الواضح في أصول الفقه 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
المؤلف: أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، (المتوفى: 513هـ)
عدد الأجزاء: 5
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد: فإن كتاب "الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء عليِّ بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي- رحمه الله تعالى- يُعدُّ بحقٍّ من أمهاتِ كتب الأصول على وجه العموم، وكُتُب أصول الحنابلة على وجه الخصوص، فهو يأتي من حيث القدم في المرتبة الثانية بعد كتاب "العُدَّةِ" لشيخه القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين ابن الفرَّاء، حيث استفاد ابن عقيل مما في كتاب شيخه، وأضاف إليه الكثير من غزير علمه وواسع معرفته.
لقد انتهج ابنُ عقيل الاستقصاء في إيراد الأقوال، وذِكرِ الاراء والاعتراضات الواردة عليها، ومناقشتها، والاستدلال على ما يراه راجحاً بالأدلة الشرعية، والتصدي للردِّ على أقوال الطوائف المنحرفة، كَالخوارج،
(مقدمة/5)
 
 
والقدرية، والسالمية، وا لصالحية، والمعتزلة، وغير هم، والتوسع في تفنيد مزاعمهم، مع حرصه على استخدام العبارة السهلة، والأسلوب الواضح الميسر، كما أوضح ذلك في مقدمة كتابه حيث قال: "فإن كثيراً من أصحابنا المتفقهة سألوني تأليف كتابٍ جامعٍ لأصول الفقه، يوازي في الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة- التي غمضت في كتب المتقدمين، ودقَّت عن أفهام المبتدئين- كتابيَّ الجامعين للمذهب والخلاف، وأَستوفي فيه الحدود والعقود، ثم أُشير إلى الأقرب منها إلى الصِّحة، وأميز المسائل النظريات بدلائل مُستوفاة، وأسئلةٍ مُستقصاةٍ، ليخرُج بهذا الإيضاح عن طريقة أهل الكلام وذوي الإعجام، إلى الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية، فأجبتهم إلى ما سألوا، مُعتمداً على الله سبحانه في انتفاعي على النَّمطِ الذي طلبوا وأمَّلوا، مع بذل وُسْعي في ذلك واستِقْصائي فيه"
لقد أثرى ابن عقيل- رحمه الله تعالى- كتابه الواضح بأمور ميزته عن كتب الأصول الأخرى، حيث جمع في أوله جملةً من أصولِ الفقه، ذكر فيها الكثير من العقود والحدود وتمهيد الأصول، وأتبع ذلك بفصولٍ في الجَدَل- على غير عادة كتب الأصول- ذكر فيها حدود الجَدَل وعقودَه وشروطه وآدابه ولوازمه، وذكر من دقائقِ هذا الفن وفوائده ما لا يوجد فى كتب الجدل المتخصصة، ثم أورد في آخر الكتاب جملة من غرائب المسائل والفصول النادرة، لقطها- كما ذكر- من الكتب والمجالس، وقيَّدها ليُنتفع بها.
لقد عرض- رحمه الله- الآراء على اختلافها بتجرد وحياد، ورجَّحَ ما رآه منها راجحاً دون تعصبٍ وعِنادٍ، ونبَّه على غوامض المسائلِ ودقائقها، ووضَّحها أيما إيضاح، وشرح ما صَعُبَ ممها شرحاً مستفيضاً يُذلِّلُ صَعْبَها
(مقدمة/6)
 
 
ويُسَهِّلُ حَزنَها، كما في فصل "الاستدلال بفساد الشيء على صحة غيره" وغيره من الفصول.
إنَّ هذه الميزات العظيمة لهذا الكتاب، والتي يندر اجتماعها لكتاب مثله، دفع المجد ابن تيمية- رحمه الله- أن يقول فيه: " لله دَرُّ الواضح لابن عقيل من كتاب، ما أغزر فوائده، وأكثر فرائده، وأزكى مسائله، وأزيد فضائله، من نقلِ مذهبٍ، وتحرير حقيقةِ مسألةٍ وتحقيق ذلك " (1)
وقال عنه ابن بدران الدمشقي رحمه الله: "الواضح لابن عقيل، هو كتابٌ كبير في ثلاث مجلدات، أبان فيه عن علمٍ كالبحر الزاخر، وفضلٍ يُفحم من في فضله يُكابر، وهو أعظم كتابٍ في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين " (2) ..
صلتي بالواضح لابن عقيل:
لقد صَوَّرت الجزء الأول والثاني من الكتاب من دار الكتب الظاهرية بدمشق منذ ثلاثين عاماً، واعتمدتُهما مصدراً من مصادر البحث الذي قدَّمتُه لدرجة الدكتوراه: "أصول مذهب الإمام أحمد"، ونقلت منهما فى مواضع كثيرة، وقد بيَّنتُ ذلك في مقدمةِ الطبعة الأولى من "أصول مذهب الإمام أحمد"، كما أشرتُ إلى أهمية "الواضح " وقيمته العلمية بين كتب أصول الحنابلة، ودعوتُ طُلاّب العلم إلى الاهتمام بكتب الأصول المخطوطةِ للحنابلة، ومنها "الواضح"، وكنتُ حريصاً على أن يُنشر الكتاب.
وبعد أن عثرتُ على الجزء الثالث من مكتبة برنستون بأمريكا،
__________
(1) "المسودة": 65 - 66.
(2) "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": 462.
(مقدمة/7)
 
 
تجددت الرغبةُ في نشر الكتاب، وبدأتُ العمل فيه، وأخَّرَ صدوره كثرةُ المشاغل، وعدمُ التَّفرُّغ لذلك، ثم تَبيَّنَ لي أن دراسة الكتاب وتحقيق جزءٍ منه موضوع رسائل دكتوراه لأصحاب الفضيلة المشايخ: الدكتور موسى بن محمد القرني، والدكتور عطاء الله فيض الله، والدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، في جامعة أم القرى، فسررتُ لذلك، وحمدتُ الله أن اتجه إلى الكتاب من لديه القدرة تحت إشراف علمي متخصص لخدمته، وقد كنت أحد المناقشين لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في القسم الذي تولى تحقيقه، واطلعتُ على عمل الأخوين الآخرين.
وقد، بذل الإخوة جميعاً جهداً موفقاً في الكتاب، وكان حرياً بهم أن ينشروه جميعاً، أو ما كان منه محل دراستهم، أو يقوم كل منهم بنشر الجزء الذي تولى تحقيقه. ومرت السنون دون أن يصدر هذا الكتاب، مما دفعني إلى تجديد العزم، والاستعانة بالله تعالى في إكمالِ تحقيقه ونشره متعاوناً مع مؤسسة الرسالة، وإن لم يبلغ الصفة التي كنت أود أن يخرج عليها، إذ فيه العديد من الموضوعات تستدعي استكمالاً أو تعليقاً وبياناً، ولعل الله يوفق الإخوة الذين درسوا الكتاب أن يخرجوه مستكملاً لجوانب التحقيق، فهم أولى وأمكن من غيرهم، أو يهىء الله له من يخدمه من العلماء المتخصصين المتفرغين.
وقد وصلتني- والكتاب تحت الطبع- نسخة مطبوعة من الجزء الأول من الكتاب أصدرها الدكتور جورج مقدسي، وكان الدكتور فؤاد سزكين قد أطلعني على مسودتها منذ سنوات عديدة، وهي على طريقة المستشرقين التي لا تضيف جديداً على طبع النَصّ كما هو.
ومما أعان على تحقيق الكتاب ونشره وتوزيعه على طلاب العلم، ما
(مقدمة/8)
 
 
تفضل به أحد المحسنين وأهل الخير في المملكة العربية السعودية من تحمل تكاليفه، ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأكرمه في دار كرامته.
وليس ذلك بغريب على أهل الخير والإحسان في المملكة العربية السعودية إذ يشاركون في تيسير كتب العلوم الشرعية، ويعينون طلاب العلم إسهاماً منهم في عمل الخير، وشكراً لله على ما أنعم به عليهم.
نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعله خالصً لوِجهه الكريم.
ويجزي كل من أسهم في إخراجه ونشره.
والحمَد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله واصحابه.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
(مقدمة/9)
 
 
ترجمة المؤلف
هو أبو الوفاء عليُّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الظفري، البغدادى (1).
وذكر ابن أبي يعلى أنه: علي بن محمد بن عقيل (2).
ووضع بعض من ترجم له "محمداً" بدل "أحمد" وزادوا في نسبه: "عبد الله" فقالوا: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن محمد بن عبد الله (3) وذكر الذهبي في "السير" أن اسمه: على بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله (4)
والظفري- بفتح الظاء والفاء- نسبة إلى الظفرية، وهي محلة كبيرة شرقي بغداد (5).
وُلد ابن عقيل- رحمه الله- في بغداد دار السلام في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثين وأربع مئة (6)
وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئه (7).
__________
(1) المتتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142، المنهج الأحمد 2/ 252.
(2) طبقات الحنابلة 2/ 259.
(3) الوافي بالوفيات 21/ 326، ولسان الميزان 4/ 243.
(4) سير أعلام النبلاء19/ 443.
(5) الأنساب 4/ 102.
(6) المنتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، شذرات الذهب 4/ 35.
(7) طبقات الحنابلة 2/ 259.
(مقدمة/10)
 
 
وقيل: سنة ثلاثين وأربع مئة (1).
أسْرتُه:
يقول ابن عقيل عن أسرته: "فأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام وكتابة، وشِعرٍ وآداب، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة، وهو المنشىء لرسالة عَزْل الطائع وتولية القادر، ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جدلاً وعلماً، وبيت أمي بيت الزهري، صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة" (2).
ولابن عقيل ولدان ماتا في حياته:
أحدهما: أبو الحسن عقيل، وكان في غاية الحُسن، فَهِماً، تفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع، وكان فقيهاً، فاضلاً، يقول الشِّعر، وقد توفي في حياة أبيه سنة عشر وخمس مئه (3)، وتجلَّد والدُه عند وفاته، وظهر من صبره ورضاه بقضاء الله سبحانه الشيء العُجاب.
يقول ابن عقيل في ذلك: "مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر، وجمع أدباً حسناً، فتعزَّبتُ بقصة عمرو بن عبد وُدٍّ الذي قتله عليٌّ رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبد
لكنَّ قاتِلهُ من لا يُقادُ به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
فأسْلاها وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله، فنظرت إلى
__________
(1) مناقب الإمام احمد: 635.
(2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143، المنهج الأحمد 2/ 253.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 163 - 164.
(مقدمة/11)
 
 
قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القَتْلُ والمقتولُ لجلالة القاتل " (1).
ولم يقتصر الأمر على تَصَبُّرِهِ بل كان ينهى عن إظهار الجزع أو تهييج الأحزان، يقول رحمه الله: "لما أُصبتُ بولدي عقيلٍ خرجتُ إلى المسجد إكراماً لمن قصدني من الناس والصُّدور، فجعل قارىء يقرأ: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] فبكى الناس، وضجَّ الموضعُ بالبُكاء، فقلت له: يا هذا، إن كان قصدُك بهذا تهييج الأحزان فهو نياحةٌ بالقرآن، وما نزل القرآن للنَّوح، وإنَّما نزل ليُسَكَنَ الأحزان، فأمْسِكْ " (2).
فتأمل ورعه ودينه رحمه الله، لم يمنعه حزنه على ولده من بيان الحقِّ، وإرشادِ الخلق.
الثاني: أبو منصور هِبةُ الله، حفظ القرآن، وتفقَّه، وظهر منه أشياء تدلُّ على عقلٍ ودينٍ، ثم مرض وطال مرضُه، وأنفق عليه أبوه مالاً كثيراً في مرضه، وبالغ في ذلك.
يحكي ابن عقيل عن مرض ابنه ووفاته فيقول: "قال لي ابني لمّا تقارب أجله: ياسيدي قد أنفقت، وبالغت في الأدوية والطبّ والأدعية، ولله تعالى فيَّ اختيار، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تُشاكلُ قول ابن إبراهيم لإبراهيم: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلا وقد اختاره الله تعالى للحظوة" (3). وتألَّم- رحمه الله- لوفاة ابنه الثاني، إلا أنه تصبر وسلم لأمر الله، واستسلم لقضائه، وكان
__________
(1) نفس المصدر 1/ 164.
(2) المنتظم 9/ 188.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 165.
(مقدمة/12)
 
 
يقول: "لولا أن القلوب توقِنُ باجتماعٍ ثانٍ لتفطرت المرائر لفراقِ المحبِّين " (1).
 
