الوصف المناسب لشرع الحكم

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الوصف المناسب لشرع الحكم
المؤلف: أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الكريم المنان المتفضل على عباده بعظيم الآلاء، وجزيل الإحسان جلت نعمه عن العد والإحصاء {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تحْصُوهَا} 1، فكان من أعظم نعمه على عباده أن هدى المؤمنين به إلى الإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من ختمت برسالته الرسالات، وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عليه، فكانوا سادة الدنيا، وأئمة الهدى.
وبعد: فلما خص الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن جعل رسالته خاتمة الشرائع، جعلها صالحة لكل زمان ومكان، مبنية على نصوص، وأصول وقواعد، لطفاً بالعباد، وتيسيراً لهم في معرفة الحلال والحرام، شاملة لكل ما جد من الوقائع التي لم تكن، فيتعرف العلماء حكمها بطريق الاجتهاد الوافي بتفاصيل أحكام الوقائع، لأن نصوص الكتاب والسنة محصورة متناهية، ومواقع الإجماع معدودة منقولة فهي متناهية أيضاً، والوقائع لا نهاية لها، وهي لا تخلو عن حكم الله تعالى متلقى عن قاعدة من قواعد الشرع، والأصل الذي يفي بحكم جميع الوقائع وهو القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر، والاستدلال، والقياس إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة لها طرق تعرفها، فكان من المناسب أن أختار أهم تلك الطرق التي بها يعرف حكم الوقائع المستجدة موضوعاً لرسالتي، فاخترت أن يكون موضوعها هو: "الوصف المناسب لشرع الحكم".
سبب اختياري لهذا الموضوع:
أما سبب اختياري لهذا الموضوع، فهو أنني لما أنجزت دراسة مرحلة الماجستير بقسم الدراسات العليا الإسلامية بكلية الشريعة بمكة المكرمة، فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، كان علي أن أختار موضوعاً أكتب فيه لأنال درجة "الدكتوراه" في أصول الفقه.
__________
1 سورة إبراهيم، آية: 34.
(1/5)
 
 
وحيث أن القياس من أهم أدلة الأحكام الشرعية لسعته وشموله لكل الوقائع التي تجد، وأن القياس كما أسلفت إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة وإن كانت لها طرق، فأهم طرقها وأشملها للأحكام إنما هو الوصف المناسب لشرع الحكم، والموضوع وإن كان صعباً في ذاته، لسعته وترامي أطرافه، والبحث فيه يتطلب من الباحث أن يكون متعمقاً في الأصول، عالماً بجوانب الاتفاق والاختلاف في القياس، والعلة وطرقها، ومقاصد الشرع، فإن رغبتي في دراسة الفن دفعتني إلى الكتابة فيه، لا سيما وقد رأيت من مشايخي التشجيع على اختياري للموضوع، مما شجعني على المضي فيه.
وكيف لا، والموضوع عظيم القدر، إذ به يعرف حكم الله تعالى فيما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ولا نقل إجماع.
لذا رأيت صلاحية الموضوع للبحث، وشرعت فيه راجياً من الله أن يعينني على إنجازه، وأن يجعله عملاً صالحاً، وأن يهديني سواء السبيل، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/6)
 
 
خطة البحث
وقد سلكت طريقة في البحث رأيت أنها توصل إلى الغاية التي أردت، وهي أنني أستعرض آراء العلماء وأدلتهم، وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات عن الاعتراضات مع مناقشتها، وترجيح ما ظهر لي رجحانه بالدليل كلما رأيت ذلك مناسباً، وربما تركت الترجيح إذا لم يظهر لي وجه الرجحان.
وقسمت البحث إلى: تمهيد وثلاثة أبواب، وخاتمة.
أما التمهيد: فهو يشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريف القياس، وبيان المراد بالأصل عند الأصوليين.
الفصل الثاني: في تعريف العلة، وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى.
الفصل الثالث: في شروط العلة، ويتضمن البحوث الآتية:
الأول: في الشروط المتفق عليها، بأن تكون وصفاً ظاهراً، منضبطاً، مناسباًَ.
الثاني: في الشروط المختلف فيها، وهي:
تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي.
التعليل بالوصف المركب.
التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط.
تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي.
التعليل بالعلة القاصرة.
تعليل الحكم بعلتين فأكثر.
تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة.
تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه.
(1/7)
 
 
عود العلة على الأصل بالإبطال.
ويشترط في العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال.
شروط أخرى اشترطها البعض.
الفصل الرابع: فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة، وتحته مباحث وهي:
الأول: تعريف المسالك، وبيان الطريقة التي اخترت أن أسلكها.
الثاني: مبحث النص، وألفاظه.
الثالث: مبحث الظاهر، وألفاظه.
الرابع: مبحث الإيماء تعريفه، وأنواعه.
تنبيه: ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني اضطررت إلى تأخير تعريف المناسب عن المناسبة الآتية، لكونه مشتقاً منها، فأخرته إلى الباب الأول، وهو:
الباب الأول: وهو في المناسبة، وتعريف المناسب، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريف المناسبة.
الفصل الثاني: في إقامة الدليل على اعتبارها.
الفصل الثالث: في تعريف المناسب.
الباب الثاني: في تقسيمات المناسب، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة، وهو ينقسم إلى: حقيقي، وإقناعي.
والحقيقي ينقسم إلى: ديني، ودنيوي.
والدنيوي ينقسم إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني.
الفصل الثاني: في تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود، وذلك بأن يكون حصول المقصود يقيناً، أو ظناً، أو يتساوى الحصول
(1/11)
 
 
وعدمه، أو يكون الحصول أرجح، أو يكون فائتاً بالكلية.
الفصل الثالث: في تقسيمه بالنظر إلى اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له.
الباب الثالث: في المناسب والمرسل، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريفه، وبيان محل الخلاف والوفاق فيه.
الفصل الثاني: في بيان مذاهب العلماء فيه.
الفصل الثالث: في بيان أدلة الإمام مالك فيما ذهب إليه من القول بالمناسب المرسل، ومناقشتها.
الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد في الأخذ به.
الفصل الخامس: في ذكر أدلة مذهب القاضي، ومن وافقه، ومناقشتها.
الفصل السادس: في أدلة مذهب الإمام الشافعي، وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل.
الفصل السابع: في بيان رأي الإمام أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المرسل.
الفصل الثامن: في رأي الغزالي، وبيان وجه ما ذهب إليه من القول بالمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية، قطعية، كلية.
الفصل التاسع: في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع، ومناقشتها.
فصل: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها، أو راجحة، أو لا تنخرم؟
خاتمة: في بعض نتائج البحث التي توصلت إليها.
هذا ... وإنني قد رأيت أن أتخذ طريقة أرمز بها للتحويل على المراجع اختصاراً، وهي إنني في التحويل على المرجع لبيان الجزء والصفحة أستعمل الرمز الآتي وهو: "الأحكام للآمدي 3/186" مثلاًَ، للاختصار، وإذا كنت نقلت عن الكتاب مخطوطاً ومطبوعاً، أشير للمخطوط بحرف "خ"، والمطبوع بحرف "ط"،
(1/12)
 
 
وإذا كان نقلي عن المطبوع فقط، فقد رأيت أن أؤخر بيان الطبعة إلى ذكره في المراجع.
هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، وطريقة البحث التي سلكتها فأرجو أن أكون قد وفقت، وساهمت بعملي هذا في ناحية من نواحي شريعتنا الغراء، فإن كنت قد وفقت فمن الله، وإن كنت قد أخطأت فمني، وأرجو الله المغفرة والتوفيق لصالح العمل، وأن يجعل عملي هذا وسيلة إلى مرضاته، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
(1/13)
 
 
تمهيد
...
الفصل الأول: في تعريف القياس
القياس في اللغة: القياس، والقيس مصدران لقاس، يقال: قاسه بغيره وعليه، يقيسه قيساً وقياساً، واقتاسه إذا قدره عل مثاله1. وقسته - بضم القاف - أقوسه قوساً، وهو من ذوات الواو والياء2.
وللأصوليين في حكاية معني القياس اللغوي ثلاثة آراء:
الأول: أنه حقيقة في التقدير، أي في معرفة قدر الشيء بالآخر، كما تقول: قست الأرض بالقصبة، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته به3. وإلى هذا ذهب الأسنوي4، تبعاً للآمدي5.
فالمناسبة على هذا القول بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي - الآتي بيانه - إنما هي استعمال اسم الملزوم في اللازم، وقد أشار إلى ذلك الأسنوي بقوله: "إن التقدير يستدعي التسوية، فالتقدير يستلزم شيئين ينسب أحدهما إلى الآخر بالمساواة، وبالنظر إلى هذا - أعني المساواة - عبر الأصوليوين عن مطلوبهم بالقياس"6.
__________
1 انظر القاموس 2/253، لسان العرب 6/187، تاج العروس 4/227، المصباح المنير 2/181.
2 انظر صحاح الجوهري 2/181، لسان العرب 6/187.
3 مجاز مرسل في المساواة علاقته الملزومية، واللازمية.
4 هو: أبو محمد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي القرشي الأموي الأسنوي، الشافعي الفقيه، الأصولي النحوي، المتكلم، برع في كل علم، وخاصة الأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، له مؤلفات منها في الأصول نهاية السول شرح منهاج الوصول للبيضاوي، ولد سنة 704هـ، وتوفي سنة 772هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصولين 2/186.
5 هو: علي بن علي بن سالم التغلبي، د الملقب بسيف الدين الآمدي، المكنى بأبي الحسن، الفقيه، الأصولي، المتكلم، ولد سنة 551هـ، له مؤلفات منها الأحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، ومنتهى السول في الأصول أيضاً، وغيرهما، توفي سنة 631. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57 - 58.
6 انظر: نهاية السول شرح منهاج الأصول مع منهاج العقول 3/2، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/167.
(1/10)
 
