تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد
المؤلف: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي العلائي (المتوفى: 761هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه أما بعد حمد الله الْعَزِيز بباهر كَمَاله الْقَدِير بقاهر جَلَاله الْجواد بجزيل نواله الْحَكِيم بجميل فعاله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وَآله صَلَاة تبلغ قَائِلهَا نِهَايَة آماله فَإِن مَسْأَلَة إقتضاء النَّهْي الْفساد من مهمات الْفَوَائِد وَأُمَّهَات الْقَوَاعِد لرجوع كثير من الْمسَائِل الفرعية إِلَيْهَا وَتَخْرِيج خلاف الْأَئِمَّة فِي مآخذهم عَلَيْهَا فعلقتها فِي هَذِه الأوراق مبسوطة وَذكرت من المباحث مَا هِيَ بِهِ منوطة وَالله تَعَالَى الْهَادِي إِلَى سَوَاء السَّبِيل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَالْكَلَام عَلَيْهَا يَتَرَتَّب فِي فُصُول
(1/60)
 
 
الْفَصْل الأول
 
فِي مُقَدمَات وتقسيمات يَتَرَتَّب الْكَلَام عَلَيْهَا وفيهَا مبَاحث
الْبَحْث الأول أَن صِيغَة لَا تفعل حصر إستعمالها جمَاعَة من الْأَئِمَّة فِي عدَّة وُجُوه أَحدهَا التَّحْرِيم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} وَأَمْثَاله وَثَانِيها الْكَرَاهَة كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء الحَدِيث وَثَالِثهَا التحقير كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} الْآيَة وَرَابِعهَا الْإِرْشَاد كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء}
(1/61)
 
 
وخامسها التحذير كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} وسادسها بَيَان الْعَاقِبَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} وسابعها الْيَأْس كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تعتذروا الْيَوْم} الْآيَة وثامنها الدُّعَاء كَقَوْلِه تَعَالَى {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا} وَنَحْوه وتاسعها التَّسْوِيَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا}
(1/62)
 
 
وعاشرها التهديد كَقَوْل السَّيِّد لعَبْدِهِ لَا تمتثل أَمْرِي يهدده بذلك وَزَاد بعض الْحَنَفِيَّة وَجها آخر وَهُوَ الشَّفَقَة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَتَّخِذُوا الدَّوَابّ كراسي وَيُمكن رده إِلَى وَجه الْكَرَاهَة وَكَذَلِكَ التحقير وَبَيَان الْعَاقِبَة بِخِلَاف بَقِيَّة الْوُجُوه
ثمَّ الْخلاف بَين الْأَئِمَّة مَشْهُور فِي التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة هَل اللَّفْظ حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الآخر أَو هُوَ مُشْتَرك لَفْظِي أَو للقدر الْمُشْتَرك أَو يُقَال بِالْوَقْفِ على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي مَوْضِعه وَالْمُخْتَار أَنه حَقِيقَة فِي التَّحْرِيم مجَاز فِيمَا عداهُ
وَالْكَلَام فِي أَن النَّهْي هَل يَقْتَضِي الْفساد أم لَا إِنَّمَا هُوَ مُفَرع على أَنه للتَّحْرِيم وَأما نهي الْكَرَاهَة فَالَّذِي يشْعر بِهِ كَلَام الْأَكْثَرين وَصرح بِهِ جمَاعَة أَنه
(1/63)
 
 
لَا خلاف فِيهِ وَذَلِكَ ظَاهر إِذْ لَا مَانع من الِاعْتِدَاد بالشَّيْء مَعَ كَونه مَكْرُوها وَلذَلِك قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِصِحَّة الصَّلَاة فِي الْحمام وأعطان الْإِبِل وَنَحْوهمَا مَعَ القَوْل بكراهتها وَقد وَقع فى كَلَام الشَّيْخ أبي عَمْرو بن الصّلاح رَحمَه الله تَعَالَى مَا يُنَافِي هَذَا فَإِن أَصْحَابنَا اخْتلفُوا فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْخَمْسَة هَل هُوَ للتَّحْرِيم أَو للتنزيه
وَالأَصَح عِنْد الْجُمْهُور أَنه للتَّحْرِيم ثمَّ ذكرُوا وَجْهَيْن فِي أَنَّهَا إِذا أحرم بهَا فِي هَذِه الْأَوْقَات هَل تَنْعَقِد أم لَا وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تَنْعَقِد كَالصَّوْمِ فِي يَوْم الْعِيد فَالَّذِي يظْهر أَن هذَيْن الْوَجْهَيْنِ مفرعان على أَن النَّهْي للتَّحْرِيم أَو للتنزيه وَلذَلِك اتّفق التَّصْحِيح على أَنه للتَّحْرِيم وَأَنَّهَا لَا تَنْعَقِد
(1/64)
 
 
وَقَالَ ابْن الصّلاح مَأْخَذ الْوَجْهَيْنِ أَن النَّهْي هَل يعود إِلَى نفس الصَّلَاة أم إِلَى خَارج عَنْهَا قَالَ وَلَا يتَخَرَّج هَذَا على أَن النَّهْي للتَّحْرِيم أَو للتنزيه لِأَن نهي التَّنْزِيه أَيْضا يضاد الصِّحَّة إِذا رَجَعَ إِلَى نفس الصَّلَاة لِأَنَّهَا لَو صحت لكَانَتْ عبَادَة مَأْمُورا بهَا وَالْأَمر وَالنَّهْي الراجعان إِلَى نفس الشَّيْء متناقضان انْتهى كَلَامه
وَهَذَا مَأْخُوذ من كَلَام الإِمَام الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى فَإِنَّهُ قَالَ كَمَا يتضاد الْحَرَام وَالْوَاجِب فيتضاد الْمَكْرُوه وَالْوَاجِب فَلَا يدْخل مَكْرُوه تَحت الْأَمر حَتَّى يكون شَيْء وَاحِد مَأْمُورا بِهِ مَكْرُوها إِلَّا أَن تَنْصَرِف الْكَرَاهَة عَن ذَات الْمَأْمُور إِلَى غَيره ككراهة الصَّلَاة فِي الْحمام وأعطان الْإِبِل وَذكر بَقِيَّة كَلَام
فتحصلنا على قَوْلَيْنِ فِي أَن نهي التَّنْزِيه إِذا كَانَ لعين الشَّيْء هَل يَقْتَضِي الْفساد أم لَا وَفِي نهي التَّنْزِيه نظر لِأَن التَّنَاقُض إِنَّمَا يَجِيء إِذا كَانَ النَّهْي للتَّحْرِيم وعَلى تَقْدِير اعْتِبَار مَا ذكره الْغَزالِيّ وَابْن الصّلاح فَذَلِك التضاد إِنَّمَا يَجِيء فِيمَا هُوَ وَاجِب خَاصَّة لما بَين الْوُجُوب وَالْكَرَاهَة من التباين
فَأَما الصِّحَّة مَعَ الْإِبَاحَة كَمَا فِي الْعُقُود الْمنْهِي عَنْهَا تَنْزِيها فَلَا تضَاد حِينَئِذٍ وَالْفساد مُخْتَصّ بِمَا كَانَ النَّهْي فِيهِ للتَّحْرِيم وَالله أعلم
(1/65)
 
 
الْبَحْث الثَّانِي النَّهْي عَن الشَّيْء يَنْقَسِم ظَاهرا إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا مَا يرجع إِلَى ذَات الْمنْهِي عَنهُ كالكذب وَالظُّلم وَنَحْوهمَا وَثَانِيها مَا يرجع إِلَى غَيره كالنهي عَن البيع وَقت النداء وَعَن النجش وَمَا أشبههما وَثَالِثهَا مَا يرجع إِلَى وصف الْمنْهِي عَنهُ كَصَوْم يَوْم النَّحْر وَبيع الربويات على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ وَالْوَطْء فِي حَالَة الْحيض وَالطَّلَاق فِيهِ أَيْضا
فالصوم من حَيْثُ انه صَوْم مَشْرُوع لَكِن من حَيْثُ إِيقَاعه فِي يَوْم الْعِيد مَنْهِيّ عَنهُ وَالْبيع مَشْرُوع من حَيْثُ الْجُمْلَة لَكِن من حَيْثُ إِيقَاعه انه وَقع مَقْرُونا بِشَرْط فَاسد أَو بِزِيَادَة فِي المَال الرِّبَوِيّ مَمْنُوع وَكَذَلِكَ الْوَطْء وَالطَّلَاق حَالَة الْحيض وَفِيهِمَا نظر يَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْعُلَمَاء مُخْتَلفُونَ فِي الحكم بِالْفَسَادِ وَعَدَمه فِي هَذِه الْأَقْسَام كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وينقسم أَيْضا من وَجه آخر إِلَى مَا يتَعَلَّق بالعبادات وَمَا يتَعَلَّق بالمعاملات وكل مِنْهُمَا يَنْقَسِم إِلَى الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الأولى
(1/66)
 
 
وَعبر الْحَنَفِيَّة عَن الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكرنَاهَا بِعِبَارَة أُخْرَى فَقَالُوا النَّهْي عَن الشَّيْء إِمَّا لعَينه أَو لغيره
فَالْأول يَنْقَسِم إِلَى وضعي كالعبث والسفه وشرعي كَبيع الْحر والمضامين والملاقيح وَالصَّلَاة بِغَيْر طَهَارَة لارْتِفَاع أَهْلِيَّة الْأَدَاء شرعا وَالثَّانِي يَنْقَسِم إِلَى مجاور وَوصف لَازم فالمجاور كَالْوَطْءِ فِي الْحيض وَالْبيع وَقت النداء وكصوم يَوْم النَّحْر وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَالْوَصْف اللَّازِم كَبيع الرِّبَوِيّ مُتَفَاضلا أَو بنسيئة وَسَائِر الْعُقُود الْفَاسِدَة وعد بَعضهم صَوْم يَوْم النَّحْر من هَذَا الْقسم وَسَيَأْتِي مَا يَتَرَتَّب على هَذَا التَّقْسِيم وَمَا يرد عَلَيْهِ أَن شَاءَ الله تَعَالَى
الْبَحْث الثَّالِث المعني بِالْفَسَادِ الْآتِي ذكره عِنْد كل من قَالَ بِهِ هُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ فِي تَفْسِير الْفساد وَلَهُم فِي ذَلِك اخْتِلَاف وَالْكَلَام فِي طرفين الأول مَا يتَعَلَّق بالعبادات وَتَفْسِير لفظ الْفساد مترتب على مَا يُقَابله وَهُوَ الصِّحَّة وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ المتكلمون أَن المعني بِالصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَة كَونهَا مُوَافقَة لأمر الشَّارِع فِي ظن الْفَاعِل لَا فِي نفس الْأَمر
(1/67)
 
 
وَعند الْفُقَهَاء المُرَاد بِالصِّحَّةِ فِيهَا إِسْقَاط الْقَضَاء وَالْفساد مُقَابل للصِّحَّة على التفسيرين فعلى هَذَا يتَخَرَّج صَلَاة من ظن أَنه متطهر ثمَّ تبين أَنه لَيْسَ كَذَلِك فَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمين هِيَ صَحِيحَة لِأَنَّهَا وَقعت مُوَافقَة لأمر الشَّارِع فِي ظَنّه
وَعند الْفُقَهَاء هِيَ بَاطِلَة لِأَنَّهَا لم تسْقط الْقَضَاء وعكسها صَلَاة من صلى خلف الْخُنْثَى الْمُشكل ثمَّ تبين أَنه رجل إِذا فرع على أحد الْقَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ فِي انه لَا يجب الْقَضَاء لَكِن الرَّاجِح خِلَافه فَإِنَّهَا على اصْطِلَاح الْفُقَهَاء صَحِيحَة على هَذَا القَوْل لإسقاطها الْقَضَاء وَعند الْمُتَكَلِّمين بَاطِلَة لِأَنَّهَا لَيست مُوَافقَة لأمر الشَّرْع
وَذكر الْقَرَافِيّ أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي التَّسْمِيَة وَأما الْأَحْكَام فمتفق عَلَيْهَا عِنْد الْفَرِيقَيْنِ لأَنهم اتَّفقُوا على أَنه مُوَافق لأمر الله تَعَالَى وَأَنه مثاب عَلَيْهَا وَأَنه لَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء إِذا لم يطلع على الْحَدث وَأَنه يجب الْقَضَاء إِذا تبينه
قَالَ وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي وضع لفظ الصِّحَّة هَل يضعونه لما وَافق الْأَمر
(1/68)
 
