرجل والمرأة.
فهل يحسُن أن يقول: ما أردت المرأة، وتبقى التثنية، فيقول: لا، ولا يحسُن أن يقال: قامتا.
فيفاض التأنيثُ على التذكيرِ، فقد صار وضعاً لا استعارةً ولا تجوزاً.
وأمَّا كوُنهن تخصِّصن بوضع حالَ الوحدةِ والتثنيةِ، فقد سقطَ ذلكَ حالَ التثنيةِ إذا كان مع الواحدةِ رجُل، أو كان مع الكثرةِ فيهن قليلٌ من الذكور، فإنه يُغلب التذكيرُ على التأنيث، وإن كان دأبُ العرب تغليبَ الأكثرِ على الأقلِ في كُلِّ شيء.
وأمَّا إفاضةُ اسمِ القمر على الشمس، والسوادِ في التمر على الماءِ الذي ليس بأسود، ولا سوادَ في الماءِ، وفي الأنثى ما يصلح للتذكيرِ
(3/128)
 
 
من حيث إنها شخص وحى وإنسان يحسُنُ لذلك أن تفردَ بالتأنيث لمكان ما فيها من الأنوثةِ، وتجمع بالتذكيرِ لما فيها مما هو مذكر من الشخصيةِ والإنسانيةِ والآدمية، فهي بحدتها إنسانٌ وآدمي وشخص عاقلٌ ناطقٌ.
 
فصل
في جمع شبههم في ذلك
فمنها: ما رُويَ عن أمِّ سلمةَ أنها قالت: يا رسولَ الله إنَّ النساء قلن: ما نرى الله يَذْكُرُ إلا الرجالَ، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} الآية (1) [الأحزاب: 35].
ومن ذلك: ما رويَ أنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل للذين يمسّون فروجهم ثم يصلّون ولا يتوضؤون"، فقالت عائشة: يا رسول الله، هذا للرجال، فرأيت النساء (2)؟
وهذا يَدُل على أنهنّ لم يدخُلن في عمومِ الصيغة الموضوعة
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 301، والطبراني 23/ 241، والحاكم في" المستدرك" 2/ 416، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأورده ابن جرير في "تفسيره" 22/ 8، والنسائي في "تفسيره" 2/ 169، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 200، وأخرج الترمذي شاهداً له من حديث أم عمارة (3211)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني من حديث عائشة في "السنن" 1/ 147، وفي سنده عبد الرحمن العمري، وهو ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بطرق صحيحة في الوضوء من مسِّ الذكر بغير هذا اللفظ.
(3/129)
 
 
للتذكير من حيث سؤال أم سلمة وعائشة، ونساءُ العرب أعرفُ بالوضع، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سيد اللغةِ لم يُنكِر عليها السؤالَ ويقول: إنَّ الصيغةَ موضوعةٌ للجميع، واقرارُه كقوله.
ومن ذلك: قولهم: إنَّ للإناث وحدةً وتثنيةً وجمعاً، ولكل ذلكَ لفظ يخصُّهن، فيقالُ: مؤمنةٌ، ومؤمنتان، ومؤمنات، وللذكورِ اسم يخصُّهم أيضاً في الواحدِ والاثنينِ والثلاثةِ، فيقال: مؤمن في الواحد، وفي الاثنين: مؤمنان، وفي الجمع مؤمنون، فكما لا يدخلُ النساء في تأحيدِ التذكيرِ ولا التثنية، كذلكَ في الجمع، وكما لا يدخلُ المذكرُ في جمع المؤنث، كذلك لا يدخل المؤنث في جمع المذكر.
ولهذا فصَّلَ الباري بينهنّ فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى جميع ما عدَّد من الأوصاف، ولو كنَ قد دخلن في الجمعِ الأولِ لم يكن للإعادةِ معنى، وصار بمثابةِ جمعِ المؤمنين لا يدخل الكفارُ، وجمعِ الأبرارِ لا يدخل فيه الفجارُ، وكذلك جمعُ الذكورِ لا يدخل فيه الِإناثُ إلا بدلالةٍ.
وحرَّره بعضهم قياساً، فقال: مالا يدخلُ في اسمِ الواحدِ والتثنيةِ لا يدخل في الجمعِ: كاسمِ الذكورِ لا يدخلُ في جمعِ الِإناثِ.
 
فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم
أمَّا سؤالُ أمِّ سلمة وعائشة، فإنَّما وقَع عن عدمِ تخصيصهن بالذكر من طريق الصريح، ولم تقنع بالعمومِ من غيرِ تخصيصهن بالذكر.
(3/130)
 
 
ولأنَنا وإن قلنا: إنهن يدخلن، فإنما يدخلن من جهةِ الظاهرِ، فأمَّا من جهةِ الصريحِ والنصِّ فلا، وقد ورَدَ في بعضِ الخطاب خصوصُهنَّ، مثل قوله تعالى: {لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] وعادة العَرب التخصيصُ تارةً، والتعميمُ أخرى.
وأمَّا قولهم: إن للإناثِ اسماً يَخُصّهن في الوحدةِ والتثنيةِ والجمعِ، وكذلك الذكورُ، فلعمري إنه كذاك، لكن العربُ إذا أحَّدت خصت كُل جهةٍ بما يليق بها من التأنيث والتذكيرِ، فأمَّا إذا جمعت فإنها تُغلبُ لفظ التذكيرِ، حتى إنَ عادةَ العربِ تغليبُ اسمِ الأكثرين وإسقاطُ حكمِ النساءِ والنادر والقليلِ، فينسبون من كان أكثرهم بُخلاً إلى البُخل، ومن كان أكثرهم كَرَماً إلى الكرم، ويسقطون حكم الواحد والاثنين والثلاثة في الحلة أو القبيلة.
ومع هذه العادةِ رأيناهم يجمعون الجمع الذي يشتمل على مئة امرأة وثلاثة من الرجال جمعَ الذكور، ويخاطبونهم خطابَ الذكور، فعُلمَ بذلك أنه يُحددُ لهنّ بالاجتماعِ بالذكورِ حالٌ لم يكن لهن حالَ الانفرادِ واسم لم يكن، وغير ممتنع مثل ذلك في تغيرِ الحال بالاجتماعَ.
كما يقال: قامت، في الواحدة، وفي الاثنتين: قامتا، وفي رجُل وامرأةٍ قاما، وفي رجُلٍ وامرأتين: قاموا، ولم يوجد لاجتماعهن بالذكورِ حكمُ الانفرادِ في التثنيةِ والجمعِ، كذلكَ في الخطابِ، وكذلكَ كان
(3/131)
 
 
حكمُ الكثرة التغليبَ، فسقط ذلك التغليبُ في حالِ كثرةِ الإِناثِ مع قلةِ الذكور.
وفارق جمعَ المؤمنين والكفار، لأنه ليس في وضعِ اللغةِ تغليبُ أحدهما على الأخرِ إلا مع الكثرةِ الغالبةِ أو السلطنةِ، ونفاذِ الأحكامِ، فيقال: داركفرٍ، ودار إسلامٍ على حسب التسلط في التصرف ونفوذ الأحكام.
وها هنا يغلبُ التذكيرُ مع قلةِ الذكورِ وكثرةِ الإناث، فدلَّ على أنّ الحكمَ للاجتماعِ تغليبُ الذكورِ، فكذلك في باب الخطاب.
 
