معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
المؤلف: محمَّد بنْ حسَيْن بن حَسنْ الجيزاني
عدد الأجزاء: 1
 
المقدمة (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأ به الكون نورًا وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
فلما أكمل الله تعالى به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء.
ثم قام بالدين بعده عصابة الإيمان وعسكر القرآن، أولئك أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ألين الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها بيانًا، وأصدقها إيمانًا، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان.
وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصًا صافيًا.
وكان سندهم فيه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن رب العالمين سندًا صحيحًا عاليًا وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم.
فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم.
ثم سلك تابعوا التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
__________
(1) في هذه المقدمة اقتباس من كلام ابن القيم رحمه الله. انظر: "إعلام الموقعين" (1/4 - 7، 11، 68) .
(1/7)
 
 
ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، فدين الله في نفوسهم أعظم وأجل من أن يقدموا عليه قول أحد من الناس، أو يعارضوه برأي أو قياس.
ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون؛ حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة، وآراءهم الباطلة، وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة.
فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، وردوا معاني النصوص التي لم يجدوا إلى ألفاظها سبيلاً.
فقابلوا الألفاظ بالتكذيب، والمعاني بالتحريف والتأويل.
وملئوا بذلك الأوراق سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالم فسادًا.
وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه، إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل.
وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلبٍ إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد.
فلا إله إلا الله، كم نُفي بهذه الآراء من حق وأثبت من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لأجل ذلك فإن تجلية منهج السلف وبيان طريقتهم سبيل النجاة والخلاص، فهم الفرقة الناجية المذكورة، والطائفة الظاهرة المنصورة.
وقد أحببت أن أسهم -ولو بجهد المقل- في إيضاح منهج سلفنا الصالح في علم أصول الفقه على وجه الخصوص.
وبعد أن استخرت الله ربي، واستشرت بعض أساتذتي اخترت أن يكون موضوع رسالتي في مرحلة الدكتوراه: "منهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه" (1) .
__________
(1) مما تنبغي الإشارة إليه في هذا المقام أنني قد أدخلت على الرسالة بعض التعديلات من إضافة وتنقيح وإعادة ترتيب، كما غيرت عنوان الرسالة إلى: "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة".
(1/8)
 
 
والمؤمل -بعونه تعالى- أن يحقق هذا الكتاب المقاصد التالية:
الأول: التعريف بجهود أهل السنة والجماعة في علم أصول الفقه، وجمع أبحاثهم الأصولية وترتيبها ليسهل الوصول إليها.
الثاني: تحرير القواعد الأصولية المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة، وبيان القواعد الأصولية المختلف فيها.
الثالث: حماية ركن العقيدة، وذلك بالتنبيه على القواعد الأصولية التي بُنيت على أصول عقدية باطلة.
أما الخطة التي سرت عليها: فقد تضمنت -بعد المقدمة- تمهيدًا، وبابين، وخاتمة، رسمها كالآتي:
التمهيد: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة.
المبحث الثاني: تعريف أصول الفقه، وموضوعه، ومصادره، وفائدته.
المبحث الثالث: تاريخ علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة.
* الباب الأول: الأدلة الشرعية عند أهل السنة والجماعة.
وفيه أربعة فصول:
- الفصل الأول: الكلام على الأدلة الشرعية إجمالاً.
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: الأدلة الشرعية من حيث أصلها ومصدرها.
المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطع والظن.
المبحث الثالث: الأدلة الشرعية من حيث النقل والعقل.
- الفصل الثاني: الأدلة المتفق عليها.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الكتاب.
(1/9)
 
 
المبحث الثاني: السنة.
المبحث الثالث: الإجماع.
المبحث الرابع: القياس.
- الفصل الثالث: الأدلة المختلف فيها.
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: الاستصحاب.
المبحث الثاني: قول الصحابي.
المبحث الثالث: شرع من قبلنا.
المبحث الرابع: الاستحسان.
المبحث الخامس: المصالح المرسلة.
- الفصل الرابع: النسخ، والتعارض، والترجيح، وترتيب الأدلة.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: النسخ.
المبحث الثاني: التعارض.
المبحث الثالث: الترجيح.
المبحث الرابع: ترتيب الأدلة.
* الباب الثاني: القواعد الأصولية عند أهل السنة والجماعة.
وفيه ثلاثة فصول:
- الفصل الأول: الحكم الشرعي.
- وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحكم الشرعي وأقسامه.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحكم الشرعي.
المطلب الثاني: الحكم التكليفي.
المطلب الثالث: الحكم الوضعي.
(1/10)
 
 
المبحث الثاني: لوازم الحكم الشرعي.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحاكم.
وفيه مسألة واحدة وهي: التحسين والتقبيح العقليان.
المطلب الثاني: التكليف.
المبحث الثالث: قواعد في الحكم الشرعي.
- الفصل الثاني: دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المبادئ اللغوية.
المبحث الثاني: النص، والظاهر، والمؤول، والمجمل، والبيان.
المبحث الثالث: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم.
- الفصل الثالث: الاجتهاد، والتقليد، والفتوى.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الاجتهاد.
المبحث الثاني: التقليد.
المبحث الثالث: الفتوى.
الخاتمة: وقد ذكرت فيها أهم النتائج والتوصيات.
وتتميمًا للفائدة ذيلت الكتاب بملحق تضمن ثلاث قوائم:
1- قائمة بجهود ابن تيمية في أصول الفقه.
2- قائمة بجهود ابن القيم في أصول الفقه.
3- قائمة بالأبحاث الأصولية عند أهل السنة والجماعة.
أما المنهج الذي سلكته في هذا الكتاب فهو الآتي:
أولاً: الاختصار وعدم التطويل.
وذلك لسعة موضوع الكتاب وتشعب أبحاثه وكثرة مسائله، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وقد علمت - يقينًا - أن الإتيان على موضوعات هذا الكتاب
(1/11)
 
 
يحتاج إلى فريق من الباحثين، وعددٍ -لا أملكه- من السنين.
فاكتفيتُ لذلك برسم خطوطٍ عريضة تعينُ الباحثين، ووضع معالم تضيء الطريق للسالكين.
ثانيًا: التأصيل مع الدليل.
فقد اقتصرت في هذا الكتاب على بيان مذهب أهل السنة والجماعة، مع ذكر أدلتهم، ولم أتعرض لمذاهب المخالفين لهم؛ إذ الغاية المنشودة من هذا الكتاب الإبانة عن الأدلة الشرعية ومنهج الاستدلال بها لدى أهل السنة والجماعة، والإفصاح عن مسلكهم في القواعد الأصولية.
ثالثًا: الاقتصار على كتب أهل السنة والجماعة.
فجميع ما تم تقريره وتحريره في هذا الكتاب منقول نقلاً مباشرًا من كلام أهل السنة والجماعة فيما كتبوه في أصول الفقه وفي غيره.
إن منهج أهل السنة والجماعة لا يؤصل ولا يحصل من كتب مخالفيهم.
نعم هناك مسائل كثيرة وافقهم عليها مخالفوهم، إلا أن المقصود بيانه والمطلوب تبيانه - في هذا الكتاب - لا يتأتى إلا بالنهل من معين أهل السنة الصافي والارتواء من موردهم العذب.
ويستثنى من ذلك القضايا اللغوية، ونسبة مذاهب المخالفين لأصحابها ونحو ذلك.
رابعًا: إيراد كلام أهل العلم بنصه ما أمكن؛ ففي نقله كذلك توثيق للمادة العلمية، وتوضيح للفكرة. وفيه أيضًا دلالة على المصادر، كما أن في ذلك تعرضًا لبيان الدليل وذكرًا للتعليل.
وفي الختام أحمد الله عز وجل على نعمه المتوالية العظيمة وآلائه المتتابعة الجسيمة، وأشكره سبحانه على تيسيره وتوفيقه، فله الحمد في الآخرة والأولى.
اللهم لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ثم أقدم شكري وتقديري إلى فضيلة الأستاذ الدكتور عمر بن عبد العزيز - وفقه الله لما يحب ويرضى - الذي أكرمني بإشرافه وتوجيهه لهذا البحث.
(1/12)
 
 
اللهم بارك له في عمره وماله وولده، وعلمه وعمله، واكتب له التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة.
كما أقدم شكري وتقديري للمناقشين الكريمين: فضيلة الدكتور علي بن عباس الحكمي، وفضيلة الدكتور أحمد محمود عبد الوهاب الشنقيطي وفقهما الله، وذلك لما بذلاه من وقت وجهد في تقويم هذا البحث وتوجيهه.
ثم أشكر كل من أسدى إلي عونًا، أو صنع إلي معروفًا، فجزى الله الجميع خير الجزاء.
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى ذلك الصرح العلمي الشامخ (الجامعة الإسلامية) ، على جهودها العظيمة في مجال توجيه أبناء المسلمين، وبث العقيدة الصحيحة في نفوسهم، وعلى جهودها في مجال البحث العلمي، ونشر منهج السلف الصالح.
هذا جهد فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ وضلالة فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله الكريم وأتوب إليه.
اللهم اجعل هذا العمل خالصًا لك وحدك، لا حظ فيه لسواك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
 
****
(1/13)
 
 
التمهيد
وفيه ثلاثة مباحث:
* المبحث الأول:
التعريف بأهل السنة والجماعة.
* المبحث الثاني:
تعريف أصول الفقه وموضوعه ومصادره وفائدته.
* المبحث الثالث:
تاريخ علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة.
(1/15)
 
 
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة
لأهل السنة والجماعة إطلاقان: إطلاق عام وإطلاق خاص (1) ، أما الإطلاق العام فهو مقابل الشيعة، فيدخل فيه جميع الطوائف إلا الرافضة، وأما الإطلاق الخاص فهو مقابل المبتدعة وأهل الأهواء، فلا يدخل فيه سوى أهل الحديث والسنة المحضة الذين يثبتون الصفات لله تعالى، ويقولون: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل السنة، والمراد في هذا المقام الإطلاق الخاص.
والمراد بالسنة (2) ههنا: الطريقة المسلوكة في الدين وهي ما عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وإن كان الغالب تخصيص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم (3) .
والمراد بالجماعة ههنا: الاجتماع الذي هو ضد الفرقة (4) .
فأهل السنة والجماعة هم أهل السنة لأنهم تمسكوا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، واقتفوا طريقته باطنًا وظاهرًا، في الاعتقادات والأقوال والأعمال (5) .
وأهل السنة والجماعة هم الجماعة التي يجب اتباعها (6) لأنهم اجتمعوا
__________
(1) انظر: "منهاج السنة النبوية" (2/221) ، و"مجموع الفتاوى" (4/155) ، و"نهج الأشاعرة في العقيدة" (70) ، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" (1/28 - 31) .
(2) انظر في تعريف السنة في اللغة وفي اصطلاح الأصوليين (122) من هذا الكتاب.
(3) انظر: "جامع العلوم والحكم" (2/120) .
(4) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/157) .
(5) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/358) ، و"جامع العلوم والحكم" (2/120) ، و" مفهوم أهل السنة والجماعة" (77، 78) .
(6) كما ورد ذلك في نصوص كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - «فمن أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة» . رواه الحاكم في المستدرك (1/114) وصححه. انظر -إن شئت- النصوص من الكتاب والسنة على وجوب لزوم الجماعة في كتاب: "وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق" لجمال بادي (15 -84) .
(1/17)
 