 
سَوَاء وَجب الْقَضَاء أَو لم يجب أَو لما لَا يُمكن أَن يتعقبه قَضَاء وَهَذَا فِيهِ نظر من جِهَة مَسْأَلَة الصَّلَاة خلف الْخُنْثَى الْمُشكل الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا وَلَا يلْزم من اتِّفَاقهم على مَا ذكر من الْأَحْكَام أَن يكون الْخلاف فِي التَّسْمِيَة لِأَنَّهُ ثمَّ أَحْكَام أخر غير هَذِه
وَقد ذكر الْأَصْفَهَانِي شَارِح الْمُخْتَصر فِيهِ أَن مِمَّا يتَخَرَّج على هَذَا الْخلاف صَلَاة من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا إِذا صلى على حسب حَاله وَقُلْنَا بالراجح من الْمَذْهَب انه يجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة قَالَ فَتلك الصَّلَاة صَحِيحَة على اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين فَاسِدَة على اصْطِلَاح الْفُقَهَاء قلت وَفِي ذَلِك وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتوَلِّيّ وَبنى عَلَيْهِمَا لَو حلف لَا يُصَلِّي فصلى
(1/69)
 
 
كَذَلِك وَلَكِن هَذَا القَوْل يُؤَدِّي إِلَى أَن نقُول كل صَلَاة فعلت لحُرْمَة الْوَقْت وَلم يسْقط بذلك فَرضهَا بل كَانَ قَضَاؤُهَا وَاجِبا تكون فَاسِدَة عِنْد الْفُقَهَاء وَلَا يكون الْفساد فِي الْعِبَادَة دائرا مَعَ ارْتِكَاب الْمنْهِي عَنهُ وجودا وعدما بل قد يكون لاختلال شَرط أَو ركن مَعَ كَونه مَأْمُورا بِفعل الْعِبَادَة فِي الْوَقْت لِحُرْمَتِهِ لَكِن يشكل على هَذَا أَن يُقَال كَيفَ يُؤمر بِعبَادة هِيَ فَاسِدَة وَلَا يسمحون بِإِطْلَاق الْفَاسِد فِي مثل هَذَا بل قد صَرَّحُوا فِيهِ بِالصِّحَّةِ وللنظر هُنَا مجَال وَسَيَأْتِي مزِيد بحث فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الطّرف الثَّانِي فِيمَا يتَعَلَّق بالمعاملات وَالَّذِي ذكره جُمْهُور أَئِمَّة الْأُصُول أَن الصِّحَّة فِيهَا عبارَة عَن ترَتّب ثَمَرَة ذَلِك العقد الْمَطْلُوبَة مِنْهُ وَالْمرَاد بِالْفَسَادِ أَن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذَلِك وَالْمرَاد بالثمرة أثر كل عقد بِحَسبِهِ فأثر البيع التَّمَكُّن من الْأكل وَالْوَطْء وَالْهِبَة وَالْوَقْف وَنَحْو ذَلِك وَثَمَرَة الْإِجَارَة التَّمَكُّن من الْمَنَافِع وَفِي الْقَرَاض عدم الضَّمَان وَاسْتِحْقَاق الرِّبْح وَفِي النِّكَاح التَّمَكُّن من الْوَطْء وَالطَّلَاق إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْعُقُود
وَاعْترض بَعضهم على ذَلِك بِأَن المُرَاد من ثَمَرَات الْعُقُود إِمَّا الْكل أَو الْبَعْض وَالْأول بَاطِل لِأَن الْمَبِيع فِي زمن الْخِيَار وَالْمَبِيع قبل قَبضه لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثمراته مَعَ أَن العقد صَحِيح وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الدَّار المأجورة وَالْعَبْد الْجَانِي وَقُلْنَا بِصِحَّة البيع فيهمَا
(1/70)
 
 
وَإِن كَانَ المُرَاد بالثمرات بَعْضهَا فَذَلِك الْبَعْض إِمَّا معِين أَو أَي بعض كَانَ وَالْأول بَاطِل اتِّفَاقًا وَأَيْضًا لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يشْعر بِهِ
وَالثَّانِي يرد عَلَيْهِ ترَتّب بعض آثَار العقد الْفَاسِد كالقراض وَالْوكَالَة الفاسدين فَإِن التَّصَرُّف فيهمَا يَصح وَهُوَ بعض ثَمَرَات العقد فَيكون الْحَد غير مَانع
وَيُمكن الْجَواب عَنهُ بِأَن المُرَاد بِهِ جَمِيع ثَمَرَات العقد وَلَيْسَ المعني بِهِ التَّرْتِيب بِالْفِعْلِ بل بِالْقُوَّةِ وتخلف ذَلِك عَن الْمَبِيع قبل الْقَبْض أَو فِي زمن الْخِيَار لَا يرد لِأَن العقد وَإِن كَانَ صَحِيحا لكنه لم يتم حَتَّى يتَمَكَّن المُشْتَرِي من جَمِيع التَّصَرُّفَات فَتخلف ذَلِك لمَانع عَارضه لَا لفساد العقد
وَأَيْضًا فجواز تصرف الْعَامِل وَالْوَكِيل فِي الْقَرَاض وَالْوكَالَة الفاسدين لَيْسَ من ثَمَرَات العقد بل من ثَمَرَات الْأذن الَّذِي اشْتَمَل عَلَيْهِ العقد وَلِهَذَا يسْقط الْمُسَمّى وَيرجع فِيهِ إِلَى أُجْرَة الْمثل وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْخلْع وَالْكِتَابَة الفاسدين لَيْسَ النّفُوذ فيهمَا من ثَمَرَات العقد بل من التَّعْلِيق الَّذِي اشْتَمَل العقد عَلَيْهِ فَلم يَتَرَتَّب فِي هَذَا على العقد الْفَاسِد شَيْء ولهذه الْعُقُود عدل بَعضهم عَن الْعبارَة الْمُتَقَدّمَة فَقَالَ المُرَاد من كَون العقد صَحِيحا أَن يكون مستجمعا لجَمِيع أَرْكَانه وشرائطه وَمن كَونه فَاسِدا أَن لَا يكون كَذَلِك ليشْمل الْحَد جَمِيع مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وَرجح هَذِه الْعبارَة قَائِلهَا بمناسبتها للمعنى اللّغَوِيّ فان الصِّحَّة فِي اللُّغَة ضد السقم فَالصَّحِيح من الْحَيَوَان مَا هُوَ على الْحَالة الطبيعية الَّتِي هِيَ أكمل أَحْوَاله وَالْفساد هُوَ الْخُرُوج عَن ذَلِك فَالْعقد المستجمع لِأَرْكَانِهِ وشرائطه صَحِيح
(1/71)
 
 
لِأَنَّهُ على أكمل أَحْوَاله وَمَا نقص فِيهِ شَيْء من ذَلِك كَانَ فَاسِدا لِخُرُوجِهِ عَن ذَلِك وَيُمكن أَن تجْعَل هَذِه الْعبارَة شَامِلَة للعبادات والمعاملات جَمِيعًا فَيُقَال كَون كل مِنْهُمَا صَحِيحا هُوَ مَا استجمع جَمِيع أَرْكَانه وشرائطه لكنه يحْتَاج إِلَى أَن يُزَاد فِي الْعِبَادَة مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا حَتَّى لَا ترد صَلَاة الْمَرِيض قَاعِدا عِنْد مشقة الْقيام وَأَمْثَاله وَكَذَلِكَ من صلى إِلَى غير جِهَة الْقبْلَة بِالِاجْتِهَادِ ثمَّ تبين الْخَطَأ إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يلْزمه الْإِعَادَة وَهَاتَانِ العبارتان إِنَّمَا هِيَ على قَاعِدَة أَصْحَابنَا
وَالْجُمْهُور فِي عدم التَّفْرِقَة بَين الْبَاطِل وَالْفَاسِد وأنهما مُتَرَادِفَانِ يُطلق كل مِنْهُمَا فِي مُقَابلَة الصَّحِيح
وَأما الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم فرقوا بَينهمَا وخصصوا اسْم الْبَاطِل بِمَا لَا ينْعَقد بِأَصْلِهِ كَبيع الْخمر وَالْحر وَالْفَاسِد بِمَا ينْعَقد عِنْدهم بِأَصْلِهِ دون وَصفه كعقد الرِّبَا فَإِنَّهُ مَشْرُوع من حَيْثُ انه بيع وممنوع من حَيْثُ انه عقد رَبًّا فَالْبيع الْفَاسِد عِنْدهم يُشَارك الصَّحِيح فِي إِفَادَة الْملك إِذا اتَّصل بِالْقَبْضِ
وَحَاصِل هَذَا أَن قاعدتهم انه لَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَمْنُوعًا بوصفه أَن يكون مَمْنُوعًا بِأَصْلِهِ فَجعلُوا ذَلِك منزلَة متوسطة بَين الصَّحِيح وَالْبَاطِل وَقَالُوا الصَّحِيح هُوَ الْمَشْرُوع بِأَصْلِهِ وَوَصفه وَهُوَ العقد المستجمع لكل شَرَائِطه وَالْبَاطِل هُوَ الْمَمْنُوع بهما جَمِيعًا وَالْفَاسِد الْمَشْرُوع بِأَصْلِهِ الْمَمْنُوع بوصفه
وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد وأصحابهما أَن كل مَمْنُوع بوصفه فَإِنَّهُ مَمْنُوع بِأَصْلِهِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَة مبسوطة إِن شَاءَ الله تَعَالَى غير أَن الَّذِي يخص هَذَا الْموضع
(1/72)
 
 
بَيَان فَسَاد هَذَا الِاصْطِلَاح وَذَلِكَ من جِهَة النَّقْل فان مُقْتَضى هَذِه التَّفْرِقَة أَن يكون الْفَاسِد هُوَ الْمَوْجُود على نوع من الْخلَل وَالْبَاطِل هُوَ الَّذِي لَا تثبت حَقِيقَته بِوَجْه وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} فَسمى السَّمَوَات وَالْأَرْض فَاسِدَة عِنْد تَقْدِير الشَّرِيك ووجوده وَدَلِيل التمانع يَقْتَضِي أَن الْعَالم على تَقْدِير الشَّرِيك ووجوده يَسْتَحِيل وجوده لحُصُول التمانع لَا انه يكون مَوْجُودا على نوع من الْخلَل فقد سمى الله تَعَالَى الَّذِي لَا تثبت حَقِيقَته بِوَجْه فَاسِدا وَهُوَ خلاف مَا قَالُوهُ فِي الْفرق بَين الْبَاطِل وَالْفَاسِد وان كَانَ مأخذهم فِي التَّفْرِيق مُجَرّد الِاصْطِلَاح مطالبون بمستند شَرْعِي يَقْتَضِي اخْتِلَاف الحكم الْمُرَتّب عَلَيْهِمَا
فَعلم بِهَذَا أَن مُرَاد الْجُمْهُور بقَوْلهمْ النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد هُوَ الْبطلَان وَأما الْفساد على اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة فَلَا وان مُرَاد الْحَنَفِيَّة فِي أَن بعض أَنْوَاع النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد لَيْسَ هُوَ الْبطلَان كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه
وَأما الْمَالِكِيَّة فتوسطوا بَين الْقَوْلَيْنِ وَلم يفرقُوا بَين الْبَاطِل وَالْفَاسِد فِي التَّسْمِيَة وَلَكنهُمْ قَالُوا البيع الْفَاسِد يُفِيد شُبْهَة الْملك فِيمَا يقبل الْملك فَإِذا لحقه أحد أَرْبَعَة أَشْيَاء تقرر الْملك بِالْقيمَةِ وَهِي حِوَالَة الْأَسْوَاق وَتلف الْعين ونقصانها وَتعلق حق الْغَيْر بهَا على تَفْصِيل لَهُم وفروع هِيَ مبسوطة فِي كتبهمْ وَالله أعلم
(1/73)
 
 
الْفَصْل الثَّانِي
فِي نقل الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وللعلماء فِي ذَلِك اخْتِلَاف كثير وَالَّذِي وَقعت عَلَيْهِ من كَلَام المصنفين فِي هَذِه المسالة على أَقسَام
أَحدهمَا قَول من أطلق الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة وَلم يفصل فَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو بكر بن فورك الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَان ذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن الصِّيغَة الْمُطلقَة فِي النَّهْي تَتَضَمَّن فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ
(1/74)
 
 
وَخَالف فِي ذَلِك كثير من الْمُعْتَزلَة وَبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة
وَقَالَ القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه الْحَاوِي وَالنَّهْي إِن تجرد عَن قرينَة كَانَ مَحْمُولا عِنْد الشَّافِعِي على التَّحْرِيم وَفَسَاد الْمنْهِي عَنهُ إِلَّا أَن يصرفهُ دَلِيل غَيره
وَقَالَ الإِمَام أَبُو نصر بن الصّباغ فِي كِتَابه الْعدة النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ بِظَاهِرِهِ وعَلى التَّحْرِيم وَيجوز أَن يصرف عَن ظَاهره بِدَلِيل وَقَالَ قوم من أَصْحَابنَا لَا يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَذهب متأخروهم إِلَى أَنه يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فِي الْعِبَادَات دون الْعُقُود والإيقاعات
(1/75)
 