نشأته وطلبه للعلم:
لقد عانى ابن عقيل- رحمه الله- في نشأته من وطأة الفقر، وقلة ذات اليد، ومرارة العِوَزِ والحاجة، حتى إنه كان ينسخ بالأجرة، يقول عن نفسه: "وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة" (2).
كان ذلك إلى أن هيأ الله له الشيخ أبا منصور عبد الملك بن يوسف (3)، فتكفل برزقه، وكفاه مؤونة البحث عن الرِّزق، ليتفرغ لطلب العلم.
فتفرغ ابن عقيل إثر ذلك لطلب العلم، وشرع في تحصيله والتَزوُّد منه، ومما هيأ له الجو لينهل من معين العلم، كونه نشأ في بغداد التي كانت آنذاك تعج بالعلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وتنوُّع مشاربهم.
وساعده هذا على النهل من كافة العلوم، والاستفادة من شتى المعارف، مما كوَّن لديه حصيلة طيبة مُتميِّزة.
وكان لما حباهُ الله به من ذهنٍ وقادٍ، وذكاءٍ مُفْرِطٍ، وهمةٍ عاليةٍ أثرٌ كبيرٌ في تحصيل العلوم، يقول عنه ابن رجب: "وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العلماء، وأذكياء بني آدم، مُفرط الذكاء، مُتَّسع الدائرة في العلوم " (4).
__________
(1) نفس المصدر، والمنهج الأحمد 2/ 270.
(2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(3) توفي سنة 460 هـ، ترجمته في المنتظم 8/ 250، وسير أعلام النبلاء 18/ 333.
(4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 151.
(مقدمة/13)
 
 
لقد كانت هذه الهمة، مع تلك الرغبة في ارتشاف العلم، مع حفظ الله تعالى له، حائلاً بينه وبين الالتفات إلى ما عدا ذلك من نعيم الدنيا الزائل وملاهي الحياة ومفاتنها، يقول رحمه الله: " وعصمني الله من عُنْفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّاباً قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم " (1).
وكان رحمه الله يرى أن طلب العلم أفضلُ ما يتقرَّبُ به العبد إلى ربِّه، بعد أداء الفرائض، يقول في مقدمة كتابه "الفنون" (2): "أما بعد، فإن خير ما قُطع به الوقتُ، وشُغلت به النَّفسُ، فتُقُرِّب به إلى الرَّبِّ جلَّت عظمتُه، طلبُ علمٍ أخرج من ظُلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبةٍ محمودةٍ، يُعملُ لها، وغائلةٍ مذمومةٍ، يُتجنَّبُ ما يوصلُ إليها".
ويقول- رحمه الله-: " إني لا يحلُّ لي أن أُضَيعِّ ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مُذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ اُعمِلُ فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهضُ إلا وقد خطر لي ما أُسطرُهُ" (3).
وهذا من تقديره- رحمه الله- لقيمة الوقت، وحرصه على عدم إهداره أو إضاعته.
 
شُيوخُه:
لقد ساعد جوُّ بغداد العلمي ابن عقيل على التحصيل والإفادة من
__________
(1) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(2) 1/ 7.
(3) المنتظم 9/ 214.
(مقدمة/14)
 
 
علماء عصره، وساعده على ذلك ذكاؤه المفرط، وحُبُّه للعلم، فأخذ يتنقل بين مشايخ بغداد وعلمائها على كثرتهم، فتنوعت علومه، وتعددت معارفه، وكان هذا سبباً في كثرة مشايخه.
وكان أبو يعلى الفراء أول من أخذ ابن عقيل الفقه عنه، فقد ذكر أنه تفقَّه عليه فى حداثة سِنِّهِ، وبقي ملازماً له، غير مُخِلٍّ بمجالسه، حتى وفاته سنة ثمان وخمسين واربع مئة (1).
وذكر ابن عقيل أن أول من لقَّنه القرآن، هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابق الحسين الخزاز، حيث قال: " كان الشيخ أبو إسحاق الخزاز شيخاً صالحاً بباب المراتب، وهو أول من لقنني كتاب الله بدرب الديوان بالرصافة " (2).
ويقول ابن عقيل- رحمه الله- عن شيوخه: "شيخي في القراءة ابن شيطا، وفي الأدب والنحو: أبو القاسم بن برهان، وفي الزُّهد: أبو بكر الدّينوري، وأبومنصور ابن زيدان أحلى من رأيت، وأعذبهم كلاماً في الزُّهْد وابن الشيرازي، ومن النساء: الحرانية، وبنتُ الجنيد، وبنت الغَرَّاد المنقطعة إلى قعر بيتها، لم تصعد سطحاً قط، ولها كلامٌ في الورع، وسيدُ زُهّاد عصره وعينُ الوقت: أبو الوفاء القزويني، ومن مشايخي في آداب التصوف: أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار، ومن مشايخي في الحديث: التَّوَّزي، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم، ومن مشايخي في الشعر والترسُّل: ابن شبل، وابن الفضل، وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني، وفي الوعظ: أبو طاهر ابن العلاف صاحب ابن سمعون، وفي الأصول: ابن الوليد، وأبو القاسم ابن التَّبان
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142 - 143.
(2) المنتظم 9/ 98.
(مقدمة/15)
 
 
وفي الفقه: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر ابن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو الفضل الهمذاني، وأبو بكر الخطيب، وأبو منصور بن يوسف وغيرهم" (1).
وثمة عددٌ كبير من المشايخ الذين تلقى عنهم ابن عقيل لم يرد ذكرهم هنا، وكثرتهم إن دلَّت، فإنما تدل على شغف ابن عقيل بتحصيل أنواع العلوم، وحرصه على ألا يفوته أي نوع منها.
وفيما يلي أهم مشايخ ابن عقيل الذين أخذ عنهم وأفاد منهم:
1 - ابنُ شيطا: أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن عثمان ابن شيطا البغدادي، كان من كبار أئمة القُراء، ولد ببغداد سنة سبعين وثلاث مئة، وتوفي بها سنة خمسين واربع مئه" (2).
2 - ابنُ بَرهان: عبد الواحد بن علي بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم ابن بَرهان العكبري، كان من علماء العربية، عالماً بالنحو والتاريخ وأيام العرب، أخذ عنه ابن عقيل الأدب والنحو، مات سنة ستٍ وخمسين واربع مئة (3).
3 - أبو بكر الدينوري: ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (4).
4 - أبو منصور ابن زيدان، وقيل: أبو بكر. ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (5)
__________
(1) المنتظم 9/ 212 - 213
(2) تاريخ بغداد 11/ 16، والمنتظم 8/ 199، ومعرفة القُرّاء الكبار 1/ 333.
(3) تاريخ بغداد 11/ 17، والمتتظم 8/ 337، والبداية والنهاية 12/ 92.
(4) المنتظم 9/ 212.
(5) المنتظم 9/ 212، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(مقدمة/16)
 
 
5 - أبو الوفاء القزويني (1): وقيل: أبو الحسين القزويني (2)، وقيل: أبو الحسن، هو علي بن عمر بن محمد بن الحسن الحربي، كان شيخاً لابن عقيل في الزهد، قال ابن عقيل: "شهدتُ جنازته، وكان يوماً لم يُر في الاسلام بعد جنازة أحمد ابن حنبل مثله" (3).
6 - أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار: هو محمد بن أحمد
ابن عبيد، المعروف بابن صاحب الزيادة. توفي سنة ثمانٍ وستين وأربع مئة (4).
7 - التَّوَّزي: هو أحمد بن علي بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو الحسين، المعروف بابن التَّوزي، كان شيخ ابن عقيل في الحديث، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة (5)
8 - ابنُ بِشْران: محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران البغدادي، راوي السنن عن الدارقطني. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، وكان ثقة، توفي سنة ثمان وأربعين وأربع مئه" (6).
9 - العُشاري: محمد بن علي بن الفتح بن محمد الحربي البغدادي، كان ثقة دَيِّناً، مكثراً من الحديث، أخذ عنه الحديث ابن عقيل وغيره، توفي سنة إحدى وخمسين وأربع مئه" (7).
__________
(1) المنتظم 9/ 212.
(2) ذيل طباتات الحنابلة 1/ 143.
(3) تاريخ بغداد 12/ 43.
(4) المنتظم 8/ 299.
(5) تاريخ بغداد 4/ 324، والمتتظم 9/ 212.
(6) تاريخ بغداد 2/ 248، والمححظم 9/ 212.
(7) تاريخ بغداد 3/ 107، وطبقات الحنابلة 2/ 191.
(مقدمة/17)
 
 
10 - الجوهري: الحسنُ بن علي بن محمد بن الحسن الجوهري البغدادي، كان ثقة، صالحاً، توفي سنة اثنتين- وقيل: أربع- وخمسين وأربع مئة (1).
11 - ابن شبل: محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف الشِّبلي، أحد الشعراء المشهورين، كان شيخاً لابن عقيل فى الشعر، توفي سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة" (2).
12 - ابن الفضل: علي بن الحسين بن علي بن الفض، أبو منصور الشاعر، المعروف بِصُرَّ دُرّ. كان ممن أخذ ابن عقيل الشِّعر عنهم، توفي سنة خمسٍ وستين وأربع مئة (3).
13 - أبو الفضل الهمذاني: عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد الهمذانيُّ الفرضي، كان من أئمة الدين وأوعية العلم، وله اليد الطولى في العلوم الشرعية، وانتهت إليه الرئاسة في علم الفرائض والحساب، توفي سنة تسعٍ وثمانين وأربع مئة" (4).
14 - ابن العلاف: محمد بن علي بن محمد بن يوسف أبو طاهر، البغدادي، كانت له حلقة في جامع المهدي، ثم من بعده في جامع المنصور، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة" (5).
15 - أبو يعلى ابن الفراء: محمد بن الحسين بن خلف بن أحمد ابن الفراء، البغدادي، القاضي، شيخ الحنابلة في وقته.
__________
(1) تاريخ بغداد 7/ 393، وشذرات الذهب 3/ 292.
(2) المنتظم 8/ 328، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 142.
(3) المنتظم 8/ 281، ووفيات الأعيان 3/ 385.
(4) المنتظم 9/ 100، والبداية والنهاية 12/ 153.
(5) تاريخ بغداد 3/ 103، والمنتظم 8/ 148.
(مقدمة/18)
 
 
كان فريد عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده، وهو أول من أخذ ابنُ عقيل الفقه عنه، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة (1).
16 - أبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الفيروزآبادي، الشافعي، كان مُقدَّماً في الأصول والفقه والجدل، توفي سنة ست وسبعين وأربع مئة (2).
17 - ابن الصباغ: عبدُ السَّيِّدِ بنُ محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن: جعفر، أبو نصر، الشافعي، كان مقدماً ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الشافعيه في وقته، توفي سنة سبعٍ وسبعين وأربع مئة (3).
18 - الدَّامغانيُّ: محمد بن علي بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله الدامغاني، الحنفي، القاضي. كان عفيفاً، وافر العقل، كامل الفضل، مكرماً لأهل العلم أخذ عنه ابن عقيل الفقه. توفي سنة ثمانٍ وسبعين وأربع مئة (4).
19 - أبو بكر الخطيب: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد الخطيب، البغدادي، الحافظ، المحدِّث، المؤرخ، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، توفي سنة ثلاثٍ وستين وأربع مئة (5).
20 - أبو إسحاق الخزاز: إبراهيم بن الحسين الخزاز، المقرىء، الزاهد، اللصالح، شيخ القراء فى وقته، توفي ببغداد سنة تسع وثمانين وأربع مئة (6).
__________
(1) تاريخ بغداد 2/ 256، والمنتظم 8/ 253.
(2) المنتطم 9/ 7، والبداية والنهاية 12/ 124.
(3) المنتظم 9/ 12، ووفيات الأعيان 3/ 217، والبداية والنهاية 12/ 126.
(4) تاريخ بغداد 3/ 109، والمنتظم 9/ 22.
(5) المنتظم 8/ 265، والبداية والنهاية 12/ 101.
(6) المنتظم 9/ 89، والمنهج الأحمد 2/ 203.
(مقدمة/19)
 
 
تلاميذُه:
أخذ العلم عن ابن عقيل عدد غير قليل من الفضلاء، منهم:
1 - ابن ناصر: محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي، كان حافظاً ضابطاً، ثقةً، خبيراً بالجرح والتعديل، توفي سنة خمسين وخمس مئة (1).
2 - المغازلي: عمر بن ظفر بن حفص المغازلي البغدادي، كان مقرئاً محدِّثاً، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة (2).
3 - أبو المعمَّر الأنصاري: المبارك بن أحمد بن عبد العزيز الخزرجي الأنصاري، كان ذا فهم وعلم بالحديث، توفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة (3).
4 - أبو سعد السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، العالم، الحافظ، البارع، صاحب التصانيف، أحد من أجاز لهم ابن عقيل، توفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة (4).
5 - عبد الحق اليوسفي: عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي، كان شيخاً، صالحاً، متعففاً، وهو أحد شيوخ ابن الجوزي، توفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة (5).
__________
(1) المنتظم 10/ 162، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 225.
(2) معرفة القراء الكبار 2/ 407، وشذرات الذهب 4/ 131.
(3) المنتظم 10/ 160، وشذرات الذهب 4/ 315.
(4) المنتظم 10/ 224، وشذرات الذهب 4/ 205.
(5) شذرات الذهب 4/ 251.
(مقدمة/20)
 