 
على الحق وأخذوا به، ولأنهم يجتمعون دائمًا على أئمتهم، وعلى الجهاد، وعلى السنة والاتباع، وترك البدع والأهواء والفرق (1) .
وهم أهل الحديث والأثر لشدة عنايتهم بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية واتباعًا، فهم يقدمون الأثر على النظر (2) .
وهم الفرقة الناجية (3) المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» . قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «الجماعة» (4) .
وهم الطائفة المنصورة (5) المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (6) .
__________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/157) ، و"مفهوم أهل السنة والجماعة" (78) .
(2) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/347) ، و"مختصر الصواعق" (499) ، و"أهل السنة والجماعة" (49، 50) .
(3) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/345، 347، 370) .
(4) رواه بهذا اللفظ ابن ماجه في سننه (2/1322) برقم (3992) وهذا الحديث مشهور، وله ألفاظ متعددة، منها ما رواه أبو داود في سننه (4/197، 198) برقم (4596، 4597) ، وابن ماجه في سننه أيضًا (2/1321، 1322) برقم (3991، 3993) ، والترمذي في سننه (5/25، 26) برقم (2640، 2641) ، والحديث صححه ابن تيمية. انظر: "مجموع الفتاوى" (3/345) ، والألباني "السلسلة الصحيحة" (1/256) وما بعدها برقم (203، 204) (3/480) برقم (1492) ، وللاستزادة في معرفة طرق هذا الحديث ورواياته وكلام أهل العلم عليه انظر إضافة إلى المرجعين السابقين: "صفة الغرباء" لسلمان العودة، و"نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق الأمة" لسليم الهلالي، و"درء الارتياب عن حديث: ما أنا عليه اليوم والأصحاب" له أيضًا.
(5) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/159) ، و"أهل السنة والجماعة" (52 – 56) .
(6) رواه مسلم (13/65) ، وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة بألفاظ متعددة. انظر ذلك والكلام على فقه هذا الحديث في: "السلسلة الصحيحة" للألباني (1/478 – 486) ، برقم (270) ، و (4/597 – 604) ، برقم (1955 – 1962) "صفة الغرباء" لسلمان العودة، و"وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق" لجمال بادي (119 – 131) .
(1/18)
 
 
وهم السلف، إذ المراد بالسلف الصحابة رضوان الله عليهم، وتابعوهم، وأتباعهم إلى يوم الدين. وقد يراد بالسلف القرون المفضلة الثلاثة المتقدمة (1) .
ومن خصائص أهل السنة والجماعة:
1- أنه ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها (2) .
2- أنهم "جعلوا الكتاب والسنة إمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم وآرائهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقًا لهما قبلوه وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم له، وإن وجدوه مخالفًا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يكون حقًا وقد يكون باطلاً" (3) .
3- أنه ليس لهم لقب يعرفون به ولا نسبة ينتسبون إليها، كما قال بعض الأئمة وقد سئل عن السنة، فقال: السنة ما لا اسم له سوى السنة. وأهل البدع ينتسبون إلى المقالة تارة، وإلى القائل تارة، وأهل السنة بريئون من هذه النسب كلها وإنما نسبتهم إلى الحديث والسنة (4) .
4- أنهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ديارهم، تجد أن جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها في باب الاعتقاد، على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافًا ولا تفرقًا، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبينُ من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] (5) .
__________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/157) ، و"أهل السنة والجماعة" (51، 52) .
(2) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/157، 347) .
(3) "مختصر الصواعق" (496) .
(4) انظر المصدر السابق (500) .
(5) انظر: "مختصر الصواعق" (497) .
(1/19)
 
 
قال أبو المظفر ابن السمعاني: "وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم فأورثهم التفرق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلما تتفق، بل عقل كل واحدٍ ورأيه وخاطره يُرِي صاحبه غير ما يُرِي الآخر" (1) .
5- أنهم وسط بين الفرق، كما أن أهل الإسلام وسط بين الملل (2) .
 
****
__________
(1) "مختصر الصواعق" (497) .
(2) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/341 – 370) . وللاستزادة انظر: "وسطية أهل السنة بين الفرق" للدكتور محمد باكريم.
(1/20)
 
 
المبحث الثاني: تعريف أصول الفقه وموضوعه ومصادره وفائدته
أولاً: تعريف أصول الفقه:
أصول الفقه باعتباره عَلَمًا ولقبًا على الفن المعروف يمكن تعريفه بأنه: "أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد" (1) .
وقد اشتمل هذا التعريف على ثلاثة من مباحث علم الأصول الأربعة وهي: الأدلة، وطرق الاستنباط، والاجتهاد، وذلك كما يلي:
1- "أدلة الفقه الإجمالية"، وهي: الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها.
2- "كيفية الاستفادة منها"؛ أي: كيفية استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية، والمقصود بذلك طرق الاستنباط، مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم.
3- "حال المستفيد"؛ أي: المجتهد. ويدخل في ذلك مباحث التعارض والترجيح، والفتوى؛ لأنها من خصائص المجتهد، وتدخل مباحث التقليد أيضًا لكون المقلد تابعًا له.
بقي من مباحث علم الأصول رابعها وهو مبحث الأحكام، وهذا المبحث لا يدخل في هذا التعريف باعتبار أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة، فتكون الأحكام بهذا الاعتبار مقدمة من مقدمات علم أصول الفقه غير داخلة في موضوعه.
وعلى كل فإن مباحث هذا العلم أربعة: الأدلة، وطرق الاستنباط، والاجتهاد، والأحكام. وعند التأمل نجد مبحث الأحكام من المباحث الثابتة في هذا العلم، سواء ذكر في التعريف أم لم يذكر، وسواء اعتبر موضوعًا لعلم الأصول أم لم يُعتبر.
__________
(1) انظر: "قواعد الأصول" (21) ، و"شرح الكوكب المنير" (1/44) .
(1/21)
 
 
أما تعريف أصول الفقه باعتباره مركبًا فإن هذا يحتاج إلى تعريف كلمة أصول وكلمة الفقه.
أما الأصول: فإنها جمع أصل، والأصل في اللغة: ما يستند وجود الشيء إليه (1) .
وفي الاصطلاح: يطلق على الدليل غالبًا، كقولهم: "أصل هذه المسألة الكتاب والسنة"؛ أي: دليلها، ويُطلق على غير ذلك، إلا أن هذا الإطلاق هو المراد في علم الأصول (2) .
وأما الفقه في اللغة: فهو الفهم، ويطلق على العلم، وعلى الفطنة (3) .
وفي الاصطلاح: هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية" (4) .
ثانيًا: موضوع أصول الفقه:
هو معرفة الأدلة الشرعية ومراتبها وأحوالها (5) .
ثالثًا: مصادر أصول الفقه:
والمقصود بمصادر أصول الفقه الأدلة والأصول التي بُنيت عليها قواعده، وهي (6) :
أ- استقراء نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
__________
(1) انظر: "المصباح المنير" (16) .
(2) انظر: "شرح الكوكب المنير" (1/39) .
(3) انظر: "مجمل اللغة" (2/703) ، و"أساس البلاغة" (346) ، و"لسان العرب" (13/522، 523) ، و"المصباح المنير" (479) ، و"المعجم الوسيط" (2/698) ، وللاستزادة انظر: بحث التعريف بالفقه للدكتور عمر عبد العزيز، ضمن مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. العدد الأول (155 - 157) .
(4) انظر: "مختصر ابن اللحام" (31) ، و"شرح الكوكب المنير" (1/41) ، و" المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" (58) .
(5) انظر: "مجموع الفتاوى" (20/401) ، و"شرح الكوكب المنير" (1/36) .
(6) انظر (ص 49) من هذا الكتاب للوقوف على أمثلة لذلك من كتاب: الرسالة للإمام الشافعي.
(1/22)
 
 
ب- الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.
ج- إجماع السلف الصالح.
د- قواعد اللغة العربية وشواهدها المنقولة عن العرب.
هـ- الفطرة السوية والعقل السليم.
و اجتهادات أهل العلم واستنباطاتهم وفق الضوابط الشرعية.
رابعًا: فائدة أصول الفقه:
من فوائد علم أصول الفقه:
1- ضبط أصول الاستدلال، وذلك ببيان الأدلة الصحيحة من الزائفة.
2- إيضاح الوجه الصحيح للاستدلال، فليس كل دليل صحيح يكون الاستدلال به صحيحًا.
3- تيسير عملية الاجتهاد وإعطاء الحوادث الجديدة ما يناسبها من الأحكام.
4- بيان ضوابط الفتوى، وشروط المفتي، وآدابه.
5- معرفة الأسباب التي أدت إلى وقوع الخلاف بين العلماء، والتماس الأعذار لهم في ذلك.
6- الدعوة إلى اتباع الدليل حيثما كان، وترك التعصب والتقليد الأعمى.
7- حفظ العقيدة الإسلامية بحماية أصول الاستدلال والرد على شبه المنحرفين.
8- صيانة الفقه الإسلامي من الانفتاح المترتب على وضع مصادر جديدة للتشريع، ومن الجمود المترتب على دعوى إغلاق باب الاجتهاد.
9- ضبط قواعد الحوار والمناظرة، وذلك بالرجوع إلى الأدلة الصحيحة المعتبرة.
10- الوقوف على سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها، والاطلاع على محاسن هذا الدين.
(1/23)
 
 
المبحث الثالث: تاريخ أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
إن علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة مر بثلاث مراحل رئيسية، تتمثل المرحلة الأولى في تدوين الإمام الشافعي لهذا العلم الجليل، وتتجلى المرحلة الثانية في الاتجاه الحديثي لعلم الأصول وذلك على يد إمامين جليلين هما الخطيب البغدادي وابن عبد البر، وفي المرحلة الثالثة برز جانب الإصلاح وتقويم العوج الطارئ على علم الأصول، وكان ذلك على يد الإمامين العظيمين ابن تيمية وابن القيم. وكان لهؤلاء الأئمة الخمسة ولغيرهم من أئمة أهل السنة والجماعة جهود بارزة ومؤلفات عديدة أوضحت المنهج، ورسمت الطريق، وحددت المعالم.
وبالنظر إلى تلك الجهود وهذه المؤلفات نجد أن منها ما هو خاص بأصول الفقه مشتمل على جملة أبحاثه، ومنها ما هو خاص في فن معين غير أصول الفقه، لكنه مشتمل على أبحاث أصولية قلت أو كثرت (1) .
وعند النظر إلى المؤلفات الأصولية الخاصة تبرز لنا أربعة مؤلفات، امتاز كل واحد من هذه المؤلفات بما يستأهل لأجله أن يفرد بدراسة مستقلة، وهذه المؤلفات هي: كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، و "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي، و"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لابن النجار الفتوحي.
فالمقام إذن يقتضي تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: المراحل التي مر بها علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة.
المطلب الثاني: دراسة مستقلة للكتب الأربعة؛ وهي: الرسالة، والفقيه والمتفقه، وروضة الناظر، وشرح الكوكب المنير.
__________
(1) ينظر في ذلك القائمة الخاصة بالأبحاث الأصولية عند أهل السنة والجماعة (548) من هذا الكتاب.
(1/24)
 