 
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ فِي شرح اللمع النَّهْي يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ على قَول أَكثر أَصْحَابنَا
وَقَالَ أَبُو بكر الْقفال لَا يدل عَلَيْهِ وَللشَّافِعِيّ رَحمَه الله كَلَام يدل عَلَيْهِ وَهُوَ قَول أبي الْحسن الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة واكثر الْمُتَكَلِّمين من الأشاعرة
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا إِن كَانَ النَّهْي يخْتَص بالمنهي عَنهُ كَالصَّلَاةِ فِي الستْرَة النَّجِسَة دلّ على فَسَاده وَإِن كَانَ لَا يخْتَص بالمنهي عَنهُ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَالثَّوْب الْحَرِير وَالْبيع وَقت النداء لَا يدل على فَسَاده انْتهى
(1/76)
 
 
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار من الْمُعْتَزلَة فِي ملخصه ذهب أَكثر الْفُقَهَاء إِلَى أَن النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَذهب أهل الْأُصُول إِلَى أَنه لَا يدل على ذَلِك وَمن ذهب إِلَى الْمَذْهَب الأول اخْتلفُوا فَمنهمْ من قَالَ لَا يدل باللغة وَلَكِن بِدَلِيل شَرْعِي وَمِنْهُم من قَالَ يدل على الْفساد بموضوعه فِي اللُّغَة وَقَالَ ابْن برهَان النَّهْي يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فَنقل عَن بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي أَنه يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَنقل عَن الْقفال الشَّاشِي من أَصْحَابنَا وَأبي الْحسن الْكَرْخِي أَنه لَا يَقْتَضِيهِ وَعَن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ أَن النَّهْي عَن الْعِبَادَات يَقْتَضِي فَسَادهَا وَأما عَن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة فَلَا
(1/77)
 
 
وَنقل عَن طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين أَن النَّهْي إِن كَانَ لِمَعْنى يخص الْمنْهِي عَنهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْبقْعَة النَّجِسَة فَإِنَّهُ يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فَإِن النَّهْي إِنَّمَا كَانَ لِمَعْنى يخْتَص بِالصَّلَاةِ وَهِي النَّجَاسَة أَلا ترى أَنه فِي غير الصَّلَاة لَا يمْنَع من الْجُلُوس فِي الْبقْعَة النَّجِسَة وَإِن كَانَ لِمَعْنى لَا يخص الْمنْهِي عَنهُ فَلَا يَقْتَضِي فَسَاده كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة لِأَنَّهُ نهي عَن الْغَصْب وَذَلِكَ لَا يخص الصَّلَاة
وَنقل عَن بعض الْعلمَاء أَنه إِذا كَانَ النَّهْي عَن فعل فَإِذا فعل الْمنْهِي عَنهُ أخل بِشَرْط من شَرَائِطه أَو ركن من أَرْكَانه كالنهي عَن الصَّلَاة من غير طَهَارَة دلّ على فَسَاده وَإِلَّا فَلَا كالنهي عَن البيع وَقت النداء انْتهى
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ من الْمَالِكِيَّة النَّهْي عَن الشَّيْء يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَبِهَذَا قَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد يَعْنِي عبد الْوَهَّاب وَجُمْهُور أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن فورك
(1/78)
 
 
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر وَالْقَاضِي أَبُو جَعْفَر السمناني وَأَبُو عبد الله الْأَزْدِيّ وَأَبُو بكر الْقفال من الشَّافِعِيَّة لَا يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ
وَقَالَ الإِمَام الْمَازرِيّ فِي شرح الْبُرْهَان الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على دلَالَة النَّهْي على الْفساد وَالْأَكْثَر من الْمُتَكَلِّمين على أَنه لَا يدل على الْفساد وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يحكون عَنهُ الْقَوْلَيْنِ فَمنهمْ من نقل عَنهُ ذَهَابه إِلَى أَن النَّهْي يدل على الْفساد وَمِنْهُم من استلوح من كَلَام وَقع لَهُ مصيره إِلَى أَنه لَا يدل على الْفساد
وَالْجُمْهُور من مَذَاهِب الْمَالِكِيَّة كَونه دَالا على الْفساد والذاهبون إِلَى دلَالَته على الْفساد مُخْتَلفُونَ هَل ذَلِك مَأْخُوذ من اللُّغَة أَو عَن الشَّرْع
(1/79)
 
 
وَقَالَ الإِمَام أَبُو نصر الْقشيرِي فِي كِتَابه قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك وَأبي حنيفَة وَأهل الظَّاهِر وَطَوَائِف من الْمُتَكَلِّمين النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على فَسَاده ثمَّ نقل عَنْهُم الْخلاف فِي أَن ذَلِك من جِهَة اللُّغَة أَو الشَّرْع
ثمَّ قَالَ وَقَالَ مُعظم الْمُتَكَلِّمين فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد ثمَّ أَجمعُوا على أَنه كَمَا لَا يدل على الْفساد لَا يدل على صِحَّته وإجزائه كَذَا قَالَ وَفِي نقل هَذَا الْإِجْمَاع نظر لما سَيَأْتِي من مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وتبعهم على هَذِه الْعبارَة فِي الْإِطْلَاق الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ وَسَائِر أَتْبَاعه واختاروا
(1/80)
 
 
جَمِيعًا أَنه يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون الْمُعَامَلَات كَمَا هُوَ إختيار الْغَزالِيّ وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ فِي كِتَابه الْوُصُول قَالَ قوم النَّهْي يدل على الْفساد وَهُوَ مَذْهَب مَالك على مَا حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَقَالَ آخَرُونَ لَا يدل عَلَيْهِ وَفرق آخَرُونَ فَمنهمْ من قَالَ يدل عَلَيْهِ فِي الْعِبَادَات دون الْمُعَامَلَات وَمِنْهُم من قَالَ إِن كَانَ النَّهْي رَاجعا لعين الْمنْهِي عَنهُ دلّ وَإِلَّا فَلَا
وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي شرح التَّنْقِيح فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة مَذَاهِب يَقْتَضِي الْفساد لَا يَقْتَضِيهِ الْفرق بَين الْعِبَادَات والمعاملات تفِيد الْفساد على وَجه تثبت مَعَه شُبْهَة الْملك وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَزَاد فِي شرح الْمَحْصُول على هَذِه الْأَرْبَعَة قولا خَامِسًا وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَنه يدل على الصِّحَّة
(1/81)
 
 
وَقَالَ فِي مَذْهَب مَالك إِن البيع الْفَاسِد عِنْدهم الْمنْهِي عَنهُ يُفِيد شُبْهَة الْملك فَإِذا اتَّصل بِهِ البيع أَو غَيره على مَا قرروه ثَبت الْملك فِيهِ بِالْقيمَةِ وان كَانَت قاعدتهم أَن النَّهْي يدل على الْفساد فِي الْأُصُول غير أَنهم راعوا الْخلاف فِي أصل الْقَاعِدَة فِي الْفُرُوع فَقَالُوا شُبْهَة الْملك وَلم يخصوا الْفساد وَلَا الصِّحَّة جمعا بَين الْمذَاهب قلت وَهَذَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص هَذَا القَوْل بِالْعُقُودِ دون الْعِبَادَات لَكِن سَيَأْتِي من تفريعاتهم فِي الْعِبَادَات مَا يُؤْخَذ مِنْهُ نَظِير ذَلِك حَيْثُ يَقُولُونَ بِوُجُوب الْإِعَادَة فِي الْوَقْت خَاصَّة وَلَا يُعِيد بعده
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي الرَّوْضَة النَّهْي عَن الْأَسْبَاب المفيدة للْأَحْكَام يَقْتَضِي فَسَادهَا ثمَّ نقل بعد ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال أخر وَهِي
(1/82)
 
 
أَنه لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا صِحَة
وَأَنه يَقْتَضِي الصِّحَّة كَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة وانه يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون الْمُعَامَلَات وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْخطاب الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه الْهِدَايَة النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي فِي رِوَايَة جمَاعَة يَعْنِي عَن الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله فَهَذَا كَلَام من وقفت عَلَيْهِ من المصنفين فِي إِطْلَاق الْخلاف أَولا فِي الْمَسْأَلَة من غير تَقْيِيد
وَالْقسم الثَّانِي من قيد مَحل الْخلاف فِي كَلَامه بِبَعْض الصُّور فَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى اخْتلفُوا فِي أَن النَّهْي عَن البيع وَالنِّكَاح والتصرفات المفيدة للْأَحْكَام هَل يَقْتَضِي فَسَادهَا فَذهب الجماهير إِلَى أَنه يَقْتَضِي فَسَادهَا وَذهب قوم إِلَى أَنه إِن كَانَ نهيا عَنهُ لعَينه دلّ على الْفساد وَإِن كَانَ لغيره فَلَا وَالْمُخْتَار أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد ثمَّ اخْتَار بعد ذَلِك فِي مَسْأَلَة أُخْرَى أَن النَّهْي عَن الْعِبَادَات يَقْتَضِي فَسَادهَا وَلم ينْقل فِيهِ خلافًا
(1/83)
 
 
وَكَذَلِكَ قَالَ الْآمِدِيّ فِي الْأَحْكَام اخْتلفُوا فِي النَّهْي عَن التَّصَرُّفَات والعقود المفيدة لأحكامها كَالْبيع وَالنِّكَاح وَنَحْوهمَا هَل يَقْتَضِي فَسَادهَا أم لَا
فَذهب جمَاعَة الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك وَأبي حنيفَة والحنابلة وَجَمِيع أهل الظَّاهِر وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين إِلَى فَسَادهَا لَكِن اخْتلفُوا فِي جِهَة الْفساد فَمنهمْ من قَالَ إِن ذَلِك من جِهَة اللُّغَة وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه من جِهَة الشَّرْع دون اللُّغَة وَمِنْهُم من لم يقل بِالْفَسَادِ وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا كالقفال وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَكثير من الْحَنَفِيَّة وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة كَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ والكرخي وَالْقَاضِي عبد
(1/84)
 
 
الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَكثير من مشايخهم وَلَا يعرف خلافًا فِي أَن مَا نهي عَنهُ لغيره أَنه لَا يفْسد كالنهي عَن البيع فِي وَقت النداء يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا مَا نقل عَن مَالك وَأحمد بن حَنْبَل فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ
وَالْمُخْتَار أَن مَا نهي عَنهُ لعَينه فالنهي لَا يدل على فَسَاده من جِهَة اللُّغَة بل من جِهَة الْمَعْنى ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فِي مَسْأَلَة بعْدهَا إتفق أَصْحَابنَا على أَن النَّهْي عَن الْفِعْل لَا يدل على صِحَّته
وَنقل أَبُو زيد عَن أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن أَنَّهُمَا قَالَا يدل على صِحَّته فَظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ والآمدي رحمهمَا الله تَخْصِيص الْخلاف بِالْعُقُودِ الْمنْهِي عَنْهَا لَكِن الْغَزالِيّ صرح بعد ذَلِك كَمَا تقدم بِأَن النَّهْي عَن
(1/85)
 
 
الْعِبَادَة يَقْتَضِي الْفساد وَفِي أثْنَاء كَلَام الْآمِدِيّ أَيْضا التَّصْرِيح بِأَن النَّهْي عَن الْعِبَادَة لعينها يَقْتَضِي الْفساد وَهَذَا هُوَ مُرَاد الْغَزالِيّ لِأَنَّهُ صرح القَوْل بِصِحَّة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة عِنْد الْكَلَام فِيهَا
وَالْقسم الثَّالِث من قيد الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة على وَجه آخر وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب رَحمَه الله فقسم الْمنْهِي عَنهُ إِلَى مَا نهي عَنهُ لعَينه وَإِلَى مَا نهي عَنهُ لوصفه وَحكى فِي الْمنْهِي عَنهُ لعَينه خَمْسَة مَذَاهِب أَحدهَا أَنه يَقْتَضِي الْفساد من جِهَة الشَّرْع لَا من مُقْتَضى اللُّغَة وَهُوَ القَوْل الَّذِي اخْتَارَهُ وَهُوَ الرَّاجِح دَلِيلا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَثَانِيها أَنه يَقْتَضِيهِ من حَيْثُ اللُّغَة وجوهر اللَّفْظ وَالثَّالِث لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا صِحَة وَالرَّابِع أَنه يَقْتَضِي الصِّحَّة وَلم يَنْقُلهُ أَولا بل ذكر أَدِلَّة الْقَائِلين بِهِ فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة على عَادَته فِي الإختصار وخامسها الْفرق بَين الْعِبَادَات والعقود كَمَا تقدم
ثمَّ حكى فِي الْمنْهِي عَنهُ لوصفه ثَلَاثَة مَذَاهِب
(1/86)
 