 
وقد اعترض على هذا القول بأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة على المجاز، لأن المجاز خلاف الأصل، إذ يحتاج في دلالته إلى قرينة، والحقيقة لا تحتاج، وما لا يحتاج في دلالته أولى مما يحتاج1.
الثاني: أنه مشترك اشتراكاً لفظياً بين كل من:
- التقدير، نحو قست الثوب بالذراع.
- والمساواة، كما في قولك فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه.
- والمجموع المركب منهما، تحو قست النعل بالنعل، أي قدرته به فساواه، وهو ظاهر كلام العضد2، كما فهمه سعد الدين التفتازاني3 في حاشيته أخذاً من تمثيل العضد بالأمثلة الثلاثة، حيث قال السعد: "تمثيله بالأمثلة الثلاثة مشعر بأن المراد أنه قد يكون بهما جميعاً، وقد يكون للتقدير فقط، أو للمساواة فقط"4، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد اعترض على هذا القول بأمرين:
الأول: أن الاشتراك5 خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع.
الثاني: أنه يحتاج في دلالته على المراد منه إلى قرينة، لأنه مشترك بين معنيين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وحمل اللفظ على أحد المعنيين أو المعاني بدون
__________
1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - رحمه الله - على القياس.
2 هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الأيحي الملقب بعضد الدين، العلامة الشافعي، الأصولي، المتكلم، الأديب، له مؤلفات في فنون مختلفة منها في أصول الفقه شرحه لمختصر الحاجب، توفي سنة 756هـ. انظر الفتح المبين 2/166.
3 هو: سعد الدين بن مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الشافعي الأصولي، المتكلم، المبلاغي، له مؤلفات كثيرة في علوم شتى، منها في أصول الفقه التلويح في كشف حقائق التنقيح، وحاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، ولد سنة 712هـ وتوفي سنة 791هـ. انظر الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/206.
4 انظر حاشية السعد على العضد 2/204.
5 الاشتراك هو اتحاد اللفظ مع تعدد الوضع كما في العين، فإنها للباصرة، والجارية، والذهب، كما تطلق على ذات الشيء، وكالقرء للطهر والحيض، وهذا هو الاشتراك اللفظي. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص40، وآداب البحث والمناظرة للشيخ محمد أمين - القسم الأول ص19.
(1/14)
 
 
قرينة تعينه تحكم، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، وهو كونه مشتركاً معنوياً1.
الثالث: أنه مشترك معنوي، وهو كلي تحته فردان:
أحدهما: استعلام القدر أي معرفة قدر الشيء، نحو قست الثوب بالذراع.
الثاني: التسوية، ولو كانت معنوية نحو فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه، واستعماله في أحدهما لا بخصوصه حقيقة لا مجاز، وإلى هذا ذهب الأكثر، كما في تحرير الكمال بن الهمام2، وقد نصره شارحه3 بأن التواطؤ4 مقدم على الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن، وقد أمكن5. وهذا الرأي هو الراجح لسلامته من الاعتراضات.
بم يتعدى لفظ القياس؟
يرى بعض الأصوليين أن القياس وإن وردت تعديته بالباء في اللغة، كما في قول الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس بكا
__________
1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، المشهور بابن الهمام، الفقيه الحنفي، الأصولي، النحوي، قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها في أصول الفقه التحرير، ولد سنة 790هـ وتو في سنة 861هـ. انظر الفتح المبين 3/36.
3 هو: شمس الدين محمد بن محمد بن الحسين الحلبي، المعروف بابن أمير الحاج، الحنفي الأصولي، له مؤلفات منها: التقرير والتحبير شرح التحرير في أصول الفقه، توفي سنة 879هـ بحلب، انظر الفتح المبين 3/47.
4 هو كون المعنى الواحد مستوياً في أفراده من غير اختلاف، أو تفاوت فيها كما في الإنسان، فإن حقيقة الإنسانية والناطقية مستوية في جميع الأفراد، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة على مطلق الماهية، بخلاف التشاكك، فإن المعنى الواحد ليس مستوياً في أفراده، بل مختلف ومتفاوت فيها كما في النور، فإنه في الشمس أقوى منه في غيرها. انظر آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص19، وحاشية الباجوري على متن السلم ص40.
5 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/117، ط الأولى، المنيرية.
(1/15)
 
 
فإن المستعمل منه في الشرع إنما يتعدى بعلى، لتضمنه معنى البناء والحمل، فإن انتقال الصلة من الأصل إنما يكون للتضمين1.
ولا يخالف هذا ما تقدم عن أهل اللغة من أنه يتعدى بالباء وبعلى، حتى يقال: لا حاجة إلى التضمين، إذ هو في اصطلاح المتشرعة لا تطرد تعديته إلا بعلى، وليس هو الأصل في تعدية القياس2.
القياس في اصطلاح الأصوليين:
اختلف الأصوليون أولاً في إمكان حد القياس، فقال إمام الحرمين3: "يتعذر الحد4 الحقيقي لقياس، لاشتماله على حقائق مختلفة: كالحكم، فإنه قديم، والفرع والأصل، فإنهما حديثان، والجامع فإنه علة، وكل ما قيل في تعريفه فإنه رسوم"5.
__________
1 هو أشراب كلمة معنى أخرى لتتعدى تعديتها.
2 انظر: حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/239، نهاية السول مع منهاج العقول 3/3، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
3 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، المكنى بأبي المعالي، المعروف بإمام الحرمين، لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه، الأصولي النظار، الأديب، له مؤلفات منها البرهان في أصول الفقه، وقد طبع، والورقات وهي أيضاً في أصول الفقه، وله غيرهما، توفي رحمه الله سنة 545هـ. انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 7/189 - 190، الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/260 - 262.
4 الحد في اللغة: المنع، وفي اصطلاح المناطقة هو ما كان بالذاتيات، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.
انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73، وضوابطه المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص59 - 60.
5 والرسم هو ما كان بالذاتيات والعرضيات معاً، أو بالعرضيات فقط، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس القريب والخاصة كتعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، والناقص ما كان بالخاصة فقط، أو بها مع الجنس البعيد، كتعريف الإنسان بأنه كاتب، أو جسم كاتب.
انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73 - 74 للدكتور عوض الله حجازي، وضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص61 فيما بعدها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة.
(1/16)
 
 
ووافقه ابن المنير1 شارحه على تعذر الحد، لكن العلة عنده في ذلك كونه نسبة وإضافة، وهي عدمية، والعدم لا يتركب من الجنس2 والفصل3 الحقيقيين الوجوديين4.
وقال الجمهور: يمكن حده "ولعل مرادهم أنه يحد حداً اسمياً5، فإنه من الأمور الاصطلاحية الاعتبارية التي تكون حقائقها على حسب الاصطلاح والاعتبار، ولا يمكن أن يحد حداً حقيقياً، وبذلك يصح لك الحكم بأن هذا الخلاف لفظي"6.
واختلفوا ثانياً في تعريفه، فعرفه بعضهم بتعريفات غير مرضية، وعرفه البعض الآخر بتعريفات مختارة.
ولما لم يكن من موضوعي استقصاء جميع التعاريف التي عرف بها، فقد رأيت أن أكتفي بإيراد بعض التعاريف التي لم ترض مع بيان وجه الرد، دون التعرض إلى
__________
1 هو: أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار بن أبي بكر بن علي المكنى بأبي العباس، الملقب بناصر الدين، المعروف بابن المنير، الاسكندري الفقيه، المالكي، الأصولي المتكلم، النظار، المفسر الأديب، الشاعر الخطيب، الكاتب المقرئ المحدث، المولود سنة 620هـ تولى القضاء والتدريس ونظارة الأوقاف والخطابة، قيل عنه إنه كان فخر مصر عامة، والإسكندرية خاصة، له مؤلفات في التفسير وغيره، توفي بالإسكندرية سنة 683هـ.
انظر: الديباج المذهب 1/243 - 246، وشجرة النور الزكية 1/188، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/84 - 85، ذكر الزركشي في مقدمة البحر المحيط أنه شرح البرهان، والله أعلم.
2 هو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين مختلفة حقائقهم كالحيوان، فإنه يصدق في جواب ما هو على كثيرين ... الخ، كما لو قيل: الإنسان والفرس والحمار ما هو صلح أن يقال في جواب ذلك حيوان، أي المذكور حيوان، والمراد بكثيرين ما يشمل اثنين فأكثر. انظر حاشية الباجوري على السلم ص37.
3 هو ما صدق في جواب أي شيء في ذاته كالناطق، فإنه يصدق في جواب ذلك كما يقال: مميزاً للإنسان أي شيء هو في ذاته؟ فيقال: ناطق. حاشية الباجوري على السلم ص37.
4 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/2، بعد عنوان القياس - خ -، البرهان 2/207 - خ -.
5 هو التعريف لماهية متخيلة في الذهن، ولا يعلم لها أفراد موجودة في الخارج، سواء كان لها وجود في الواقع أم لا، كتعريف العنقاء بأنه طائر طويل العنق، يصطاد الصبيان وصغار البقر.
انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة للشيخ عبد الرحمن حبنكة ص393.
6 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/13 - 14.
(1/17)
 
 
شرحها، خشية الوقوع في التطويل الممل، ثم أتبع ذلك بالتعاريف المختارة، مع شرحها وبيان ما ورد عليها، والإجابة عند قدر المستطاع.
أمثلة من التعاريف التي لم يرتضها الأصوليون للقياس:
منها: قول بعضهم "القياس إصابة الحق"، وهو منقوض بإصابة الحق بالنص والإجماع1.
ومنها: قول بعضهم أنه "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو باطل باستخراج الحق بالنص والظاهر، والإجماع2.
ومنها: قول بعضهم هو "التشبيه"، ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات - كالألوان والطعوم ونحوها - قياساً شرعياًَ، إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين، وليس كذلك3.
ومنها قول بعضهم، القياس هو "الدليل الموصل إلى الحق"، وهو باطل بالنص4، والإجماع5.
__________
1 انظر: البرهان لإمام الحرمين 2/747 - ط -، الأحكام للآمدي 3/167 - 168.
2 انظر: الرهان 2/748 - ط -، البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس - خ.
3 انظر الأحكام للآمدي 3/168.
4 أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، أي رفع السير إلى غايته. وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي ص36 - 37.
5 لغة الاتفاق والعزم، وفي الاصطلاح الشرعي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من أمور الدين في عصر من العصور، قال صاحب المراقي:
وهو الاتفاق من مجتهدي.. الأمة من بعد وفاة أحمد.. وأطلقن في العصر.
انظر: نشر البنود 2/80.
(1/18)
 
 
ومنها: قول بعضهم هو "العلم الواقع بالمعلوم عن نظر"، وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص، والإجماع1.
وقال أبو هاشم2: "إنه حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه علي"، وهو باطل من وجهين:
الأول: أنه غير جامع، لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم، ممتنع لذاته، فإنه ليس بشيء3 على الراجح.
الثاني: أن حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع، فلا يكون قياساً، وإن كان بجامع، فيكون قياساً، وليس في لفظه ما يدل على الجامع، فكان لفظه عاماً للقياس، ولما ليس بقياس، فيكون غير مانع.
وقال القاضي عبد الجبار4: "إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من
__________
1 انظر: الأحكام للآمدي 3/168 - 169.
2 هو: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، الجبائي، المعتزلي، كان رأساً في الكلام، له آراء خاصة في علم الكلام والأصول، له مؤلفات كثيرة منها كتاب الاجتهاد، ولد سنة 277هـ وتوفي سنة 321هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/172.
3 هل المعدوم شيء؟ يرى الأشاعرة أن الشيء لا يشمل المعدوم إن كان ممتنعاً اتفاقاً، وكذا إن كان ممكناً. انظر: نهاية السول 3/ 4 - 5.
والذي نقل عن سيبويه أن الشيء اسم لما يصح أن يعلم، سواء كان معدوماً أو موجوداً، محالاً أو مستقيماً. ونقل عن جار الله الزمخشري نحوه.
وعزاه صاحب النبراس لبعض المعتزلة، وقال: إنه الذي يفهم من شرحي المقاصد والمواقف وحواشيه، ثم قال: إنهم لا يقولون إن المحال شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، ويقولون إن المعدوم الممكن شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، وإنهم قد خالفوا في المعدوم الممكن الأشاعرة الذين ذهبوا إلى أنه ليس بثابت في نفسه كالممتنع، قال: ولعل مراد الأسنوي في قوله الشيء لا يشمل المعدوم ... الخ، أن الشيء بمعنى الثابت في نفسه لا يشمل المعدوم، وليس مراده أن لفظ الشيء لا يطلق على المعدوم، ولذا أتى بلفظ يشمل دون لفظ يطلق، انظر: نبراس العقول 1/20، وشرح المواقف ص103.
4 هو: أحمد بن خليل الهمداني، إمام المعتزلة في وقته، الأصولي المتكلم، له مؤلفات كثيرة منها العمد في أصول الفقه، والمغني، وغيرهما، اختلف في وفاته فقيل: سنة 415هـ، وقيل: سنة 416هـ.
انظر: القاضي عبد الجبار للكتور عبد الكريم عثمان، طبع دار الكتب العربية للطباعة والنشر - بيروت، الأعلام للزركلي 4/47.
(1/19)
 