 
مكانته العلمية:
برع ابن عقيل- رحمه الله- في علوم كثيرة، وبزَّ أقرانه في فنون مختلفة، وزاحم علماء عصره، وتقدم على فضلاء دهره، فحاز المكانة العالية، وبلغ المرتبة السامية، التي أهلته أن يكون مرجعاً في كثير من العلوم.
وقد كان- رحمه الله- بارعاً في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطاتٌ حسنةٌ، وتحريراتٌ كثيرةٌ مستحسنة، وكانت له يد طولى في الوعظ والمعارف، وكلامه في ذلك حسنٌ، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة، وإرشادات دقيقة (1).
ونال ابن عقيل مكانة عالية عند كثير من علماء عصره على اختلاف مذاهبهم، إذ لم يكن- رحمه الله- مُقلِّداً، ولا مُتعصباً لرأي، بل كثيراً ما كان يخالف آراء المتقدمين عن دليلٍ ونظرٍ. فمع أنه تفقه على مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- وألف فيه، فأضحت تصانيفه معتمدة في بيانه وتقريره إلا أنه نحا منحى الاجتهاد، فانفرد بمسائل كثيرة خالف فيها المذهب، لدليل ظهر له.
يقول عنه ابن رجب: "وكان مع ذلك يتكلم كثيراً بلسانِ الاجتهاد والترجيح، واتِّباع الدَّليل الذي يظهرُ له، ويقول: الواجبُ اتِّباعُ الدَّليل، لا اتِّباع أحمد" (2).
وقال عنه أيضاً: "وله مسائل كثيرةٌ ينفردُ بها، ويُخالف فيها المذهب" (2).
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 152.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 157/ 1.
(مقدمة/21)
 
 
وقد أثنى عليه جماعةٌ من أفاضل العلماء؛ قال ابن الجوزي: "انتهت إليه الرئاسة في الأصول والفروع، وله الخاطِرُ العاطِرُ، والفهمُ الثاقِبُ، واللَّباقَةُ، والفطنةُ البغدادية، والتبريز في المناظرة على الأقران، والتصانيفُ الكِبار" (1).
وقال الحافظ الذهبي عنه: "الإمامُ العلامة، البحر، شيخ الحنابلة، المتكلم، صاحب التصانيف. كان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارفٍ، وكنز فضائلٍ، لما يكن له في زمانه نظير" (2).
وقال ابنُ السمعاني: "كان إماماً، فقيهاً، مُبرِّزاً، مناظِراً، مُجوداً، كثير المحفوظ، مليح المحاورة، حسن العشرة، مأمون الصحبة" (3).
وقال عنه أبو طاهر السلفي: "ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء ابن عقيل، وما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحُسنِ إيراده، وبلاغة كلامه وقوة حجته" (4).
ووصفه الصَّفديُّ: بأنه من أعيان الحنابلة، وكبار شيوخهم، وكان مُبرِّزاً، مناظراً، حادَّ الخاطر، بعيد الغور، جيد الفكرة، بحاثاً عن الغوامض، مقاوماً للخصوم، وصنف كتباً في الأصول والفروع والخلاف (5).
وقال ابن رجب:"كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني اَدم، مُفْرط الذكاء في العلوم، وكان خبيراً بالكلام، مُطلعاً على
__________
(1) مناقب الإمام أحمد: 634.
(2) سير أعلام النبلاء19/ 443 - 445.
(3) لسان الميزان 4/ 244.
(4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 147.
(5) الوافي بالوفيات 21/ 326.
(مقدمة/22)
 
 
مذا هب المتكلِّمين " (1).
 
مُصَنفاتُه:
نظراً لثقافة ابن عقيل الواسعة، فقد تعددت مُصنَّفاتُه، وتنوعت مؤلفاته، ومن أهمها:
1 - "الفُنون": وهو كتاب كبير جداً، تراوحت تقديرات المؤرخين لعدد مجلداته ما بين مئتين وثمان مئة مجلدة، ويشتمل هذا الكتاب على فوائد كثيرة، وتقريرات مفيدة، يقول عنه ابنُ رجب: "هو كتاب كبيرٌ جداً، فيه فوائد جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراتُه، ومجالسُه التي وقعت له، وخواطرُهُ، ونتائجُ فكره، قيَّدها فيه" (2).
ولم يُعْرَف منه إلاّ قطعةٌ حقَّقها وعلق عليها الدكتور جورج مقدسي، وقام بنشرها في جزءين، طبعتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1970 م.
2 - "الفصول" في الفقه الحنبلي، ذكر أَبن رجب أنه عشرُ مُجلدات (3)، وقال غيره: سبع مُجلدات (4).
ويُسمى "الفصول " أيضاً: "كفايةُ المُفتي"، وهو من الكتب المهمة في فقه الحنابلة. وُجِد منه قطعتان مخطوطتان، أحدهما بدار الكتب المصرية تحت رقم (13 فقه حنبلي)، والأخرى بالمكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلهْ 1/ 155.
(2) المصدر السابق 1/ 155.
(3) المصدر السابق 1/ 156.
(4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 29.
(مقدمة/23)
 
 
(63) فقه حنبلي.
3 - "التذكرة"، منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (87) فقه حنبلي.
4 - "الإشارة"، وهو مجلد لطيف اختصر فيه ابن عقيل كتابه الموسوم بـ " الروايتين والوجهين" (1).
5 - "المنثور" وهو في الفقه.
6 - "الإرشاد"، وهو في أصول الدين.
7 - "الانتصار لأهل الحديث".
8 - "نفي التشبيه".
9 - "مسألة في الحرف والصوت" (2)، منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (245) حديث، وهو في إثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى، والرَّدِّ على من أنكر ذلك، وقد نشُر في مجلة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (971 ام)، بتحقيق جورج مقدسي.
10 - "الجدل على طريقة الفُقهاء"، نُشر في مجلة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (1967) بتحقيق جورج مقدسي.
11 - "عُمْدة الأدلَّة".
12 - "المفردات".
13 - "المجالس النظريات".
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156.
(2) المصدر السابق 1/ 156.
(مقدمة/24)
 
 
14 - "تهذيب النفس" (1) وهو في الآداب والأخلاق.
15 - "رؤوس المسائل" في الفقه (2).
16 - "مسائل مشكلة في آيات من القرآن" (3).
17 - "الكفاية في أصول الدين".
18 - "تفضيل العبادات على نعيم الجنات".
19 - "الواضح في أصول الفقه"، وهو هذا الكتاب.
 
صلة ابن عقيل ببعض شيوخ المعتزلة:
على الرغم من المكانة السامية التي بلغها ابن عقيل، والمنزلة الرفيعة التي تبوَّأها، فإن بعض أصحابه من الحنابلة قد تكلَّم فيه، لتردُّده على بعض المشايخ من المعتزلة، وتلقيه عنهم علم الكلام.
يقول ابن عقيل عن ذلك: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء- يعني شيوخه من المعتزلة- وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً" (4).
وقد علَّق الحافظ الذهبي- الذي نقل هذا الكلام- عليه بقوله: "قلت: كانوا ينهونه عن مُجالسة المعتزلة، ويأبى، حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة" (5).
__________
(1) المصدر السابق 1/ 156.
(2) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 209.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156.
(4) سير أعلام النبلاء19/ 447.
(5) سير أعلام النبلاء 19/ 447.
(مقدمة/25)
 
 
وقد اشتدت نِقمةُ الحنابلة عليه نتيجة تجاسُرِه على تأويل نُصوص الصفات، ودفاعه عن الحلاّج، واعتذاره له، حتى طلبوا دمه، وأهدروه، إلى أن أعلن توبته عن ارائه الاعتزالية، ورجوعه عن ترحُّمهِ على الحلاّج، فانطفأت بذلك نار الفتنة.
ولم يكتفِ- رحمه الله- بإعلان التوبة، بل أخذ يُصنّف في الردِّ على المعتزلة، هاتكاً أستارهم، وكاشفاً عن عوارِهم عن علم ودراية.
يقول الحافظُ ابن حجر: "نعم، كان مُعتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحَّتْ توبتُهُ، ثم صَنف فى الردِّ عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم، وأطْراهُ ابنُ الجوزي، وعَوَّلَ على كلامه في أكثر تصانيفِهِ " (1).
ونَقل الحافظ ابن رجب قصة توبة ابن عقيل، ورجوعه عمّا كان عليه، فقال: "فمضى ابن عقيل إلى بيتِ الشريف، وصالحهُ، وكتب خطهُ: يقولُ عليُّ بن عقيل بن محمد: إني أبرأُ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعَةِ الاعتزال، وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والتَّرحُّمِ على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، وما كنتُ عَلَّقْتُه ووُجد بخطِّي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائبٌ إلى الله تعالى من كتابته، ولاَ تحلُّ كتابتُهُ، ولا قراءتُه، ولا اعتقاده، وإنني علَّقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإنَّ قوماً قالوا: هو أجسادٌ سود. وقلتُ: الصحيحُ: ما سمعتُه من الشيخ أبي علي، وأنه قال: هو عدمٌ، ولا يُسمى جسماً، ولا شيئاً أصلاً، واعتقدتُ أنا ذلك، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلاّج: أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات،
__________
(1) لسان الميزان 4/ 243.
(مقدمة/26)
 
 
ونصرتُ ذلك في جزء عملتُه، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحُّم عليهم، والتعظيم لهم، فإن ذلك كله حرامٌ، ولا يحلُّ لمسلمٍ فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عَظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ والأتباع، ساداتي وإخواني- حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقَّقُ أني كنتُ مخطئاً، غيرمصيبٍ.
ومتى حُفِظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك، غَيْرَ مجبر ولا مكره، وباطني وظاهري- يعلمُ الله تعالى- في ذلك سواءٌ. قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. وكتب يوم الأربعاء، عاشِر مُحرّم سنة خمسٍ وستين وأربع مئة" (1).
هكذا تاب ابن عقيل- رحمه الله- ورجع عمّا كان عليه، والله سبحانه يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها، ومن أَتبع السيئة بحسنةٍ محتها.
وهذا ما فعلهُ ابنُ عقيل، فقد عاد بعد توبته إلى نص السنَّة، وردَّ على من مشى بُرهة في ركابهم من المبتدعة.
يقول ابن قُدامة المقدسي عنه: "ثُم عاد بعد توبته إلى نصِّ السُّنة والردِّ
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 144 - 145، والمنتظم 8/ 275.
(مقدمة/27)
 
 
على من قال بمقالته الأولى بأحسن كلام، وأبلغ نظام، وأجاب على الشُّبه التي ذُكِرت بأحسن جوابٍ، وكلامه في ذلك كثيرٌ في كتب كبارٍ وصغارٍ، أجزاءٍ مفردةٍ، وعندنا من ذلك كثير، فلعلَّ إحسانهُ يمحو إساءته، وتوبته تمحو بدعته فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادِه ويعفو عن السَّيِّئات" (1).
 
وفاته:
بعد حياةٍ حافلةٍ بطلب العلم، وتدريسه، والتصنيف فيه والسعي في سبيله، توفي ابن عقيل- رحمه الله- عن ثلاثٍ وثمانين سنة، وقد وافاه الأجل في بغداد بُكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور، وكان الإمام في جامع القصر ابن شافع، وقد حضر جنازته والصلاة عليه جمع يفوت الإحصاء، قال ابن ناصر: "حزرتهم بثلاث مئة ألفٍ" (2).
رحم الله ابن عقيل، وغفر له، وجزاه على ما قدَّم أفضل الجزاء.
 