 
أَحدهَا أَنه يُفِيد الْفساد شرعا كالمنهي عَنهُ لعَينه وَثَانِيها أَنه لَا يفِيدهُ وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر وَثَالِثهَا قَول الْحَنَفِيَّة أَنه يدل على فَسَاد ذَلِك الْوَصْف لَا فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَذكر أَن الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ قَالَ إِن النَّهْي عَن الشَّيْء لوصفه يضاد وجوب أَصله
قَالَ ابْن الْحَاجِب وَأَرَادَ أَنه يضاده ظَاهرا لَا قطعا إِذْ لَو كَانَ قطعا لورد عَلَيْهِ نهي الْكَرَاهَة كالنهي عَن الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل والأماكن الْمَكْرُوهَة فَإِنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ إِذا كَانَ مضادا لوُجُوب الأَصْل أَن لَا تصح الصَّلَاة وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِذا قيل إِنَّه يضاده ظَاهرا يكون قد ترك فِي هَذِه الْمَوَاضِع الظَّاهِر لدَلِيل رَاجِح وَفِي كَلَام ابْن الْحَاجِب مَا يَقْتَضِي إختياره لهَذَا القَوْل أَي إِنَّه يدل على الْفساد ظَاهرا لَا قطعا وَمُقْتَضى ذَلِك أَن يكون عِنْده دلَالَة النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه على الْفساد قطعا لَا من حَيْثُ الظَّاهِر وَتَبعهُ على هَذِه التَّفْرِقَة شرَّاح كِتَابه لَكِن زَاد الْبَيْضَاوِيّ فِي كِتَابه المرصاد الَّذِي أوضح فِيهِ مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب فِي الْمَسْأَلَة الأولى فَقَالَ
(1/87)
 
 
النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه وللازمه يَقْتَضِي الْفساد شرعا وَذكر بَقِيَّة الْمَذْهَب وَأَرَادَ بذلك نَحْو النَّهْي عَن الزِّنَا فَإِنَّهُ لدفع مَحْذُور اخْتِلَاط الْأَنْسَاب وَهُوَ لَازم لَهُ غَالِبا أَو لدفع مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الأنفة وَالْحمية الَّتِي توجبها الْغيرَة وَهُوَ لَازم لَهُ أَيْضا
وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة النَّهْي عَن الشَّيْء لوصفه اللَّازِم كَصَوْم يَوْم الْعِيد والربا كالنهي لعَينه فَإِن مُسْتَلْزم الْحَرَام حرَام
وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ حُرْمَة الشَّيْء لوصفه تضَاد وجوب أَصله وَهَذَا تَقْيِيد حسن وَلَا يحْتَاج بذلك أَن يَقُول ظَاهرا إِذا جعل ذَلِك مُخْتَصًّا بِالنَّهْي الَّذِي هُوَ للتَّحْرِيم كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَلَا يرد نهي الْكَرَاهَة وَهَذَا التَّفْصِيل الَّذِي سلكه الْبَيْضَاوِيّ هُوَ الرَّاجِح الْمُخْتَار فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلم يتَعَرَّض ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه للنَّهْي عَن الشَّيْء لغيره كَالْبيع وَقت النداء مَعَ أَن فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم عَن الْحَنَابِلَة وَغَيرهم فَهَذِهِ الطّرق الثَّلَاث هِيَ الْمَوْجُودَة فِي كتب أَصْحَابنَا فِي نقل هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَا فِيهَا من الْخلاف
وَأما الْحَنَفِيَّة فَلهم فِي ذَلِك عبارَة أُخْرَى وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى مَا تقدم من النَّقْل عَنْهُم وَلَكِن أذكرها لما فِيهَا من الْفَائِدَة ولبيان تناقضها فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/88)
 
 
قَالُوا مُقْتَضى النَّهْي شرعا قبح الْمنْهِي عَنهُ كَمَا أَن مُقْتَضى الْأَمر بِشَيْء تحسينه قَالَ تَعَالَى {وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} فَكَانَ الْقبْح من مقتضياته شرعا لَا لُغَة ثمَّ قسموا الْمنْهِي عَنهُ فِي صفة الْقبْح إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا مَا قبح لعَينه وضعا كالعبث والسفه وَالْكذب وَالظُّلم وَثَانِيها مَا الْتحق بِهِ شرعا كَبيع الْحر والمضامين والملاقيح وَثَالِثهَا مَا قبح لغيره وَصفا كَالْبيع الْفَاسِد
(1/89)
 
 
وَرَابِعهَا مَا قبح لغيره لمجاورته إِيَّاه كَالْبيع وَقت النداء فالقسمان الْأَوَّلَانِ اقْتضى النَّهْي فيهمَا الْفساد وَالرَّابِع لم يقتضه وَالثَّالِث يدل على فَسَاد الْوَصْف دون الْمنْهِي عَنهُ بل يدل على صِحَّته
واستثنوا من هَذَا الْقسم الثَّالِث النَّهْي عَن الْأَفْعَال الَّتِي تدْرك حسا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر فَإِنَّهَا وَإِن كَانَ النَّهْي عَنْهَا لوصفها اللَّازِم لَهَا فَهِيَ مُلْحقَة بالمنهي عَنهُ لعَينه فِي اقْتِضَاء الْفساد ثمَّ أوردوا على أنفسهم البيع الْفَاسِد وَالْإِجَارَة الْفَاسِدَة وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُمَا يدر كَانَ بالحس أَيْضا كالزنى وَالْقَتْل وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِالْفرقِ بَين ذَلِك من جِهَة أَن الْقَتْل وَالْغَصْب وأمثال ذَلِك كَانَ مَعْرُوفا عِنْد أهل الْملَل كلهَا يتعاطونه من غير شرع ويعلمون قبحه بِخِلَاف البيع وَالْإِجَارَة فَإِنَّهُم وَإِن كَانُوا يتعاطون ذَلِك قبل الشَّرْع فَإِنَّمَا كَانُوا يتعاطون مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ أَو الْمَنْفَعَة فَأَما أَن يكون بِعْت أَو اشْتريت عقدا عِنْدهم تترتب عَلَيْهِ أَحْكَام شَرْعِيَّة فَلَا بل إِنَّمَا عرفت تِلْكَ الْأَحْكَام بِالشَّرْعِ هَذَا ملخص قَوْلهم وَلَا يخفى بطلَان هَذَا الْفرق وَسَيَأْتِي بسط القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فيتحصل من مَجْمُوع مَا تقدم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عدَّة مَذَاهِب لَا تخفى من كَلَامهم لكني أُشير إِلَيْهَا ملخصة لما فِي ذَلِك من الْفَائِدَة
الأول أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد مُطلقًا سَوَاء كَانَ عَن الشَّيْء لعَينه أَو
(1/90)
 
 
لوصفه أَو لغيره وَسَوَاء كَانَ فِي الْعِبَادَات أَو الْمُعَامَلَات وَهَذَا مَأْخُوذ من إِطْلَاق من أطلق الْكَلَام أَولا فِي نقل الْمذَاهب ثمَّ فصل بعد ذَلِك فِي نقل نعتها وَالْحق أَن هَذَا مَذْهَب للْإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَكثير من أَصْحَابه وَسَائِر الظَّاهِرِيَّة
وَالثَّانِي أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد مُطلقًا أَيْضا سَوَاء كَانَ لعَينه أَو لوصفه أَو لغيره أَو لاختلال ركن من أَرْكَانه أَو شَرط من شَرَائِطه وَسَوَاء كَانَ عبَادَة أَو عقدا وَهَذَا مَأْخُوذ من إِطْلَاق من أطلق ثمَّ فصل القَوْل عَن بَعضهم بِالْفرقِ بَين هَذِه الْأُمُور كَمَا صرح بِهِ ابْن برهَان وَغَيره مِمَّن تقدم وَهُوَ مُشكل جدا لما سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الثَّالِث أَنه يَقْتَضِي شُبْهَة الْفساد كَمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الْمَالِكِيَّة وَظَاهر كَلَامه اخْتِصَاص ذَلِك بِالْعُقُودِ إِذا كَانَ النَّهْي عَنْهَا لعينها
الرَّابِع أَنه يَقْتَضِي الصِّحَّة إِذا كَانَ النَّهْي عَنهُ لوصفه وَلم يكن من الْأَفْعَال الحسية وَأما النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه فَيَقْتَضِي الْفساد وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَجُمْهُور أصحابهما
الْخَامِس أَنه يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون الْعُقُود وَهُوَ اخْتِيَار الإِمَام الْغَزالِيّ والآمدي وَغَيرهمَا كَمَا تقدم
السَّادِس أَن النَّهْي عَن الشَّيْء إِن كَانَ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم لَهُ فَهُوَ مُقْتَض للْفَسَاد بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لغيره وَسَوَاء فِي ذَلِك الْعِبَادَات أَو الْعُقُود
(1/91)
 
 
وَهَذَا أرجح الْمذَاهب وأصحها دَلِيلا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون مَذْهَب الشَّافِعِي وَجُمْهُور أَصْحَابه كَمَا سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
السَّابِع الْفرق بَين مَا إِذا كَانَ النَّهْي يخْتَص بالمنهي عَنهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْبقْعَة النَّجِسَة فَيَقْتَضِي الْفساد دون مَا لَا يخْتَص بِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَق وَغَيره
الثَّامِن الْفرق بَين مَا يخل بِرُكْن أَو شَرط فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفساد دون مَا لَا يخل بِوَاحِد مِنْهُمَا حَكَاهُ ابْن برهَان
ثمَّ الْقَائِلُونَ باقتضاء النَّهْي الْفساد فِي الْأَقْوَال الْخَمْسَة الْمُتَقَدّمَة اخْتلفُوا هَل ذَلِك من جِهَة اللُّغَة وموضوع اللَّفْظ أَو هُوَ مُسْتَفَاد من الشَّرْع على قَوْلَيْنِ لَهُم تقدما وَالرَّاجِح أَن ذَلِك من جِهَة الشَّرْع لَا من حَيْثُ اللُّغَة كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فيتحصل بِهَذَا الِاخْتِلَاف زِيَادَة خَمْسَة أَقْوَال أخر
وَمن وَجه آخر هَل يَقْتَضِي الْفساد قطعا أم ظَاهرا فِيهِ مذهبان كَمَا أشعر بِهِ كَلَام ابْن الْحَاجِب فِي الْمنْهِي عَنهُ لوصفه وَمُقْتَضى هَذَا أَنه لَا فرق
(1/92)
 
 
بَين نهي التَّحْرِيم وَنهي التَّنْزِيه لَكِن الصِّحَّة جَاءَت فِي نهي الْكَرَاهَة من دَلِيل خارجي وَقد صرح بذلك الْغَزالِيّ وَابْن الصّلاح فِيمَا تقدم أَولا وَمُقْتَضى كَلَام غَيرهمَا بل صرح بِهِ جمَاعَة كَمَا نَقله الشَّيْخ صفي الدّين الْهِنْدِيّ فِي نِهَايَة الْوُصُول أَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالنَّهْي الَّذِي هُوَ للتَّحْرِيم فَيُؤْخَذ من هَذَا زِيَادَة قَوْلَيْنِ آخَرين من جِهَة الْفرق بَين دلَالَته قطعا أَو ظنا وَمن جِهَة الْفرق بَين نهي التَّحْرِيم وَنهي الْكَرَاهَة
ويعترض هُنَا تَفْصِيل آخر فِي تَفْسِير لفظ الْفساد كَمَا تقدم وَهل هُوَ فِي الْعِبَادَات مَا وَجب قَضَاؤُهُ أَو مَا كَانَ على مُخَالفَة أَمر الشَّرْع وَهل هُوَ فِي الْعُقُود بِمَعْنى الْبطلَان أم لَا فَيَجِيء من هَذَا أَقْوَال أخر غير مَا تقدم وَلَا يخفى وَجه ذَلِك وَلَا إِلَى مَا يَنْتَهِي عدد الْمذَاهب
وَهنا قَول آخر أَيْضا منَاف لكل مَا تقدم وَهُوَ أَن من قَالَ من الْحَنَابِلَة بِأَن النَّهْي عَن الشَّيْء لغيره المجاور لَهُ يَقْتَضِي الْفساد لم يقل بذلك إِلَّا فِي الْعِبَادَات والعقود كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَالْبيع على بيع أَخِيه وَلم يطردوا ذَلِك فِي الإيقاعات كَالطَّلَاقِ فِي حَالَة الْحيض وَخَالف بعض الظَّاهِرِيَّة
(1/93)
 