 
الشبه، وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول"1.
التعريفات المختارة هي:
1 - تعريف ابن الحاجب2.
2 - تعريف البيضاوي3.
3 - تعريف ابن السبكي4.
التعريف الأول: قال ابن الحاجب: "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"5.
شرح التعريف: المساواة من النسب التي لا تعقل، ولا تتحقق إلا بين متعدد، فالمساواة المماثلة، وهي كالجنس يشمل كل مساواة، كمساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع، أو فعل لفعل، أو ذات لذات.
فقوله فرع، قيد خرج به مساواة ذات لذات كمساواة زيد لعمرو، وأصل قيد خرج به مساواة فرع لفرع، كمساواة الأرز للذرة في الربا، وكلاهما فرع عن
__________
1 انظر: الأحكام للآمدي 3/169، والمعتمد لأبي الحسين 2/697.
2 هو: أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر، المشهور بابن الحاجب، المالكي الفقيه الأصولي، النحوي، أثنى عليه العلماء ثناء كثيراً، له مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة، منها في أصول الفقه منتهى السول والأمل، ومختصر المنتهى، ولد سنة 570هـ ومات سنة 646هـ. انظر: الفتح المبين 2/65، الأعلام للزركلي 4/374.
3 هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي، المفسر المحدث الفقيه الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منهاج الوصول في علم الأصول في أصول الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه، توفي سنة 685هـ. انظر: فتح المبين 2/88.
4 هو: قاضي القضاة، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الفقيه، الشافعي، الأصولي المؤرخ، له مصنفات عديدة منها: جمع الجوامع، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج الوصول للبيضاوي. ولد سنة 727هـ وتوفي سنة 771هـ. انظر: الفتح المبين 2/184.
5 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/204.
(1/20)
 
 
أصل هو البر. وقوله في علة حكمه قيد خرج به ما كان الاشتراك فيه لدلالة نص أو إجماع1.
والمراد بالفرع محل لم ينص أو يجمع على حكمه، وبالأصل محل نص أو أجمع على حكمه، وبالعلة الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على حكمة صالحة؛ لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وسيأتي لهذا زيادة بيان في محله إن شاء الله تعالى.
وهذا التعريف قد تضمن أركان القياس، وهي: الأصل والفرع، والعلة، والحكم، الآتي بيانها إن شاء الله تعالى.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها:
الاعتراض الأول: أن المساواة هنا وردت مطلقة، لم تقيد بما في نفس الأمر، أو بنظر المجتهد، والأول فردها الكامل، فإذا أطلقت انصرفت إليه، فالقياس على هذا ما كانت فيه مساواة في نفس الأمر، فما لا مساواة فيه في نفس الأمر فليس بقياس، مع أنه قياس.
فالتعريف غير جامع، لعدم شموله للقياس الفاسد، فكان عليه أن يزيد "في نظر المجتهد" ليعم الصحيح والفاسد.
وقد أجاب عنه الكمال بن الهمام وشارحه بما ملخصه أن محل القيد بنظر المجتهد إنما يلزم المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب، لأن المساواة عندهم لما لم تكن إلا المساواة في نظره، كان الإطلاق لها كقيد مخرج للأفراد، إذ يفيد الإطلاق التقييد بما في نفس الأمر، وافق نظره أولاً، حتى كأنه قيل: مساواة في نفس الأمر، ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلاً، بل في نظر المجتهد، فكان قيداً مخرجاً لجميع أفراد المحدود، فلا يصدق الحد على شيء منها، فكان باطلاً2.
والأصوليون هنا بين مخطئة ومصوبة:
__________
1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - على القياس.
2 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/118.
(1/21)
 
 
أما المخطئة فيرون أن المصيب واحد لا بعينه، فالقياس الصحيح عندهم ما كان بحسب الواقع ونفس الأمر، فما لم يكن كذلك فليس بصحيح، وما ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، لا يرون أنه محكوم بصحته إلى زمن ظهور غلطه، بل مما كان فاسداً، وتبين فساده.
وأما المصوبة الذين يرون أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عندهم هو "ما حصلت في المساواة في نظر المجتهد، سواء ثبتت في نفس الأمر، أم لا، حتى لو ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، فإنه لا يقدح في صحته عندهم، بل ذلك انقطاع لحكمه لدليل صحيح آخر حدث، وكان قبل حدوثه، القياس الأول صحيحاً، وإن زالت صحته"1. فإذا رجع عنه المجتهد سمي حينئذ قياساً فاسداً.
والحاصل أن القياس المرجوع عنه يعمل به قبل الرجوع عنه باتفاق الجميع، وبعد الرجوع عنه لا يعمل به اتفاقاً، وإنما الخلاف بين المخطئة، والمصوبة في أن القياس المرجوع عنه إذا ظهر فساده هل كان قبل ذلك يسمى صحيحاً، وإليه ذهب المصوبة أو كان يسمى فاسداً، وإليه ذهب المخطئة، فالخلاف في التسمية2.
الاعتراض الثاني: قيل: هذا التعريف غير جامع؛ لأنه لا يشمل الأقيسة الآتية:
1 - قياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بلازم العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، وهي لازمة للعلة التي هي الإسكار، أو بحكمها، كقطع الجماعة بالواحد قياساً على قتلهم به بجامع وجوب الدية عليهم، وهو حكم العلة التي هي حصول القطع منهم خطأ في الصورة الأولى، وكذا القتل في الثانية.
__________
1 انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب 2/205، مكتبة الكليات الأزهرية.
2 انظر تفاصيله في مختصر ابن الحاجب وشرحه وحاشية السعد 2/205، وحاشية العطار على المحلى 2/240، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
(1/22)
 
 
2 - القياس في معنى الأصل: وهو الجمع بين الفرع والأصل بإلغاء الفارق، كقولك الأمة كالعبد في سراية العتق بجامع أن لا فارق.
3 - قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بوصف شبهي1، كالصلاة مثلاً في قولك: الجلسة الأولى في الصلاة، كالجلسة الثانية صورة، فتجب وجوبها.
4 - قياس العكس: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بنقيض العلة ونقيض الحكم، كقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لما كان شرطاً له بالنذر، لكنه وجب بالنذر، فيجب عند الإطلاق، قياساً على الصلاة، فإنها لم تجب عند الإطلاق لم تجب بالنذر.
فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطاً له، فحكم الفرع نقيض حكم الأصل، كما افترقا في العلة، إذ هي في الأصل أن الصلاة ليست شرطاً للاعتكاف بالنذر، وهي لا توجد في الصوم، لأنه واجب بالنذر2.
__________
1 قال القاضي: هو الوصف الذي لا يناسب لذاته، ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب من جنس الحكم القريب، مثاله قولنا: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا تزال به النجاسة كالدهن، فإن قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسباً في ذاته، لكنه مستلزم للمناسب؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه يؤذن بأنه قليل، والقلة وصف مناسب، لعدم مشروعية التطهير به، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما التكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا: لا تبنى القنطرة على جنسه غير مناسب، ولكنه مستلزم للمناسب.
وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة، فإنه يسقط الأمر به ويتوجه إلى التيمم، وقد يكون الشبه في الحكم كما في العبد المقتول، فإنه متردد بين النفسية والمالية، فيلحق بأيهما أقوى شبهاً.
انظر: شرح تنقيح الفصول ص394.
2 انظر: المحصول 2/21، من القسم الثاني من المطبوع، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، ونهاية السول 3/7، وحاشية العطار 2/240.
(1/23)
 