 
المطلب الأول: المراحل التي مر بها علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
- المرحلة الأولى:
تبدأ هذه المرحلة بعصر الإمام الشافعي، وتنتهي بنهاية القرن الرابع تقريبًا. وأهم ما يميز هذه المرحلة هو تدوين الإمام الشافعي لعلم أصول الفقه (1) ، وما يتصل بهذا التدوين من ظروف وأحوال.
لقد جاء الشافعي في عصر ظهرت فيه مدرستان، استقامت كل واحدة على منهج واحد معين، وكان الفقهاء إلا قليلاً يسيرون على منهج إحدى المدرستين لا يخالفونه إلى نهج الأخرى، إحدى هاتين المدرستين: مدرسة الحديث وكانت بالمدينة، وشيخها هو مالك بن أنس (2) صاحب الموطأ.
والمدرسة الثانية: مدرسة الرأي، وكانت بالعراق، وشيوخها هم أصحاب أبي حنيفة (3) من بعده.
لقد غلب على مدرسة الحديث جانب الرواية؛ لكون المدينة موطن الصحابة ومكان الوحي، وغلب على مدرسة الرأي جانب الرأي لعدم توافر
__________
(1) انظر ما سيأتي (46) من هذا الكتاب فيما يتعلق بتأليف الشافعي لكتاب الرسالة.
(2) هو: مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام دار الهجرة، أحد أئمة المذاهب المتبوعة، وهو من تابعي التابعين، سمع نافعًا مولي ابن عمر رضي الله عنهما، روى عنه الأوزاعي والثوري وابن عيينة والليث بن سعد والشافعي، وأجمعت الأمة على إمامته وجلالته والإذعان له في الحفظ والتثبيت، له كتاب "الموطأ"، ولد سنة (93هـ) ، وتوفي سنة (179هـ) . انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (2/75) ، و"شذرات الذهب" (1/289) .
(3) هو: النعمان بن ثابت بن كاوس، أبو حنيفة الفقيه الكوفي، إليه ينسب المذهب الحنفي، كان عالمًا عاملاً زاهدًا عابدًا، وكان إمامًا في القياس، عُرف بقوة الحجة، ولد سنة (80هـ) ، وتوفي سنة (150هـ) . انظر: "وفيات الأعيان" (5/405) ، و"الجواهر المضيئة" (1/49) .
(1/25)
 
 
أسباب الرواية لديهم، فقد كثرت الفتن والوضع والوضاعون.
إن كلتا المدرستين تتفق على وجوب الأخذ بالكتاب والسنة وعدم تقديم الرأي على النص.
لقد استطاع الإمام الشافعي الجمع بين هذين المنهجين، والفوز بمحاسن هاتين المدرستين، فاجتمع للشافعي فقه الإمام مالك بالمدينة حيث تلقى عنه، وفقه أبي حنيفة بالعراق إذ تلقاه عن صاحبه محمد بن الحسن (1) ، إضافة إلى فقه أهل الشام وأهل مصر حيث أخذ عن فقهائهما.
يضاف إلى ذلك مدرسة مكة التي تُعني بتفسير القرآن الكريم وأسباب نزوله، ولغة العرب وعاداتهم، إذ تلقى العلم بمكة على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين حتى بلغ منزلة الإفتاء. كما أن الشافعي خرج إلى البادية ولازم هُذيلاً وكانت من أفصح العرب، فتعلم كلامها وأخذ طبعها، وحفظ الكثير من أشعار الهذليين وأخبار العرب.
بهذه المعطيات استطاع الإمام الشافعي أن يضع للفقهاء أصولاً للاستنباط، وقواعد للاستدلال، وضوابط للاجتهاد.
وجعل الفقه مبنيًا على أصول ثابتة لا على طائفة من الفتاوى والأقضية. لقد فتح الشافعي بذلك عين الفقه، وسن الطريق لمن جاء بعده من المجتهدين ليسلكوا مثل ما سلك وليتموا ما بدأ (2) .
هكذا صنف الإمام الشافعي كتاب "الرسالة"، فكان أول كتاب في علم أصول الفقه (3) .
__________
(1) هو: محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صحب أبا حنيفة، وعنه أخذ الفقه، ثم عن أبي يوسف، وروى عن مالك والثوري، وروى عنه ابن معين، وأخذ عنه الشافعي، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة فيمن نشره، وكان فصيحًا بليغًا عالمًا فقيهًا، له كتاب: "السير الكبير"، و"السير الصغير"، و"الآثار"، ولد سنة (132هـ) ، وتوفي سنة (189هـ) . انظر: "تاج التراجم" (237) ، و"شذرات الذهب" (1/321) .
(2) انظر: "الشافعي" لأبي زهرة (354) .
(3) انظر ما سيأتي (ص47) من هذا الكتاب.
(1/26)
 
 
قال الإمام أحمد بن حنبل (1) : "كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي" (2) .
وقال أيضًا: "كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشبع صاحب الحديث من كتب الشافعي" (3) .
وقال أيضًا: "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث" (4) .
وقد اشتمل كتاب "الرسالة" على أكثر مباحث الشافعي الأصولية، لكنه لم يشتمل عليها كلها، بل للشافعي مباحث مستقلة غيرها في الأصول (5) .
فمن ذلك كتاب "جماع العلم" (6) الذي اشتمل على حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها، وحكاية قول من رد خبر الواحد، ومناظرة في الإجماع، وغير ذلك، وقد كان تأليفه له بعد كتاب "الرسالة" (7) ، ومن ذلك كتاب "اختلاف الحديث" (8) فقد ألفه بعد كتاب "جماع العلم" (9) وبين فيه أنواع الاختلاف الوارد في الأحاديث النبوية وبوبه تبويبًا فقهيًا.
وللشافعي أيضًا كتاب"صفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - " (10) ،وكتاب"إبطال الاستحسان" (11) ، أما الكلام على كتاب "الرسالة" فسيأتي لاحقًا، إن شاء الله تعالى (12) .
__________
(1) هو: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله الفقيه المحدث، إليه ينسب المذهب الحنبلي، كان إمامًا في الفقه والحديث والزهد والورع، له كتاب "المسند"، ولد سنة (164هـ) ، وتوفي سنة (241هـ) . انظر: "طبقات الحنابلة" (1/4) ، و"سير أعلام النبلاء" (11/177) .
(2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (1/61) .
(3) انظر المصدر السابق، ومقدمة كتاب "الرسالة" (6) .
(4) انظر المصدرين السابقين.
(5) انظر: "الشافعي" لأبي زهرة " (186) .
(6) طبع هذا الكتاب مستقلاً بتحقيق العلامة أحمد شاكر.
(7) انظر: "جماع العلم" (7، 25، 32) .
(8) طبع هذا الكتاب مستقلاً بتحقيق محمد أحمد عبد العزيز.
(9) انظر: "اختلاف الحديث" (13) .
(10) طبع هذا الكتاب بتحقيق العلامة أحمد شاكر في آخر كتاب "جماع العلم".
(11) طبع هذا الكتاب مستقلاً في رسالة صغيرة بتقديم الشيخ علي بن محمد بن سنان.
(12) انظر (ص46) من هذا الكتاب.
(1/27)
 
 
لقد وضع الشافعي اللبنة الأولى في تدوين علم الأصول، وأوضح معالم هذا الفن وجلَّى صورته.
والإمام الشافعي فيما فعل كان مقتفيًا بأثر من قبله، متبعًا لا مبتدعًا، اعتمد فيه على هدي الكتاب والسنة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم وآثار الأئمة المهتدين، واستفاد -أيضًا- من علم العربية وأخبار الناس، والرأي والقياس، ولعل أهم القضايا الأصولية التي قررها الشافعي وسعى إلى بيانها في آثاره التي بين أيدينا:
1- بيان الأدلة الشرعية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وتوضيح مراتبها.
2- إثبات حجية السنة عمومًا، وتثبيت خبر الواحد خصوصًا، وبيان أنه لا تعارض بين الكتاب والسنة، ولا بين أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- بيان وجوب اتباع سبيل المؤمنين.
4- تحديد ضوابط الأخذ بالرأي، وشروط استعمال القياس.
5- إبطال القول على الله بلا علم، دون حجة أو برهان.
6- التنبيه على أن القرآن نزل بلغة العرب، وأن فيه عددًا من الوجوه الموجودة في اللسان العربي.
7- بيان الأوامر والنواهي.
8- ذكر الناسخ والمنسوخ.
هذا فيما يتعلق بجهود الإمام الشافعي وآثاره.
ثم تتابعت بعد بذلك جهود علماء أهل السنة، وكانت معظم هذه الجهود في هذه المرحلة الزمنية تتركز على الاعتصام بالكتاب والسنة.
فمن ذلك:
"رسالة الإمام أحمد في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (1) ، وكتاب "أخبار الآحاد"، وكتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، كلاهما من الجامع الصحيح للإمام
__________
(1) انظر: "مسائل الإمام أحمد" برواية ابنه عبد الله (3/1355 - 1361) ، و"إعلام الموقعين" (2/290 - 293) .
(1/28)
 
 
البخاري (1) ، وما صنفه خطيب أهل السنة الإمام ابن قتيبة (2) : كتاب "تأويل مشكل القرآن" (3) وكتاب "تأويل مختلف الحديث" (4) .
وغير ذلك مما كتبه أئمة السلف (5) في كتب العقائد والرد على الفرق الضالة حيث قرروا وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وأقاموا لهذا الأصل العظيم الأدلة والشواهد الشرعية.
وخلاصة القول:
أنه قد تم في هذه المرحلة تدوين علم أصول الفقه، وذلك على يد الإمام الشافعي الذي كان أهلاً للقيام بهذا الدور العظيم لما اجتمع فيه من علم الكتاب والسنة، وفقه الاستنباط، وعلم اللغة، إضافة إلى ما أوتي من عقل وذكاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم بعد ذلك جاءت جهود العلماء متممة لما بدأه الشافعي، خاصة فيما يتعلق بوجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، فكانت هذه الجهود وتلك بمثابة الخطوط العريضة لمنهج أهل السنة والجماعة، والقواعد العامة لطريقتهم في أصول الفقه، وكان لهذه المرحلة الزمنية الأثر البليغ والتأثير العظيم في جهود العلماء اللاحقة، كما سيظهر ذلك جليًا في المرحلة الثانية والثالثة.
__________
(1) هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، أبو عبد الله، الإمام صاحب الصحيح، أمير المؤمنين في الحديث، كان من أوعية العلم يتقد ذكاءً، أجمع الناس على صحة كتابه "الصحيح"، ولد سنة (194هـ) ، وتوفي سنة (256هـ) . انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 67) ، و"شذرات الذهب" (2/134) .
(2) هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، الإمام النحوي اللغوي، كان فاضلاً ثقة، يلقب بخطيب أهل السنة، له كتاب: "المعارف"، و"أدب الكاتب"، و"تأويل مشكل القرآن"، و"تأويل مختلف الحديث"، توفي سنة (276هـ) . انظر: "تاريخ بغداد" (10/170) ، و"شذرات الذهب" (2/168) .
(3) طبع هذا الكتاب في مجلد واحد، شرحه ونشره السيد أحمد صقر.
(4) طبع هذا الكتاب في مجلد واحد، بتصحيح وتنقيح إسماعيل الخطيب.
(5) من ذلك كتاب "الشريعة" للإمام الآجري، المتوفى سنة (360هـ) ، وكتاب "الإبانة الكبرى" للإمام ابن بطة العكبري، المتوفي سنة (387هـ) ، وكتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي، المتوفي سنة (418هـ) وانظر للاستزادة ما سيأتي في (ص 554) برقم (29) من هذا الكتاب.
(1/29)
 