 
الْجُمْهُور أَو الْإِجْمَاع فِي ذَلِك فَقَالُوا بِأَن الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض لَا يَقع وَكَذَلِكَ فِي طهر جَامعهَا فِيهِ فَهَذَا قَول آخر وَيَنْتَهِي مَجْمُوع الْمذَاهب إِلَى أَكثر من سِتَّة عشر قولا
وَالرَّاجِح الْمُخْتَار مِنْهَا كلهَا القَوْل السَّادِس كَمَا تقدم
وَفِي الْمَسْأَلَة أَيْضا قَول آخر لم يتَقَدَّم وَهُوَ التَّفْرِقَة بَين مَا كَانَ النَّهْي عَنهُ حق الله تَعَالَى فَيَقْتَضِي الْفساد وَمَا كَانَ لحق الْعباد فَلَا يَقْتَضِي الْفساد حَكَاهُ الْمَازرِيّ عَن شَيْخه وَلم أظفر بِهِ إِلَّا مُتَأَخِّرًا وَقد ذكرته آخر الْكتاب مَعَ الْكَلَام عَلَيْهِ
ثمَّ هُنَا تَنْبِيهَات تتضمنها أبحاث
الأول أَن أَصْحَاب الطَّرِيقَة الأولى على كثرتهم وتحققهم بِالْإِمَامَةِ يشكل قَوْلهم أول الْكَلَام أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَلم يفرقُوا بَين مَا كَانَ النَّهْي لعين الشَّيْء أَو لغيره وعزوهم ذَلِك إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي كَمَا تقدم فِي كَلَام جمَاعَة مِنْهُم وَاخْتِيَار آخَرين مَعَ أَن الْمنْهِي عَنهُ لغيره لَا يَقْتَضِي ذَلِك النَّهْي فَسَاده عِنْد الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْعلمَاء سَوَاء كَانَ فِي الْعِبَادَات كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَالثَّوْب الْحَرِير أَو فِي الْعُقُود كالنهي عَن البيع على بيع أَخِيه وَالْخطْبَة على خطبَته وَبيع الْحَاضِر للبادي وَنَحْو ذَلِك
فَإِن قيل مُرَادهم بذلك مَا إِذا كَانَ النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه لأَنهم صَرَّحُوا فِي مَسْأَلَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة بِصِحَّتِهَا وَذكروا الْخلاف عَن أَحْمد
(1/94)
 
 
قلت هُوَ وَارِد عَلَيْهِم من جِهَة إِطْلَاق القَوْل فِي مَوضِع التَّفْصِيل وخصوصا من نقل بعد ذَلِك القَوْل بالتفصيل بَين مَا كَانَ عَن الشَّيْء لعَينه أَو لغيره كالشيخ أبي اسحق وَابْن برهَان والقرطبي فان مُقْتَضى هَذَا التَّفْصِيل أَن يكون القَوْل الأول لَا فرق فِيهِ بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه أَو لغيره نعم لَا يرد على مثل الْآمِدِيّ الَّذِي صرح بذلك بعد إِطْلَاقه أَولا وَلَا على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي نصر بن الْقشيرِي لِأَنَّهُمَا ذكرا فِي صدر الْمَسْأَلَة الْكَلَام فِي الصَّلَاة بِالدَّار الْمَغْصُوبَة وَبعد تقريرها عَاد إِلَى مَسْأَلَة اقْتِضَاء النَّهْي الْفساد فَكَانَ ذَلِك مشعرا بالتفرقة بَين الْأَمريْنِ وَالْحق أَن إِطْلَاق القَوْل بذلك من غير تَفْصِيل إِنَّمَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَابِلَة والظاهرية كَمَا تقدم
الثَّانِي أَن إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفساد عَمَّن قَالَ بذلك من غير فرق بَين أَن يكون الْمَنْع من الشَّيْء لاختلال ركن من أَرْكَانه أَو شَرط من شَرَائِطه مُشكل أَيْضا وخصوصا ابْن برهَان الَّذِي نقل بعد إِطْلَاقه قولا ذهب إِلَيْهِ بَعضهم بالتفرقة بَين مَا يَقْتَضِي اختلال ركن أَو شَرط دون مَا لَا يخل بهما فَإِن مُقْتَضى هَذَا أَن الْقَائِلين بالْقَوْل الْمُتَقَدّم لم يفرقُوا بَين مَا يدل على اختلال الرُّكْن أَو الشَّرْط وَبَين غَيره وَهَذَا بعيد جدا وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون فِيهِ خلاف وَإِن كَانَ فِيهِ فَهُوَ غير مُعْتَد بِهِ إِذْ يمْتَنع أَن لَا يكون لَهُ دلَالَة على الْفساد مَعَ دلَالَته على اختلال ركن من أَرْكَانه أَو شَرط من شَرَائِطه وَالْفساد حِينَئِذٍ لَازم من لوازمه وَإِلَّا لزم من ذَلِك وجود الْكل بِدُونِ الْجُزْء وَوُجُود الْمَشْرُوط
(1/95)
 
 
بِدُونِ الشَّرْط وَهُوَ مُمْتَنع نعم من يَقُول بِالصِّحَّةِ فِي بعض الصُّور فَإِنَّمَا ذَلِك مَبْنِيّ على أَن ذَلِك المختل بِسَبَب النَّهْي لَيْسَ بِشَرْط عِنْده كَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة عِنْد الْحَنَفِيَّة وَالطَّهَارَة فِي الطّواف على رَأْيهمْ لَا أَن ذَلِك ركن أَو شَرط ثمَّ لَا يكون النَّهْي الدَّال على اختلاله دَالا على الْفساد
الثَّالِث إِن الْقَائِلين بِأَن النَّهْي عَن الْعُقُود لَا يدل عل فَسَادهَا من غير تَفْرِقَة بَين النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه أَو لغيره قَوْلهم مُشكل جدا وَلَا سِيمَا من صور أصل الْمَسْأَلَة بِالْعُقُودِ وَذكر قَول من فرق بَين الْمنْهِي عَنهُ لعَينه أَو لغيره ثمَّ اخْتَار انه لَا يدل على الْفساد مُطلقًا كَالْإِمَامِ الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ تنَاقض كَلَامه فِي كتبه الْأُصُولِيَّة وَكتبه الْفِقْهِيَّة فَاخْتَارَ فِي الْمُسْتَصْفى مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَقد تقدم نقل كَلَامه
وَقَالَ فِي كِتَابه الْوَسِيط عندنَا أَن مُطلق النَّهْي عَن العقد يدل على فَسَاده فَإِن العقد الصَّحِيح هُوَ الْمَشْرُوع والمنهي عَنهُ فِي عينه غير مَشْرُوع فَلم يكن صَحِيحا إِلَّا إِذا ظهر تعلق النَّهْي بِأَمْر غير العقد اتّفق مجاورته للْعقد كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع}
(1/96)
 
 
وَقسم المناهي على قسمَيْنِ الأول مَا لم يدل على الْفساد كالنهي عَن النجش وَالْبيع على بيع أَخِيه وَبيع الْحَاضِر للبادي وَنَحْوهَا
ثمَّ قَالَ الْقسم الثَّانِي من المناهي مَا دلّ على الْفساد إِمَّا لتطرق خلل إِلَى الْأَركان والشرائط الَّتِي سبقت أَو لِأَنَّهُ لم يبْق للنَّهْي تعلق سوى العقد فَحمل على الْفساد وَذكر فِي هَذَا الْقسم النَّهْي عَن بيع حَبل الحبلة وَبيع الْحَصَاة وبيوع الْغرَر وأشباهها
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي كِتَابه الْبَسِيط وَالْوَجِيز وَهَذَا التَّقْسِيم مُتَّفق عَلَيْهِ بَين جُمْهُور الْأَصْحَاب فَلَا يَسْتَقِيم من شَافِعِيّ إِطْلَاق القَوْل بِأَن النَّهْي فِي الْعُقُود لَا يَقْتَضِي الْفساد من غير تَفْصِيل
الرَّابِع تقدم أَن جُمْهُور الْمَالِكِيَّة على القَوْل بِأَن النَّهْي يدل على الْفساد كَمَا نَقله الْبَاجِيّ والمازري وَأَنه مَذْهَب مَالك كَمَا قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْقُرْطُبِيّ
وَقد حكى ابْن شَاس فِي كِتَابه الْجَوَاهِر الثمينة عَن القَاضِي عبد الْوَهَّاب غير ذَلِك فَقَالَ فِي الْكتاب الْمَذْكُور وَعِنْدنَا أَن مُطلق النَّهْي عَن العقد لَا يدل على فَسَاده إِلَّا أَن يقوم دَلِيل هَكَذَا حكى القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَن أهل الْمَذْهَب واصطلاحه فِي هَذَا الْكتاب إِذا قَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد يُرِيد بِهِ عبد الْوَهَّاب
(1/97)
 
 
وَلَعَلَّ طَرِيق الْجمع بَين النقلين أَن يكون مُرَادهم بِالْأولِ الْعِبَادَات وبالمنع الْعُقُود كَمَا قيد ابْن شَاس بِهِ كَلَامه فَيكون هَذَا مُوَافقا لما ذهب إِلَيْهِ الْغَزالِيّ وَغَيره من التَّفْرِقَة بَين الْبَابَيْنِ
وَقد تقدم أَن الْقَرَافِيّ ذكر فِي كتبه أَن مَذْهَب الْمَالِكِيَّة أَنه يُفِيد الْفساد على وَجه تثبت مَعَه شُبْهَة الْملك وَجعل هَذَا قولا فِي الْمَسْأَلَة على الْإِطْلَاق ثمَّ ذكر فِي أثْنَاء كَلَامه مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص ذَلِك بالبيوع الْفَاسِدَة خَاصَّة فَإِنَّهُم قَالُوا إِن الْملك لَا ينْتَقل لمُجَرّد العقد الْفَاسِد وَلَا باتصال الْقَبْض بِهِ إِلَّا أَن يتعقبه الْفَوات فَينْتَقل حِينَئِذٍ الْملك إِلَى المُشْتَرِي الَّذِي فَاتَ فِي يَده وَيجب عَلَيْهِ ضَمَانه إِمَّا بِالْمثلِ إِن كَانَ مثلِيا أَو بِالْقيمَةِ
وَأَسْبَاب الْفَوات عِنْدهم أَرْبَعَة تغير الذَّات وَتغَير الْملك وَالْخُرُوج عَن الْيَد بِالْبيعِ وَتعلق حق الْغَيْر بِهِ فَهَذِهِ الْأَسْبَاب إِنَّمَا تَجِيء فِي المبيعات خَاصَّة
ثمَّ إِنَّه لَا يَنْبَغِي أَن يعد هَذَا مِنْهُم خلافًا فِي أَن النَّهْي يدل على الْفساد لأَنهم صَرَّحُوا بِأَنَّهُ عقد فَاسد وَإِنَّمَا حَقِيقَة هَذَا الِاخْتِلَاف رَاجِعَة إِلَى تَفْسِير الْفساد مَاذَا كَمَا جَاءَ فِي مَذْهَب أبي حنيفَة وَلِهَذَا أوجبوا رد الْعين إِذا كَانَت غير تالفة وَعند التّلف لم يقرروا الثّمن الَّذِي ورد العقد عَلَيْهِ بل أوجبوا الْمثل أَو الْقيمَة كضمان الغصوب وَنَحْوهَا فَلم ينشأ ذَلِك إِلَّا من شُبْهَة العقد وَإِذن البَائِع للْمُشْتَرِي فِي قبض الْمَبِيع وَالتَّصَرُّف فِيهِ
(1/98)
 
 
ثمَّ إِنَّهُم لم يفرقُوا فِي هَذَا الحكم بَين النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه أَو لغيره بل طردوا ذَلِك فِي بيع الملاقيح والمضامين إِذا اتَّصل بِالْقَبْضِ وفاتت فِي يَد المُشْتَرِي
وَكَذَلِكَ قَالُوا أَيْضا فِي البيع على بيع أَخِيه والنجش وَاخْتلفُوا فِي البيع وَقت النداء وَالْمَشْهُور عِنْدهم أَنه يفْسخ مَا لم يفت
وَقَالُوا فِيمَن خطب على خطْبَة أَخِيه بَعْدَمَا ركن إِلَيْهِ فزوج ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه يفْسخ بِكُل حَال قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب هُوَ الظَّاهِر من الْمَذْهَب
الثَّانِي لَا يفْسخ قَالَه ابْن الْقَاسِم وَصَححهُ ابْن الْعَرَبِيّ
وَالثَّالِث الْفرق بَين مَا قبل الدُّخُول وَبعده فَيفْسخ إِذا لم يدْخل بهَا
وَمُقْتَضى هَذَا أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لما احْتَاجَ العقد إِلَى فسخ لَكِن هَذَا إِنَّمَا يَجِيء فِيمَا يكون قَابلا للْعقد عَلَيْهِ فَأَما مَا لَا يقبل العقد بِحَال كَنِكَاح الْخَامِسَة والمعتدة فَإِنَّهُ بَاطِل اتِّفَاقًا وَكَذَلِكَ عِنْدهم
(1/99)
 