وصف النسخة الخطية:
تم الاعتماد في تحقيق الكتاب على نسخة وحيدة لم نقف على غيرها، وهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء، نسخت عن أصلٍ آخر بخط المصنف، كما ورد على الصفحة الأولى من الجزء الأول: "منقول من خط المصنف مُعارض بأصله"، وكذلك في الورقة (242) عند قوله: "أبي المغيث" فعلق الناسخ في هامش النسخة بقوله: "كذا بخط ابن عقيل، والصواب: "مغيث"، وأيضاً في الورقة (253) عند
__________
(1) الرد على ابن عقيل: 2.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 162، وسير أعلام النبلاء 19/ 447.
(مقدمة/28)
 
 
قوله: "مشغلاً"، علق الناسخ في الهامش بقوله: "كذا بخط ابن عقيل، والصواب: شاغلاً"، وكذلك ورد في هامش الورقة (278) ما نصه: "بلغ العرض من أول الكتاب بأصل المصنف ومنه نُقل".
ولم يتبين اسم الناسخ كاملاً، فقد طمست الرطوبة بعضه، والظاهر أن اسمه: أبو بكر الجيلي، كما ورد على الصفحة الأولى من الجزء الأول، وكذلك ورد في هامش الورقة (63) ما نصه: "كتب إلى هاهنا أبو بكر الجيلي".
ولم يتبين أيضاً تاريخ انتهاء الجيلي من النسخ، لأن النقص أصاب الورقات الأخيرة من الورقة (311) إلى آخر الجزء، ولكن بما أن الجيلي نسخها للعلامة عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الجوزي- كما هو موضح على الصفحة الأولى- فهو إذن قبل وفاة ابن الجوزي سنة 597 هـ.
وقد تمم النقص ناسخ آخر كما ورد في آخر الجزء: "آخر الأول، يتلوه الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضدِّه من طريق اللفظ، تممه محمد بن محمود المراتبي في الثالث من ربيع الثاني سنة ثمان وعشرين وستِّ مئة وصلى الله على محمد وآله يارب يارب يارب يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لي".
فهذا التاريخ يختص بالنقص الذي تممه المراتبي فقط، أما تاريخ نسخ الجيلي فقد أصابه الطمس ولم يتبق منه إلا: "نقله أبو بكر .. الجيلي في المحرم سنة اثنتين ... وخمس .... ".
والجزء الأول من الكتاب محفوظ بدار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم 78، ويتألف من (314) ورقة، في كل صفحة (23) سطراً. وعلى
(مقدمة/29)
 
 
الصفحة الأولى منه: "ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين".
والجزء الثاني أيضاً من محفوظات دار الكتب الظاهرية تحت رقم (79) ويتألف من (270) ورقة في كل صفحة (19) سطراً، وقد أصابت الرطوبة ثلاثين ورقة من أوله فأودت بالأسطر الثلاثة العليا من هذه الورقات.
وعلى الصفحة الأولى منه عدة تملكات هي: "انتقل بالابتياع الشرعي من ولد شيخنا بُرهان الدين بن قندس في سادس ربيع الاَخر سنة ثمان وسبعين وثمان مئة بشهادة الشيخ أحمد العسكري فأقبض الثمن بحضرته .. ".
وتحته: " ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين".
وتحته أيضا: "ملكه من فضل ربه أحمد بن يحمى بن عطوة الدرعي".
وقد وقفه أحمد بن يحمى لمدرسة أبي عمر، كما ورد في أسفل الصفحة: "وقف أحمد بن يحى النجدي المحل مدرسة أبي عمر في الصالحية".
وتحت العنوان تملك آخر نصه: "ملك هذا الكتاب العبد الفقير الكسير الراجي عفو ربه محمد بن الشيخ سعد الدين القادري البغدادي الحنبلي غفر الله له آمين".
أما الجزء الثالث من الكتاب فهو من محفوظات مكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية تحت رقم (1842). ويقع في (223) ورقة، في كل صفحة (19) سطراً إلى (21) سطراً في بعض الصفحات،
(مقدمة/30)
 
 
وكُتب على الورقة الأولى منه فهرساً للأبواب والفصول الواردة فيه، ولم يسلم هذا الجزء أيضاً من الطمس في كثير من المواضع، وعليه بجانب العنوان تملك: "ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين". وأسفل الصفحة: "انتقل بالابتياع الشرعي من ولد شيخنا الشيخ تقي الدين ابن قندس تغمده الله بالرحمة والرضوان في سادس ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثمان مئة وذلك بحضور الشيخ بهاء الدين أحمد العسكري، وقبض الثمن بحضوره والله أعلم".
 
منهج المؤلف في الكتاب:
قسم ابن عقيل كتابه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أورد فيه ما يتعلق بأصول الفقه، حيث استهله ببيان معنى الفقه، وبيان معنى العلم وأقسامه، وأتبع ذلك بذكر الأصول من كتابٍ وسنةٍ ودلالاتها، ثم ذكر فصولاً في جمع الحدود والعقود والحروف التي تدخل في أبواب الكتاب، وجميع ما يحتاج إليه من الألفاظ المتضمنة لمعان لا يستغني عنها من أراد العلم بأصول الفقه، ثم أورد فصولاً في النسخ، واختتم هذا القسم بذكر صفة المفتي والمستفتي.
القسم الثاني: أفرده ابن عقيل للجدل- جدل الأصوليين وجدل الفقهاء- وذكر سبب ذلك بقوله: "واعلم أنني لما قدمتُ هذه الجملة من العقود، والحدود، وتمهيد الأصول، وميزتها عن مسائل الخلاف، رأيتُ أن أشفعها بذكر حدود الجدل، وعقوده، وشروطه، وآدابه، ولوازمه، فانه من أدوات الاجتهاد، وأؤخِّر مسائل الخلاف، إلحاقاً لكل شيء بشكله، وضم كل شيء إلى مثله، فجمعتُ بذلك بين قواعد هذين العلمين: أصول الفقه والجدل، وأخَرت مسائل الخلاف فيهما، فإنَ الأصول بالأصول أشبه، واليها أقرب، والخلاف بالخلاف أشبه، والله
(مقدمة/31)
 
 
الموفق" (1)،
 
القسم الثالث: وهو مسائل الخلاف، ابتدأه بذكر الأوامر والنواهي، ثم ذكر عدة فصول في فحوى الخطاب، والاستثناء، والمجمل والمفسر، والمحكم والمتشابه، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنسخ، والأخبار، والإجماع، والقياس، والاجتهاد.
وقد تميز كتاب الواضح بميزات عديدة، أهمها:
1 - التوسع والاستقصاء في معظم فصول الكتاب مع الحرص على الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة، كما بين ذلك ابن عقيل في مقدمته.
2 - تضمنه لمباحث الجدل، وهو ما يقلُّ في كتب الأصول الأخرى.
3 - الاستقصاءُ في إيراد الأقوال الورادة في المسالة المراد بحثها، وذكرُ أدلة كل قولي من الأقوال، ومناقشة هذه الأدلة بتجرُّدٍ وحيادٍ، واختيار الراجح من الأقوال، وتعضيدُهُ بالدليل المعتبر.
4 - توضيح بعض العبارات والمسائل بالشواهد القرآنية والحديثية، وذكر أقوال أهل اللغة، وما روي عن العرب من الشعر والنثر في ذلك.
5 - ايراد ابن عقيل في آخر كتابه لجملةٍ طيبةٍ من غرائب المسائل والفصول، حيث قال: "مسائل تتبعتها مما كنتُ أغفلته، وفصول لقطتها من الكتب والمجالس من غرائب المسائل والفصول" (2).
__________
(1) الجزء الأول، الصفحة 295.
(2) انظر الورقة 206 من الجزء الثالث من الأمل.
(مقدمة/32)
 
 
تحقيق الكتاب:
اتُّبع في تحقيق الكتاب الخطوات التالية:
- نسخُ الأصل الخطي، ومُقابلته.
- تفصيلُ النص، وترقيمه، وضبط ما يحتاج إلى ذلك منه.
- عزو الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار.
- إحالة غالب النُقول الواردة إلى مصادرها، وعزو الأبيات الشعرية إلى قائليها.
- استكمالُ العبارات التي لحقها الطمس في الجزء الثاني والثالث من الأصل الخطي، وقد تطلَّب ذلك الرجوع إلى كثير من كتب أصول الفقه، وخاصة كتاب "العدة" لأبي يعلى شيخ المصنف، و"التمهيد" و"التبصرة" وغيرها، وما لم نقف عليه في تلك المصادر، أُثبت تقديره حسب المعنى وكما يقتضيه السياق، ووُضع بين حاصرتين، وأشير إلى ذلك في الحاشية.
- عمل الفهارس اللازمة التي تُعين طالب العلم في الوصول إلى بُغيته بيُسر وسهولة.
- هذا ونسألُ الله عز وجلَّ أن يعفو عما حصل فيه من سَهْوٍ ومن تقصير، راجين منه تعالى القبول، والله الموفق.
(مقدمة/33)
 
 
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
 
تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)
 
تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
 
الجزء الأول
 
مؤسسة الرسالة
(/)
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(1/2)
 
 
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
1
(1/3)
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
 
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460
 
AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb
(1/4)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلواتُه على سيِّدنا محمدٍ وآلِه الطَّاهرين، أَمّا بعدُ:
فإنَّ كثيراً من أصحابنا المتفقَهةِ سألوني تأليفَ كتابٍ جامعٍ لأصول الفقهِ، يوازي في الإِيضاحِ والبَسْطِ وتسهيلِ العبارةِ التي غَمُضتْ في كتب المتقدِّمين، ودَقَّتْ عن أفهام المبتدِئين، كتابيَّ الكبيرين الجامعين للمذهب والخلافِ (1)، وأستوفي فيه الحدودَ والعقودَ، ثم أشِير إلى الأقرب منها إلى الصِّحًة، وأُمَيز المسائلَ النًظريًاتِ بدلائلَ مُسْتَوْفاةٍ، واسئلهٍ مُسْتقْصاةٍ، ليَخْرُجَ بهذا الإِيضاحِ عن طريقةِ أهل الكلام وذوي الإِعجام إلى الطريقة الفقهيَّةِ، والأساليب الفُرُوعيًةِ، فأجَبْتُهم إَلى ما سَأَلُوا، مَعتمداً على اللهِ سبحانه في انتفاَعي على النَّمَط الذي طَلَبُوا وأَملُوا، مع بَذْلِ وُسْعِي في ذلك، واستقصائِي فيه، ولن يَخِيبَ عن دَرْك البُغْيَةِ مَنْ صَدَقَ نفسَه الطَّلَبَ، وبَلَغَ جِدَّه في الاجتهاد لدَرْك المَطْلب، ثم فَزِعَ إلى الله سبحانه فيما وراءَ جُهْدِه، طالباً للإعانة على دَرْك الإَصابةِ في قَصْده بحُسْن التوفيقِ والهدايةِ، واثقاً بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]
__________
(1) لعله أراد كتابيه "الفصول" و"التذكرة"، انظر "ذيل طبقات الحنابلة" 1/ 156، و"المدخل إلى مذهب الِإمام أحمد بن حنبل" ص 418.
(1/5)
 
 
فصل
في بيان معنى قولِنا: أُصولُ الفِقْهِ
فالفقهُ في الأصل اللغَويِّ: الفَهْمُ، وقيل: العلمُ، قال سبحانه: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقولُه: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ضَعِيفًا} [هود: 91]، أي: لا نفهم، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:"نَضَّرَ" (1) اللهُ امْرَأً سَمعَ مَقالَتِي فوعاها، فأَدَّاها كما سَمِعَها، فَرُبَّ حامل فِقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفْقَهُ منه" (2).
وهو في عُرْفِ قومٍ: عبارةٌ عن فَهْم الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ بطريق النًظَرِ.
وقال قومٌ: هو العِلْمُ بالأَحكام الشَرعةِ بطريق النَظَر والاستنباطِ (3).
وأصولُه: هي ما تُبْنَى عليه الأحكام الفِقْهيَّةُ من الأدلَّةِ على
__________
(1) كتبت في الأصل فوق السطر وتحتها: "رحم".
(2) أخر جه أحمد 4/ 80، 82، والدارمي 1/ 65، وابن ماجه (231) والحاكم 1/ 87، والطحاوىِ في "مشكل الآثار" 4/ 283، وابن عبد البر في "جا مع بيان العلم" 1/ 41، والطبراني في الكبير (1451) و (1544) من حديث جبيربن مطعم.
وفي الباب عن زيد بن ثابت، وا بن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس، وابن عمر وغيرهم.
(3) - وقد ذكر الطوفي عدة تعريفات لمعنى الفقه اصطلاحاً، وما يرد على كل تعريف، انظر "شرح مختصر الروضة" بتحقيقنا 1/ 133 - 175.
(1/7)
 