 
أجابوا عن الاعتراضات - بخروج الأقيسة المذكورة - إجمالاً بأن التعريف المذكور إنما هو لقياس العلة، لأن اسم القياس يطلق عليه بدون قيد، فهو حقيقة فيه، وأما المذكورات، فإطلاق اسم القياس عليها مجاز، لأنه لا يطلق عليها إلا مقيداً، فيقال: قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل ... الخ، ولزوم القيد إمارة المجاز1.
وأما تفصيلاً، فإنه يجاب: "عن قياس الدلالة بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بين الأصل والفرع بغير العلة، بل بها وإن لم يصرح بها اكتفاء بما يتضمنها، وكذا يقال في القياس الذي في معنى الأصل.
وعن قياس الشبه وحده بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بغير العلة، فإن المراد بالعلة مطلق المعرف، فيشمل الوصف الشبهي، بل والطردي2
__________
1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 الطرد في اللغة مصدر بمعنى الإبعاد، يقال: طردته طرداً من باب قتل، وأطرده السلطان عن البلد أخرجه منه، وطردت الخلاف في المسألة طرداً أجريته كأنه مأخوذ من المطاردة، وهو الإجراء للسباق، ويقال: أطردت الأمر اطراداً اتبعت بعضه بعضاً، واطرد الماء كذلك.
انظر المصباح 2/17.
ولعل هذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي الآتي، ولذا قال الأسنوي في نهاية السول 3/73: "الطرد مصدر بمعنى الإطراد".
وأما في الاصطلاح فهو: مقارنة الوصف الذي لا يناسب ولا يستلزم المناسسب للحكم في جميع الصور، ما عدا صورة المتنازع فيها، وهي صورة الفرع الذي يراد ثبوت الحكم له، لوجود ذلك الوصف فيه بناء على أن ذلك الوصف الطردي علة لذلك الحكم، مثاله قولك: الخل لا تبنى على جنسه القنطرة، فلا تزال به النجاسة كالدهن.
قال الشربيني: "ولا يمكن فيه العكس بأن يكون إذا بنيت القنطرة عليه نفسه يطهر، لأنه خلاف المعهود له عن الشارع، قال: فهذا هو الفرق بينه وبين الدوران، فإن الدوران تحقيقه هو أن يوجد الحكم إذا وجدت العلة في محل، وينتفى بانتفائها في ذلك المحل بعينه، كالحرمة عند الإسكار في الخمر وعدمها عند عدمه فيه بعينه، وهذا هو المعهود له من الشارع".
انظر: تقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/336 - 337.
قال الإمام في المحصول 2/305 من القسم الثاني المطبوع: "ومنهم من بالغ وقال مهما رأينا الحكم حاصلاً مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية"ا. هـ
فعلى هذا يكون للطرد تعريفان: الأول: مقارنة الوصف للحكم في جميع الصور. والثاني: مقارنته له في صورة واحدة، والثاني أعم من الأول، وأما حكمه فقد اختلف العلماء في حجيته:
أما القائلون بعدم حجية الدوران، فيقولون: إن الطرد ليس بحجة بطريق أولى، وإلى هذا ذهب الآمدي وابن الحاجب.
والقائلون بحجية الدوران اختلفوا في حجية الطرد على أربعة مذاهب:
الأول: إنه غير حجة مطلقاً أي على التفسيرين، وهذا هو المختار.
قال الزركشي في البحر: والمعتبرون من النظار على أن التمسك به باطل، لأنه من باب الهذيان.
وقال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم الله عز وجل به.
ونقله الكيا عن الأكثرين من الأصوليين.
ونقله القاضي أبو الطيب عن المحصلين من أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال القاضي حسين فيما نقله عنه البغوي في تعليقه عنه: لا يجوز أن يدان الله به.
قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة ودليلاً على صحة العلية حشوية أهل القياس، وقال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
الثاني: هو حجة مطلقة أي على التفسيرين، وهذا ضعيف ولم أعثر على القائل بذلك.
الثالث: هو حجة بالتفسير الأول دون الثاني، ونقله في البحر عن طوائف من الحنفية، وهو غريب، ومال إليه الرازي، وجزم به البيضاوي.
قال ابن السمعاني: "وحكاه الشيخ في التبصرة عن الصيرفي".
وقال الزركشي: "وهذا فيه نظر، فإن ذلك في الإطراد الذي هو الدوران".
وقال القاضي أبو الطيب: "ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة في العراق فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مسّ الذكر آلة الحرث فلا ينقض الوضوء كما إذا مسّ الفدان، وفي الفرج إنه طويل مشقوق فأشبه البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة إنه سعي بين جبلين فلا يكون ركناً في الحج، كالسعي بين أي جبلين، ولا يشك عاقل في أن هذا سخف" اهـ
الرابع: ما ذهب إليه الكرخي، وهو إنه مقبول جدلاً، ولا يسوغ التعويل عليه عملاً، ولا الفتوى به، وهذا القول ضعيف، بل متناقض كما قال إمام الحرمين. والله أعلم.
انظر: البحر المحيط 3/169 فما بعدها، نهاية السول مع منهاج العقول 3/73، ونبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/377، وتعليق الدكتور طه جابر فياض على المحصول 2/313 فما بعدها من القسم الثاني من المطبوع.
(1/24)
 
 
عند من يجوزه"1.
وأما قياس العكس فيجاب عنه بأنا لا نسلم بأنه غير جامع له، فإن الذي سميتموه قياس العكس، إنما هو تلازم والقياس لبيان الملازمة، لأن المستدل
__________
1 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/34.
(1/25)
 
 
يقول: لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، لم يكن واجباً بالنذر، فيكون شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق، كالصلاة، فإنها لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تجب بالنذر.
فعلى فرض عدم وجوب الصوم عند الإطلاق لم يجب بالنذر، فالمساواة حاصلة بين الصلاة والصوم في عدم الوجوب بالنذر، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر.
فالأصل في هذا القياس هو الصلاة، والفرع فيه الصوم، والعلة الجامعة بينهما هي عدم اشتراط كل منهما في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، والحكم الثابت في الأصل والفرع هو عدم الوجوب بالنذر، فهذا هو عين الملازمة، والممثالة حاصلة على سبيل الفرص والتقدير1.
وقد أجيب عنه بأجوبة أخرى تركتها، لأنني رأيت في الجواب الأول عن كل الأقيسة الخارجة على التعريف، وفي هذا عن قياس العكس خاصة ما فيه الكفاية، والله تعالى أعلم.
الاعتراض الثالث: هذا التعريف يلزم عليه الدور، وذلك أن "الأصل" هو المقيس عليه و "الفرع" هو المقيس، وقد وقعا جزئين في التعريف.
فبهذا الاعتبار يتوقف القياس عليهما، إذا لا يتصور المحدود إلا بعد تصور الحد، ولا يمكن تصور الحد إلا بعد تصور كل جزء من أجزائه، وباعتبارهما مشتقين من القياس يتوقفان عليه، لأن المشتق فيه المشتق منه وزيادة، فيكون القياس جزءاً منه، ومعرفة الكل متوقفة على معرفة أجزائه، فهما متوقفان على القياس، فتوقف كل منهما على الآخر، وهذا دور، وهو باطل.
__________
1 انظر: نهاية السول 3/7، والمحصول ص276 - خ -، والعضد على المختصر2/206، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/15.
(1/26)
 
 
وأجيب عنه بأن المراد من "الأصل" في التعريف المحل الذي نص أو أجمع على حكمه، و"الفرع" المحل الذي لم ينص أو يجمع على حكمه.
وهما بهذا الاعتبار غير متوقفين على القياس، وإنما يتوقف عليهما القياس، فقط فلا دور1.
وأورد الدكتور عثمان مريزيق2 - رحمه الله - اعتراضاً على هذا، وأجاب عنه بما نصه: "أن ملاحظة كل من الأصل، والفرع بغير وصف المقيسس والمقيس عليه بعيد عن اصطلاح الأصوليين"، قال: ولنا جوابان:
الأول: أن المذكور في التعريف هو كلمتا "الأصل، والفرع"، وهما غير مشتقين من القياس، وإن كان مفسرهما: "المقيس، والمقيس عليه" فهما مشتقان منه، وفد قال العلماء: إن الاشتقاق من أحكام اللفظ لا من أحكام المعنى.
الثاني: حتى لو فرضنا وقوع كلمتي "المقيس والمقيس عليه" في التعريف لم يرد اعتراض، ذلك أن القياس الذي هو بمعنى الحدث، والاشتقاق المعرف ليس مصدراً، بل هو علم على حقيقة مصطلح عليها، فما كان مشتقاً منه غير معرف والمعرف غير مشتق منه، فلا توقف من الجانبين3.
التعريف الثاني للبيضاوي: قال - رحمه الله -: "إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر، لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"4.
__________
1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/204، التقرير والتحبير 3/118، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 هو الدكتور عثمان مريزيق، العالم العلامة الفيلسوفي، الفقيه، الأصولي، المالكي، أحد مشاهير مشايخ الأزهر المعاصرين، تولى التدريس بالأزهر، وانتدب للتدريس بجامعة اليبضاء أيام الملك الإدريسي، كما درس بجامعة الإمام محمد بالرياض، ثم بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الشريعة بمكة فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، وكان رئيساً لشعبة الأصول بها، توفي رحمه الله سنة 1400هـ بالقاهرة.
3 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
4 المنهاج مع نهاية السول 3/3.
(1/27)
 
 
وهذا التعريف ذكره الإمام في المحصول، وأصله لأبي الحسين البصري1، وإن كان الإمام غير بعض قيوده بما هو أحسن منه.
قال الإمام2: "التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه "تحصيل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد"، وهو قريب، وأظهر منه أن يقال: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"3.
فتعريف الإمام لم يختلف عن تعريف البيضاوي إلا بإبداله كلمة اشتباههما بكلمة اشتراكهما، والتعبير بالاشتراك أدق من التعبير بالاشتباه، إذ يفيد الاشتباه التعدد في العلة، ضرورة تعدد المشبه والمشبه به، بخلاف الاشتراك، فإنه يفيد اتحاد العلة، وإن كان لا بد في ذلك من قطع النظر في تعدد المحل، لكن يرد عليه أن الشبه يقتضي الاتحاد في المماثلة فيتساويان في اتحاد العلة، كما في الاشتراك.
شرح التعريف:
قال الأسنوي: "قوله إثبات كالجنس، دخل فيه المحدود وغيره، والقيود التي بعده كالفصل"4، وهي خمسة، منها ما هو للاحتراز، وهي ثلاثة: الحكم المقدر، ومثل، ولاشتراكهما في علة الحكم. ومنها ما هو لبيان المحل، وهو قوله في معلوم آخر، ومنها ما هو للإدخال، وهو قوله: عند المثبت.
__________
1 هو: محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، مصنفاته كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة 436هـ. انظر: الفتح المبين 1/137.
2 هو: محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري، الملقب بفخر الدين، المكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي الأصولي، المتكلم، النظار المفسر، الفيلسوفي صاحب المكانة بين الأمراء والعلماء، ولد بالديار المصرية سنة 544هـ، له مؤلفات منها: أساس التقديس في علم الكلام، والمسائل الخمسون في أصول الكلام، والمحصول في أصول الفقه، توفي سنة 606هـ.
انظر: الفتح المبين 2/47 - 49، الأعلام للزركلي 7/203.
3 انظر: المحصول ص275 - خ -.
4 انظر: نهاية السول 3/ 4.
(1/28)
 
 
وقد يطلق الإثبات عرفاً على الإخبار بالثبوت، "والمراد بالإثبات هنا هو القدر المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن، "لأنا إذا أثبتنا، فقد نعلم ثبوت الحكم في الفرع، وقد نعتقده اعتقاداً جازماً لا يحتمل عدم المطابقة، وقد نظنه"1، سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم، أو عدمه، والقدر المشترك بينهما هو حكم الذهن بأمر على أمر2، لأن القياس يجري في الحكم المثبت، والمنفي، كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، والكلب على الخنزير في عدم جواز بيعه بجامع النجاسة في كل3.
وتفسير الإثبات بالقدر المشترك بين المذكورات يفيد أنه أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون4.
قوله: مثل قيد أول، احترز به عن الإثبات خلاف الحكم، فإنه لا يكون قياساً5، وهو صفة لموصوف تقديره إثبات حكم مثل، وإنما كان أصلاً لأن حكم الأصل محله الأصل، وحكم الفرع محله الفرع، ولأنّ حكم الأصل ثبت بالنص أو الإجماع، وحكم الفرع ثبت بالقياس، ولأن حكم الأصل متفق عليه، وحكم الفرع مختلف فيه.
وأما تصور المثل، فقد اختلف فيه العلماء: فذهب بعضهم إلى أنه نظري يحتاج إلى نظر وفكر، ولهذا عرفه بأنه ما اتحد مع غيره في النوع أو الجنس، وخالفه في العوارض.
مثال الأول: وجوب القصاص بالمثقل قياساً على وجوبه بالمحدد، لأنهما فردان لنوع واحد، هو الوجوب الذي هو نوع من الحكم التكليفي.
__________
1 انظر: شرح تنقيخ الفصول للقرافي ص383.
2 انظر: نهاية السول 3/ 4.
3 انظر: الأحكام للآمدي 3/171، وحاشية العطار 2/240، ونهاية السول 3/ 4.
4 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240.
5 انظر: نهاية السول وبذيله منهاج العقول للبدخشي 3/ 4.
(1/29)
 