 
نِكَاح الشّغَار إِذا جعل بضع كل وَاحِدَة صَدَاقا لِلْأُخْرَى فَأَما إِذا سميا فِيهِ صَدَاقا لكل مِنْهُمَا فَيفْسخ قبل الدُّخُول عِنْدهم وَكَذَلِكَ بعده على الْمَشْهُور
وَأما فِي الْعِبَادَات فالواجبات عِنْدهم فِيهَا منقسمة إِلَى مَا هِيَ شَرط وَمَا لَيْسَ بِشَرْط كالتنزه عَن النَّجَاسَة فَمَا كَانَ لَيْسَ بِشَرْط لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَإِن كَانَ فِيهِ ارْتِكَاب نهي وَلِهَذَا اخْتلفُوا فِيمَن صلى عَارِيا فِي الْخلْوَة هَل يُعِيد مُطلقًا أَو فِي وَقت خَاصَّة إِذا أدْركهُ على الْخلاف فِي أَن السّتْر هَل هُوَ من شُرُوط صِحَة الصَّلَاة أم لَا
فقد تبين أَن حَقِيقَة مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه رَاجِعَة إِلَى قَوْلَيْنِ فِي أَن النَّهْي هَل يَقْتَضِي الْفساد وعَلى مَا ذكر الْقَرَافِيّ يَجِيء أَيْضا فِي الْبيُوع قَول ثَالِث أَنه يَقْتَضِي شُبْهَة الْفساد وَالله أعلم
الْخَامِس أطلق جمَاعَة من المصنفين أَن النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على صِحَّته كَمَا تقدم فِي كَلَام الْآمِدِيّ وَالشَّيْخ موفق الدّين والقرافي وَلَيْسَ مَذْهَبهم ذَلِك فِي كل مَنْهِيّ عَنهُ على الْإِطْلَاق بل فِي بعض أقسامه كَمَا تقدم من كَلَامهم وقاعدتهم فِي ذَلِك مضطربة جدا فَإِنَّهُم قَالُوا فِي النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد أَنه يدل على صِحَّته لِأَن النَّهْي عَنهُ لوصفه لَا لعَينه فَإِذا نَذره انْعَقَد نَذره فَإِن صَامَ فِيهِ صَحَّ وَإِن كَانَ محرما وَاتَّفَقُوا على أَن صَلَاة الْحَائِض بَاطِلَة مَعَ أَن النَّهْي عَنْهَا
(1/100)
 
 
أَيْضا لوصفها بل قَالُوا بذلك أَيْضا فِي مُخَالفَة الْأَوَامِر بِنَاء على أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فأبطلوا صَلَاة من يُحَاذِي الْمَرْأَة فِي ائتمامها جَمِيعًا بِإِمَام وَاحِد لما ذكرُوا من الحَدِيث عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخروهن من حَيْثُ أخرهن الله
وَكَذَلِكَ أبطلوا صَلَاة من عَلَيْهِ أَربع صلوَات فوائت إِذا لم يقدمهَا على الْحَاضِرَة بِنَاء على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليصلها إِذا ذكرهَا وَلَا ريب فِي أَنه إِذا قيل بِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه أَن هَذَا نهي عَنهُ لوصفه لَا لعَينه
وَاتَّفَقُوا على بطلَان نِكَاح الْمُتْعَة وَصِحَّة نِكَاح الشّغَار وَإِن جعلا بضع كل وَاحِدَة مِنْهُمَا صَدَاقا لِلْأُخْرَى مَعَ أَن النَّهْي عَن كل مِنْهُمَا لوصفهما وَقَالُوا إِذا فرق القَاضِي بَينهمَا فِي النِّكَاح الْفَاسِد قبل الدُّخُول فَلَا مهر لَهَا عَلَيْهِ وَلم يعطوه حكم الصَّحِيح من كل وَجه وَقَالُوا إِن بيع أم الْوَلَد وَالْمكَاتب وَالْمُدبر بَاطِل لِأَن التَّمْلِيك لَا يتَصَوَّر فِيهِ وَكَذَلِكَ إِذا جعل وَاحِدًا مِنْهَا عوضا فِي العقد وَالْبيع بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير فَاسد وَبيع السّمك فِي المَاء بَاطِل وَكَذَلِكَ ضَرْبَة الغائص وَنَحْوه وَبيع الْمُلَامسَة والحصاة أَيْضا وَالْبيع الَّذِي اقْترن بِهِ شَرط يُنَافِي مُقْتَضَاهُ فَاسد وَمَعَ وُرُود النَّهْي فِي كل هَذِه الصُّور إِلَى غير ذَلِك من الصُّور الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالْمَقْصُود هُنَا أَنهم لم يَقُولُوا بِالصِّحَّةِ فِي كل الصُّور الْمنْهِي عَنْهَا بل إِذا
(1/101)
 
 
كَانَ النَّهْي عَنهُ لوصفه اللَّازِم أَو لأمر خارجي عَنهُ وَلم يطردوا ذَلِك فِي كل مَنْهِيّ عَنهُ لوصفه
السَّادِس أطلق جمَاعَة مِمَّن تقدم القَوْل بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون الْعُقُود وَلم يتَعَرَّض أحد مِنْهُم لغير الْعُقُود إِلَّا الْقَلِيل كابي نصر بن الصّباغ فَإِنَّهُ قَالَ دون الْعُقُود والإيقاعات وَقصد بالإيقاعات الطَّلَاق الْمحرم كَطَلَاق الْحَائِض وكإرسال الثَّلَاث جَمِيعًا على قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة وَكَذَلِكَ الْوَطْء الْمحرم كَالْوَطْءِ فِي الْحيض فَإِنَّهُ يحصل بِهِ الدُّخُول ويكمل بِهِ الْمهْر وَكَذَلِكَ وَطْء الْمحرم زَوجته وَوَطْء الصَّائِم فِي نَهَار رَمَضَان وَلِهَذَا كُله عبر ابْن الْحَاجِب فِي الْمُخْتَصر عَن القَوْل بالتفصيل بِأَنَّهُ يَعْنِي النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فِي الْأَجْزَاء دون السَّبَبِيَّة وأتى بالسببية ليشْمل الْعُقُود والإيقاعات وَالْوَطْء وَأَشْبَاه ذَلِك وَهِي زِيَادَة حَسَنَة لَكِن ورد عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا شَيْء آخر وَهُوَ أَنه اخْتَار فِي الْمَسْأَلَة أَولا أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه يدل على فَسَاده مُطلقًا ثمَّ أَشَارَ إِلَى قَول ثَان بِالْمَنْعِ مُطلقًا ثمَّ ذكر القَوْل الثَّالِث بالتفصيل الْمشَار إِلَيْهِ وَمُقْتَضى هَذَا أَن يكون القَوْل الأول يَشْمَل هَذِه الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالْوَطْء وَيكون النَّهْي عَنْهَا يدل على فَسَادهَا وَأَنه اخْتِيَاره وَلَيْسَ كَذَلِك قطعا فقد تقدم أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على وُقُوع الطَّلَاق فِي الْحيض وَفِي طهر جَامعهَا فِيهِ وَكَذَلِكَ إرْسَال الثَّلَاث وَمن
(1/102)
 
 
خَالف فِي ذَلِك أَو بعضه كالظاهرية والشيعة فخلافهم غير مُعْتَد بِهِ وَلَا عِبْرَة بِمَا ذهب إِلَيْهِ بعض الْمُتَأَخِّرين فِي ذَلِك لانعقاد الْإِجْمَاع على خِلَافه قبله
وَلَا يُقَال هَذِه الصُّور كلهَا النَّهْي عَنْهَا لغَيْرهَا فَلَا يرد على إِطْلَاق ابْن الْحَاجِب لِأَنَّهُ صدر المسالة بِالنَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه لأَنا نقُول هَذَا صَحِيح فِي وَطْء الْحَائِض وَالطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض وَفِي طهر جَامعهَا فِيهِ وَعتق الْمَرْهُون ووطئه لِأَن الْمَنْع فِيهَا كلهَا لأمر خارجي وَلَا يتم ذَلِك فِي إرْسَال الطَّلَاق الثَّلَاث وَوَطْء الصَّائِم وَالْمحرم فَإِنَّهُ مَمْنُوع مِنْهُ لوصفه اللَّازِم لَا لأمر خارجي وَابْن الْحَاجِب رَحمَه الله اخْتَار فِي المسالة الثَّانِيَة أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لوصفه كالنهي عَنهُ لعَينه فِي اقْتِضَاء الْفساد وَلَا يَقُول بِالْفَسَادِ فِي هَذِه الصُّور فَترد على إِطْلَاقه بل نقُول أَيْضا أَنه قد تقدم أَن مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل وَكثير من أَصْحَابه أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لغيره يَقْتَضِي الْفساد كالنهي عَنهُ لعَينه وَلم يَقُولُوا بذلك إِلَّا فِي الْعِبَادَات والعقود خَاصَّة كَبيع الْحَاضِر للبادي وتلقى الركْبَان وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَنَحْو ذَلِك
فَأَما هَذِه الصُّور الْمُتَقَدّمَة فَلم يَقُولُوا بِهِ فِيهَا بل الْكل متفقون على نفوذها على الْوَجْه الْمُتَقَدّم وَإِن كَانَت مَنْهِيّا عَنْهَا
السَّابِع أطلق جُمْهُور المصنفين تَصْوِير الْمَسْأَلَة كَمَا تقدم النَّقْل عَنْهُم من غير تَقْيِيد وَالْحق أَن مَحل الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي مُطلق النَّهْي كَمَا قيد بِهِ كَلَامه بعض الْمُتَأَخِّرين من أهل التَّحْقِيق
فَأَما النَّهْي الَّذِي اقْترن بِقَرِينَة تدل على بُطْلَانه أَو بِقَرِينَة تدل على
(1/103)
 
 
صِحَّته فَلَا يَنْبَغِي أَن يكون فيهمَا خلاف وَإِن كَانُوا قد أطْلقُوا ذَلِك لَكِن مُرَادهم مَا قُلْنَاهُ
فمثال الأول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا فَإِن الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تنْكح نَفسهَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّار قطنى من عدَّة طرق فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تنْكح نَفسهَا قرينَة فِي أَن النَّهْي مُقْتَض للْفَسَاد
وَمثله أَيْضا نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب ثمَّ قَالَ بعده فَإِن جَاءَ يطْلب ثمنه فاملأ كَفه تُرَابا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِن هَذَا أَيْضا قرينَة فِي أَن النَّهْي يدل على فَسَاد البيع وَأَنه لَا يسْتَحق فِيهِ ثمنا وَكَذَلِكَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يستنجى بروث أَو عظم وَقَالَ إنَّهُمَا لَا يطهران رَوَاهُ الدارقطنى وَصحح إِسْنَاده فَلَا يُمكن أَن يكون فِي شَيْء من هَذَا خلاف أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد وعد بعض الْمُتَأَخِّرين من هَذَا النَّوْع مَا يكون النَّهْي متضمنا لخلل فِي أَرْكَان الْمنْهِي عَنهُ أَو فِي
(1/104)
 
 
شَرَائِطه كَمَا تقدم وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنهُ أَنه أكل ثوما ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد فصلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ مِنْهُ ريح الثوم فَقَالَ من أكل من هَذِه البقلة فَلَا يقربن مَسْجِدنَا حَتَّى يذهب رِيحهَا فَأخذ الْمُغيرَة بيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأدْخلهَا فِي صَدره فَوَجَدَهُ معصوبا من الْجُوع فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لَك عذرا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه فَهَذِهِ الْقَرِينَة وَهِي عدم أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُغيرَة بِإِعَادَة الصَّلَاة ولبسطه عذره دلّت فِي الحَدِيث على أَن هَذَا النَّهْي غير مُقْتَض للْفَسَاد
وَمثله أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم صَوْم أحدكُم فَلَا يرْفث وَلَا يجهل فَإِن سبه أحد فَلْيقل إِنِّي صَائِم وَفِي بعض طرقه لَا تساب وَأَنت صَائِم
(1/105)
 
 
وَإِن سابك أحد فَقل إِنِّي صَائِم مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم بفصل بَين أَن يكون الساب صَائِما أَو لَا يكون صَائِما فَإِنَّهُ قرينَة تدل على أَن السب لَا يَقْتَضِي فَسَاد الصَّوْم
وَمِنْه أَيْضا النَّهْي عَن الشَّيْء لغيره أَو لمجاور لَهُ عِنْد من يَقُول بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفساد فَإِنَّهُ عِنْده قرينَة فِي ذَلِك كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الثَّامِن تقدم أَن الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن النَّهْي يدل على الْفساد سَوَاء كَانَ لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم وَإِن من الْأَصْحَاب من حكى عَنهُ قولا بِخِلَاف ذَلِك وَبَعْضهمْ جعل ذَلِك مستنبطا من أثْنَاء كَلَام لَهُ استلوح مِنْهُ أَنه لَا يدل على الْفساد
وَالَّذِي وجدت فِي مَوَاضِع عديدة نَص الشَّافِعِي على أَنه يدل على الْفساد من ذَلِك قَوْله تَعَالَى {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فَمن صلى سكرانا لم تجزه صلَاته لنهي الله عز وَجل إِيَّاه عَن الصَّلَاة حَتَّى يعلم مَا يَقُول فَإِن معقولا أَن الصَّلَاة قَول وَعمل وإمساك فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة وَلَا يُؤَدِّي هَذَا كَمَا أَمر بِهِ إِلَّا من عقله هَذَا لَفظه فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي أَحْكَام الْقُرْآن
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي كتاب الرسَالَة روايتنا من طَرِيق الرّبيع ابْن سُلَيْمَان عَنهُ وَقد ذكر أَحَادِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْخَمْسَة
(1/106)
 