 
اختلافِ أنواعِها، ومراتِبها: كالكتاب ومراتب أدلَّتِه؛ من نصٍّ، وظاهرٍ، وعمومٍ، ودليلِ خِطابه، وفَحْوى خَطابهِ، وَالسُّنةِ ومراتبها، والقياسِ، وقولِ الصَّحابىِّ- علَى الخلاف- واستصحاب الحالِ مع انقسامِه، فهذه أصولٌ تَنْبَنِي عليها الأحكامُ (1).
ولا ينصرفٌ إطلاقُ الفقهِ إلى العلم جملةً، بدليل علمِ النحْوِ، والطب، واللغة، والهَنْدَسةِ، والحِساب؛ فإن العلماءَ المبرزين فيها لا يَقَعُ عليهم اسمُ الفقهاءِ، ولا علىَ علومِهم اسمُ الفقهِ (2)، وكذلك العلماءُ بأصولِ الدين، العارفون بالجواهر، والأعراضِ، والأجناسِ، والأنواع، والخاصةِ، والفَصْلِ، والاستدلالِ بالشاهدِ على الغائبِ، لا يقعُ علَيهم اسمُ فقهاءَ؛ لعدم علمِهم بأحكام الشرْع، ولا تسمَّى علومُهم أصولاً للفقه.
وإن كانت الأدلة التي ذكرنا بالأصولِ تَنْبَنِي على العلوم التي يُبْنى عليها إثباتُ أصولِ الدين؟ من حَدَثِ العالمِ، وإثباتِ الضَانعِ، وأنه واحدٌ، وما يَجبُ له، ويجوزُ عليه، وما لا يجوزُ عليه، وبعْثَةِ الرُّسُلِ وصِدْقِهم، إلى أمثال ذلك، ولكنْ لمَّا كانت أخص بكَونها أصولًا للدِّين؛ لم يُطْلَقْ عليها ما انْبَنى على ما دونها من الأصولِ، كما لا يقالُ في اللغه أصولُ الذينِ، وإن كانتِ الأحكامُ الشرعيةُ مبنيةً على الألفاظ اللغوية.
__________
(1) وهو ما قاله شيخه أبو يعلى، انظر "العدة"1/ 70، و "شرح مختصر الروضة" 1/ 125 - 126، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 41.
(2) انظر "شرح الكوكب المنير" 1/ 42.
(1/8)
 
 
لكنَّ العلماءَ علَّقوا الأسماءَ على الأقرب والأخصَ دونَ الأبعدِ والأعمِّ، كما فعلوا ذلك في الأنساب، والدَّلائَلِ، فلم يُحيلُوا بدَلالة الإِجماعِ على الإِعجازِ الذي هو دليلُ صدقِ النُّبُوَّةِ، لكن احالوا بحُجَّةِ الإِجماعِ على قولِ الصادق؛ لأنها أقربُ، دونَ دَلالةِ صدق الصَّادقِ؛ لأنها أبعدُ.
فمَنْ قال: إنه الفهْمُ، تعلقَ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفْقهُ منه"، ولا شَكَّ أن الحاملَ سَبَقَ المحمولَ إليه بالعلمِ بما نَقَلَهُ، لكنَّ الأفقهَ خبَرَ منه بجودةِ فهمِه ما لم يَخبُرْه.
واعتلَّ من قال: إنه العلمُ- وهو المعوَّلُ (1) عليه عند علمائِنا- بأن الفهمَ قد اشتركَ فيه العامِّيُّ والمجتهدُ، وانفردَ أهلُ الاجتهادِ بكونهم علماءَ، وليس كلُّ فَهِمٍ عالماً، وكل عالمٍ فَهِم، والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: "المعمول".
(1/9)
 
 
فصل
 
في العلمِ وتحديدِه وأقسامِه
إذ حَدًدْنا الفقهَ بعلم الأحكامِ الشرعيَّةِ، فلابُدَّ أن نُوَضحَ عن حقيقةِ العلمِ الذي حدَّدْنا به الفقهَ حسبَ ما أوضحْنا من حقيقة الفقهِ، وقد اخْتبَطتْ فيها أقوالُ العلماءِ على اختلاف مقالاتِهم وآرائِهم.
والكُل معترَضٌ بطريقين:
أَحدهما: بالخلاف فيما انْبَنى عليه التَّحديد.
والثاني: بطريق التَّحقيقِ، وأن في القَوْلِ فيه والتَحديدِ له قصوراً عنه، وإِجمالًا (1) لا يَصْفو معه كشف حقيقتِه.
فقال قوم: معرفةُ المعلومِ على ما هو به (2).
وقال قومٌ: معرفةُ الشَيءِ على ماهو به (3).
فمَنْ قال: معرفة المعلوم. اعْتُرِضَ قولُه بأنه صَرفَ من اللفظة قبلَ بيانِ معناها، وقولُنا: معلوَم، مصرف من عَلِمَ، كمضروبٍ من
__________
(1) في الأصل: (إجمال).
(2) وهو ما اختاره الشيرازي في "شرح اللمع في أصول الفقه" 1/ 84.
(3) أورد القاضي أبو يعلى عدة تعريفات للعلم، وذكر ما يرد على كل منها. انظر "العدة" 1/ 76 - 79.
(1/10)
 
 
ضَرَبَ، ومن لا يعرفُ الأصلَ لا يعرفُ المصرَّفَ منه، وما هذا إِلا بمثابةِ من حَدَّ السوادَ بما سَودَ الجسمَ، ونحن لم نَعْلَمْ سواداً، فكيف نعرفهُ بما صُرفَ منه؟!
ومن قال: معرفةُ الشيءِ. معترَض بأنه يَخرجُ منه العلمُ بالمعدومِ، فإنه علمٌ، وليس بمعرفةٍ بشيءٍ، وإن بناه على ذلك الأصلِ، فهو فاسدٌ بالأدلة القاطعةِ في أصول الدِّينِ. ولو كان ذاتاً في العدَم، لكان مُستغنِياً بذاته عن القديمِ، وهذا نفسُ القولِ بقِدَم العالَمَ، وموافقةٌ لأصحابِ الهوى، فهَذان حدَّان متقاربان معترَضان.
وقال قوم: تَبَيُّنُ المعلوم على ماهو به (1). والحدُ للحقيقةِ ينتظمُها شاهداً وغائباً، واللهُ سبحانه يَتعالى عن أن يوصفَ بأنه متبيِّنٌ، لِمَا في طبعِ هذه الكلمةِ وجوهرها من العثورِ على الشَّيءِ بعد خفائِه، والظهورِ بعد استبهامِه، وهو بالعثورِ بعد الخفاءِ أخصُّ منه بالمعرفة المطلقةِ.
وقال قومٌ: اعتقادُ الشَيءِ على ما هو به مع سكونِ النفسِ إلى معتقَدهِ (2). واعْتُرضَ بأن ما تعتقدُه العامةُ من الجهالاتِ، وتَسْكُنُ إليه من التقاليدِ ليست علوماً، وسكونها إلى ما تعتقدهُ تَبْعُدُ إزالتهُ بالتشكيك فيه بأنواعِ الحُججِ والبراهينِ، فضلًا عن الإزاحةِ عنه، وقولهُم: الشَيء. قد أفسَدْناه واعْتَرَضْناه بما دل على إفساد مقالةِ أهلِ المعدومَ.
__________
(1) انظر "البرهان في أصول الفقه" للجويني 1/ 115.
(2) أورد أبو إسحاق الشيرازي هذا القول ونسبه للمعتزلة، وذكر الاعتراضات التي ترد عليه. انظر "شرح اللمع" 1/ 84 - 86.
(1/11)
 
 
وقال قوم: إدراكُ المعلوم أو الشَيءِ على ما هو به. وإدراك، لفظ عام يَشترك بين دَرْكِ الحواس والعلومِ، والحدُ بالمشترَكِ لا يجوزُ، وإنما يُحَدُّ الشيءُ بخصيصة.
وقال قوم: الإِحاطةُ بالمعلوم. وهو معترَض بأن الإِحاطةَ تشتَرِكُ أيضاً، يقالُ: أحطتُ به رؤيةً وسَماعاً.
وقال الشيخُ أبو القاسمِ بنُ بَرْهانَ (1): هو قضاءٌ جازم في النًفْس.
والقضاءُ بالحكم أخص منه بالعلمِ.
واحسَنُ ما وجدتُه لبعضِ العلماءِ أنْ قال: هو وِجْدانُ النفس الناطقةِ لامورِ بحقائقِها (2).
وقال بعضُ المتأخًرين: العلمُ هو ما أَوجبَ لمن قامَ به كونَه عالماً (3). وهذا أبعدُ من الكلِّ؛ لما فيه من الِإحالةِ على كون العالِم بما قامَ به عالماً، ونحن لم نعلمْ ما قامَ به، وعن ذلك سُئِلَ، وكونُه عالماً اسمٌ، لكنْ لحقيقةٍ بَعْدُ ما عَلِمْناها، وما ذلك إلا بمثابةِ مَنْ سُئِل عن السوادِ فقالَ: هيئةٌ يصيرُ بها الجسمُ اسودَ (4)، وأسودُ مشتقٌّ من
__________
(1) عبد الواحد بن علي بن برهان، أبو القاسم العكبري، شيخ العربية والنحو والأنساب، توفي سنة (456) هـ. "سير أعلام النبلاء" 18/ 124.
(2) ذكر الطوفي هذا التعريف الذي اختاره ابن عقيل، وأورد عليه اعتراضين. انظر "شرح مختصر الروضة" 1/ 169 - 170.
(3) ذكره الجويني، وصرح بنسبته لأبي الحسن الأشعري. انظر "البرهان" 1/ 115.
(4) في الأصل: "أسوداً".
(1/12)
 
 
سوادٍ، فقد أحالَ على اسمٍ ما عَقَلْنا بعدُ الحقيقةَ التي لأجلها سُمِّيَ أَسودَ، ويُفضي إلى الدَّوْرِ، فيُعَرِّفُ السَّوادَ بالأسود، والأسود بالسَّوادِ، وما عَرَفْنا الحقيقةَ التي صَدَرَ عنها إلا بتميينر.
وقال بعض المتاخَرين من المحقَقين (1): لا حَدَّ له عندى، وإنما هذه كلُّهارسومٌ (2).
فإن قيل: فالحدود كلها تعطي حد الشَيءِ بنفسِه، فإن المعرفةَ هي العلمُ، والتَّبَينَ هو العلمُ، والإِدراكَ هو العلم، فمن قال: العلم المعرفةُ، كمن قال: العلمُ العلمُ.
قيل: أَجمعَ العلماءُ على أنه لا يجوز حَدُّ المحدودِ بغيرِه، بل لا يُحَدُّ إلا بنفسِه؟ فالسائل عن حَدِّ الشَّيءِ لا يسألُ إلا لجهالتِه بحقيقةِ ما سألَ عنه، فلو أتَيْنا عند سؤالِه عن حقيقةِ الشيءِ بالغيرِ، جَهَّلْناه بحقيقتهِ، إذ أَشَعَرْناه بغيره، وبَعَّدْناه عن مقصودِه، ولو أعدنا عليه ما سألَ عنه، بأنْ يقولَ لنا: ما العلمُ؟ فنقولَ: العلمُ، لَمَا افَدْناه، فقد نطقَ باسم ما عرفَ حقيقته، فإذا أعدنا عليه اللَّفظةَ لم أَفِدْه شيئاً، فإذا بطلَ الأمران، لم يَبْقَ أن يكونَ الجوابُ إلا الفَزَعَ إلى الأوجزِ عبارةً، وأخصِّ خصيصةً؛ لنكشفَ عن حقيقتهِ بإيجازِها، وتخصُّصِها، وكشفِها عن جوهريَّتهِ وطبيعتِهِ، فنكون بذلك مقرِّبين إلى فهمِه معنى ما سألَ عنه، لا عادلين إلى غيرِه، ولا معيدين لِمَا سألَ عنه، بل موضِّحين كاشفِين عن حقيقةِ ما سألَ عنه.
__________
(1) في الأصل:"المحقين".
(2) وهو ما قاله الغزالي في "المستصفى" 1/ 16 - 17.
(1/13)
 
 
يوضًحُ هذا: أن أهلَ العلمِ أجمعُوا على أن للحدِّ حقيقةً، وهو قولُهم: حدُّ الحدِّ، فقالوا: هو قول وجيزٌ يُنْبِىءُ عن حقيقةِ الشيءِ.
وقال بعضُهم: الجامعُ لجنسِ ما فَرَّقَه التَّفصيلُ.
وقال قوم: هو الجامعُ المانعُ.
وقال قوم: قولٌ وجيزٌ محيطٌ بالمحدودِ، دالٌّ على جنسِهِ.
وقيل: قولٌ وجيزٌ يدورُ على المحدودِ بالانعكاسِ، كقولك: كلُّ جسمٍ فهو جَوْهَرٌ آخِذٌ في الجهاتِ، وكلُّ جوهرٍ آخذٍ في الجهات فهو (1) جسم.
وقيل: الحدُّ ما أحاطَ بالمحدودِ، فمَنَعَ أن يَدْخُلَ فيه ما ليس منه، أويَخْرُج عنه ما هو منه (2).
وقيل: الحدُ هو الجوابُ في سؤالِ ما هو؟ وأصلُه: المنعُ في اللغة، ومنه سُمَّيَ البوَّابُ حَدّاداً لمنعِه، وسُميَ الإِحدادُ في العِدَّةِ لمنع المرأةِ به التَّطَيُّبَ ودواعيَ الجماع، وسُمِّىَ الحديدُ حديداً لمنع السِّلاحِ (3)، كما قال سبحانه: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]،وسمي الحدُّ المشروعُ حدًّا لمنعِه من ارتكابِ الجرائمِ، وحدودُ الدار والملكِ هو المانعُ من دخولِ ملكِ غيرهِ فيه، فهو مشترَكٌ بين هندسيٍّ، وفلسفيٍّ، وفقهيٍّ، وأصلُه: الجَمْعُ والمَنْعُ، وإن اختلفت
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "فهم".
(2) انظر فيما قيل في الحد "العدة" 1/ 74 - 75، وشرح اللمع " 1/ 81 - 82.
(3) عبارة أبي يعلى في "العدة" 1/ 75: "لأنه يمنع من وصول السلاخ الى المتحصن به".
(1/14)
 