 
- المرحلة الثانية:
تبدأ هذه المرحلة من أوائل القرن الخامس، وحتى نهاية القرن السابع على وجه التقريب، وقد برز في هذه المرحلة إمامان:
إمام أهل السنة في المشرق الخطيب البغدادي، صاحب كتاب "تاريخ بغداد".
وإمام أهل السنة في المغرب أبو عمر بن عبد البر (1) ، صاحب كتاب "التمهيد".
أما حافظ بغداد فقد صنف في أصول الفقه كتاب "الفقيه والمتفقه" الذي جعله نصيحة لأهل الحديث، ويُعد هذا الكتاب امتدادًا لكتاب الرسالة للشافعي، ثم إنه أضاف فيه قضايا جدلية ومباحث متعلقة بأدب الفقه، وسيأتي الكلام لاحقًا على هذا الكتاب (2) .
وأما حافظ الأندلس فقد صنف كتاب "جامع بيان العلم وفضله" استجابة لمن سأله عن معنى العلم، وعن تثبيت الحجاج بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم، وتحريم الحكم بغير حجة، وما الذي أجيز من الاحتجاج والجدل، وما الذي كره منه؟ وما الذي ذم من الرأي، وما حُمد منه؟ وما يجوز من التقليد، وما حرم منه؟ (3) فأجابه الشيخ إلى ما سأل قائلاً:
"ورغبتُ أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم وما يلزم العالم والمتعلم التخلق به والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب، وما حُمد ومُدح فيه من الاجتهاد والنصب إلى سائر أنواع آداب التعلم والتعليم وفضل ذلك، وتلخيصه
__________
(1) هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما، كان موفقًا في التأليف معانًا عليه ونفع الله به، له كتاب: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، و"الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار"، و"الاستيعاب في أسماء الأصحاب"، توفي سنة (463هـ) . انظر: "الديباج المذهب" (357) ، و"شذرات الذهب" (3/314) .
(2) انظر (51) من هذا الكتاب.
(3) انظر: "جامع بيان العلم وفضله" (1/3) .
(1/30)
 
 
بابًا بابًا مما روي عن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين لتتبع هديهم، وتسلك سبيلهم وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك مجتمعين أو مختلفين في المعنى منه، فأجبتك إلى ما رغبت ... " (1) .
ومما مضى تبين أن الكتاب يبحث في موضوعين:
الأول: في فضل العلم وآداب أهله.
والثاني: في مباحث أصولية.
استغرق الموضوع الأول نصف الكتاب الأول تقريبًا.
وكان من أبرز المباحث الأصولية التي تكلم عليها في النصف الآخر من الكتاب.
* أصول العلم: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
* ما جاء في أن العلم هو ما كان مأخوذًا عن الصحابة، وما لم يؤخذ عنهم فليس بعلم.
* الاجتهاد والقياس.
* التقليد والاتباع.
* الفتوى.
* موضع السنة من الكتاب وبيانها له.
ويلاحظ: استفادة ابن عبد البر من مروياته الحديثية، ومن النقل عن أئمة المالكية (2) ، وحرصه على نقل ما عليه سلف الأمة، وهو يعقب -في الغالب- على ما يروي من آثار وأحاديث وعلى ما ينقل بقوله: "قال أبو عمر"، أو "قلت" (3) .
__________
(1) انظر: "جامع بيان العلم وفضله" (1/3)
(2) كالإمام مالك وأشهب وابن القاسم وابن وهب. انظر مثلاً (2/72، 73، 81، 88، 95) .
(3) وقد يسر الله جمع آراء ابن عبد البر الأصولية في رسالة علمية قدمها الباحث العربي بن محمد فتوح بعنوان: "أصول الفقه عند ابن عبد البر جمعًا وتوثيقًا ودراسة"، حصل بها على درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة (1411هـ) .
(1/31)
 
 
وقد نقل ابن عبد البر من كتب الشافعي في مواضع (1) ، وعن محمد بن الحسن في مواضع (2) .
وفي الجملة فإن هذا الكتاب مليء بالآثار والنقول المسندة عن عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم، ومشتمل على أقوال ثلة من أهل العلم المتقدمين. والكتاب بحاجة إلى دراسة حديثية لآثاره وأسانيده (3) ، وتنظيم طباعي، وتحقيق علمي لمباحثه الأصولية، ومقدمة دراسية عن المؤلف وكتابه، وفهارس دقيقة متنوعة.
وقد ظهر في هذه المرحلة أيضًا كتابان:
الأول: كتاب "تقويم الأدلة" لأبي زيد الدبوسي (4) .
والثاني: كتاب "المستصفى" للإمام الغزالي (5) .
وكلا هذين الكتابين يمثل اتجاهًا مستقلاً في أصول الفقه.
فالأول يقول عنه ابن خلدون (6) : "أما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيرًا،
__________
(1) انظر مثلاً (2/61، 72، 73، 74، 82) وقد نقل في مواضع عن المزني. انظر (2/83، 89) .
(2) انظر مثلاً (2/26، 61) .
(3) صدرت مؤخرًا طبعة جديدة بتحقيق أبي الأشبال الزهيري.
(4) هو: عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي، أبو زيد، كان أحد من يضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج، وهو أول من أبرز علم الخلاف إلى الوجود، له كتاب: "الأسرار"، و"تقويم الأدلة"، و"الأمد الأقصى"، توفي سنة (430هـ) . انظر: "تاج التراجم" (192) ، و"شذرات الذهب" (3/345) .
(5) هو: محمد بن محمد بن محمد الطوسي، أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام وأعجوبة الزمان، صاحب التصانيف والذكاء المفرط، شيخ الشافعية، برع في علوم كثيرة، له كتاب: "إحياء علوم الدين"، و"المنخول"، و"البسيط"، و"الوسيط"، و"الوجيز"، توفي سنة (505هـ) . انظر: "سير أعلام النبلاء" (19/322) ، و"الأعلام (7/22) .
(6) هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن الحضرمي الأشبيلي المالكي، ولي الدين أبو زيد، ولي قضاء المالكية بالقاهرة ثم عزل، عالم أديب مؤرخ، له كتاب: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" المعروف بتاريخ ابن خلدون، وله "لباب المحصل في أصول الدين"، توفي سنة (808هـ) . انظر: "شذرات الذهب" (7/76) ، و"معجم المؤلفين" (5/188) .
(1/32)
 
 
وكان من أحسن كتابة فيها للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي" (1) .
وقال أيضًا: "وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم -أي الحنفية- فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه. وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده" (2) .
وأما الثاني وهو كتاب "المستصفى" فإنه يعتبر واسطة العقد في كتب المتكلمين الأصولية، فهو جامع لما سبقه من مؤلفات أصولية، وما بعده لا يخلو من الاستفادة منه، وبه اكتملت أركان علم الأصول، وفيه نضجت مباحثه وتمت مسائله (3) .
وقد أحسن أهل السنة التعامل مع هذين الكتابين المهمين، والاستفادة مما فيهما.
أما كتاب "تقويم الأدلة" للدبوسي فقد تصدى له أبو المظفر ابن السمعاني (4) في كتابه "قواطع الأدلة" (5) .
قال أبو المظفر في مقدمة هذا الكتاب:
"وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب وتصانيف غيرهم، فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهرٍ من الكلام، ورائقٍ من العبارة، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه.
__________
(1) مقدمة "ابن خلدون" (361) .
(2) المصدر السابق.
(3) انظر ما سيأتي (ص54، 55) من هذا الكتاب.
(4) هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد، أبو المظفر السمعاني التميمي، الحنفي ثم الشافعي، من أعلام أهل السنة في عصره، له كتاب "التفسير"، وله في أصول الفقه كتاب "قواطع الأدلة" وله في الفقه كتاب "الاصطلام"، توفي سنة (489هـ) . انظر "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (4/21) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (1/273) .
(5) كتاب "قواطع الأدلة" قام بتحقيق بعضه الدكتور عبد الله الحكمي سنة (1407هـ) في مرحلة الدكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم طبع الكتاب كاملاً ونشر سنة (1419هـ) بتحقيق د. عبد الله الحكمي، ود. علي عباس الحكمي، وذلك في خمسة مجلدات.
(1/33)
 
 
ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل، غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير....
فاستخرت الله تعالى عند ذلك، وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه؛ أسلك فيه محض طريقة الفقهاء، من غير زيغ عنه ولا حيد ولا جنف ولا ميل، ولا أرضي بظاهر من الكلام، ومتكلف من العبارة، يهول على السامعين، ويسبي قلوب الأغتام (1) الجاهلين، لكن أقصد لباب اللب، وصفو الفطنة، وزبدة الفهم، وأنص على المعتمد عليه في كل مسألة، وأذكر من شبه المخالفين بما عوّلوا عليه.
وأخص ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" بالإيراد، وأتكلم عليه بما تزاح معه الشبهة، وينحل به الإشكال، بعون الله تعالى.
وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع عنها لتكون عونًا للناظر ... " (2) .
وقد استفاد أبو المظفر من أبي زيد الدبوسي ونقل عنه عددًا من المباحث، وأورد عليه ورد عليه في مباحث أخرى (3) .
وكتاب "القواطع" امتاز بتوسطه بين طريقتين: طريقة الفقهاء، وطريقة المتكلمين.
فهو لم يجرد كتابه عن الفروع الفقهية، بل أورد فيه عددًا من المسائل الفقهية، كما أنه حرر المسائل وأصل القواعد على أدلة الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة، وقد أكثر من النقل عن الإمام الشافعي خاصة (4) ، وعن غيره من أئمة أهل السنة.
__________
(1) الأغتام: جمع أغتم، وهو الذي لا يفصح في كلامه. انظر: "لسان العرب" (12/433) .
(2) "قواطع الدلة" (1/5 – 8) .
(3) انظر مقدمة محقق القواطع: (1/73) .
(4) انظر فهرس كتاب القواطع: (5/414 – 415) .
(1/34)
 