 
فَاحْتمل النَّهْي من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ السَّاعَات عَن الصَّلَاة مَعْنيين أَحدهمَا وَهُوَ أعمهما أَن تكون الصَّلَوَات كلهَا واجبها الَّذِي نسي ونيم عَنهُ وَمَا لزم بِوَجْه من الْوُجُوه مِنْهَا محرما فِي هَذِه السَّاعَات لَا يكون لأحد أَن يُصَلِّي فِيهَا وَلَو صلى لم يؤد ذَلِك عَنهُ مَا لزمَه من الصَّلَاة كَمَا يكون من قدم صَلَاة قبل دُخُول وَقتهَا لم تجز عَنهُ
وَاحْتمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ بعض الصَّلَوَات دون بعض ثمَّ ذكر بَقِيَّة الْكَلَام وَرجح أَن المُرَاد بِهِ كل صَلَاة لَا سَبَب لَهَا
وَقَالَ بعد ذَلِك فِي مَوضِع آخر مِنْهَا أَيْضا كل النِّسَاء مُحرمَات الْفروج إِلَّا بِوَاحِد من الْمَعْنيين النِّكَاح وَملك الْيَمين الَّذين أذن الله تَعَالَى فيهمَا وَسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيْفيَّة النِّكَاح الَّذِي تحل بِهِ الْفروج الْمُحرمَة قبله فسن فِيهِ وليا وشهودا ورضا من الْمَنْكُوحَة الثّيّب وَذَلِكَ دَلِيل على أَن يكون أَيْضا بِرِضا المتزوج فَإِذا نقص وَاحِدًا من هَذَا كَانَ فَاسِدا لِأَنَّهُ لم يُؤْت بِهِ كَمَا سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ ذكر إِذا نقص شَيْء من ذَلِك وَقَالَ فَإِذا عقد كَذَلِك كَانَ النِّكَاح مفسوخا وَنهى الله تَعَالَى فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
(1/107)
 
 
النِّكَاح بحالات فَذكر بعض مَا فِي الْقُرْآن من ذَلِك وَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وخالتها ثمَّ قَالَ فَكل نِكَاح كَانَ من هَذَا لم يَصح وَذَلِكَ أَنه قد نهي عَن عقده وَمثله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الشّغَار وَعَن نِكَاح الْمُتْعَة وَنهى الْمحرم أَن ينْكح أَو ينْكح فَنحْن نفسخ هَذَا كُله من النِّكَاح فِي هَذِه الْحَالَات الَّتِي نهي عَنْهَا بِمثل مَا فسخنا بِهِ مَا نهي عَنهُ مِمَّا ذكرنَا قبله وَقد يخالفنا فِي هَذَا غَيرنَا وَمثله أَن ينْكح الرجل الْمَرْأَة بِغَيْر إِذْنهَا فتجيز بعد فَلَا يجوز لِأَن العقد وَقع مَنْهِيّا عَنهُ
وَمثل هَذَا أَيْضا مَا نهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بُيُوع الْغرَر وَبيع الرطب بِالتَّمْرِ إِلَّا فِي الْعَرَايَا وَغير ذَلِك مِمَّا نهى عَنهُ وَذَلِكَ أَن الأَصْل مَال
(1/108)
 
 
كل امْرِئ محرم على غَيره إِلَّا بِمَا أحل لَهُ وَمَا أحل بِهِ من الْبيُوع مَا لم ينْه عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يكون مَا نهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبيُوع محلا مَا كَانَ أَصله محرما من مَال الرجل لِأَخِيهِ وَلَا تكون الْمعْصِيَة بِالْبيعِ الْمنْهِي عَنهُ تحل محرما وَلَا تحل إِلَّا بِمَا لَا يكون مَعْصِيّة هَذَا كُله لفظ الإِمَام الشَّافِعِي رض
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك النَّهْي عَن شَيْء فِي أَمر مُبَاح كالنهي عَن اشْتِمَال الصماء وَعَن الْقرَان بَين التمرتين وَأَشْبَاه ذَلِك مِمَّا يخْتَص النَّهْي بمورده وَلَا يتَعَدَّى إِلَى تَحْرِيم الْأكل رَأْسا وَلَا تَحْرِيم لبس الثَّوْب على غير هَذَا الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ لِأَن الأَصْل فِي ذَلِك الْإِبَاحَة وَإِنَّمَا يَعْصِي فِي هَذَا النَّوْع بِفعل مَا نهي عَنهُ فَقَط كَمَا أَن وَطْء الزَّوْجَة أَو الْجَارِيَة فِي حَالَة الْحيض أَو الصّيام لَا يحرم عَلَيْهِ أصل الْوَطْء فِي غير صُورَة النَّهْي بِخِلَاف النَّوْع الأول لِأَن أصل مَال الرجل محرم على غَيره إِلَّا مَا أُبِيح لَهُ وَلذَلِك فروج النِّسَاء مُحرمَات إِلَّا مَا أبيحت بِهِ من النِّكَاح أَو الْملك على الْوَجْه الْمَشْرُوع فَإِذا لم يُوجد ذَلِك بَقِي التَّحْرِيم على أَصله
(1/109)
 
 
هَذَا معنى كَلَامه وكل هَذَا صَرِيح فِي أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه أَو لوصفه اللَّازِم يدل على فَسَاده وَيُمكن أَن يُؤْخَذ من استناده فِي الْمَنْع إِلَى أصل التَّحْرِيم فِي الْأَمْوَال والفروج أَن الْفساد لم يَأْتِ من مُطلق النَّهْي بِمُجَرَّدِهِ بل من الأَصْل الْمشَار إِلَيْهِ فَيكون هَذَا هُوَ الْموضع الَّذِي أَخذ مِنْهُ القَوْل بذلك وَلكنه لَيْسَ بِظَاهِر الْكَلَام بل الظَّاهِر من تَصَرُّفَات الشَّافِعِي وَجُمْهُور أَصْحَابه رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَن النَّهْي على الْوَجْه الْمشَار إِلَيْهِ وَيدل على الْفساد وَأَن دلَالَته على ذَلِك من جِهَة الشَّرْع لَا من جِهَة اللُّغَة وَأَن مَا نهي عَنهُ لغيره المجاور لَهُ لَا يَقْتَضِي النَّهْي فَسَاده وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(1/110)
 
 
الْفَصْل الثَّالِث
 
فِي الْأَدِلَّة على هَذَا الْمُخْتَار وَمَا اعْترض بِهِ عَلَيْهَا وَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْمَانِع لذَلِك مَعَ الْجَواب عَنهُ
وَالْكَلَام فِي أَطْرَاف
الطّرف الأول فِي الْأَدِلَّة على أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه يدل على فَسَاده من جِهَة الشَّرْع وَذَلِكَ من النَّص وَالْإِجْمَاع والمعقول
أما النَّص فعلى وَجْهَيْن أَحدهمَا مَا يَشْمَل المنهيات عَنْهَا كلهَا بِعُمُومِهِ وَذَلِكَ فِي الحَدِيث الَّذِي روته عَائِشَة رض أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أحدث فِي ديننَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد اتفقَا عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعند مُسلم أَيْضا فِي رِوَايَة أُخْرَى من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وَهَذِه الرِّوَايَة أخص بالمطلوب من الرِّوَايَة الأولى وَالرَّدّ هُنَا بِاتِّفَاق أَئِمَّة اللُّغَة والْحَدِيث بِمَعْنى الْمَرْدُود كالخلق بِمَعْنى الْمَخْلُوق
وَكَذَلِكَ أَيْضا جَاءَ فِي حَدِيث العسيف قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الماية شَاة وَالْخَادِم رد عَلَيْك أَي مَرْدُود عَلَيْك وَالرَّدّ صرف الشَّيْء ورجعه إِمَّا بِذَاتِهِ أَو
(1/111)
 
 
بِحَالَة من حالاته وَيُقَال للْمَرْأَة الْمُطلقَة مَرْدُودَة ورديد الدَّرَاهِم مَا زيف مِنْهَا ورد
وَالْمرَاد بِالْأَمر هُنَا شَرعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَرِيقه بِدَلِيل الرِّوَايَة الأولى الْمُتَّفق عَلَيْهَا وَلَا شكّ فِي أَن الْمنْهِي عَنهُ لَيْسَ من الدّين فَكَانَ مردودا والمردود هُوَ المفسوخ الَّذِي لَا يعْمل بِهِ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَهُوَ نقيض المقبول وَالصَّحِيح يُقَال رد عِبَارَته إِذا لم يقبلهَا وَكَذَلِكَ رد دَعَاهُ ورد كَلَام الْخصم إِذا أبْطلهُ وَلِهَذَا يُقَال للكتب المصنفة فِي إبِْطَال كَلَام أهل الْبدع كتب الرَّد عَلَيْهِم فَيكون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك دفعا للاشتراك وَالْمجَاز اللَّذين هما على خلاف الأَصْل فَإِذا ورد مُجَردا عَن الْقَرِينَة وَجب حمله على كلا الْمَعْنيين إِذْ لَو لم يكن لَكَانَ إِمَّا أَن لَا يحمل على وَاحِد مِنْهُمَا أَو على أَحدهمَا معينا أَو مُخَيّرا وَالْأول بَاطِل بالإتفاق وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل اللَّفْظ وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لِأَن الْحمل على أحد مدلولي اللَّفْظ المتساويين لعَينه من غير دَلِيل تَرْجِيح من غير مُرَجّح وَكَذَلِكَ الثَّالِث أَيْضا لِأَن الْحمل على التَّخْيِير إِنَّمَا يجْرِي فِيمَا يتساوى فِيهِ المعنيان وَهنا ليسَا متساويين لما سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَاعْترض على هَذَا الدَّلِيل بِوُجُوه
أَحدهَا أَنه من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَهَذِه الْمَسْأَلَة من أُمَّهَات مسَائِل أصُول الْفِقْه فَلَا يحْتَج فِيهَا إِلَّا بالقاطع وَهَذَا الإعتراض قديم أوردهُ القَاضِي أَبُو بكر على هَذَا الحَدِيث هُنَا
وَثَانِيها أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى الْفَاعِل وَمعنى الْكَلَام من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فالفاعل رد أَي مَرْدُود وَمعنى كَونه مردودا أَنه غير مثاب
(1/112)
 
 
ثَالِثهَا أَنه وَإِن عَاد إِلَى الْمَفْعُول لكنه مَحْمُول على مَا لَا يكون مَقْبُولًا أَي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثَوَاب وَلَا يلْزم من نفي الْقبُول نفي الصِّحَّة ويترجح الْحمل على هَذَا الْمَعْنى لما فِيهِ من التَّعْمِيم لشمُول جَمِيع الصُّور الْمنْهِي عَنْهَا بِخِلَاف مَا إِذا حمل على نفي الصِّحَّة فَإِنَّهُ يخرج عَنهُ كل فعل مَنْهِيّ عَنهُ حكم بِصِحَّتِهِ كَالطَّلَاقِ فِي الْحيض وَالذّبْح بسكين مَغْصُوب وَالْبيع وَقت النداء وَالصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة والأماكن الْمَكْرُوهَة إِلَى مَا لَا ينعد كَثْرَة فَكَانَ الْحمل على نفي الْقبُول أرجح وَهَذَانِ الإعتراضان ذكرهمَا الْآمِدِيّ بأخصر من هَذَا التَّقْرِير
وَرَابِعهَا قَالَه الإِمَام فَخر الدّين فِي الْمَحْصُول إِن الطَّلَاق فِي زمن الْحيض يُوصف بأمرين أَحدهمَا أَنه غير مُطَابق لأمر الله تَعَالَى وَالثَّانِي انه سَبَب للبينونة
أما الأول فَالْقَوْل بِهِ إِدْخَال فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ فَلَا جرم كَانَ ردا وَأما الثَّانِي فَلم قلت إِنَّه لَيْسَ من الدّين حَتَّى يلْزم مِنْهُ أَن يكون ردا فَإِن هَذَا عين الْمُتَنَازع فِيهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْآمِدِيّ أَيْضا بِعِبَارَة مختصرة وأصل هَذَا الإعتراض للْإِمَام الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى
(1/113)
 