 
أنواعً المنعِ، فإذا كان للمنع تخصُّصٌ بحقيقةِ الشَّيءِ، فلا يُنكرُ أن يًحَدَّ الشيءً بنفسِه؟ إذ كان هو المخلِّصَ له عن غيرهِ، المانعَ من الشركةِ والاشتباهِ، وهو خلاصةُ الحقيقةِ والخصيصةِ.
وقال قومٌ من الأصوليِّين: لا حاجةَ بنا إلى الحدودِ، ولا معنى لها، لأن في الأسماءِ غَناءً عنها؛ لأنها أعلامٌ على المسمَّياتِ.
وهذا باطلٌ؛ لأن في الحدودِ أكبرَ المنافعِ التي لا يُوجَدُ مثلُها في الأسماءِ، فمن ذلك:
أن الاسمَ قد يُستعملُ على (1) جهةِ الاستعارةِ والمجازِ، فإذا جاءَ الحدُّ بَيَّنَ الاستعارةَ والمجازَ من الحقيقةِ، فتَعْظمُ المنفعةُ؛ لأن كثيراً منه قد يَلْتَبِسُ وُيشكِلً، فيُحتاجُ فيه إلى نظرٍ واستدلالٍ.
ومن ذلك: أنه قد يَتَبَيَّنُ المحدودُ من طريقٍ آخَرَ، وهو أن فيه ذكرَ العِلَّةِ والسَّبب الذي لأجله استَحَق الاسمَ والصفةَ، فيظهرُ معناه بظهورِ عِلَّتهِ، مثل قَولِنا: حكيمٌ: هو اسمٌ، فإذا طُلِبَ الحدُّ، ظهرَتْ حقيقةُ الحكمةِ، فكانت كاشفةً للعِفَةِ، مثلُ قولِهم: هي صفةٌ للمرءِ (2) توجبُ إتقانَ الأفعالِ الصادرةِ عنه.
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) غير واضحة في الأصل، ولعل صوابها ما قدرناه.
(1/15)
 
 
<رأس>فصل فيما يجبُ صيانةُ الحَدِّ عنه</رأس>
واعلم أنه لا يجوزُ أن تأتيَ في الحدِّ بالمشترَكِ، كقولِك في العلمِ: إدراكٌ، فيدخلَ فيه سائرُ دَرْكِ الحواسِّ، ولا بما لو أسْقَطْتَه لم يَختلَّ الحدُّ؟ لأنه هو الحَشْو، والحدُّ خُلاصةٌ لا تحتملُ الحَشْوَ، مع كونه مَشروطاً بإيجازِ اللَّفْظِ، وذلك مثلُ قولك في حدِّ الإنسانِ: الكاتبُ المتقلِّدُ السَّيْفَ، وفي العلم: الذي لا يتطرقُ عليه شكٌ ولا شُبْهَةٌ، فهذه زيادةٌ في الحد تُنقصُ المحدودَ، فخرجَ بعضُ الناس عن الحَدِّ، وتخرجُ بعضُ العلوم وهي: الاستدلاليَّةُ، وُيخصُّ الحدُّ بعلم الضرورةِ، وعلمِ القديمِ (1) سبحانه.
وليس ذلك في كلِّ زيادةٍ؛ لأنك لو اتَيْتَ بالزِّيادةِ من الأعم، مثل قولِك: جسمٌ منتصبُ القامَةِ ضَحّاكٌ بكاءٌ؛ فإنه لا يَنقصُ، إذ ليس بعضُ الناسِ ليس بجسمٍ، بخلاف قولِك: كاتبٌ؛ لأن بعضَ الناسِ ليس بكاتبٍ، ولو قال: الكاتبُ بالقُوةِ، لم يَفْسُدْ، لكنَه يطولُ، فيخرجُ عن الِإيجازِ.
ولا يجوزُ فيه الإِبهامُ، مثلُ قولِك: وما جرى هذا المَجْرى أو مَجْرى ذلك، وما كان كذلك، حتى تَتبينَ من أيَ وجهٍ يكونُ.
__________
(1) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، إنما هو من التسميات التي جرت على ألسنة المتكلمين والفلاسفة، فالقديم في لغة العرب: هو المتقدم على غيره، ولم يستعملوه فيما لم يسبقه عدم، والصواب أن يستعاض عنه بما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]،. فاتباع ما جاءت به الشريعة أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام. خاصة فيما يتعلق بصفات الله سبحانه "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 77.
(1/16)
 
 
ولا يجوزُ أن تأتيَ بالجنسِ الأعلى وأنت تقدرُ على الأدنى، مثل، قولِك في حَدِّ الإنسانِ: جَوهرٌ أو جسم، وأنت تقدرُ أن تقولَ: حيّ، ولا باللَّفظِ الأطولِ وأنت تقدرُ على الأقصرِ، مثلُ قولِك: يمشي على رجلَيْنِ، ويَبطِشُ باليَدَيْنِ، ولا بالأعمِّ وأنت تقدرُ على الأخَصِّ، مثلُ قولِك: جسم. وأنتَ تَقْدِرُ على: حَيٌّ.
 
فصل
 
فإذا ثَبتَ حَدُّ العِلم، وبَيانُ معنى الحد، فما الأحكام التي تميَّز بها حَد الفِقه في قولنا: العلم بالأحكام الشرعية؟ فهي القضايا الشرعية، وذلك هو: الِإباحة، والحَظْر، والإِيجاب، والنَّدب، والكَراهة، والتَّنْزيه، وقد أدخل قوم فيها: الشَّك، والوقف.
ولا يَسْتَحِقُّ بِمَعْرفةِ هذه الأحكام والعلمِ بها اسمَ الفقيه، إلا مَن عَلمها بطريقِ النَّظرِ في أدلَّةِ الشَّرع، وأَسند كُل حُكم إلى دليله، واسْتَثارَه بمُثير.
 
فصل
والعلم الذي حَدَّدناه في الجُملة يَنقسم قِسمين: قَديمٍ، ومُحدَثٍ.
فالقديم: عِلمُ الله سُبحانه، صِفة من صِفاته، ولازِم من لَوازِم ذاتِه، دَلَّ على إثباتِهِ إتقانُ أَفْعَاله، ونَصُّ كِتابه، وهو علمٌ واحِد يتعلق بالمعلومات على حَقائقها، لا يَتعدَّد بتعددِ المعلومات، ولا يَتجددُ بتجُدِد المُحدَثات (1)، ولا يُوصَفُ بكسْبِىٍّ ولا ضرورِي.
__________
(1) لعله يقصد: أن علم الله لا يزيد عند تجدد الحوادث، كما هو الشأن في المخلوق، لأن علم الله أزلي.
(1/17)
 
 
والقسم الثاني: العِلمُ المُحدَث، وهو ضَربان: ضروري، ومكتسب:
فالضروري: ما لَزِم نفسَ المخلوقِ لزوماً لا يمكن دَفعه والخروج عنه، وقولنا: نفس المخلوق. تحرز عن العِلم القديم، وهو ضربان:
بديهي لا يحتاج إلى مًقدمات، ولا سِياقات نَظرية، كالعلم بنَفسه وأحوالها.
وما يحصل بوسائط ومُقدمات، كعلم الهَنْدسة ومَسائِلها.
وأما الاستدلا فيُ الكَسْبي: فهو العِلم المكتَسَب بالنَظر والاستِدلال، كالاستدلال بالشاهد على الغَائب، والصَّنعة على الصانع، فهذا الضرب من العلم هو الذي حَدَّدنا به الفقه، فقُلنا: العِلم بالأحكام الشرعية. ومع ذِكْرنا للنَظَر فلا بد أن نُحَقِّقه، وكذلك الاستِدلال.
فالنظر الذي هو طَريق العلم الاستدلالي، هو التأمل في حالِ المنظور، كالنَّظر في دلائل العِبر.
والاستدلالُ: طَلبُ مَدلوله، وذلك إنما يَقع بالفِكر والبَحث (1). والعلم الاستدلالي يَتَطرق عليه الشك والشبْهة.
واعلم: أن علم الاكتِساب كُلَه مَردود إلى علم الاضطِرار، وقد يكون مَردوداً بمقدماتٍ أو مَراتبَ؛ فمِن ذلك أنّه قد يكون عشر مُقدمات
__________
(1) انظر أقسام العلم عند أبي يعلى في "العُدة" 1/ 80 - 82، والشيرازي في "شرخ اللمع" 1/ 86 - 87.
(1/18)
 
 
في عَشر (1) مَراتب، فَتُرَد العاشرة إلى التاسعة، والتاسعة إلى الثامنة، والثامنة إلى السابعة، ثم على ذلك إلى الأولى. مثاله: الاجتهاد مَردو إلى الإِجماع، والإِجماع مَردود إلى النُبوة، والنبوة مَردودة إلى المعجزة، والمعجزةُ مَردودة إلى أحدِ أمرين:
إما حكمة الله عزً وجل التي دل عليها إتقانُ صَنائِعِه وشرائِعِهِ، فعندها تحصل الثقةُ بأنه لا يُؤيد بمعجزةٍ كذاباً، ولا يزينُ قبيحاً، ولا يصد عن حق، ولا يَحول بين المكلف وبينه، وإذا لم يجد الإِعجاز هذا المُستَنَد، لم تحصل دلالتهُ على صدقِ مَن قام على يَدَيْه.
أو إلى حُكمه وإرادته المطلقة ومشيئته لملكه (2) على اختلاف المذهبين: مذهب أهل السنة، ومذهبِ المعتزلة. فتتم العشرُة على مذهبهم بردِّ حُكمه إلى غِناه عن القَبيح مع علمه به، وغناه عن القبيح مع علمه به مردود إلى دِلالةِ أفعالِهِ، ودِلالة أفعالِهِ مَردودة إلى التغير، والتغير ضرورةٌ.
ومِن شرفِ العلم أنه يَدَّعيه من لا يُحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه.
وقولنا: علم كَسبي، نسبةً إلى اكتساب المكتَسِب، وكذلك: علم نَظري، منسوبٌ إلى النظر الذي هو التأمل، مثل قولك: رجل فارسي ومَكّي؛ إذا نسبتَه إلى فارس ومكة.
فكذلك قولنا: علم ضروري، نسبته إلى الضرورة، وهو هجومه على النَّفس بغير استدعاء من المضطر إليه، ولا اختيار لدخوله عليه.
__________
(1) في الأصل: "عشرة".
(2) في الأصل: "لملكته".
(1/19)
 
 
فصل
 
وطرق العلوم سِتَة لا سابع لها، منها: العلومُ الحاصِلةُ بالمعلومات عن دَرْكِ الحواس، وهي خمس: حاسَّة البَصر، والسمع، والشم والذوق، اللَّمس، والسادس من الطرق؛ ضَربان: هاجمٌ على النفس، وهو الضروري. ومُستحضَر لها بالكسب، وهو الاستدلال (1) بالمحسوس على غير المحسوس، وكل منها يُدرِك الشيءَ وضده إذا كان له ضد، كحاسة البَصر تُدرك السواد والبياض وهما ضِدان، وحاسَّة الشم تُدرِك الطيب والخبيث، وحاسةُ اللَّمس تدرِك الناعِم والجَريش (2)، والحار والبارد، وحاسةُ الذَوق تدرِك الحُلو والحامض. وما يحصل بطريق دلالة الحال من خَجل الخَجِل، ووَجَل الوَجِل، وبِرِّ البارِّ، وعُقوق العاق وما شاكل ذلك.
وأما ما يحصل من غير طريق لكن يدخل على النفس هاجماً كوجود الرِّي، والعَطش، والجوع، والشَبع، وما يجده الِإنسانُ من نفسه، من صِحته وسقمه، ولَذته وألمه، قد (3) قدمنا ذكره في الحصر، وهو السادس من الطرق.
 