 
ومثال الثاني: إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها، قياساً على إثبات الولاية في مالها، فإن كلاً منهما نوع مندرج تحت جنس الولاية، وعلى هذا فالمثل لا يسوغ وقوعه في التعريف، لأن التعريف معناه التوصل بالمعلوم إلى المجهول1.
وذهب بعض العلماء إلى أن تصور المثل بديهي، لا يحتاج إلى نظر واستدلال، ولذا جاز وقوعه في التعريف؛ لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحارّ مثل للحار في كونه حارّاً، ومخالف للبارد في ذلك، فلو لم يكن تصور المثل بديهياً، لزم أن لا يعلمه بعض العقلاء بالضرورة، لكن التالي باطل، لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحار مثل للحار في كونه حاراً2، فالمقدم وهو عدم كونه بديهياً مثله.
ويرى الأسنوي أن البيضاوي إنما عبر بالمثل لأن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل، لاستحالة قيام الواحد بالشخص بمحلين، بل الثابت مثله3.
ورده الكمال ابن الهمام بأن حكم كل من الأصل والفرع واحد بالشخص له إضافتان: إضافة إلى الأصل، باعتبار تعلقه به، وباعتباره به يسمى حكم الأصل. وإضافة إلى الفرع، باعتبار تعلقه به، وباعتباره يسمى حكم الفرع، فلا تعدد في ذاته بتعدد المحل أصلاً، بل هو واحد له تعلق بكثيرين فالتحريم المضاف إلى الخمر، هو بعينه المضاف إلى النبيذ، كما أن القدرة شيء واحد متعلق بالمقدورات، فلم يقتض تعدد تعلقاتها تعددها.
وما ذكر من أن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين، إنما هو في العرض
__________
1 انظر: منهاج العقول للبدخشي بذيل نهاية السول 3/3 - 4، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، وأصول أبي النور زهير 4/7.
2 انظر: نهاية السول 3/ 4، وأصول أبي النور زهير 4/7، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
3 انظر: نهاية السول 3/ 4.
(1/30)
 
 
الشخصي كالبياض المخصوص القائم بثبوت معين، يمتنع أن يقوم بعينه بثوب آخر، وما هنا فمجرد إضافات متعددة لواحد شخصي1.
قوله حكم، أشار به إلى الركن الأول، وهو حكم الأصل، قال الأسنوي: "والمراد به هنا نسبة أمر إلى آخر، ليكون شاملاً للشرعي، والعقلي، واللغوي إيجاباً كان أو سلباً"2.
ولم يرَ اختصاصه بالحكم الشرعي الذي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء أو التخيير، ولعله إنما ذهب إلى ذلك لأن البيضاوي يرى القياس في الشرعيات، والعقليات، واللغويات، فأراد أن يكون التعرف شاملاً للجميع.
لكن يرد عليه ما ذكره في تعريف الأركان من "أن المصنف لما بين الحكم في أول الكتاب، لم يتعرض هنا إلى بيانه"3.
والذي تقدم للمصنف في بيان الحكم هو قوله "الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير"4، فاحترز هنا عن العقلي واللغوي.
وقوله معلوم، أشار به إلى الركن الثاني، وهو الأصل، والمراد بالمعلوم المتصور، وعبر به ليشمل جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم.
وليس المراد به العلم المصطلح عليه، الذي هو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل بحيث لا يحتمل النقيض، لأن القياس، وإن كان قد يفيد القطع، فإنه أكثر ما يفيد الظن5.
وقوله في معلوم آخر أشار به إلى الركن الثالث وهو الفرع الذي ثبت حكمه بالقياس.
__________
1 التقرير والتحبير 3/121، مع تصرف واختصار.
2 انظر: نهاية السول 3/ 4.
3 انظر: نهاية السول 3/38.
4 انظر: نهاية السول 3/30.
5 انظر: نهاية السول 3/ 4، حاشية العطار 2/240، البدخشي 3/ 4.
(1/31)
 
 
وقوله لاشتراكهما في علة الحكم، أشار به إلى الركن الرابع، وهو العلة الآتي تعريفها، وقيد بالاشتراك، لأن القياس لا يمكن في كل شيء، بل إذا كان بينهما مشترك يوجب الاشتراك في الحكم.
وهو قيد احترز به عن إثبات مثل حكم معلوم في معلوم، لا للاشتراك في العلة بل لدلالة نص، أو إجماع، فإنه لا يكون قياساً1.
وقوله عند المثبت، ذكره ليتناول الصحيح والفاسد في نفس الأمر، والمراد بالمثبت القائس، فهو يعم المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، الذي يقيس على مذهب إمامه2.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف، والإجابة عنها:
الأول: ما ذكره الآمدي، وقال: "إنه إشكال مشكل لا محيص عنه، وهو أن الحكم المثبت في الفرع متفرع على القياس إجماعاً، فجعله ركناً في الحد، يقتضي توقف القياس عليه، وهو دور ممتنع"3.
وقد يجاب عنه: بأن الدور إنما يلزم لو كان التعريف حداً حتى يكون الإثبات جزءاً من القياس، فيتوقف القياس عليه، ونحن لا نسلم أن التعريف حد، بل ندعي إنه رسم، كما أشار إليه إمام الحرمين في البرهان، فعلى هذا يكون الإثبات خاصة من خواص القياس، وليس حقيقة فيه، فحمل الإثبات عليه حمل "ذو"، أي أن القياس ذو إثبات أي في إثبات، فالتعريف بالخاصة لا يوجب الدور لانفكاك الجهة، لأن خاصة الشيء تتوقف عليه من جهة وجودها ضرورة، لأنها عرض، والعرض لا بد له من محل يقوم به.
__________
1 انظر: نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5.
2 انظر: المحصول ص275 - خ -، نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5، وحاشية العطار 2/241.
3 الأحكام للآمدي 3/174، ونهاية السول 3/5.
(1/32)
 
 
أما الشيء فقد يتوقف في تصوره على الخاصة من حيث تصوره، لا من حيث وجوده، فانفكت الجهة، فلا دور1.
الاعتراض الثاني: أن القياس دليل شرعي في ذاته، نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي، نظر فيه المجتهد، أو لم ينظر، فتعريفه بالإثبات الذي ينبئ أنه فعل المجتهد غير صحيح.
ولهذا الاعتراض اختار ابن الحاجب في مختصره تعريف القياس بأن "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"، ونسبة الزركشي2 في البحر إلى المحققين3.
كما اختاره صاحب مسلم الثبوت4، واعتبر إطلاقه على ما يدل على أنه فعل المجتهد مسامحة، قال شارحه5: "لأن القياس حجة إلهية، موضوعة من قبل الشارع لمعرفة أحكامه، وليس هو فعلاً لأحد، لكن ما كان معرفته بفعل المجتهد ربما يطلق عليه مجازاً6.
__________
1 انظر: نهاية السول 3/5، وأصول أبي النور زهير 4/13، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 هو: محمد بن بهادر بن عبد الله التركي، المصري، الزركشي، الملقب ببدر الدين، المكنى بأبي عبد الله، الفقيه الشافعي، الأصولي، المحدث، ولد سنة 745هـ، من شيوخه الأسنوي، والبلقيني، تبحر في العلوم حتى صار يشار إليه بالبنان، له مؤلفات كثيرة، منها في أصول الفقه: البحر المحيط - خ -، وتنشيف المسامع بجمع الجوامع في الأصل أيضاً، والديباج في توضيح المنهاج، وغيرها، توفي ثالث رجب سنة 794هـ.
انظر: الفتح المبين 2/209.
3 انظر: البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس.
4 هو: محب الله بن عبد الشكور البهاري، الفقيه الحنفي، الأصولي، البحاثة المحقق، اشتغل بالقضاء والتدريس، وتولى الصدارة في ممالك الهند، له مؤلفات منها: مسلم الثبوت في أصول الفقه، توفي سنة 1119هـ.
انظر: الفتح المبين 3/122.
5 هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي الأنصاري، المكنى بأبي العباس الملقب ببحر العلوم، الفقيه، الحنفي، الأصولي، من أشهر مؤلفاته فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، توفي سنة 1180هـ.
انظر: الفتح المبين 3/132.
6 انظر: فواتح الرحموت بذيل المستصفى 2/247.
(1/33)
 
 
وكذلك اختار الكمال بن الهمام مثل تعريف ابن الحاجب، وذكر أن أكثر عباراتهم تفيد كون القياس فعل المجتهد1.
وأجاب العطار2 عن هذا الاعتراض "بأن كونه فعل المجتهد، لا ينافي أن ينصبه الشارع دليلاً، إذ لا مانع من أن ينصب الشارع فعل المجتهد"3، دليلاً له ولمن قلده.
وتبعه على ذلك شارح التحرير، واستدل عليه بأن الإجماع دليل نصبه الشارع، مع أنه فعل المجتهد4.
هل للخلاف ثمرة؟
ذكر الدكتور عثمان مريزيق - رحمه الله - بأن الخلاف بين الشقين لفظي؛ لأن من جعله فعل المجتهد، لا ينكر أن المجتهد لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة، غير أن المجتهد له فكره واستنباطه، فمن نظر إلى ذلك عبر عنه بما يفيد أنه فعل المجتهد.
ومن نظر إلى الواقع في نفس الأمر عبر عنه بالمساواة، فتلاقت العبارات ولم ينقض بعضها بعضاً، والله تعالى أعلم5.
الاعتراض الثالث: أن التعريف غير جامع، لخروج قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل، وقياس الشبه، وقياس العكس، وهذا الاعتراض سبق الجواب عنه فيما أورد على تعريف ابن الحاجب بما أغنى عن إعادته.
__________
1 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/119.
2 هو: الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي، المصري النشأة، المغربي أصالة، لقب بالعطارلكونه كان يبيع العطر، له في أصول الفقه حاشية على الجلال المحلى على جمع الجوامع تدل على غزارة علمه، ولد سنة 1190هـ، وتوفي سنة 1250هـ.
انظر: الفتح المبين 3/146، الأعلام للزركلي 2/236.
3 حاشية العطار على المحلى 2/240.
4 التقرير والتحبير 3/119.
5 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
(1/34)
 