 
وقال ابن السبكي (1) عن هذا الكتاب:
"ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب "القواطع" ولا أجمع، كما لا أعرف فيه أجل ولا أفحل من برهان إمام الحرمين (2) . فبينهما في الحسن عموم وخصوص" (3) .
أما كتاب "المستصفى" للغزالي فقد قام باختصاره وتهذيبه الإمام الموفق ابن قدامة وذلك في كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر"، وسيأتي الكلام على ذلك لاحقًا (4) .
وخلاصة القول:
أن هذه المرحلة اتسمت بغزارة المادة الأصولية المبنية على الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وذلك يمثله بوضوح كتاب ابن عبد البر وكتاب الخطيب البغدادي، كما أن هذه المرحلة تميزت بالاتجاه الحديثي المتمثل بذكر المرويات بأسانيدها، ولم يكن هذا الاتجاه قاصرًا على الرواية والتحديث بل انضم إلى ذلك الاستنباط والفهم، وإثبات القياس والاجتهاد، والدعوة إلى إعمال الرأي في حدود الشرع، والتحذير من التسرع في الفتيا وإصدار الأحكام، والتنبيه على فضل العلم وأدب أهله.
وكانت هذه المرحلة امتدادًا للمرحلة السابقة التي تمثلت في كتاب "الرسالة" للشافعي، فقد استفاد ابن عبد البر، والخطيب والبغدادي وابن السمعاني، استفادة مباشرة واضحة من آثار الشافعي. أما كتاب "الروضة" لابن قدامة فإنه يمثل نقلة
__________
(1) هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، تاج الدين أبو النصر، اشتغل بالقضاء، له مصنفات منها: "الإبهاج" وقد أكمله بعد أبيه، و"جمع الجوامع"، و"طبقات الشافعية الكبرى"، و"الوسطى"، و"الصغرى"، توفي سنة (771هـ) . انظر: "شذرات الذهب" (6/221) ، و"معجم المؤلفين" (6/225) .
(2) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني، أبو المعالي الملقب بإمام الحرمين، إذ جاور بمكة أربع سنين وبالمدينة، شيخ الشافعية في زمانه المجمع على إمامته وغزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، من تصانيفه: "الشامل"، و"التلخيص لكتاب التقريب للباقلاني"، توفي سنة (478هـ) . انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/468) ، و"طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (3/249) .
(3) "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (4/24، 25) .
(4) انظر ما سيأتي (ص 54) من هذا الكتاب.
(1/35)
 
 
جديدة تتجلى في التأثر بمنهج المتكلمين مع المحافظة على التصور السلفي إجمالاً، ولعل السبب في ذلك هو كثرة كتب المتكلمين الأصوليين (1) في تلك الفترة وانتشارها مع إتقان ترتيبها وحسن عرضها (2) .
- المرحلة الثالثة:
بداية هذه المرحلة هي بداية القرن الثامن وتنتهي بنهاية القرن العاشر تقريبًا، وقد برز في هذه المرحلة - في أوائلها - إمامان جليلان، حفظ الله بهما منهج أهل السنة والجماعة، وجدد الله بهما هذا الدين.
إنهما شيخ الإسلام ابن تيمية (3) ، وتلميذه ابن قيم الجوزية (4) .
وقد وافق عصر هذين الإمامين اتساع جهود المتكلمين الأصولية (5) فقد
__________
(1) مثل كتب الباقلاني، والجويني، والغزالي، والرازي. وظهرت أيضًا كتب المعتزلة كالقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري.
(2) ومن جهة أخرى فقد استفاد ابن قدامة من كتب الحنابلة المتقدمين: كـ"العدة" للقاضي أبي يعلى، و"التمهيد" لأبي الخطاب، و"الواضح" لابن عقيل. وقد بدأ جليًا تأثر هؤلاء بالمتكلمين واستفادتهم منهم.
(3) هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ثم الدمشقي، تقي الدين أبو العباس، تفقه في مذهب الإمام أحمد وبرع في التفسير والحديث، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وأتقن العربية ونظر في العقليات وأقوال المتكلمين ورد عليهم ونصر السنة، وأوذي في ذات الله واعتقل وسجن، له تصانيف كثيرة منها: "منهاج السنة النبوية"، و"الاستقامة"، و"درء تعارض العقل والنقل"، توفي سنة (728هـ) . انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/387) ، و"شذرات الذهب" (6/80) .
(4) هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ثم الدمشقي، شمس الدين أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، تفقه في مذهب الإمام أحمد وبرع وأفتى، لازم ابن تيمية وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وله في كل فن اليد الطولى، وكان ذا عبادة وتهجد، وقد امتحن وأوذي مرات، وصنف تصانيف كثيرة منها: "زاد المعاد في هدي خير العباد"، و"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، توفي سنة (751هـ) . انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/447) ، و"معجم المؤلفين" (9/106) .
(5) لم يقتصر الأمر على جانب أصول الفقه، بل إن منهج المتكلمين قد شاع وذاع في مباحث العقيدة أيضًا، وقد تصدى هذان الإمامان للرد عليهم، فمن ذلك "بيان تلبيس الجهمية" لابن تيمية، و"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم، وغير ذلك.
(1/36)
 
 
توافرت كتبهم، المختصرات منها والمطولات، وتداول الناس هذه الكتب، وعمت مطالعتها ودراستها (1) ، ويمكن تلخيص دور هذين الإمامين إزاء هذا التيار في جانبين:
الجانب الأول: تأصيل قواعد أهل السنة والجماعة، وتثبيت دعائم منهج السلف الصالح بالحجة البالغة والبرهان الساطع، والرجوع في كل ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما دل عليه العقل الصريح والفطرة السليمة، وما ورد عن الصحابة والتابعين، وعدم الالتفات إلى مناهج المناطقة ومسالك الفلاسفة.
إن القضايا والمطالب التي اشتغل ابن تيمية بإظهارها وبيانها أو ابن القيم، إنما هي قضايا كلية ومطالب أساسية، عليها تبني مسائل كثيرة وفروع عديدة.
فمن الأمثلة على ذلك (2) :
أ- وجوب اتباع الكتاب والسنة اتباعًا عامًا، وأنه لا تجوز معارضتهما برأي أو عمل أو ذوق أو غير ذلك، بل يجب أن يجعلا هما الأصل، فما وافقهما قبل، وما خالفهما رد.
ب- أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة أصول معصومة، تهدي إلى الحق، لا يقع بينها التعارض، وأن القياس الصحيح موافق للنص أيضًا.
جـ- أن للعلماء في اجتهاداتهم أسبابًا وأعذارًا، والواجب في المسائل الاجتهادية بيان الحق بالعلم والعدل.
د- أن أحكام الشريعة مشروطة بالقدرة والاستطاعة إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
هـ- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتم بيان هذا الدين، فالدين كامل والنصوص محيطة بأفعال المكلفين، وأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة للثقلين وهي ضرورية للخلق.
الجانب الثاني: الرد على الباطل وكشف زيفه، وبيان بطلانه، وذلك بعد
__________
(1) من هذه الكتب: "المحصول" للرازي، و"الإحكام" للآمدي، و"مختصر ابن الحاجب"، و"المنهاج" للبيضاوي. انظر: "مقدمة ابن خلدون" (361) .
(2) انظر هذه الأمثلة وغيرها فيما يأتي (ص 530- 547) من هذا الكتاب.
(1/37)
 
 
الوقوف على مآخذه لدي أهله؛ لمقارعة الحجة بالحجة.
كل ذلك بأدلة المنقول والمعقول، مع النصيحة والبيان، فكان هذا الصنيع تصحيحًا للخطأ وتقويمًا للاعوجاج، وتوضيحًا للحق ودعوة إليه، وفضحًا للباطل وتحذيرًا منه.
ومن الأمثلة على ذلك (1) :
أ- مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وبيان طرفي الانحراف في هذه المسألة.
ب- جناية التأويل وخطورته، وبيان الصحيح منه والباطل.
جـ- الرد على من زعم أن النصوص تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وذكر الأدلة على ذلك.
د- درء التعارض بين العقل والنقل، وإقامة الأدلة والشواهد على ذلك.
إن جهود ابن تيمية وابن القيم وآثارهما الجليلة امتداد لآثار من سبقهم من أئمة أهل السنة والجماعة، فقد استفاد هذان الإمامان من جهود ابن عبد البر، والخطيب البغدادي، وابن السمعاني، ومن قبلهم الإمام الشافعي وغير هؤلاء من الأئمة. يضاف إلى ذلك أن جهود هذين الإمامين تمثل دراسة تقويمية لكتب المتكلمين الأصولية، ونقدًا لقواعد المتكلمين ومناهجهم، وبيانًا لما لها وعليها انطلاقًا من منهج السلف الصالح.
وإذا أردنا الوقوف على آثار هذين الإمامين في أصول الفقه فإنه من الصعوبة الإحاطة بهذه الآثار على وجه الدقة، ذلك لضخامة تراثهم وسعة امتداده من جهة، ومن جهة أخرى فإن تآليفهما تتصف بالاستطراد والتشعب، فما أن يبتدئ الواحد منهما بموضوع حتى يفرع الكلام على غيره، وهذا يجره إلى غيره وهكذا، ولعل صفة الاستطراد عند ابن تيمية أظهر وأقوى منها بالنسبة إلى ابن القيم.
لذا حَسُنَ جَمْعُ ما لهذين الإمامين من أبحاث أصولية في قائمتين خاصتين (2) .
__________
(1) انظر هذه الأمثلة وغيرها فيما يأتي (ص 530- 547) من هذا الكتاب.
(2) انظر ما سيأتي (ص530- 547) من هذا الكتاب.
(1/38)
 
 
وفي هذا المقام يمكن الإشارة إلى كتابين مستقلين في أصول الفقه لهذين الإمامين، الأول كتاب "المسودة" لآل تيمية، والثاني كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، على أن الأخير من هذين الكتابين ليس خاصًا في أصول الفقه إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول.
أما كتاب "المسودة" فإنه في الأصل نقول (1) جمعها مجد الدين عبد السلام (2) بن تيمية الحراني، جد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، وتركها دون أن يبيضها، فعلق على بعضها ابنه شهاب الدين عبد الحليم (3) ، والد شيخ الإسلام، وتركها أيضًا مسودة دون أن يبيضها، ثم جاء شيخ الإسلام أحمد بن تيمية فعلق على بعضها وتركها أيضًا مسودة دون أن يبيضها، ثم قيض الله لهذه المسودات أحد تلاميذ (4) شيخ الإسلام فجمعها ورتبها وبيضها وميز بعضها عن بعض، فما كان لشيخه قال فيه: "قال شيخنا"، وما كان لوالد شيخه قال فيه: "قال والد شيخنا"، وما كان لصاحب الأصل مجد الدين تركه مهملاً (5) .
والكتاب ضم جملة من النقول عن أئمة الحنابلة الأصوليين، وهذا هو الغالب فيه، لذا فهو مجمع لكثير من أقوال الحنابلة، ومرجع لتحرير مذهب الإمام
__________
(1) هذه النقول عن القاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم من الحنابلة المتقدمين.
(2) هو: عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية، أبو البركات الحراني، مجد الدين، الفقيه الحنبلي، والمحدث والمفسر والأصولي، له كتاب "منتقى الأخبار" في أحاديث الأحكام، وكتاب "الأحكام الكبرى"، و"المسودة"، توفي سنة (652هـ) . انظر: "البداية والنهاية" (13/198) ، "ذيل طبقات الحنابلة" (2/249) .
(3) هو: عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، ابن تيمية الحراني، شهاب الدين أبو المحاسن، ابن المجد، أتقن المذهب الحنبلي ودرس وأفتى، وكان إمامًا محققًا، وله يد طولى في الفرائض والحساب، قيل عنه: كان من أنجم الهدى، وإنما اختفى من نور القمر وضوء الشمس، إشارة إلى أبيه وابنه، توفي سنة (682هـ) . انظر: "شذرات الذهب" (5/376) .
(4) هو: أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الحراني ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي، شهاب الدين، أبو العباس، توفي سنة (745هـ) . انظر: "شذرات الذهب" (6/142) .
(5) انظر: مقدمة كتاب "المسودة" (6، 7) .
(1/39)
 