فصل
وهذه العلومُ الحاصلة عن الطرق التي ذكرناها غيرُ مُتولدة من هذه
__________
(1) في الأصل: "الاستدلالىِ".
(2) الجريش: الشيء الخشن، ومنه الدقيق الذي فيه غِلَظ. "اللسان ": (جرش).
(3) في الأصل: "وقد".
(1/20)
 
 
الطرق، وإنما هي حاصلة من اللهِ فعلَاَ عقيبَ وجود الطرق التي ذكرناها، التي بَعضها كَسْبي؛ كالتأمل والاعتبار، والبحوث، والأفكار، وبعضها تدخل دخول غَلَبة؛ مثل العلم الحاصل عن أخبار التواتر، وما يدخل على العيان، وسائر الحواس، فيُحدِث الله العلمَ عقيبه كما يُحدث الموتَ عقيب الجراح، والجزعَ عند رُؤية الأسد، والمسرة عند تَجددِ الظَّفر، وقُدوم الغائب، وإيلادِ الوَلد، إذ كان القول بالتولد (1) قولًا يُضاهي قول أهلَ الطَّبع (2) الذي قامَ بفساده دليل العقل، وكذبه الشرع. وذلك هو المانعُ لنا من القول بخلقِ الأفعالِ مضافةً إلى غيرِ اللهِ سُبحانه، وكما قامت الدلالةُ بفَساد قولِ أهلِ الطبْع، قامت بفسادِ القولِ بإثباتِ شريكٍ في الخلق.
وإنما أنِس كثير من المُسْتَأْنِسِين بالحواس المحطوطِين عن درجة النظر بجَري العادات، فأضافوا إلى غيرالله ما لا يكون إلا من الله؛ كالولدَ يوجد عند الجماع، والزَرعِ يوجد عن فعل الزرّاع، والموت يوجد عند جَرح الجارح، وذلك أثر وجد عنده وعقيبه لا عَنه، وكذلك وجود الكون عند وجود الجوهر لا مَحالة، وليس بمتولدٍ عنه بما ثبت لله تعالى من دلالة الوحدة في الصنع، وهذا أصل كبير.
__________
(1) بسط ابن حزم القول في معنى التولد، والخلاف فيه في كتابه "الفِصل" 5/ 181 - 182.
(2) هم الدهريون الطبيعيون الدين يقولون بالمحسوس ولا يقولون بالمعقول. انظر "الملل والنحل " 2/ 3 - 4.
(1/21)
 
 
فصل
والعقل: ضرب من العلوم الضرورية، وبه قال جمهور المتكلّمين (1).
وقال قوم: قوة غريزيةٌ يُفْصَل بها بين الحُسن والقُبح.
وقال قوم: يُفصل بها بين حَقائق المعلومات.
وقال قوم: هو مادَّة وطَبيعة.
وقال قوم: هو جَوهرٌ بَسيطٌ (2).
والجمهور من المتكلمين على ما ذكرنا، وأنه من العلوم الضرورية، وإنما ذكرناه حيث أفضنا في ذكرِ العلوم ومُتعلقاتها وطرقها وهو من جُمْلَتِها، وله بما ذكرنا تَعَلُّق من نَفي حكمَه بتحسين وتَقبيح وبيان ما ينتهي إليه.
فالدلالة على فَساد القول بكونه جوهراً، أن الجواهر من حيث كونُها جواهرَ جنسٌ واحد، فلو كان العقل جَوهراً لاستغنى العاقل بوجود نَفسه عن عقلٍ لكونه جوهراً في نفسه، فلما لم يكن عاقلًا بجوهرِ ذاته ونَفسه، كان من المحال كوُنه عاقلًا بجوهر آخر هو من جنسه.
وأيضاً فإنه لو كان جَوهراً لصحَّ قيامه بنفسه إذ هذا خصيصة الجوهر، ولما لم يصح قيامُهُ بنفسه عُلِمَ أنه مَحمول لغيره، وهذا نعتُ العَرَض.
__________
(1) وهو اختيار شيخه أبي يعلى، انظر "العدة" 1/ 38.
 
(2) انظر الاختلاف في تعريف العقل في "العدة" 1/ 83 - 88، و"شرح اللمع" 1/ 90 - 91، و"البرهان" 1/ 111.
(1/22)
 
 
ولأنه لو كان جوهراً، ويصحُّ أن يقومَ بنفِسِهِ، لصَحَّ أن يحيا ويعقل ويكلَّف، فإذا ثبت أنه عَرَضٌ، فالدلالة على أنه ليس بعَرضٍ غيرُ العلم؛ أنه لو كان عَرَضاً غيرَ العلم، لصح وجود سائرِ العلومِ مع عدمِهِ حتى يكونَ العالمُ بدقائقِ الأمور غيرَ عاقلٍ، أو وجودُه مع عدم سائرِ العلوم، حتى يكون الكاملُ العقلِ غيرَ عالم بنفسه، ولا بالمدرَكَات، ولا بشيء من الضروراتِ، إذ لا دليل يوجب تضمُّن أحدِهما للآخر، وذلك نهاية الإِحالة، أوَ لا ترى أن سائرَ أنواع الأعراضِ يجوز أن يكون كل واحدٍ منها في المحل، ولا يكون بُدّا من حصول اتِّصافِ المحل بالعَرَض الآخر، بل إذا حَمَلَ الجسمُ عَرضاً من جنسٍ امتنع من حمله لأخرَ من جنسه مما يُضاده، فلما كان في مَسألتنا لا يصح أن يكون عالماً مَن ليس له عَقلٌ، ولا عاقلاً من ليس له عِلم، عُلِمَ أنه نوع من العلوم لا غير.
وأيضاً فإنه لو كان ليس من العلوم، لم يَخلُ أن يكون مثلَها أو ضِدَّها وخِلافَها، أو خلافَها وليسَ بضدٍ لها. ومحالٌ كونه مثلها لأنها مختلفة، والشيء لا يشبه أشياء مختلفة، ولأنه لو كان مثلها لاستغنى بها عن وجوده؛ لأن المِثل يَسُدُّ مَسَد المِثل، كالجوهر يَسدُّ مَسدَّ الجوهر، وَلَوجَبَ أن تكونَ العلوم عقلاً إذ لا يُشابه العقل ما ليسَ بعقلٍ. وَيستحيل أن يكون ضِدَّها وخلافَها؛ لأن ذلك يُفضي باستحالةِ اجتماعهما-أعني العقل والعلم- وذلك باطل باتفاق. بل لا يصح أن يكون عالماً إلا من كان عاقلاً. ومُحالٌ كَوُنه خِلافَها وليس بضدٍ لها؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لجاز وجودُ كلِّ واحدٍ منهما (1) مع ضدٍّ صاحبه
__________
(1) في الأصل: "منها".
(1/23)
 
 
ووجود أحدهما مع ضدِّ الآخر، حتى يكون العَقل موجوداً مع ضِدِّ العلم وهو الجهلُ بالضروريات والمشاهدات، إذ العلم بالضروريات والدقائق موجود مع ضِدِّ العقل من الخيال والاختلال، وذلك معلوم فساده في العقل، فثبت أنه لا يجوز أن يكون جنساً مخالفاً لسائر العلوم.
فإذا ثبت هذا وأنه علم، فلا يجوز أن يكونَ كل العلوم ضَروريِّها وكسبيِّها؛ لأننا قد علمنا عُقلاءَ عِدةً خالين من العلوم الكَسبية النَظرية، ولا يجوز أن يكون كل العلوم؛ لأنه لو كان كذلك لكانَ كلُّ مَن فقد العلمَ بالمُدرَكات بعدمِ إدراكه لها غيرَ عاقل.
ولا يجوز أن يكونَ هو علمَ العالم بوجود نفسه وما عنده من لذةٍ وألم، وصِحة وسقم؛ لأنه لو كان كذلك لكان الأطفالُ والبهائمُ والمجانينُ عُقلاءَ لعلمهم بذلك من نفوسهم. فلم يَبق إلا ما ذكرنا، وأنه بعض العلوم الضرورية، وهو علم بوجوب واجباتٍ، واستحالةِ مُستحيلاتٍ، وجَواز جائزاتٍ (1)، فهذه العلوم التي يَختص بها العقلاء.
وبيان هذه الجمل، مثل العلم بأن الضَدين لا يَجتمعان، وأن الائنين أكثرُ من واحد؛ وأن المعلوم لا يَخرج عن أن يكون مَوجوداً أو غيرَ موجودٍ، وأن الموجودَ لا يَنفك عن أن يكون عن أولٍ أو لا عَن أولٍ، ومن ذلك حُصول العلم عن الأَخبار المتواترة، فمن حَصَلت له هذه العلوم عُدَ عاقلًا.
__________
(1) "المنخول": 44.
(1/24)
 
 
فصل
والفَهم: العِلم بمعنى القول عند سَماعه، ولذلك لم يوصف البارىء به؛ لأنه لم يَزل عالماً، وقد يُفهم الخطأ كما يُفهم الصواب، وُيفهم الكذب كما يُفهم الصدق. ولا سَبيل إلى النقض على المخالفين في الحق إلا بعد فَهم باطلهم، كما لا سبيل إلى اتباع مذهب أهل الحق، إلا بعد فهمه من أنهم (1) على الحق.
 
فصل
وإذا ثبت أنه (2) من بعض العلوم، فلا يَقبلُ الزيادةَ والنقصانَ؛ لأن العلم الكَسبي لا يقبل الزيادة، والضّروري أولى أن لا يقبل الزيادة، وما ورد في ذلك، فإنما هو من باب قولهم: فُلانٌ أعلم من فلان.
بمعنى أن معلوماته أكثر، كذلك أعقل؟ بمعنى أأن، تجاربه أكثر.
والتجارب قد تَجوزَ فيها قوم، فقالوا: هي (3) عقلٌ ثانٍ، وقالوا في المشورة: عَقلُ غَيرك مُنضمٌ إلى عَقلك. فهذا مَجاز، والحقيقة لا تَقبل التزايد، كقولنا: حَياة، وإرادة، وعِلم، وأمر، وقيامٌ بالنفس، وحصولٌ في المكان، فهذا كله لا يَقبل التزايد.
وكذلك العِلم والعَقل بعض العلوم، فلم يقبل ما لا تقبله العلوم.
__________
(1) في الأصل: "أنفسهم ".
(2) أي العقل.
(3) في الأصل: "هو".
(1/25)
 
 
فصل
واختَلف أهلُ العلم في التَّحسين، والتَّقبيح، والِإباحة، والحَظْر، هل هي من قضاياه؟.
فذهب أصحابُ الحديث وأهلُ السنة والفُقهاءُ إلى أن لا تَحسين ولا تَقبيح، ولا إباحة ولا حظر، إلا من قِبَل الشرع، وذهبَ كثير من المتكلّمين إلى، أن التَّحسين والتَّقبيح من قضايا العقل (1)، وإليه ذهبَ أبو الحَسن التَّميمي (2) - من أصحابنا- على ما حُكي عنه، والمُعوَّل على تَقبيح الشرعِ وتَحسينِهِ. والعَقل محكومٌ عليه لا حاكم في هذه القضايا.
والدلالة على ذلك بحَسَب هذا الكتاب، وأنه أصولُ فِقه لا أصول الدين، أنَّ القائلين بتَقبيح العقَل- كالبَراهمة (3) - قبحوا إيلام الحيوان وإتعابه، وحَسنوا منه ما لا يمكن دفع الأضرّ عنه والألم إلا به، وهو الأقل الذي يضطر إليه لدفع الأكثر، كالفَصد، والحِجامة، وقَطع المُتآكلِ، وأجمعوا على تَقبيح ما استغني عنه.
__________
(1) سيورد المؤلف في الصفحة (200) من هذا الجزء فصلَاً كاملًا في الفرق بين مذهب أهل السنة والمتكلمين في ذلك. وانظر "شرح مختصر الروضة" 1/ 402 - 409.
(2) عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث، فقيه حنبلي، صنف كتاب "الأصول" و"الفرائض"، توفي سنة 371 هـ، "طبقات الحنابلة" 2/ 139.
(3) قوم من أهل الهند سُمّوا بذلك نسبة إلى رجل منهم يدعى: براهم، وهم ينكرون بعثة الرسل والنبوات أصلاً. "الملل والنحل": 506.
(1/26)
 
 
ثم إن الشرع أباحَ الِإيلام لا مَوقوفاً على هذا، إذ لا ضرورة إلى الِإيلام بل هو غني عنه، وأجمعنا على أن الشارع يؤلم من غير حاجةٍ، وأن ذلك حَسن، فبطل تحسين العَقل وتقبيحه.
 