 
التعريف الثالث: لابن السبكي: قال - رحمه الله -: "حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه"، وفسر المحلى1 حمل المعلوم على المعلوم بإلحاقه في حكمه2.
وبين العطار في حاشيته المراد بالحمل بما نصه: "والمراد بحمل المعلوم على المعلوم إثبات حكمه له، والمراد بالإثبات القدر المشترك بين العلم والظن، أي أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون"3.
فعلى ما قال العطار، يكون هذا التعريف مساوياً لتعريف البيضاوي، السابق من غير فرق، إلا في اللفظ، فجميع ما قيل في تعريف البيضاوي يقال في هذا التعريف، والله تعالى أعلم.
الموازنة بين التعريفات المختارة المتقدمة:
يتضح من التعريفات المتقدمة أن الأصوليين سلكوا في تعريف القياس طريقتين:
الأولى: سلك أهلها في التعريف ما ينبئ بأنه فعل مجتهد، فعبروا عنه بالإثبات، والإلحاق وما في معناهما استناداً إلى المساواة في علة الحكم؛ لأن المجتهد له نظره وفكره واستنباطه، وإن كان لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة في نفس الأمر في نظره.
الثانية: اعتبر أهلها القياس دليلاً نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي،
__________
1 هو: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلى، الشافعي، الفقيه، الأصولي، المفسر، قال عنه بعض أهل عصره: إن ذهنه يثقب الناس، له مؤلفات في الفقه، والتفسير والأصول، منها في أصول الفقه شرحه لجمع الجوامع، وشرح الورقات لإمام الحرمين، ولد سنة 791هـ، وتوفي سنة 864هـ.
انظر: الفتح المبين 3/40.
2 انظر: جمع الجوامع، والمحلى مع حاشية العطار 2/240.
3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240.
(1/35)
 
 
نظر فيه المجتهد أو لم ينظر، فعبروا عنه بالمساواة، لأن عمل المجتهد أثر مترتب عليها بتحقيق مساواة الفرع للأصل في حكم العلة الجامعة بينهما.
وبهذا يظهر للمتأمل أنهما يتفقان في أن المعوَّل عليه في القياس هو المساواة في العلة، وأن المعتبر في تحقق هذه المساواة هو نظر المجتهد، واستنباطه الذي يتحقق به وجود القياس الذهني والخارجي بتحقق أركان القياس الأربعة، وكلتا الطريقتين موصلة إلى الغرض المقصود من تعريف القياس، وإن كان لكل منهما حظاًَ من النظر.
فالخلاف بينهما خلاف لفظي اعتباري لا يترتب عليه أثر كما تقدم، فلا حرج على من أخذ بكل من الطريقتين.
ونظراً لاتفاق التعريفات السابقة في المقصود من تعريف القياس، لم يترجح لي أحد التعريفات السابقة على غيره، والله تعالى أعلم.
أركان القياس:
الأركان: جمع ركن، وركن الشيء جانبه الأقوى، فأركان الشيء أجزاء ماهيته1، التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلة في حقيقته محققة لهويته.
"وهو في الاصطلاح جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به".
وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع، وأما حكم الفرع فثمرة القياس، فيتأخر عنه، فلا يكون ركناً له"2.
مبحث الأصل، والفرع:
اختلف الأصوليون فيما يسمى من أركان القياس أصلاً، وما يسمى فرعاً، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:
__________
1 انظر: المصباح المنير 2/255، تصحيح مصطفى السقا، مطبعة الحلبي بمصر.
2 انظر: العضد على المختصر 2/208، وانظر أصول الفقه لأبي النور زهير 4/58.
(1/36)
 
 
الأول: مذهب الفقهاء، قالوا: إن المشبه به يسمى أصلاً، والمشبه يسمى فرعاً، فإذا قلنا: النبيذ مسكر فيحرم قياساً على الخمر، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} 1.
فالأصل هو الخمر، لأنه المشبه به، والفرع هو النبيذ، لأنه المشبه، والحكم هو التحريم، والعلة هي الإسكار.
الثاني: مذهب المتكلمين، وهو أن الأصل دليل حكم المشبه به كالذي أثبت التحريم في الخمر، في المثال الآنف المذكور، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... } الآية.
والفرع هو الحكم في المشبه، قال الأسنوي: قياسه أن يكون فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه به، كتحريم الخمر2.
الثالث: مذهب الإمام الفخر الرازي، وهو "أن الحكم أصل في محل الوفاق، فرع في محل الخلاف، والعلة أصل في محل الخلاف، فرع في محل الوفاق، فللقياس عنده كما ترى أصلان، وفرعان3.
سبب الخلاف:
ذكر الآمدي أن الأصل يطلق في أمرين:
الأول: ما بني عليه غيره، كقولنا أن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول، من حيث أن معرفة الرسول تبنى على معرفة الرسل.
__________
1 سورة المائدة آية 90 - 91.
2 انظر: نهاية السول 3/38، وانظر تفاصيل ذلك في العضد 2/208.
3 انظر: المحصول: 2/25 من القسم الثاني المطبوع.
(1/37)
 
 
الثاني: ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره، وإن لم يبن عليه غيره، وذلك كما تقول في تحريم الربا في النقدين، فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره، وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس1.
وجهة نظر أهل المذاهب:
أما الفقهاء فقالوا: إن الأصل هو المحل، لتعلق النص والحكم به ضرورة، وذلك أن الحكم صفة فلا بد لها من موصوف تقوم به.
والنص يثبت حكماً كذلك في محل، بينما المحل في غير حاجة إليهما، لجواز خلوه عن الحكم، وعن الدليل كما كان قبل البعثة، فكان الخمر خمراً.
وهذا الرأي نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، وقال الآمدي: أنه الأشبه، لما ذكرت، وقال المحلي: إنه الأقرب2.
وبين الشربيني3 وجه القرب بقوله: "لأن القياس وقع بين الذاتين، وإن كان المقصود بيان الحكم"4، وجوز الإمام تسميته أصلاً لذلك5.
وأما المتكلمون فقال: إن الحكم الثابت في محل الوفاق مستفاد من النص المثبت له، فكان النص هو الأصل، لأن الحكم مستفاد منه.
ولذا قال الإمام: "ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل، وثبت أن
__________
1 انظر: الأحكام للآمدي 3/174 - 175.
2 انظر: الأحكام للآمدي 3/176، والعضد على المختصر 2/208 - 209، نهاية السول 3/38، المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/253، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
3 هو: الشيخ عبد الرحمن الشربيني الأسدي، الفقيه، الشافعي، الأصولي، المصري، كان عالماً جليلاً ورعاً، أخذ عن كبار علماء الأزهر، وعهدت إليه مشيخة الأزهر سنة 1322هـ، واستقال منها سنة 1324هـ عرف بالتحقيق والتدقيق في تصانيفه، له مؤلفات منها في أصول الفقه تقريراته على جمع الجوامع بهامش المحلى، توفي سنة 1326هـ.
انظر: الفتح المبين 3/161.
4 انظر حاشية الشربيني بهامش العطار 2/254.
5 انظر: المحصول ص 277 - خ -.
(1/38)
 
 
النص أصل ذلك الحكم، فكان النص أصلاً لأصل الحكم المطلوب، وأصل الأصل أصل، فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على ما هو في قول المتكلمين"1.
وأما الإمام فوجه مذهبه "بأنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق، لا نطلب علته، وقد نعلم ذلك الحكم، ولا نطلب علته أصلاً، فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم، ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علته، فلا جرم كانت العلة فرعاً على الحكم في محل الوفاق، والحكم أصلاً فيه.
وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه، لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياساً، ولا ينعكس، فلا جرم كانت العلة أصلاً في محل الخلاف، والحكم فرعاً فيه"2.
وصحح ابن الحاجب وجه كون العلة أصلاً في محل الخلاف، وتبعه العضد، وقال السعد: "لأن في ذلك حقيقة الابتناء، وفيما عداه لا بد من تجوز، وملاحظة واسطة تظهر بالتأمل"3.
الموازنة:
يتضح مما تقدم أن جميع تلك الأقوال لا تخرج عما في اللغة من أن الأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره.
ولذا قال الآمدي: "واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي، وذلك أنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره، فالحكم أمكن أن يكون أصلاً، لبناء الحكم في الفرع عليه ... وإذا كان الحكم في الخمر أصلاً، فالنص الذي به معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل".
__________
1 انظر: المحصول ص 277 - خ -.
2 المحصول ص276، 277 - خ -.
3 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/208 - 209.
(1/39)
 
 
وعلى هذا فأي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره، أمكن أن يكون أصلاً، وكذلك الخمر، فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة، فهو أيضاً أصل للأصل "باعتبار تعلقه" فكان أصلاً1.
وصرح العضد بأنه "لا بعد في الكل، لأن الحكم في الفرع يبنى على الحكم في الأصل، وهو على مأخذه ومحله، فالكل يبنى عليه الحكم في الفرع ابتداء، أو بواسطة، فلا بعد في التسمية"2.
ولذا ختم الإمام كلامه على الموضوع بأن لقول المتكلمين وجهاً، وبأنه يساعد الفقهاء فيما ذهبوا إليه، لئلا يفتقر إلى تغيير مصطلحهم3، أن حكم الأصل هو الحكم الشرعي الثابت في الأصل، والذي يطلب المجتهد تعديته من الأصل إلى الفرع بطريق القياس.
هذا ولما كان التعرض لهذه المسألة إنما هو من باب المدخل إلى الغرض، فإنني أكتفي بهذا القدر الموجز، خشية الخروج عن الموضوع، والإطالة باستعراض ما زاد عن الحاجة، وأنتقل إلى تعريف العلة.
__________
1 انظر: الأحكام للآمدي 3/175 - 176.
2 انظر: العضد على المختصر 2/208 - 209.
3 انظر: المحصول ص 277 - خ -.
(1/40)
 
 
الفصل الثاني في تعريف العلة وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى
تعريف العلة: العلة هي أحد أركان القياس، بل جعلها بعض الأصوليين الركن الأعظم، وما سواها شرائط1، لأن عليها مدار تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ولهذا أعطاها كثير من الأصوليين عناية وافرة لما لها من أهمية بالغة.
العلة في اللغة: مأخوذة من العلَلَ، يقال: عل يعل - بكسر العين وضمها علا وعللاً، والعل الشرب بعد الشرب تباعاً، والعلة بالكسر المرض الشاغل والجمع علل، واعتل إذا مرض، أو تمسك بحجة.
قال صاحب المصباح2: "ذكر معناه الفارابي"3، قال: "وأعله جعله ذا علة. ومنه إعلالات الفقهاء، وإعتلالاتهم، وعللته عللاً سقيته السقية الثانية، ويقال: هذا علته أي سببه"4.
ومن هنا ناسب قول الأصوليين أنها اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله،
__________
1 انظر: كشف الأسرار 3/345، نهاية السول مع منهاج العقول 3/39.
2 هو: أحمد بن محمد بن علي الفيومي، الحموي، المكنى بأبي العباس اللغوي، اشتهر بكتاب المصباح المنير المطبوع، ولد ونشأ في مصر، ثم انتقل إلى حماة بسورية، وتولى خطابة جامع الدهشة، في أيام الملك المؤيد إسماعيل، وتوفي سنة 770هـ.
انظر: الأعلام للزركلي 1/216، الطبعة الثانية.
3 هو: محمد بن محمد بن طرخان أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لشرحه لمؤلفات أرسطو، أكبر فلاسفة المسلمين، تركي الأصل، مستعرب، ولد في فاراب على نهر جيحون سنة 260هـ، وانتقل إلى بغداد فنشأ بها، وألف بها أكثر كتبه، كان يحسن أكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره، مؤلفاته كثيرة منها: النصوص، طبع، وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وغيرها، توفي سنة 339هـ.
انظر: الأعلام للزركلي 7/242 - 243.
4 انظر: لسان العرب 13/495، القاموس 4/21، المصباح المنير 2/77.
(1/41)
 