 
أحمد في عدد من المسائل الأصولية. والكتاب بحاجة إلى تنقيح وتهذيب لوجود تكرار في بعض مباحثه، وإلى ترتيب، إذ هو عبارة عن مسائل وفصول لا يجمعها باب ولا يضمها عنوان، فالكتاب إذن يحتاج إلى فهرسة دقيقة، إضافة إلى أن الكتاب لا يطمأن إليه في نسبة ما فيه إلى مؤلفيه؛ إذ تركوه دون تحرير ولا تحقيق فهو مسودة (1) .
أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذكر فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها، فمن هذه المباحث (2) :
* القياس.
* الاستصحاب.
* التقليد.
* الزيادة على النص.
* قول الصحابي.
* الفتوى.
* دلالة الألفاظ على الظاهر.
* سد الذرائع وتحريم الحيل.
* ليس في الشريعة ما يخالف القياس.
وهناك مباحث أخرى نفيسة ازدان بها هذا الكتاب، فمن ذلك:
* ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
* شرح خطاب عمر - رضي الله عنه - في القضاء.
* أنواع الرأي المحمود والمذموم.
__________
(1) كتاب "المسودة" في أصول الفقه طبع في مجلد واحد بتحقيق وتعليق الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، وذكر في مقدمته لهذا الكتاب أنه يمتاز بالعناية بتحرير محل النزاع، وببيان أصحاب الأقوال في المسائل المختلف فيها بيانًا مستقصيًا، وقد حقق الكتاب الدكتور أحمد الذروي من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في مرحلة الدكتوراه سنة (1405هـ) ، ثم نشر بتحقيقه سنة (1422هـ) .
(2) انظر فيما يتعلق بهذه المباحث وغيرها ما سيأتي (ص 529- 547) من هذا الكتاب.
(1/40)
 
 
* مسائل في الطلاق والإيمان.
* فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة وفي الأبواب الفقهية.
* أمثلة على الحيل المباحة والباطلة.
* أمثلة على رد المحكم بالمتشابه.
* أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن.
وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية (1) ، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة (2) ، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامع لكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين (3) ، وفيه نقول مطولة مهمة عن بعض الأئمة (4) .
فهو بذلك غاية في منهج أهل السنة والجماعة وعمدة في بيان طريقة السلف، والكتاب يحتاج إلى تخريج آثاره وفهرسة مباحثه ومطالبه، وحقيق بدراسة تبرز محاسنه وتفصح عن منهج مؤلفه ومصادره فيه ومقاصده منه (5) .
وفي هذه المرحلة أيضًا ظهرت لبعض علماء أهل السنة مؤلفات أصولية إلا أنها على وجه العموم تأثرت بمنهج المتكلمين جملة.
وهذا التأثر يختلف من كتاب إلى آخر.
وفي المقابل فقد حافظت هذه المؤلفات في الجملة على منهج السلف، وهذه المحافظة أيضًا تختلف من كتاب إلى آخر.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: "الأمثلة على رد السنن بظاهر القرآن" (2/321 - 329) ، و"الأمثلة على رد المحكم بالمتشابه" (2/330، 425) .
(2) مثال ذلك ما ذكره فيما يتعلق بما قيل فيه: إن الشارع جمع بين المختلفين أو فرق بين المتماثلين في الحكم، وفيما يتعلق بما قيل فيه من الأحكام: إنه يجري على خلاف القياس. انظر (2/71، 175، 2/3، 70)
(3) انظر مثلاً الأدلة التي أوردها من فعل الصحابة وغيرهم على حجية القياس (1/202- 217) .
(4) وذلك كرسالة الإمام الليث إلى الإمام مالك (3/83 - 88) ، ورسالة الإمام أحمد في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2/290 - 293) .
(5) صدرت مؤخرًا طبعة بتحقيق الشيخ مشهور آل سلمان في سبعة مجلدات.
(1/41)
 
 
ولعل مدى التأثر بمنهج المتكلمين ومقدار المحافظة على منهج السلف في هذه المؤلفات، يظهر بما سيأتي بيانه فيما يتعلق بالكلام على كتاب "الروضة" لابن قدامة (1) ، وكتاب "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (2) .
فمن هذه المؤلفات (3) :
1- "قواعد الأصول ومعاقد الفصول" للإمام صفي الدين عبد المؤمن الحنبلي، المتوفي سنة (739هـ) ، وهو مطبوع.
2- "أصول الفقه" للإمام شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، المتوفي سنة (763هـ) ، وهو مطبوع.
3- "المختصر في أصول الفقه" للإمام علاء الدين ابن اللحام البعلي الحنبلي (4) ، المتوفي سنة (803هـ) ، وهو مطبوع.
4- "شرح مختصر ابن اللحام في أصول الفقه" للإمام تقي الدين أبي بكر بن زيد الجراعي الحنبلي، المتوفي سنة (883هـ) ، وهو غير مطبوع.
5- "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للإمام علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي، المتوفي سنة (885هـ) ، وهو غير مطبوع.
6- "التحبير شرح التحرير" له أيضًا، وهو مطبوع.
7- "مختصر التحرير" للإمام تقي الدين محمد بن أحمد، ابن النجار الفتوحي الحنبلي، المتوفي سنة (972هـ) ، وهو مطبوع.
8- "شرح مختصر التحرير" المشتهر بـ"شرح الكوكب المنير" له أيضًا، وهو مطبوع.
__________
(1) انظر (ص54) من هذا الكتاب.
(2) انظر (ص59) من هذا الكتاب.
(3) سيأتي الكلام باختصار على هذه المؤلفات عند الكلام على كتاب "الروضة" لابن قدامة (ص54) ، وكتاب "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص59) .
(4) ولابن اللحام أيضًا كتاب "القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية"، ذكر فيه ستا وستين (66) قاعدة، أردف كل قاعدة بمسائل تتعلق بها من الأحكام الفرعية، وتخلل ذلك بعض التنبيهات والفوائد، طبع الكتاب بتحقيق وتصحيح الشيخ محمد حامد الفقي في مجلد واحد، ثم طبع محققًا من رسالتين علميتين.
(1/42)
 
 
والملاحظ على هذه الكتب:
أن جميعها لعلماء حنبليين وأن بعضها شرح لبعض:
فـ"مختصر ابن اللحام" شرحه الجراعي، و"التحرير" للمرداوي اختصره الفتوحي، ثم شرح المختصر.
وأن آخرها وقتًا وأوسطها حجمًا كتاب "شرح الكوكب المنير" لذا فقد اجتمعت هذه الكتب في هذا الكتاب وعادت إليه، فأمكن بهذا الاعتبار أن يجعل ختامًا لهذه المرحلة، ولذلك حسن إفراد هذا الكتاب بالدراسة كما سيأتي لاحقًا إن شاء الله (1) .
وبذلك يُسدل الستار على هذه المرحلة الزمنية، والتي قصر الكلام فيها على الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم وعلى بعض علماء الحنابلة.
- وخلاصة القول:
أن هذه المرحلة تميزت بجهد علمي جليل قام على ركيزتين:
الأولى: إيضاح وإبراز القواعد الأصولية على منهج السلف الصالح.
والثانية: توجيه النقد وتصحيح الخلل لدي المتكلمين في قواعدهم الأصولية، وقد تم هذا الجهد المشكور على يد الإمام ابن تيمية، ومن بعده ابن القيم، وقد بني هذان الإمامان ذلكم الجهد على تلكم الثروة العلمية التي تركها للأمة الإمام الشافعي ومن سار على نهجه من بعده.
ويضاف إلى ذلك ظهور مؤلفات لبعض علماء الحنابلة كابن اللحام، والمرداوي، والفتوحي، وكأن هذه المؤلفات امتداد لكتاب الروضة لابن قدامة الذي كان نقلة جديدة ظهر فيها بوضوح التأثر بمنهج المتكلمين، إلا أن المؤلفات في هذه المرحلة استجابت ولا شك، واستفادت ولا ريب من جهود ابن تيمية وابن القيم فظهر تأثر هذه المؤلفات -مع التفاوت في ذلك- بما قرره هذان الإمامان وبيناه جليًا واضحًا.
__________
(1) انظر (ص59) من هذا الكتاب.
(1/43)
 
 
هذه هي المراحل التي مرت بها المسيرة المباركة لأهل السنة والجماعة في أصول الفقه، وقد ظهرت بعد ذلك مؤلفات أخرى لبعض أئمة أهل السنة، إلا أن هذه المؤلفات ترجع في الجملة إلى المراحل التي سبقتها.
فمن هذه المؤلفات:
1- "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (1) ، للشيخ عبد القادر بن بدران الدومي الدمشقي، المتوفي سنة (1346هـ) .
2- "نزهة الخاطر العاطر" (2) شرح كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر"، له أيضًا.
3- "رسالة لطيفة في أصول الفقه" (3) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (4) ، المتوفي سنة (1376هـ) .
__________
(1) هذا الكتاب ضمنه مؤلفه جل ما يحتاج إلى معرفته المشتغل بمذهب الإمام أحمد، وذكر فيه العقائد المنقولة عن الإمام أحمد، والسبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره، وذكر فيه أيضًا أصول مذهب الإمام أحمد، ومسلك كبار أصحابه في ترتيب مذهبه واستنباطه من فتياه، وذكر أصول الفقه عند الحنابلة واستمده من "الروضة" لابن قدامة، ومن "مختصر الطوفي وشرحه"، ومن "التحرير" للمرداوي، ومن مختصره وشرحه للفتوحي، ومن "مختصر ابن الحاجب وشرحه" للإيجي، ورجع إلى كتب أصولية أخرى، وذكر أيضًا في هذا الكتاب مصطلحات الفقه الحنبلي والكتب المشهورة فيه، وقد طبع الكتاب في مجلد واحد، ثم قام بتحقيقه الدكتور عبد الله التركي، وذلك في مجلد واحد أيضًا.
(2) سيأتي الكلام عليه تعليقًا في (ص58) من هذا الكتاب.
(3) تقع هذه الرسالة في اثنتي عشرة صفحة، تكلم فيها المؤلف على رءوس المسائل الأصولية بألفاظ سهلة وأسلوب ميسر، وزاد على ذلك الإشارة إلى بعض القواعد الفقهية، وقد طبعت هذه الرسالة مرارًا ضمن مجموعة كتب للشيخ.
(4) هو: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر آل سعدي، من قبيلة تميم، نشأ في بلاد القصيم، ودرس على علماء الحنابلة هناك، وكان ذا معرفة تامة في الفقه، وكان مشتغلاً بكتب ابن تيمية وابن القيم واستفاد من ذلك خيرًا كثيرًا، له كتاب "تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان"، و"القول السديد في مقاصد التوحيد"، توفي سنة (1376هـ) . انظر: مقدمة كتاب "تيسير الكريم الرحمن".
(1/44)
 
 
4- "وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول"، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي (1) ، المتوفي سنة (1377هـ) .
5- "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر" (2) ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، المتوفي سنة (1393هـ) .
 