فصلٌ
اختلفت الرواية عن أحمد في الكفارِ هل يدخلون في الخطاب العام المطلق بالعبادات، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [ألحشر:2].
فعنه أنَهم يدخلون (1)، نص عليه في اليهودية والنصرانية تلاعنُ المسلمَ تعلقاً منه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وبه قالَ أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (2).
__________
(1) وهذا ما اعتمده الحنابلة في هذه المسألة حيث رجّحوا في كتب الأصول دخول الكفار في الخطاب العام المطلق.
انظر "العدة" 2/ 358، و"التمهيد" 1/ 289، و"المسودة" ص (46). و"شرح الكوكب المنير" 3/ 243.
(2) انظر "التبصرة" (80)، و"المستصفى" 2/ 78، و"البحر المحيط" 3/ 182، =
(3/132)
 
 
والثانية: لا يدخلونَ في مطلقِ الأمرِ بالعباداتِ، وإنَّما يخاطبون بالإِيمانِ والنواهي، قال في يهودي أسْلَمَ في نصفِ الشهر: يصومُ ما بقي، لأنه لم يجب عليه قبل إسلامِه، إنما وجبَ عليه لما أسلمَ، ولم يكن واجباً حالَ كُفرِه.
واختلف أصحابُ أبي حنيفة، فذهب الكرخي والرازي وجماعةُ أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات (1).
وذهب الجرجاني إلى أنهم غير مخاطبين بها، لكنهم مخاطبون بالنواهي والإيمان (2).
واختلف أصحابُ الشافعيّ أيضاً على مذهبين:
أحدهما أنهم مخاطبون، وهو الأشبه وقول الأكثرين (3).
__________
= و"المحصول" 2/ 237.
(1) صرَّحَ بذلك أبو بكر الرازي في "الفصول" 2/ 156، حيث قال:" والكفار مكلَّفون بشرائعِ الإسلام وأحكامه، كما هم مكلفون بالإسلام، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله".
وهو قول أهل العراق من الحنفية.
(2) وهناك قول ثالث لبعض مشايخ سمرقند: بأن الكفار غيرُ مخاطبين أصلًا لا بالعبادات ولا بالمحرمات، إلا ما قام دليلٌ شرعي عليه تنصيصاً.
انظر تفصيل المسألة عند الحنفية في "أصول السرخسي" 1/ 173 - 78، و"ميزان الأصول"1/ 308.
(3) وهو الراجحُ والمعتمدُ عند الشافعية، اختاره أبو اسحاق الشيرازي كما في التبصرة ص (80)، والغزالي في "المستصفى" 2/ 78، والرازي في "المحصول"2/ 237 ونقل الزركشي في "البحر المحيط" أنه قول الأكثرين 3/ 182.
(3/133)
 
 
والثاني غير مخاطبين إلا بالإيمان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد رحمةُ الله عليه.
 
فصلٌ
في جمعِ الأدلةِ على أنّهم مخاطبونَ من طريقِ الآي من القرآن فمن ذلك: قولُه تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6، 7]، فتواعدهم على الكفرِ وترْكِ الزكاة وجحدِ البعث، ولا يتواعدُ إلا على فعلِ محظورٍ أو تْركِ واجب، فكانَ الظاهرُ مقابلةَ الوعيدِ لجميعِ ما عدَّد من الجرائم.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69] فظاهرُ هذه الآيةِ مقابلةُ ما ذكره من العقابِ في مقابلةِ ما عدَّده من الذنوب والجرائم. لا سيما مع قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ} فذِكرُ المضاعفةِ إنما وقَعَ لمكانِ مضاعفةِ جرائمهم جريمةً بعد جريمةٍ، لأنَّ قولهَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يعودُ إلى الجُمل المتقدّمةِ كُلّها، وما ذِكرُ المضاعفةِ إلا مقابلة.
ومن ذلك: قولُه تعالىِ في أهل الجنة يتساءلون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 42،43، 44،45، 46]، وهذا يدُلّ على أنّهم يؤاخذونَ بتركِ الإيمانِ وتركِ العباداتِ المذكورةِ.
(3/134)
 