فصل
 
ومحله القلب (1)، لقوله تعالى: ({أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46]، وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} [الحج: 46]، وقال عُمر في ابنِ عباس: لَه لِسانٌ سَؤولٌ، وقَلبٌ عَقول (2). وإضافَة العَرب الشيءَ إلى الشَيءِ إما لكونه هُوَ هُو، أو مَكانَه، وليس القلبُ عقلاً بإجماع، لم يَبْقَ إلا أنه مَحلُّ العَقل، بإضافَة الشيء إلى محله، ومن خَلَقَ العقلَ أعلمُ بمحله {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، فلا الْتِفات إلى قولِ من يَقُول: [إن محلَّه في الرأس] (3).
__________
(1) أي: محل العقل. قال أبو يعلى في "العدة" 1/ 89: "ذكره أبو الحسن التميمي في كتاب العقل".
(2) أورده ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 1323، في ترجمة ابن عباس.
(3) ورد هنا في الأصل طمس بمقدار أربع كلمات، وقد أثبتناها اقتباساً مما ذكره أبو يعلى في "العدة" 1/ 84 - 89. وقد أُقحم في الأصل بعد هذا ما نصه: "وحكم العلة والقياس قضاء الشرِع المستنبط، فيمتاز عن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف" يشرد العبارة في مكانها الصحيح في الفصل التالي.
(1/27)
 
 
فصل
 
ولما حَدَّدنا الفِقهَ بعلم الأحكام الشرعية، فلا بُدَّ بَعد بيان العلوم وطُرُقِها أن تُحَدَّ الأحكامُ جُملةً، ثم يُحَدَّ كل واحدٍ على حِدته.
فالأحكام: القَضايا، فهي ها هنا قضايا الشرعِ.
وحكمُ العِلَّة والقِياس: قضاءُ الشرع المُسْتَنْبَط، فيمتازعن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف.
 
فمنها: الإباحة (1): إطلاق الشرع.
وقيل: إذنُ الشرع بالمباح المأذونِ فيه شَرعاً.
وقيل: إتمام مالَه فِعله، وكلُّ مُباحٍ حَسن.
وقيل: ما لا ثوابَ في فعله ولاعِقابَ على تركه.
الأولُ أصح؛ لأنه لا يدخل عليه فِعل الصبيان والمجانين، إذ لا يوصَفُ الشرع بأنه أطلقَ أو اذنَ في أفعالهم.
والتحديد بنَفي العِقاب يَبطُل بفِعْلِ الصغار والمجانين، فإنه لا ثوابَ فيه، ولا عقابَ عليه، وليسَ بموصوفٍ بالِإباحة، وكذلك خَطا العقلاء وما يصدر عنهم غفلةً، ومعَ نزع ذهولٍ، وحالَ الإِغماء.
 
والحَظْرُ: مَنع الشرع، فالمحظور (2): ما مَنعَ منه الشرع، وأصله: المنع، ومنه سُمي المُحتَظِر: مُحتظراً؛ إذ جَعلَ حول إبلهِ أو مَتاعه
__________
(1) "العدة" 1/ 167، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 386، وانظر الصفحة (131) من هذا الجزء.
(2) انظر المحظور وما ذكر من أسمائه في "المحصول" (1/ 101 - 102، وانظر الصفحة (132) من هذا الجزء.
(1/28)
 
 
- في الجملة- مانعاً من العَوْسَج (1). وسُميت الحَظيرةُ بذلك من المَنع.
وقيل: ما في فِعله عقاب.
والواجب في أصل اللغه (2): الساقِط، من قولهم: وَجبَ الحائط، ووَجبتِ الشمس. والِإيجابُ: الإِسقاط، وهو الإِلزام، وها هنا هو إلزام الشرع.
وقد قيل: ما في فِعله ثَوابٌ، وعلى تركه عِقاب. ولا يُحتاج إلى ذِكر الثواب، بل إذا رُسِم برَسْم كفى قولُنا: ما في تركه عِقاب.
وقيل: ما لا يجوز تركه (3).
 
والحَدُّ هو الأول (4)، وهذه رسومٌ بِمُتَعلّقات وأحكام، فالثواب والعقاب أحكام الواجب. والإِيجاب شَيء وأحكامه شئٌ آخر، والتَّحديد بمثل هذا يأباه المُحقِّقون، حيث أبَوْا أن يَحدّوا الأمرَ بما كانَ المُمْتَثِل له طائعاً، والمُتَأبِّي عنه عاصياً، فإن هذه أحكام ومُتعلقات، وإنما حَدّوه باستدعاء الأعلى من الأدنى فِعلاً.
والفَرضُ في أصل اللغة: التأثير، مِن فرْضَة القَوس، وفُرْضَة
__________
(1) وهو شجر من شجر الشوك. "اللسان": (عَسَج).
(2) انظر تحقيق معنى الواجب لغة في: "شرح مختصر الروضة" 1/ 266 - 267.
(3) انظر بقية تعريفات الواجب في "العدة" 1/ 159 - 160، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 345 - 349. والصفحة (124) من هذا الجزء.
(4) أي القول: بأنه إلزام الشرع.
(1/29)
 
 
النهر (1)، وهو ها هنا عِبارة عما ثَبت إيجابُه بنَصٍ أو دليلِ قَطع (2).
 
والنَّدبُ، قيل: هُو الحثّ على الفِعل في الأصل. وها هنا: هو الحثُّ على طاعةِ الله، ولا يَجوز أن يكونَ الحثُّ حَداً للندب، وهو آكَدُ من الاسْتِدْعاءِ، ومُجرد الاستدعاء يَقتضي الإِيجاب، فكيفَ يَقتض ي الحثُّ ما دونه، وهو النَّدب؟.
وقيل (3): ما في فعله ثواب، ولَيس في تركه عقاب.
ومن جعله أمراً حقيقة، قال: هو استدعاء أو اقتضاءُ الأعلى الأدنى بالفعل على وَجه الأولى، أو على وجه لا ياثم بتركه.
وقيل (3): الاستدعاءُ يَتضمن التَخيير بينَ الفِعل والترك لا إلى بَدل.
وأصله في الفُغة: الدُعاء. قال الشاعر:
لا يَسْألونَ أَخاهُم حينَ يَنْدُبُهمْ ... للنائِباتِ على ما قَالَ بُرهانا (4)
وُيريد (5): حين يدعوهم. وهو بالحث أنصع تحديداً من الدعاء
__________
(1) فُرضة القوس: الحَزّ يقع عليه الوتر (أي: المحل الذي يشد به الوتر في طرفي القوس)، وفُرضة النهر: مشرب الماء منه، وثلمته التي منها يُستقى.
"اللسان ": (فرض).
(2) انظر الصفحة (125) من هذا الجزء.
(3) في الأصل: "ويسأل".
(4) البيت لقُرَيط بن أنيف من قصيدة يهجو بها قومه ويمدح بني مازن. وهو في
"الحماسة" لأبي تمام 1/ 57، وفيه: "في النائبات" بدل: "للنائبات".
(5) في الأصل: "ويريدون".
(1/30)
 
 
والاقتضاء، لكن لا بد من تَقييده بالتَّخيير بين الفِعل والترك (1).
وأما الكَراهةُ، والمَكْروهُ: فإنه استِدعاءُ التركِ على وجهٍ لا مَأْثَم في فِعله، وهو مِن مَرتبة النَهي المُطلق الحاظر بمنزلة الندب من الإيجاب (2).
 
والمَشكوك: قيل: ليس بحكمٍ، وقيل: حُكم (3)، كما قال أبو حنيفة، وأحمد في رِوايةٍ في الجِمار (4)، والصحيح عندي أنه ليسَ بمذهب، وإنما هو مُترددٌ في النَفس بين أمرين لا يَرْجَحُ إلى أحدهما، وها هنا يكون التَردد بين حُكمين، والمُتَردد في طريق الطلب، والشاك في الجِمار، يَنبغي أن لا يكون له مَذهبٌ فيه.
و"الوَقف": قيل: مَذهب. لأنه يُفتي به، ويدعو إليه، وُيناظِر عليه، ويجب على القائل به إقامةُ الدليلِ عليه.
وقيل: الوقوف ليس بمذهب (5)، وإنما هو جُنوحٌ عن التَّمذهُب،
__________
(1) سيورد المؤلف بحث الندب باوسع مما هنا في الصفحة (126) من هذا الجزء.
(2) وانظر أيضاً في تعريف المكروه: "شرح اللمع" 1/ 107، و "البرهان" 1/ 310 - 312، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 413 - 419.
(3) "شرح الكوكب المنير" 1/ 344.
(4) أي الشك في وقوع الجمار في مكان الرمي. قال المرداوي في "الِإنصاف" 4/ 33: "يشترط أن يعلم حصول الحصى في المرمَى على الصحيح من المذهب، وقيل: يكفي ظنه، جزم به جماعة من الأصحاب، وذكر ابن البنا رواية في الخصال: أنه يجزئه مع الشك أيضاً، وهو وجه أيضاً في المذهب وغيره"
(5) "المستصفى" 1/ 165.
(1/31)
 
 
والأول أصح.
 
فصل
ولما قَدَّمنا ذكر الأصول التي تَنبني عليها هذه الأحكام وَجب بَيانها، وهي الأَدلة التي تَستند إليها.
فالدليل: هو المُرْشِدُ إلى المطلوب (1).
والدالُ: هو الناصِبُ (2) للدلالة.
 
والمُستَدِلُّ: هو الدالُّ، وقيل: الدالُّ هو الدليل. والمُستَدِل: هو الناصب للدليل.
والاستدلال: طَلبُ المدلول (3).
وقال قوم: الدليل هو الفاعل للدلالة. وليسَ بصحيحٍ؛ لأن اللهَ سُبحانه خَلقَ الدلائل، ولا يُطلق عليه اسم دَليل.
وقال قوم: الدليل: ما نُظر فيه، فأَوجب النَظرُ فيه العِلمَ، فهو الدليل، وما أوجبَ النظرُ فيه ظَناً- والظنُّ: تَغليبُ أحد المجوَّزَين، وقيل: العِلَّةُ لأحدِ المُجوَّزَين أو المُترددَين في النًفس مِن غير قَطعٍ- فهو الأمارة، وفرقوا بين (4) الأمارة والدلالة بموجباتها، فما أفضى بالناظر
__________
(1) وهذا تعريفه لغة، أما في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى مطلوب خبري. انظر: "شرح الكوكب المنير" 1/ 51 - 52.
(2) في الأصل:" الباحث". وانظر "الكافية" للجويني: 46.
(3) هكذا ذكره المؤلف ها هنا، وسياتي في الصفحة (447): الاستدلال: طلب الدلالة.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "ومن قوانين".
(1/32)
 
 
فيه إلى الظن فهو أمارة، وما أفضى به إلى العلم فهو دلالة.
فالأول من الأصول- وهي الأدلة التي انْبنَتْ (1) عليها أحكام الفقه- هو: الكِتاب. ودلالته ستة أقسام: ثَلاثة من طَريق النُّطق، وثَلاثةٌ من جهة المعقول من اللَّفظ، فالتي (2) من جِهة النطق: نَصٌ، وظاهِرٌ، وعُموم. والمعقول: فَحوى الخِطاب، ودَليل الخِطاب، ومَعنى الخطاب.
فالنص: ما بَلغ من البَيان غايته، مأخوذٌ (3) مق مِنَصَّةِ العَروس (4).
وقيل: ما لا يَحتَمِل التَّأويل. وقيل: ما استَوى ظاهِرُه وباطنه.
وقيل: ما عُرِف مَعناه من لَفظِه (5).
والظاهر: ما ترددَ بين (6) أمرين. وقيل: ما احتمَل أمرين، وهو في أحدهِما أظهر (7).
__________
(1) في الأصل: "أثبت".
(2) في الأصل: "فالنص".
(3) في الأصل: "فمأخوذ".
(4) المِنصَّة: ما تُظهر عليه العروس لتُرى: "اللسان": (نصص).
(5) "العدة" 1/ 137، "البرهان" 1/ 412، "المستصفى" 1/ 157، وسيكرر المؤلف هذه التعريفات في الصفحة (91).
(6) في الأصل: "من".
(7) قال الطوفي في (شرح مختصر الووضة) 1/ 558: ينبغي أن يقال: "هو في أحدهما أرجح دلالة"، لئلا يصير تعريفاً للظاهر بنفسه.
(1/33)
 
 
والعموم: ما شَمل شَيئين فَصاعِداً شمولًا واحداً.
وقيل: ما عَمَّ شيئين على وجهٍ واحدٍ. ولايجوز أن يقال في حَد عموم: عَمَّ؛ لأنه مصرَّفٌ من اسمٍ بَعدُ ما علمناه، وقد أفسدنا ذلك في قولِ من قال في عِلم: مَعرفة المعلوم (1).
 
فصل
فالنصُّ: كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، وكقوله