****
__________
(1) هو: حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، من أعلام منطقة الجنوب بالمملكة العربية السعودية، كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم، اشتغل ببعض كتب الفقه والحديث والتفسير والتوحيد مطالعة وحفظًا، له منظومة في التوحيد وهي "سلم الوصول إلى علم الأصول" ثم شرحها في كتابه "معارج القبول"، توفي سنة (1377هـ) . انظر: مقدمة كتابه "معارج القبول".
(2) سيأتي الكلام عليه تعليقًلا في (ص59) من هذا الكتاب.
(1/45)
 
 
المطلب الثاني: دراسة مستقلة للكتب الأربعة: "الرسالة، والفقيه والمتفقه، وروضة الناظر، وشرح الكوكب المنير"
أولاً: كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، المتوفي سنة (204هـ) (1) :
"هذا كتاب "الرسالة" للشافعي، وكفى الشافعي مدحًا أنه الشافعي، وكفى "الرسالة" تقريظًا أنها تأليف الشافعي" (2) .
أ- أصل الكتاب:
ألف الشافعي كتاب "الرسالة" مرتين، ولذلك يعده العلماء في فهرس مؤلفاته كتابين: "الرسالة القديمة"، و"الرسالة الجديدة".
أما "الرسالة القديمة" فالظاهر أنه ألفها في بغداد، إذ كتب إليه عبد الرحمن بن مهدي (3) ، وهو شاب أن يضع له كتابًا يذكر فيه:
شرائط الاستدلال بالقرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ، ومراتب العموم والخصوص.
فوضع الشافعي له كتاب "الرسالة"، وأرسله إليه، ولذلك سمي الرسالة. فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي قال: ما ظننت أن الله تعالى خلق مثل هذا الرجل، ثم قال عبد الرحمن: "ما أصلي صلاة، إلا وأدعو للشافعي فيها" (4) .
__________
(1) هو: أبو عبد الله محمد بن إدريس القرشي المطلبي الشافعي، إمام المذهب الشافعي، اتفق على ثقته وإمامته وعدالته وحسن سيرته، له أشعار كثيرة، من مؤلفاته: كتاب "الأم" و"الرسالة"، ولد سنة (150هـ) ، وتوفي سنة (204هـ) . انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (1/44) ، و"وفيات الأعيان" (4/163) .
(2) مقدمة كتاب "الرسالة" للشيخ أحمد شاكر.
(3) هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد العنبري، سمع الثوري ومالكًا وابن عيينة، وروى عنه ابن المبارك وابن المديني وأحمد بن حنبل، وكان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين بالحفظ، وممن برع في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ، توفي سنة (198هـ) . انظر: "تاريخ بغداد" (10/240) ، و"الأعلام" (3/339) .
(4) انظر: "مناقب الشافعي" للرازي (153، 157) ، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/47، 48، 59) ، ومقدمة كتاب "الرسالة" (10، 11، 12) .
(1/46)
 
 
قال الفخر الرازي (1) : "ولما خرج الشافعي إلى مصر أعاد تصنيف كتاب "الرسالة"، وفي كل واحد منهما علم كثير" (2) وقال الشيخ أحمد شاكر (3) في تقديمه لكتاب "الرسالة": "وأيا ما كان فقد ذهبت "الرسالة القديمة"، وليست في أيدي الناس الآن إلا "الرسالة الجديدة"، وهي هذا الكتاب (4) .
ب- مميزات الكتاب:
1- أن كتاب "الرسالة" أول كتاب صُنف في أصول الفقه (5) .
قال الفخر الرازي: "اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم هو الشافعي، وهو الذي رتب أبوابه، وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في الضعف والقوة" (6) .
وقال أيضًا: "والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أنهم كلهم عيال على الشافعي فيه؛ لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق.
ثم نقول: إن الإنسان الذي يكون واضعًا لعلم من العلوم ابتداءً، لو وقعت له فيه هفوة أو زلة، كانت مغفورة له، كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، وذلك يدل على أن كل ما كان من عند الخلق فإنه لا ينفك عن الاختلاف والتناقض، والفاضل من عدت
__________
(1) هو: محمد بن عمر بن الحسين القرشي، يعرف بابن خطيب الري، أبو عبد الله فخر الدين، الشافعي المفسر المتكلم، من مؤلفاته: "مفاتيح الغيب"، و"تأسيس التقديس"، و"المحصول في أصول الفقه"، توفي سنة (606هـ) . انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (5/33) ، و"البداية والنهاية" (13/60) .
(2) "مناقب الشافعي" للرازي (157) .
(3) هو: أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي العلياء، يرفع نسبه إلى الحسين بن علي، عالم بالحديث والتفسير، مصري، من مؤلفاته: "عمدة التفسير"، و"شرح مسند الإمام أحمد"، توفي سنة (1377هـ) . انظر: "الأعلام" (1/253) .
(4) مقدمة كتاب "الرسالة" (11) .
(5) انظر: "مجموع الفتاوى" (20/403) ، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/49) ، و"البحر المحيط" للزركشي (1/10) ، ومقدمة كتاب "الرسالة" (13) .
(6) "مناقب الشافعي" للرازي (153) .
(1/47)
 
 
سقطاته...." (1) .
2- أن الشافعي حرر كتاب "الرسالة" تحريرًا؛ إذ أنه أعاد تصنيفه كما قال الشيخ أحمد شاكر: "الظاهر عندي – أيضًا – أنه أعاد تأليف كتاب "الرسالة" بعد تأليف أكثر كتبه التي في "الأم"؛ لأنه يشير كثيرًا في "الرسالة" إلى مواضع مما كتب هناك" (2) .
وقال الشافعي: "وكل حديث كتبته منقطعًا فقد سمعته متصلاً، أو مشهورًا عمن روي عنه بنقل عامة من أهل العلم يعرفونه من عامة، ولكني كرهت وضع حديثٍ لا أتقنه حفظًا، وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرت خوف طول الكتاب فأتيت ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصي العلم في كل مرة" (3) .
فيؤخذ من هذا الكلام:
أن الشافعي لم يُثبت في هذا الكتاب من الأحاديث إلا ما أتقن حفظه وتحقق من ثبوته. وأنه يكتب من حفظه؛ إذ لم تكن كتبه كلها معه.
وأنه أراد الاختصار وعدم التطويل، ولم يقصد الاستقصاء.
3- أن كتاب "الرسالة" كتاب حديث ورواية، فقد ذكر الشافعي فيه عددًا كبيرًا من الأحاديث بأسانيدها المتصلة (4) ، وتكلم فيه على مسائل مهمة في علوم الحديث (5) ، بل قيل: إن كتاب "الرسالة" أول كتاب ألف في أصول الحديث أيضًا (6) .
4- أن كتاب "الرسالة" كتاب فقٍه وأحكام، فقد تكلم الشافعي على
__________
(1) "مناقب الشافعي" للرازي (157، 158) .
(2) انظر: مقدمة كتاب "الرسالة" (12) .
(3) "الرسالة" (431) .
(4) انظر فهرس الأعلام من كتاب: "الرسالة"، فقد وضع المحقق علامة لمن روى حديثًا أو أثرًا (624 – 645) .
(5) انظر الفهرس العلمي من كتاب: "الرسالة": كلمة "الحديث" (665، 666) .
(6) انظر مقدمة كتاب: "الرسالة" (13) .
(1/48)
 
 
آيات كثيرة من كتاب الله، مفسرًا ومستنبطًا (1) ، كما أنه عزز القواعد الأصولية بعدد كبير من الفروع الفقهية من شتى أبواب الفقه (2) .
5- أن كتاب "الرسالة" كتاب أدب ولغة، ذلك أن الشافعي لم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة، فكلامه لغة يحتج بها (3) .
6- أن الشافعي رتب كتابه – في الغالب – على طريقة المحاورة والسؤال والجواب، وذلك مثل: "قال لي قائل.... فما حجتكم في القياس وتركه؟ ... فقلت له.....، قال.....، قلت....." وأحيانًا يأتي بالكلام على صيغة الاعتراض، وذلك مثل: "فإن قال قائل......قلنا....." "فإن قيل.....قيل له......".
ولا شك أن ذلك أدعى للانتباه وأقوى في البيان.
جـ- مصادر الكتاب:
من خلال النظر في كتاب "الرسالة" يمكن الوقوف على مصادر الإمام الشافعي التي استقى منها مادة الكتاب، وذلك على النحو الآتي:
1- الآيات القرآنية الكريمة (4) .
2- الأحاديث النبوية الشريفة (5) .
3- عمل الصحابة (6) .
4- أقوال التابعين (7) .
5- إجماع أهل العلم (8) .
__________
(1) انظر فهرس الآيات القرآنية من كتاب: "الرسالة".
(2) انظر الفهرس العلمي من كتاب: "الرسالة".
(3) انظر: "مناقب الشافعي" للرازي (239 – 244) ، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/49، 50) ، ومقدمة كتاب "الرسالة" (13) ، وانظر: فهرس الفوائد اللغوية المستنبطة، وذلك من كتاب الرسالة".
(4) انظر: "الرسالة" (435 – 437) .
(5) انظر المصدر السابق (401 – 406) .
(6) انظر المصدر السابق (406، 410، 438 – 447) .
(7) انظر المصدر السابق (448 – 457) .
(8) انظر المصدر السابق (419، 420، 453) .
(1/49)
 
 
6- لغة العرب (1) .
7- أقوال بعض أهل العلم (2) .
د- موضوعات الكتاب وترتيبها:
اشتمل كتاب "الرسالة" على علوم عدة؛ ففيه المسائل الفقهية والأحكام الشرعية، والقضايا الحديثية، والفوائد اللغوية، وفيه - أيضًا - الموضوعات الأصولية، وهي التي كان لها الحظ الأكبر من هذا الكتاب، بل إن أصول الفقه هو المقصود من تأليفه (3) ، وما عداه فإنما يذكر تبعًا له، ويمكن ترتيب الموضوعات الأصولية في كتاب "الرسالة" على النحو الآتي:
1- حجية السنة عمومًا، وحجية خبر الواحد خصوصًا.
2- الأخبار "العلم"، الإجماع، القياس، قول الصحابي، الاستحسان.
3- بيان منزلة السنة من الكتاب، ومنزلة الإجماع والقياس.
4- الناسخ والمنسوخ.
5- صفة النهي.
6- المجمل والمبين، والعام والخاص.
7- الاجتهاد.
8- ما يجوز من الاختلاف وما لا يجوز.
9- الأحاديث التي ظاهرها التعارض ووجه التوفيق بينها، "العلل في الأحاديث".
هذا مجمل الموضوعات الأصولية في كتاب "الرسالة"، والملاحظ أن الإمام الشافعي لم يذكرها بهذا الترتيب، ويمكن معرفة ترتيب الشافعي لهذه الموضوعات بالرجوع إلى كتاب "الرسالة" (4) .
__________
(1) انظر المصدر السابق (52، 213، 487) .
(2) انظر المصدر السابق (200، 255) .
(3) انظر ما تقدم بيانه قريبًا عند الكلام على أصل الكتاب (ص46) .
(4) لقد هيأ الله لكتاب "الرسالة" الشيخ المحدث أحمد شاكر رحمه الله فقام بتحقيقه تحقيقًا علميًا نفيسًا، وخدمه خدمة عظمى لا مزيد عليها، فضبط نص الكتاب بعد أن جمع نسخه المخطوطة والمطبوعة، ودرس الأسانيد، وخرج الأحاديث والآثار والأشعار، وعرف بالأعلام، وشرح الغريب، وأرشد إلى مواضع الإحالات، وأضاف -تعليقًا- نقولاً مهمة عن الإمام الشافعي من كتبه الأخرى وعن غير الشافعي، ووضع له فهارس متنوعة دقيقة، وأخرجه بثوب جميل، إذ قسم الكلام إلى فقرات، وجعل لها أرقامًا تسلسلية، ووضع عنوانات جديدة متى احتيج إلى ذلك، وقدم للكتاب بمقدمة عرف فيها بالمؤلف وكتابه. فجزى الله المؤلف والمحقق خير الجزاء، وكتب لهما ذلك في صالح أعمالهم.
(1/50)
 