 
فصل
في جمعِ الأسئلةِ على الآياتِ
فمن ذلك: المرادُ بقوله: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] قول لا إله إلا الله، وردَ التفسيرُ بذلك (1).
ويحتمل أن يكونَ الذين لا يعتقدونَ إيتاءَ الزكاةِ ولا يدينون به ولا يلتزمونها، كما قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، يعني يلزمونها.
ويحتملُ أن يكونَ الويلُ عادَ إلى كفرِهم، ووصفهم بأنّهم لا يؤتونَ الزكاةَ، ولم يحصُل الويلُ لعدمِ إيتائهم الزكاةَ.
وأمَّا قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] إنما عادَ إلى جميعِ المذكورِ، وهو بمجموعه يوجب ذلك، بدليل أنه قال: {يخلد}، ولا خلودَ إلا على الكفر، فلا يُمكنُ حملُ الوعيدِ على آحادِ هذهِ الأشياء المذكورةِ، إذ ليس فيها ما يوجبُ الخلودَ.
وأمَّا قوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]، فليس هو من قولِ من يُعتدُ بقولهِ، بل هو قولُ الكفارِ ولا اعتبارَ بقولهم، بدليلِ أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، قال
__________
(1) ورد ذلك التفسير عن ابن عباس، كما في "تفسير الطبري"12/ 92 و"تفسير ابن كثير" 7/ 153.
(3/135)
 
 
الله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا} [الأنعام: 24] ومن يكذب يجوز أن يجهل.
ولأنه يحتمل أن يريدوا: لم نَكُ من أهلِ الصلاةِ، كما قال: نُهيتُ عن قتل المصلين، وليس المرادُ به مَن هم في تحريمةِ الصلاة فقط، لكن من يلتزمها وهو أهلٌ لها.
ويحتملُ أن يكونَ هذا قولَ فرقٍ مختلفين، فقومٌ تركوا الصلاةَ، وقومٌ تركَوا إطعامَ المسكين في الزكواتِ والكفاراتِ، وقومٌ كذَّبوا بالبعثِ بعد المماتِ.
يشهد لهذا التأويل: أن الخِلال كلها لا تكادُ تجتمعُ في الكلَ، فإن منهم مَنْ كان يُطعمُ الطعامَ، ويصلُ الأرحامَ تكرماً، ومنهم من يفعل ذلك بعد نسخِ الدين الذي كان عليه تديّناً وتمسكاً؛ كالنصارى واليهود بعد بعثهِ نبياً صلى الله عليه وسلم، وفيهم الرهبانُ الذين لا يخوضونَ مع الخائضين، وفيهم من لا يكذبُ بيوم الدين ممن يثبتُ البعثَ ولكن يكفر بجحد شيءٍ آخر، كجحدِ إيجاب واجب في الشرع، أو حجدِ تحريم محرّم حرمه النصّ، فهذه جملة أسَئلتهم.
 
فصلٌ
في جمعِ أجوبةِ الأسئلةِ على الآيات الثلاث
أمًا حملُ الزكاةِ على الشهادةِ، فليس بحقيقةٍ، بل الحقيقةُ إخراجُ المالِ المخصوصِ عن المالِ المقدرِ المخصوصِ، على أنَه إذا حُملَ على الشهادةِ، كان إعادةً، فإنَّ الكفرَ بالآخرة كفرٌ، فكانَ يحملُه على تركِ الشهادة، كأنَّه قال:
(3/136)
 