 
مأخوذة من العلة التي هي المرض، لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض.
وقيل: لأنها ناقلة حكم الأصل إلى الفرع، كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض.
وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الماء للشرب مرة بعد أخرى، لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر، أو لأن الحكم يتكرر بتكرر وجودها.
وقد يعبر بها عما لأجل ذلك يفعل الفعل أو يمتنع منه، فيقال: فعل الفعل لعلة كيت، أو لم يفعل لعلة كيت1.
وذهب الغزالي2 إلى أنها "عبارة عما يتأثر المحل بوجوده، ولذا سمي المرض علة، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق"3.
ونقل صاحب نبراس العقول4، عن القرافي5، أنه قال: في شرح
__________
1 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/105 - 106 - خ -، إرشاد الفحول ص206 - 207.
2 هو: حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل، الفقيه، الأصولي، الفيلسوفي، الشافعي، المتصوف، له مصنفات كثيره، منها في أصول الفقه: المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وكلها مطبوعة، ولد رحمه الله سنة 450هـ، وتوفي سنة 505هـ.
انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، طبقات الشافعية 6/191 فما بعدها.
3 انظر: شفاء الغليل في مسالك التعليل ص20.
4 هو: عيسى منون، العلامة البارع المتفنن الجليل القدر، ولد سنة 1308هـ وفي ضواحي بيت المقدس، ثم قدم مصر، وتعلم على مشايخ الأزهر حتى أخذ منه العالمية سنة 1912م، وتولى التدريس، له في أصول الفقه كتابه نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول، طبع منه الجزء الأول، وهو يدل على سعة علمه وقدرته في المادة.
انظر: الفتح المبين 3/211 - 212.
5 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، الإمام العالم، له مصنفات منها: الذخيرة في الفقه المالكي، وتنقيح الفصول في اختصار المحصول، وشرحه في أصول الفقه والفروق في القواعد.
انظر: الفتح المبين 2/86، والأعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية.
(1/42)
 
 
المحصول نقلاً عن القاضي عبد الوهاب1، والشيخ أبي إسحاق2: "أن العلة باعتبار اللغة مأخوذة من ثلاثة أشياء: علة المريض - وهو الذي يؤثر فيه عادة - والداعي - من قولهم علة إكرام زيد لعمرو علمه وإحسانه.
وقيل: من الدوام والتكرر، ومنه العلل للشرب بعد الري، فيقال: شرب عللاً بعد نهل"3.
العلة في اصطلاح الأصوليين:
اختلف الأصوليون في تعريف العلة، والمشهور أن لهم فيها أربعة مذاهب، نبينها فيما يلي:
الأول: للمعتزلة4، وهو أن العلة هي المؤثر بذاته في الحكم، ومعنى تأثيرها فيه أنها توجبه وتقتضيه ذاتاً5.
ومذهبهم هذا مبني على أن العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً، وأن
__________
1 هو: عبد الوهاب بن نصر، البغدادي المالكي، أحد أئمة المذهب، النظار الفقيه، ثقة ثبت، حجة، وحيد دهره وفريد عصره، ولي قضاء الدينور، له مؤلفات كثيرة منها: الإفادة، والتلخيص، كلاهما في أصول الفقه، والإشراف على مسائل الخلاف وغيرها، ولد سنة 362هـ، وتوفي بمصر بعد أن حمل لواءها سنة 422هـ.
انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: 2/26 - 29، تحقيق الدكتور الأحمدي، والأعلام للزركلي 4/335.
2 هو: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي صاحب اللمع وشرحه، والتبصرة في أصول الفقه، ولد سنة 353هـ، وتوفي سنة 476هـ.
انظر: طبقات الشافعية 3/88 - 89، والفتح المبين 1/228.
3 انظر: نبراس العقول 1/216.
4 المعتزلة يسمون أصحاب العدل، والتوحيد، ويلقبون بالقدرية، وقد جعلوا لفظ القدر مشتركاً بين القدر خيره وشره من الله تعالى هرباً مما ألصق بهم، مما قالوه من أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد، وقد نوه عنهم حديث "القدرية مجوس هذه الأمة"، وقد قالوا بخلق القرآن، ونفوا رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأولوا آيات الصفات.
انظر: الملل والنحل بذيل الفصل 1/65 - 68، والفصل بأعلى الملل والنحل 3/41، والعقيدة الطحاوية مع شرحها ص215.
5 انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري 2/705، نهاية السول 3/39، غاية الوصول ص114.
(1/43)
 
 
الأحكام عندهم تكون تابعة لما أدركه العقل من ذلك، على معنى أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل العمد العدوان من غير توقف على الشارع، كما أن العلل العقلية عندهم مؤثرة بذاتها كالنار، فإنها مؤثرة بطبعها في الإحراق، بقوة أودعها الله فيها، فالحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والشرع إنما جاء مؤكداً لما أدركه العقل، وكاشفاً لما خفي عليه منهما1.
وقد أبطل أهل السنة هذا المذهب بما يأتي:
الأول: أنه لو حسن العقل أو قبح لذاته، لما اختلف الفعل الواحد حسناً وقبحاً، لكنه اختلف، فلا يكون كل منهما ذاتياً، لأن بالذات لا يختلف، وإلا لزم اجتماع النقيضين.
بيان الملازمة هو أن الذاتي للشيء لا ينفك عنه، فيستلزم ذلك أن لا يختلف، لأن الاختلاف يؤدي إلى الانفكاك.
وبيان دفع التالي هو أن الفعل الواحد يحسن تارة، ويقبح أخرى، فالقتل يحسن حداً، ويقبح ظلماً، والصدق يحسن إنقاذاً لنبي أو مظلوم، ويقبح إهلاكاً لنبي أو مظلوم.
وهذا يبطل القول بالحسن والقبح العقليين، وبالتالي يبطل التعريف المبني عليهما2.
غير أن ما ذكر يرد عليه أن الكذب لإنقاذ المظلوم ما انفك عن القبح، وما اختلف، ولكنه عندما تعين اجتمع قبيحان: الكذب، وترك إنقاذ البريء المظلوم، فكان الثاني أكثر قبحاً من الأول، فارتكب أقل الأمرين قبحاً، وأيضاً لو قيل: أنه صار حسناً، فحسنه لغيره، وهو الإنقاذ.
__________
1 انظر: المحلى وحاشية العطار 2/273، حاشية البناني على المحلى 2/232، ونهاية السول 3/39، والتوضيح مع حاشية التلويح 2/62، وإرشاد الفحول ص207، نبراس العقول 1/218، ومباحث القياس ص102، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 انظر: تعليقات الدكتور مريزيق على القياس.
(1/44)
 
 
الثاني: أن العلة الشرعية لو اقتضت الحكم الشرعي لذاتها، لما صح أن يجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة، لكنه قد يحصل أن يجتمع عليه علل، فلزم أن لا تقتضيه لذاتها.
بيان الملازمة: أن الحكم واجب الحصول بعلته المستقلة، فلا يمكن أن يوجد بغيرها، وإن حصل بغيرها لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر الواحد أثرين أو أكثر، وهو باطل. بيان ذلك ما إذا اجتمع على الحكم علتان فأكثر في وقت واحد، كما إذا مسّ ذكره من غير حائل، وخرج منه ريح في وقت واحد، أو ارتد وزنى وهو محصن في وقت واحد، فالحكم في الصورتين واحد، ولا يمكن أن يكون النقض والقتل بمجموعهما، وإلاّ كان كل منهما جزء علة، والمفروض أنه علة، ولا يمكن أن يكون لكل واحد منهما، وإلا لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر أثرين أو أكثر، وهو باطل1.
الثاني للغزالي: وهو أن العلة هي الوصف المؤثر بجعل الشارع لا لذاته2.
شرح التعريف:
فالوصف هو المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف سواء كانت معتبرة أو ملغاة، أو كانت بمعنى المؤثر.
والمؤثر معناه الموجب لأن التأثير معناه الإيجاد، وهو قيد في التعريف يخرج العلامة، لأنه لا تأثير فيها، فلا تسمى علة ويجعل الشارع قيد احترز به عما يوهمه اللفظ من التأثير بالذات، ولذا قال: لا لذاته.
فمعنى التأثير في كلامه هو الربط والاستلزام العاديان بين الوصف والحكم، على معنى أن الله تعال أجرى عادته بأنه كلما وجد الوصف وجد معه الحكم، وكل منهما من قبل الله تعالى، فليس الحكم ناشئاً ذاتاً من الوصف ولا متولداً منه،
__________
1 انظر: المحصول ص300 - خ -، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق، ونبراس العقول 1/219.
2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274، ونهاية السول 3/39.
(1/45)
 
 
لأن الغزالي من أهل السنة الذين يشددون النكير على من يقول بالطبع والتوليد1، ويدل لذلك ما جاء في تعريفه للعلة في كتابه شفاء الغليل حيث قال: "والعلل الشرعية أمارات، والمناسب والمخيل لا يوجب الحكم بذاته، ولكن يصير موجباً بإيجاب الشرع، ونصبه إياه سبباً له، وتأثير الأسباب في اقتضاء الأحكام عرف شرعاً كما عرف كون مسّ الذكر وخروج الخارج من السبيلين مؤثراً في إيجاب الوضوء، وإن كان لا يناسبه، فكما عرف كون القتل والزنا والسرقة أسباباً لأحكامها إلى ما يناسبها"2.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والإجابة عنها:
الاعتراض الأول: أنه يقتضي تأثير الحادث في القديم، لأن الزنا مثلاً فعل حادث وإيجاب الحد قديم؛ لأنه حكم، والحكم قديم، والحادث لا يؤثر في القديم، وإلا كان القديم متأخراً عن الحادث، أو مقارناً له، وذلك باطل.
وأجاب صاحب التوضيح3 عنه بأن الحكم المصطلح عليه هو أثر حكم الله تعالى القديم، فإن إيجاب الله قديم، والوجوب حادث، فالمراد بالمؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم، بل في الوجوب الحادث، بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث كالدلوك مثلاً، فالمراد كونه مؤثراً، أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل، والإحراق بالنار4.
__________
1 التوليد هو أن يوجب فعل لفاعله فعلاً آخر كحركة اليد، وحركة المفتاح، فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أم لم يقصدها.
انظر: شرح المواقف في علم الكلام ص520.
2 انظر: شفاء الغليل ص/47.
3 هو: عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري، الحنفي، الملقب بصدر الشريعة الأصغر، تاج الشريعة الفقيه الأصولي، الجدلي، المحدث، المفسر، النحوي، اللغوي، الأديب، النظار، المتكلم، من مؤلفاته التنقيح، وشرحه المسمى بالتوضيح في أصول الفقه، توفي سنة 747هـ.
انظر: الفتح المبين 2/256.
4 انظر: التوضيح مع حاشية التلويح 2/62.
(1/46)
 