 
ثانيًا: كتاب الفقيه والمتفقه (1) للإمام الحافظ الخطيب البغدادي، المتوفي سنة (463هـ) (2) :
أ- سبب تأليف الكتاب:
صنف الخطيب هذا الكتاب نصيحة لطائفتين، لأهل الحديث، ولأهل الرأي (3) .
ذلك أن أكثر كتبة الحديث في زمانه ابتعدوا عن معرفة فقه ما كتبوه وفهم معنى ما دونوه، ومنعوا أنفسهم عن محاضرة الفقهاء، وذموا مستعملي القياس من العلماء، وذلك لما سمعوه من الأحاديث التي تعلق بها أهل الظاهر في ذم الرأي والنهي عنه والتحذير منه، فلم يميزوا بين محمود الرأي ومذمومه، بل سبق إلى نفوسهم أنه محظور على عمومه، ثم قلدوا مستعملي الرأي في نوازلهم، وعولوا فيها على أقوالهم ومذاهبهم، فنقضوا بذلك ما أحلوه، واستحلوا ما حرموه.
وحُق لمن كانت حاله هذه أن يطلق فيه القول الفظيع، ويشنع عليه بضروب التشنيع، فهذا طعن أهل الرأي والمتكلمين في أهل الحديث.
أما أهل الرأي فجل ما يحتجون به من الأخبار واهية الأصل، ضعيفة عند
__________
(1) طبع بتحقيق وتعليق وتقديم الشيخ إسماعيل الأنصاري، وهو جزآن في مجلد واحد.
(2) هو: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب، الحافظ الكبير، أحد أعلام الحفاظ ومهرة الحديث، عُرف بالفصاحة والأدب، تفقه على فقهاء الشافعية، له مصنفات منتشرة منها: "تاريخ بغداد"، و"شرف أصحاب الحديث"، توفي سنة (463هـ) . انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (3/12) ، و"الأعلام" (1/172) .
(3) للخطيب البغدادي رسالة "مختصر نصيحة أهل الحديث" تقع في سبع صفحات، وقد وردت هذه الرسالة بتمامها في كتاب "الفقيه والمتفقه". انظر (2/77 - 85) ، وقد طبعت هذه الرسالة ضمن مجموعة رسائل في علوم الحديث للنسائي، وللخطيب البغدادي، حققها وعلق عليها الشيخ صبحي السامرائي.
(1/51)
 
 
العلماء بالنقل، فأظهر أهل الحديث فسادها، فشق عليهم إنكارهم إياها، وهم قد جعلوها عمدتهم، واتخذوها عدتهم، وكان فيها أكثر النصرة لمذاهبهم، فغير مستنكر لذلك أن يطعن أهل الرأي على أهل الحديث، وأن يرفضوا نصيحتهم؛ لأنهم قد هدموا ما شيدوه، وأبطلوا ما راموه وقصدوه (1) .
وبعد أن ذكر هذا الواقع قال الخطيب: "فقد ذكرت السبب الموجب لتنافي هذين الفريقين، وتباعد ما بين هاتين الطائفتين، ورسمت في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصة، ولغيره عامة ما أقوله نصيحة مني له، وغيرة عليه" (2) .
ب- موضوعات الكتاب وترتيبها:
بالنسبة للمسائل الأصولية فقد رتبها الخطيب في كتابه هذا على الترتيب المعروف عند الأصوليين:
1- فذكر أولاً باختصار شديد أقسام الحكم الشرعي.
2-ثم فصل القول في الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
3- وعند كلامه على الكتاب والسنة ذكر طرق الاستنباط، ودلالات الألفاظ، والناسخ والمنسوخ، لكونها خاصة بهما، فذكر الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ.
4- وعند كلامه على الإجماع ذكر قول الواحد من الصحابة بعد ذكره لوجوب اتباع ما عليه الصحابة من إجماع وخلاف.
5- ثم تكلم على استصحاب الحال.
6- ثم ذكر ترتيب استعمال الأدلة واستخراجها.
7- ثم تكلم على الاجتهاد والتقليد والفتوى.
وكان قد افتتح كتابه بالكلام على التفقه في الدين، ثم بالكلام على المسائل الأصولية على الترتيب السابق، ثم ختم الكتاب بذكر أخلاق الفقيه وآدابه. فالكتاب إذن له موضوعان رئيسان: أدب التفقه، وأصول الفقه.
__________
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه" (2/71 - 77) .
(2) المصدر السابق (2/77، 78) .
(1/52)
 
 
جـ- مميزات الكتاب:
1- خصص المؤلف ما يقارب ثلث الكتاب للكلام على فضل الفقه والتفقه في الدين، وأخلاق الفقيه وآدابه.
2- نقل المؤلف في كثير من المسائل الأصولية أقوال الإمام الشافعي واقتفى آراءه.
3- استشهد المؤلف بالكثير من الآيات والأحاديث والآثار المروية بالإسناد عن الصحابة والتابعين والأئمة في تثبيت القواعد الأصولية، والاحتجاج للأدلة الشرعية، وهذه المزية عزيزة الوجود في الكتب الأصولية.
4- ساق المؤلف بأسانيده ما استشهد به من أحاديث وآثار -في الغالب- وهذا الصنيع يسهل مهمة التحري لمن أراد ذلك.
5- حرر المؤلف كثيرًا من المسائل الأصولية وأدلى فيها برأيه، وكثيرًا ما يذكر الرأي المخالف وأدلته ويجيب عنها (1) .
6- اعتنى المؤلف بالتعريفات والتقاسيم في بداية كل باب.
فبذلك يمكن أن يسمى كتاب "الفقيه والمتفقه" بأصول فقه المحدثين، خاصة وأن المؤلف -كما سبق بيانه- أراد بتأليف هذا الكتاب التقريب بين المحدثين والفقهاء، والرفع من قيمة الفقه وشأن الفقهاء، وفي الوقت نفسه الإرشاد إلى أهمية معرفة الحديث وشرف أهله.
د- تقويم الكتاب:
يحتاج كتاب "الفقيه والمتفقه" إلى عناية من الأوجه الآتية:
أولاً: تحقيق ودراسة الأسانيد الواردة، للحكم على الأحاديث والآثار التي احتج بها المؤلف.
ثانيًا: إبراز المسائل بعناوين واضحة؛ فإن المؤلف يتكلم على مسائل الباب الواحد، ولا يفصل بين المسألة والأخرى بفاصل يفيد الانتهاء أو الانتقال.
ثالثًا: إخراج الكتاب بطبعة جديدة، حسنة التنسيق، جميلة الصف، يعتنى
__________
(1) يلاحظ أن الخطيب البغدادي استفاد من كتابه هذا من الإمام الشيرازي في كتبه الأصولية.
(1/53)
 
 
فيها بعلامات الترقيم، وسلامة الإملاء (1) .
أما الطبعة الحالية فإنها كثيرة السقط والأخطاء، سيئة التنظيم، مشوشة العرض (2) .
رابعًا: وضع فهارس متنوعة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والآثار، والأعلام وفهرس دقيق للمسائل الأصولية.
ثالثًا: "كتاب روضة الناظر وجنة المناظر" للإمام الموفق ابن قدامة المقدسي، المتوفي سنة (620هـ) (3) .
أ- أصل الكتاب:
تبع ابن قدامة في كتابه هذا الإمام الغزالي في "المستصفى"، حتى قال بعض العلماء: إن الروضة مختصر "المستصفى" (4) .
وهذه مزية لكتاب "الروضة"؛ ذلك أن "المستصفى" ترجع أهميته إلى أمور، منها:
1- مكانة الغزالي العلمية.
2- تأخر الغزالي في الزمان، فاستطاع لذلك الوقوف على أهم الكتب الأصولية (5) .
__________
(1) طبع الكتاب مؤخرًا، بتحقيق عادل العزازي سنة (1417هـ) .
(2) انظر ملاحظات الدكتور أكرم العمري على هذه الطبعة، وذلك في كتابه: "دراسات تاريخية" (223- 231) ، فقد نبه على أمور، منها: أن المحقق اعتمد على نسخة واحدة رغم وجود غيرها، ووجود عدد من المصادر التي رجع إليها الخطيب، ومنها: أنه لم يضبط الأعلام، ومنها: وقوع سقط في مواضع متفرقة، ومنها: وجود أخطاء مطبعية كثيرة. وقد وضع الدكتور أكرم لبعضها جدولاً.
(3) هو: عبد الله بن أحمد بن مقدام، المقدسي ثم الدمشقي، الفقيه الحنبلي، موفق الدين أبو محمد، كان إمامًا في عدة فنون خاصة في الفقه والحديث، له كتاب "المغني"، و"الكافي" و"المقنع"، و"العمدة"، كلها في الفقه، وله "ذم التأويل"، و"لُمعة الاعتقاد"، توفي سنة (620هـ) . انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/133) ، و"الأعلام" (4/67) .
(4) انظر: "شرح مختصر الروضة" (1/98) ، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" (240) .
(5) انظر: "مقدمة ابن خلدون" (361) .
(1/54)
 
 
3- كون "المستصفى" من آخر كتب الغزالي الأصولية، إذ ألفه بعد كتابيه: "تهذيب الأصول"، و"المنخول"، وجمع فيه بينهما (1) .
4- أن الغزالي أحسن ترتيب "المستصفى" وأجاد، بحيث يفيد قارئه الإمساك بأطراف هذا الفن وجمع مقاصده (2) .
لذلك لقي كتاب "المستصفى" الاهتمام والقبول والانتشار الواسع (3) ، بل إن كتاب "المستصفى" يعتبر مرحلة مهمة في تاريخ علم الأصول، إذ به اكتمل بناء هذا العلم واستوى على سوقه بالنسبة للمتكلمين.
فما قبل كتاب "المستصفى" من مؤلفات، اجتمعت في "المستصفى" بأحسن عبارة وألطف ترتيب، وما بعده من مؤلفات إنما هي اختصار للمستصفى واقتباس، فالمستصفى عمدة كتب الأصول عند المتكلمين، وركنها الوثيق، وسندها المتين. وقد أحسن ابن قدامة الاختيار حينما جعل كتاب "المستصفى" أصلاً لكتابه.
ومما يزيد هذا الاختيار حسنًا أن ابن قدامة لم يقلد الغزالي في آرائه وفي سائر منهجه، بل ظهرت لابن قدامة في "الروضة" لمساته، وبرزت فيه شخصيته المستقلة.
ولعل توضيح ذلك يكون بعقد موازنة مختصرة بين الكتابين:
ب- موازنة بين "الروضة" و "المستصفى":
ومن خلالها تتضح مميزات كتاب "الروضة":
1- أثبت ابن قدامة في أول "الروضة" مقدمة تضمنت مسائل من فن المنطق، وقد تابع ابن قدامة الغزالي في ذلك، مع أن ابن قدامة لم يكن متكلمًا ولا منطقيًا، ولم يكن هذا من عادة الأصوليين.
__________
(1) انظر: "المستصفى" (10) .
(2) يقول الغزالي في مقدمة "المستصفى": "فإذن جملة الأصول تدور على