 
وَالْجَوَاب عَن الأول نمْنَع أَن هَذَا الحَدِيث لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن بل أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ لإِجْمَاع الْأمة على صِحَّتهَا وتلقيهم إِيَّاهَا بِالْقبُولِ تفِيد الْعلم النظري كَمَا يُفِيد الْخَبَر المحتف بالقرائن وَهَذَا هُوَ اخْتِيَار الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَق الاسفراييني وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَقَررهُ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح وَقد ذكرته بدلائله فِي مُقَدّمَة نِهَايَة الْأَحْكَام
سلمنَا أَنه لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن لَكِن لَا نسلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا يطْلب فِيهَا الْعلم بل هِيَ ظنية ويكتفى فِيهَا بِالظَّنِّ الرَّاجِح
سلمنَا أَنَّهَا علمية لَكِن إِذا انْضَمَّ هَذَا الحَدِيث إِلَى مَا يَأْتِي بعده أَفَادَ مَجْمُوع ذَلِك الْعلم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَعَن الثَّانِي أَن عود الضَّمِير إِلَى الْفِعْل أولى لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه أقرب مَذْكُور وَالثَّانِي أَن عوده إِلَى الْفَاعِل يسْتَلْزم أَن يكون الْمَرْدُود هُنَا أُرِيد بِهِ الْمجَاز لِأَن حمله على الْفَاعِل بِمَعْنى أَنه غير مثاب يكون مجَازًا بِخِلَاف مَا إِذا حمل على نفس الْفِعْل لِأَن رده يكون حَقِيقَة وخصوصا إِذا حمل على نفي الصِّحَّة والإعتداد بِهِ وَعدم ترَتّب أَثَره عَلَيْهِ
وَعَن الثَّالِث أَن نفي الْقبُول يلْزم مِنْهُ نفي الصِّحَّة لِأَن الْقبُول ترَتّب الْغَرَض الْمَطْلُوب من الشَّيْء على الشَّيْء يُقَال قبل فلَان عذر فلَان إِذا ترَتّب على عذره الْغَرَض الْمَطْلُوب من محو جِنَايَته وَلِهَذَا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفْي الْقبُول حَيْثُ المُرَاد نفي الصِّحَّة مثل
(1/114)
 
 
لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول وَقَوله لَا يقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار أَي من بلغت سنّ الْمَحِيض وَأَمْثَاله
لَا يُقَال فقد وَردت أَحَادِيث نفي فِيهَا الْقبُول وَهِي صَحِيحَة
كَالْعَبْدِ إِذا أبق لم تقبل لَهُ صَلَاة وَمن أَتَى عرافا وشارب الْخمر وَغَيره لأَنا نقُول قَامَ هُنَا دَلِيل من خَارج على الصِّحَّة ففسرنا الْقبُول فِيهَا بلازمه وَهُوَ ترَتّب الثَّوَاب وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يُفَسر بلازمه فِي كل الصُّور إِذا لم يقم دَلِيل من خَارج على صِحَة مَا حكم برده أَو نفي عَنهُ الْقبُول
سلمنَا أَن نفي الْقبُول لَا يلْزم مِنْهُ نفي الصِّحَّة لَكِن لَا نسلم تعين الْحمل عَلَيْهِ فِي قَوْله فَهُوَ رد بل حمله على نفي الصِّحَّة أولى لوَجْهَيْنِ
(1/115)
 
 
أَحدهمَا أَنه هُوَ حَقِيقَة اللَّفْظ أَو هُوَ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة كَمَا بَينا من قبل
وَثَانِيهمَا أَنه أَكثر فَائِدَة لِأَن الْحمل على نفي الصِّحَّة يلْزم مِنْهُ نفي الْقبُول دون الْعَكْس وَالْحمل على الْأَكْثَر فَائِدَة أولى أَو هُوَ الْمُتَعَيّن
وَأما الذّبْح بالسكين الْمَغْصُوب وَطَلَاق الْحَائِض وَمَا ذكر مَعهَا فَهُوَ غير مُعْتَبر وَلَا نقض بهَا علينا لِأَن النَّهْي فِيهَا كلهَا لأمر خارجي لَا لعينها فالآتي بذلك الْفِعْل المقترن بِهَذَا الْخَارِجِي لم يَأْتِ بِهِ مرتكبا لمنهي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بل بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره
وَعَن الرَّابِع أَن الطَّلَاق فِي الْحيض غير وَارِد لما أَشَرنَا إِلَيْهِ آنِفا وَلَا يردهُ الإِمَام فَخر الدّين بِعَيْنِه لكنه جَاءَ بِهِ على وَجه الْمِثَال وَمرَاده التَّعْمِيم فِي كل الصُّور بِأَن يُقَال مثلا بيع الرِّبَوِيّ مُتَفَاضلا من هَذِه الْحَيْثِيَّة غير مُطَابق لأمر الله وَأما ترَتّب أَثَره عَلَيْهِ فَذَاك أَمر آخر وَهُوَ مَحل النزاع
فَيُقَال فِي جَوَابه الحَدِيث مصدر بِلَفْظ من الَّتِي هِيَ من صِيغ الْعُمُوم فَيعم ذَلِك كل عمل لَيْسَ على طَرِيق الشَّرْع بالحكم عَلَيْهِ أَنه مَرْدُود ورد الْوَاقِع مُتَعَذر فَيتَعَيَّن صرفه إِلَى آثاره ويعم جَمِيع الْآثَار المترتبة عَلَيْهِ والنقض بالمنهي عَنهُ لغيره غير وَارِد لما بَيناهُ وَالله أعلم
الْوَجْه الثَّانِي من الْأَحَادِيث مَا جَاءَت مُخْتَصَّة بِبَعْض الصُّور الْمنْهِي عَنْهَا فَمِنْهَا حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسِيء صلَاته بِالْعدمِ فِي قَوْله إرجع فصل فَإنَّك لم تصل
(1/116)
 
 
وَلَا معنى للعدم إِلَّا الْبطلَان وَعدم الإعتداد بهَا وَلَا يُقَال لَو كَانَت بَاطِلَة لم يقره عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أكملها غير مرّة لأَنا نقُول كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يظنّ بِهِ تحسن صلَاته لمُجَرّد الْإِنْكَار عَلَيْهِ وتربص بِهِ حَتَّى يفرغ لمصْلحَة التَّعْلِيم
وروى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه فِي قصَّة المواقع أَهله فِي نَهَار رَمَضَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ وصم يَوْمًا مَكَانَهُ وَذَلِكَ دَلِيل على فَسَاد الصَّوْم بارتكاب الْمنْهِي عَنهُ
وَمِنْهَا حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا بِالرَّدِّ والإبطال كَمَا فِي حَدِيث فضَالة رض أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام خَيْبَر بقلادة فِيهَا ذهب وخرز ابتاعها رجل بِتِسْعَة دَنَانِير أَو سَبْعَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حَتَّى تميز بَينهمَا فَرده حَتَّى ميز بَينهمَا رَوَاهُ مُسلم وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن عَليّ رض أَنه فرق بَين
(1/117)
 
 
وَالِدَة وَوَلدهَا فَنَهَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك ورد البيع
وَفِي الْمُسْتَدْرك للْحَاكِم عَن أبي سعيد أَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا بعثت بصاعين من تمر عَتيق واشترت بهما صَاع عَجْوَة فقدمته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَنَاول مِنْهُ تَمْرَة ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَأَخْبَرته بِمَا صنعت فَألْقى التمرة وَقَالَ ردُّوهُ ردُّوهُ التَّمْر بِالتَّمْرِ مثلا بِمثل الحَدِيث وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أبي الْمنْهَال اشْتريت أَنا وَشريك لي شَيْئا يدا بيد ونسيئة فجَاء الْبَراء بن عَازِب
(1/118)
 
 
فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ فعلته أَنا وشريكي زيد بن أَرقم قَالَ فسألنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ أما مَا كَانَ يدا بيد فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ نَسِيئَة فَردُّوهُ
وَفِي الْمُوَطَّأ مُرْسلا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر السعدين أَن يبيعا آنِية من الْمغنم من ذهب أَو فضَّة فباعا كل ثَلَاثَة بأَرْبعَة عينا فَقَالَ لَهما أربيتما فَردا
وَلَا يُقَال لَو كَانَ النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد لم يتعاط الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم هَذِه الْعُقُود لأَنا نقُول يحْتَمل أَن يكون من فعلهَا مِنْهُم لم يبلغهُ النَّهْي وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر أَو الْمُتَعَيّن
(1/119)
 
 
لِأَنَّهُ لَا يظنّ بهم الْإِقْدَام على الْمنْهِي عَنهُ وَمَوْضِع الدّلَالَة من هَذِه الْأَحَادِيث إبِْطَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْبيُوع وَالظَّاهِر أَن ذَلِك لارتكاب الْمنْهِي عَنهُ فِيهَا
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله إِذا حرم على قوم أكل شَيْء حرم عَلَيْهِم ثمنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَهَذَا يتَضَمَّن الدَّلِيل على أَن البيع الْفَاسِد لَا يَتَقَرَّر أصلا بِوَجْه مَا إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لما حرم التَّصَرُّف فِي الثّمن مُطلقًا فَهَذَا يخْتَص بِالرَّدِّ على من يَقُول إِن العقد الْفَاسِد يقر فِي بعض الصُّور أَو أَن النَّهْي يَقْتَضِي الصِّحَّة إِلَى غير ذَلِك من الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة
وَأما الْإِجْمَاع فقد تَوَاتر عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم من وُجُوه عديدة الِاسْتِدْلَال بِالنَّهْي عَن الْفساد وَالْحكم على الْمنْهِي عَنهُ بفساده فِي وقائع كَثِيرَة يَقْتَضِي مجموعها الْقطع بذلك لاستعمالها على الْمَعْنى الْكُلِّي الْمشَار إِلَيْهِ وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم إِنْكَار ذَلِك وَلَا ذهَاب إِلَى صِحَة فَكل مَنْهِيّ عَنهُ أصلا فَكَانَ فِي ذَلِك إِجْمَاع مِنْهُم على أَن النَّهْي للْفَسَاد
فَمن الأول إِنْكَار عَليّ رض على ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(1/120)
 
 
فِي نِكَاح الْمُتْعَة واستدلاله على بُطْلَانه بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كُنَّا نخابر وَلَا نرى بذلك بَأْسا حَتَّى زعم رَافع ابْن خديج أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنْهَا فتركناها
(1/121)
 
 
وَاسْتدلَّ على بطلَان نِكَاح الْكِتَابِيَّة بقوله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} وَأنكر عبَادَة بن الصَّامِت على مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ نَسِيئَة وَاسْتدلَّ بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَرد النَّاس تِلْكَ الْبيُوع الَّتِي تبايعوها يَوْمئِذٍ على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ والقصة فِي صَحِيح مُسلم وَكَذَلِكَ أَيْضا فعل أَبُو الدَّرْدَاء مَعَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ
(1/122)
 
 
وَأنكر معمر بن عبد الله رض على غُلَامه بيع الْحِنْطَة بِالشَّعِيرِ وَأمره برده وَاسْتدلَّ بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا مثلا بِمثل رَوَاهُ مُسلم
وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة
عَن حبيب بن أبي ثَابت قَالَ كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَأَتَاهُ رجل فَقَالَ إِنَّا نَأْخُذ الأَرْض من الدهاقين فأعتملها بيَدي وبقري فآخذ حَقي وأعطيه حَقه فَقَالَ لَهُ خُذ رَأس مَالك وَلَا ترد عَلَيْهِ شَيْئا وَاسْتدلَّ بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المخابرة
(1/123)
 
 
وَعَن إِسْمَاعِيل الشَّيْبَانِيّ قَالَ بِعْت مَا فِي رُؤُوس النّخل إِن زَاد فَلهم وَإِن نقص فَعَلَيْهِم فَسَأَلت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك
وَأما حكمهم بِفساد الْعِبَادَة أَو العقد عِنْد ارْتِكَاب الْمنْهِي عَنهُ فيهمَا فَمَا لَا يُحْصى كَثْرَة كَقَوْل حُذَيْفَة رض للَّذي رَآهُ يُصَلِّي وَلَا يحسن الرُّكُوع وَالسُّجُود مَا صليت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة وَلَو مت وَهَذِه صَلَاتك لمت على غير الْفطْرَة وَقَالَ بِلَال رض لآخر مثل ذَلِك
(1/124)
 
 
وَأمر الْمسور بن مخرمَة رجلا لم يتم رُكُوعه وَسُجُوده بِإِعَادَة الصَّلَاة وَصلى عمر رض بالمغرب فَلم يقْرَأ فِيهَا فَأَعَادَ الصَّلَاة وَصلى أَيْضا وَهُوَ جنب سَاهِيا فَأَعَادَ وَكَذَلِكَ قَالَ عَليّ وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَا أُبَالِي كَانَا مصرورين فِي نَاحيَة ثوبي أَو نازعاني فِي صَلَاتي يَعْنِي الْغَائِط وَالْبَوْل
(1/125)
 
 
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رض الصَّائِم فِي السّفر كالمفطر فِي الْحَضَر
وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا جَامع الْمُعْتَكف بَطل اعْتِكَافه واستأنف
وَقضى عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُم بِفساد حج من جَامع وَهُوَ محرم وَثَبت عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رفث} قَالَ هُوَ الْجِمَاع
وَقَالَ ابْن أبي جبلة كَانُوا يفرقون بَين السبايا فَيَجِيء
(1/126)
 
 
أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ فَيجمع بَينهم يَعْنِي بَين الوالدة وَوَلدهَا فِي الْقِسْمَة وَأَبُو أَيُّوب هُوَ الرَّاوِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله من فرق