 
كما يجاب عنه أيضاً بأن الزنا مثلاً ليس مؤثراً بهذا المعنى، وإنما هو أمارة على الإيجاب، أو أن التأثير في التعلق التنجيزي، والتعلق التنجيزي حادث، فقد أثر حادث في حادث، ولم يؤثر حادث في القديم.
الاعتراض الثاني: أن القول بالتأثير معناه اشتمال الأوصاف على صفات توجب الحكم لذاتها، وهذا هو عين مذهب المعتزلة.
وأجيب عنه بما يأتي:
أ - أن هناك فرقاً بين مذهب المعتزلة، وبين مذهب الغزالي، لأن الغزالي يقول باشتمال الأفعال على صفات، لكنها لا تقتضي عنده حسناً ولا قبحاً، بخلاف المعتزلة.
ب - أن التأثير فسر بالربط العادي، لا بمعنى إيجاب الوصف للحكم. وبين مذهب الغزالي، ومذهب المعتزلة بون كبير1.
مما تقدم يتضح سلامة تعريف الغزالي رحمه الله سيما وأنه صرح بما يفسر مذهبه بأن تأثير العلل، إنما هو يجعل الله تعالى، فهو بيان لمذهبه.
الثالث: وإليه ذهب ابن الحاجب، والآمدي والحنفية، أن العلة هي الباعث على الحكم، وفسروا الباعث على الحكم باشتماله على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، كتحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة، أو تقليلها، فالمراد بالباعث المشتمل على الحكمة، كما صرحوا بذلك2، لا الباعث المشترك للشارع على شرع الحكم، كما هو ظاهر اللفظ، لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شرح حكم سوى إرادته له، يخلق ما يشاء ويختار.
__________
1 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/232، والشربيني بهامش البناني 2/232، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، ورسالة مباحث القياس للشيخ يسن سويلم طه ص100 - 101.
2 انظر: الأحكام للآمدي 3/186، المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/213، والتوضيح مع التلويح 2/63.
(1/47)
 
 
وحمل البعض اللفظ على ظاهره، وقال: إن المراد منه الحامل للشارع على شرع الحكم، وعلى هذا فالتعريف فاسد، لأن البعث على الفعل ينافي الاستغناء التام، والاختيار المطلق، فلا يصح التعبير به في جانب الله تعالى، ولذا قال التاج السبكي، نقلاً عن والده1: "ونحن معاشر الشافعية، إنما نفسر العلة بالمعرف، ولا نفسرها بالباعث أبداً، ونشدد النكير على من فسرها بذلك، لأن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء، ومن عبر من الفقهاء عنها بالباعث أراد أنها باعثة للمكلف على الامتثال"2.
ولأصحاب المذهب أن يقولوا: إنه لا وجه لهذا الاعتراض بعد تفسير الباعث بالاشتمال على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، مع الاتفاق على أن أفعال الله تعالى مشتملة على حكم ومصالح تعود على العباد تفضلاً منه سبحانه وتعالى.
ولذا قال الشيخ حسن العطار بعد أن ذكر تفسير ابن الحاجب للباعث: "وإذا كان هذا هو المراد بالباعث لم يلزم التشنيع المذكور".
كما أنه لا وجه لتفسير ابن السبكي ووالده: الباعث بأنه باعث للمكلف على الامتثال لمخالفته لما فسره به أصحاب المذهب لمذهبهم، وهم أعلم به.
التعريف الرابع: وهو اختيار الفخر الرازي في المحصول، وتبعه عليه البيضاوي في المنهاج، وصاحب جمع الجوامعه "أن العلة هي الوصف المعرف
__________
1 هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن موسى، السبكي، المكنى بأبي الحسن، الملقب بتقي الدين، الفقيه الشافعي، الحافظ الأصولي، النحوي، المفسر اللغوي، البياني، الجدلي، ولد سنة 683هـ ورحل إلى دمشق والحرمين وسمع فيهما، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن ذاعت شهرته وعرف بالتبحر في العلوم، لقب بشيخ الإسلام، له مؤلفات كثيرة منها في الأصول شرح منهاج البيضاوي غير أنه لم يكمله، وغيره، توفي سنة 756هـ.
انظر: طبقات الشافعية 1/ 4 من المقدمة، ذيل تذكرة الحفاظ ص39 - 40، الفتح المبين 2/168 - 169.
2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274.
(1/48)
 
 
للحكم"1. بحيث يكون الحكم مضافاً إليها، بمعنى أنه علامة على ثبوت الحكم في جميع محال الوصف، "مثال ذلك أن السكر كان موجوداً في الخمر، ولم يدل على تحريمها، حتى جعله صاحب الشرع عله في تحريمها، فصار الإسكار علامة على وجود التحريم في كل ما وجد فيه".
وبهذا المعنى يكون التعليل بالإسكار معرفاً لحكم الأصل من جهة أنه أصل يقاس عليه، ويلحق به غيره.
وهذا المعنى لا يستفاد إلا من التعليل - ومعرف أيضاً لحكم الفرع. فالوصف معرف لهما معاً.
قال صاحب مراقي السعود2:
معرف الحكم يوضع الشارع ... والحكم ثابت بها فاتبع3
فعلى هذا يكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف للحكم بحيث يضاف إليه الحكم".
شرح التعريف:
فالوصف جنس، وفي التعريف يشمل سائر الأوصاف كما تقدم، والمعرف قيد أول أخرج الشرط، لأنه لا يعرف المشروط، ولا يكون علامة عليه، إذ قد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وللحكم قد ثان خرج به المانع؛ لأنه معرف لنقيض الحكم، لا للحكم، فالحيض مثلاً معرف لعدم وجوب الصلاة، لا
__________
1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/272، منهاج الوصول بذيل نهاية السول 3/37، ونهاية السول 3/37، والمحصول ص302.
2 هو: سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام محنض أحمد العلوي، نسبة إلى قبيلة العلويين "ادوعل" إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة العلماء والأدباء والشعراء، ولد رحمه الله بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وتلقى العلوم على علماء بلده ثم ارتحل إلى المغرب والمشرق ورجع إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والتأليف حتى علا صيته واشتهر علمه، وقد عده علماء بلده من المجتهدين، له مؤلفات عديدة منها في أصول الفقه، نظمه المسمى بمراقي السعود، وشرحه نشر البنود، توفي سنة 1233هـ.
انظر: مقدمة مراقي السعود إلى مراقي السعود ص9 فما بعدها، الأعلام 4/187 - 188.
3 انظر: نشر البنود 2/129 - 130.
(1/49)
 
 
لوجوبها، والأبوة معرفة لعدم وجوب القصاص للولد، لا لوجوبه.
وبحيث يضاف إليه الحكم، قيد ثالث في التعريف تخرج به العلامة التي لا يضاف إليها الحكم، كالأذان للصلاة إذ لا يقال: وجبت الصلاة بالأذان، وإنما يقال: وجبت بدخول الوقت، فدخول الوقت هو العلة والأذان علامة العلامة1.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها:
الأول: أنه غير مانع، لصدقه على العلامة، وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة، والإحصان للرجم2.
وأجيب عنه بما نقله صاحب نبراس العقول عن صاحب فصول البدائع3، ونصه قال: "وأجاب صاحب فصول البدائع بأن العلامة المختصة كالأذان معرف الوقت، أو مطلق الحكم، والكلام في معرفة حكم الأصل من حيث هو حكم الأصل".ا. هـ
قال عيسى: "وهذا الجواب ينافيه الجواب الآتي عن الاعتراض الثاني من أن العلة معرف لحكم الفرع فقط، وإن كان التحقيق كما سيأتي خلاف مقتضى هذا الجواب"4.
الثاني: أنه غير جامع، لخروج المستنبطة، لأنها عرفت بالحكم، على معنى أن الله تعالى لو شرع حكماً في محل، ولم ينص على علته، فقد يمكن المجتهد
__________
1 انظر: نشر البنود 2/129 - 130، التوضيح 2/62، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 انظر: التلويح على التوضيح 2/62.
3 هو: محمد حمزة الفناوي، الملقب بشمس الدين الفقيه، الحنفي، الأصولي المنطقي، الجدلي، الأديب، ولد سنة 751هـ له مؤلفات منها: فصول البدائع في أصول الشرائع في أصول الفقه، وتوفي سنة 834هـ.
انظر: الفتح المبين 3/30.
4 انظر: نبراس العقول 1/216.
(1/50)
 
 
استنباط علة ذلك الحكم كالإسكار مثلاً لحرمة الخمر، والقتل العمد العدوان لوجوب القصاص، وحينئذٍ يكون الحكم هو المعرف للعلة فهو سابق عليها، لأنا لا نعلمها إلا بعد علمنا به، فلو عرفته لكان علمنا به بعد علمنا بها، وهذا دور سبقي، والدور باطل1.
وأجاب عنه البيضاوي بأن حكم معرف لها في الأصل، وهي معرفة له في الفرع، فانفكت الجهة، فلا دور2.
الثالث: قال سعد الدين: "فإن قيل: هما مثلان، فيشتركان في الماهية ولوازمها، قلنا: لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر بعارض"3.
يريد أنه لا مانع من أن يكون أحد المثلين أظهر، فيكون معرفاً بكسر الراء والآخر أخفى، فيكون معرفاً بفتحها، لكن هذا الجواب تلزمه محاذير ثلاثة هي:
الأول: أن تعريف البيضاوي ناقص، يلزمه زيادة قيد، فيكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف لحكم الفرع".
الثاني: أن العلة لو كانت معرفة لحكم الفرع دون حكم الأصل - والتقدير أنه ليس بباعث - لم يكن للأصل مدخل في الفرع.
الثالث: أنه يخالف ما أطبق عليه الأصوليون من أن العلة وصف مشترك بين الأصل والفرع، وقولهم أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينه وبين حكم الفرع، فلو كان الوصف ليس علة في الأصل، فلا اشتراك في العلة، فلا قياس، وقد قال الأسنوي: هذه إرادات ضعيفة فاحذرها4.
قال أستاذنا الدكتور عثمان رحمه الله: نرى أنها ليست بضعيفة، وإنها ترد على التعريف نقضاً، والجواب الصحيح أن العلة كما تعرف حكم الفرع،
__________
1 انظر: التلويح على التوضيح 2/62، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
2 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول 3/38.
3 انظر: التلويخ على التوضيح 2/62.
4 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
(1/51)
 
 
تعرف أيضاً حكم الأصل من جهة أنه يلحق به غيره، ويقاس عليه، فهي معرفة للحكم فيهما1.
فإن قيل: ما الداعي لتعريفها لحكم الأصل مع وجود النص أو الإجماع؟ قيل: لأنها تعرف كون الحكم منوطاً بها، حتى إذا