 
الذين لا يؤمنون وهم بالأخرة كافرون، وحملُه على عدم اعتقادِ الزكاةِ حمل على الكفرِ أيضاً، ومهما أمْكن حملُ الكلام علىَ حقائقهِ وحَمْل كُلَ جمله منه على معنى غيرِ الأولِ، فلا وجه لحمله على التكرار، ورد الويل إلى الكفرِ خاصةٌ، وإخراج بقيةِ الجرائمِ عن مقابلةٍ خلافُ الظاهرِ، لأنه لو كان غير الكفر من منع إيتاء الزكاةِ ليس بمقابل، لم يكن لذكره معنى.
وأمَّا قولهم: إنَّ الوعيدَ عادَ إلى جمعِ المذكور، ومن جملته الكفرُ، ولهذا أوجبَ الخلودَ، فهذا عينُ ما نريدهُ، لأنَه إذا عادَ إلى الجميعِ، كانت المؤاخذةُ بكُلِّ واحدٍ من الجملةِ المذكورةِ، ولا سيما ذكرهُ للمضاعفةِ في مقابلهِ تَعدُدِ أفعال مضاعفه، فهو أشبهُ من عودهِ إلى الكفرِ، وهو شيءٌ واحد، فيكونُ ذكرُ الخلودِ لأجل الكفر، والمضاعفةُ في مقدارِ العذاب لأجلِ ما ذكره من الذنوب.
وأما قولهم: إنَ قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إنما هو قولُ الكفارِ، فكلُّ قولٍ حكاهُ الله عنهم ولم ينكره، فهو قولٌ صحيح، ألا تراهم لما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كيف قال: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقولُهم: يُحتمل لم نكُ من أهل الصلاة، فذاكَ هو الكفرُ، وقد ذكره، فلا وجهَ لتكراره، ولا يُحملُ الكلامُ على ما يقتضي التكرارَ، على أنَّ الحقيقةَ خلافهُ، فإن الكلامَ يقتضي تَرْكَ فعل الصلاةِ لا اعتقاد وجوبها.
وأما قولُهم: يحتمل أن يكون قولَ فِرَقٍ. فلا يمنعُ استدلالَنا،
(3/137)
 
 
لأنَهم إن كانوا فرقاً من الكفارِ، فقد أخبرَ أنَّ الكفارَ متواعدونَ على ترك هذه الأمورِ التي هي من الفروع، وإن كانوا فِرقاً بعضُهم من أهلِ الإيمان، فلا يمكن، لأن الله سَبحانه قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 48 - 49] وهذا راجعٌ إلى جميع المذكورين.
 
فصلٌ
في أدلتنا من طريق النظر
فمنها أنهم مخاطبونَ بمعرفةِ الله وتصديق رُسُله صلوات الله عليهم، وأتهم مَأْثومون على تكذيب الرُسُلِ وجحدِ نبوتهم وقتلهم وقتالهم، وأنهم معذبون على الكفر بالله، وهذا مما أجمعت عليه الأمةُ، فلا خلافَ فيه، وإن كانَ التصديقُ بالرُسلِ لا يصحُّ إلا بعد تقدم معرفةِ الله، ومعرفةِ انفرادِه بالقدرةِ على ما أيدهم به من المعجَزاتِ، وأنَه على صفةٍ هو عليها لا يجوزُ عليه تأييدُ كذاب عليه بالمعجزِ، ومتى لم يتقدم هذا لم يصح تصديقُهم بالرسُلِ عليهم السلام، فقد صارَ خطابُهم بتصديقِ الرسُلِ مشروطاً بتقدم معرفةِ الله، ومعرفةُ الله سبحانه بنا ذكرناه من العرفانِ لا تصح إلا بشريطَةٍ هي تقدُمُ النظر الصحيحِ والاستدلالِ المؤديين إلى معرفته، ولم تمنع عدمَ صحة التصديق بالرسُل إلا بتقدُّمِ الشروطِ المذكورةِ من القولِ بخطابِهم بالتصديقِ لهم، كذلك عدمُ صحةِ العباداتِ منهم إلا بشريطةٍ تتقدم، وهرب الإيمانُ لا يمنعُ صحةُ الخطاب بها، وهذا دليل لمذهبنا، وفي قوته، صلاحهُ لإفسادِ كل شبهةٍ يتعلقوَن بها في هذه المسألة.
(3/138)
 
 
ونحررُ قياساً فنقول: مَن تناولَه الخطابُ بالإيمانِ تناولَه الامرُ بالعبادات، كالمسلمِ لو ارتدَّ أُمر بالإيمان، والمسلمُ الذي لم يرتدي الامرُ باستدامةِ الإيمان.
ومن ذلك: أنَهم مع تكليفِ الإيمانِ بالرُّسُلِ عليهم السلام، مخاطبون بالمنهياتِ، وأهلُ الذمةِ منهم يُحدّونَ بالزنا والسرقةِ، ويعزّرون بما يوجب التعزير من الجرائم غير الموجباتِ للحدود.
وتحقيقُ هذا أن يقال: لما نُهوا عن أكبرِ معصيةٍ لله، وهو التكذيبُ بآياتِ الله ورُسلهِ، دَخلوا في النهي عما دونة من المعاصي، كذلك لمّا أمروا بأكبرِ طاعةٍ وهي الإِيمانُ، أُمروا بأركانهِ وتوابعهِ من العباداتِ والطاعاتِ.
ومن ذلك: بأنّه لما كان مُزاحَ العلةِ فما أمرِ به من الإيمان، دخلَ في الخطاب به، وهو مزاحُ العلة في باب العبادات، من حيث؛ كان قادراً على تحصيل مقدماتِها وشروطها، وهذا علّةُ دخوله في الخطاب باصلِ الِإيمان، وقد ساوته العباداتُ في ذلك، فدخلَ في مُطلقِ الخطابِ بها.
 
فصل
يجمعُ أسئلتَهم على أدلتِنا في المسألةِ
فمنها: أن الخطابَ بالإيمانِ إنّما حصل لأنه من أهلِه، ولهذا لو أتى به لصحَّ منه، فأمَّا الصلاةُ والصيامُ، فإنه لا يصح منه أداء، ولا يجبُ عليه بعد فواتِ وقتهِ قضاءٌ، ومحالٌ تأثيم مكلفٍ على تركِ فعلٍ لو فعلهُ لما صحَّ منه.
(3/139)
 
 
ولأنَ المنهيِّ عنه يلائم الكفرَ في كونه معصيةً، فحسُنَ أن ينصرفَ الخطابُ إِليه بتركه كما انصرفَ إِليهِ الخطابُ بتركِ الكفرِ، والطاعاتُ بخلافه.
ولأنَّ النهيَ لما تعلق عليه وتناوله الخطابُ به تعلقت عليه أحكامُه وهي الحدود والعقوباتُ والتعازير، والطاعات لا تتعلقُ عليها أحكامها إذا وجدت منه.
وأما النهيُ فإنه يصحُّ منه ترك مع الكفرِ، والطاعةُ لا تصحُّ منه.
وأما قولكم: إنه مزاحُ العلةِ غيرُ صحيح، لأنَّه لو أزيحت علّته، لصحَّت منه، فأمَّا إذا أُتي بها، فلم تقبل ولم يعتد له بها، فلا تصحُّ دعواكم إزاحةُ العلة في حقه.
 
فصل
في جمعِ الأجوبةِ عن الأسئلةِ
أمَّا إطلاق القولِ بأنها لا تصحّ منه، لا يسلَّم فإنَ العباداتِ تصحُّ منه مع تقديمِ شروطِها، ولو جاز أن يقال: لا تصحُّ منه مع الكفر، فلا يخاطَبُ بها. لجاز أن يقال: لا يصحُ من غيرِ العلم بحدث إثبات صانع، ولا يصحُ من غيرِ العالمِ بالصانعِ إثباتُ أنَه واحد، فلما خوطبَ باعتقادٍ لا يَصُّح إلا بتقدم اعتقاد مثله، كذلكَ جازَ أن يُخاطب بفعل ما لا يصحُّ فيه إلا بتقدّم اعتقادٍ قبله، أوَلا يرى أيضاً أنه لا تصح من المحدِث صلاة، فلا يخَاطبُ بها، بل يقالُ: تصحُّ منه بأداءِ