تشنيف المسامع بجمع الجوامع 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
(ص) المبعوث إلى الخلق أجمعين.
ش: لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى كل أحمر وأسود)) والمكلف من الخلق ثلاثة: الجن والإنس والملائكة، فأما (179/ز) بعثه للجن فلأنهم قصدوه وسمعوا منه القرآن وأخذوا عنه الشرائع، وقال: ((لكم كل عظم وما لم يذكر اسم الله عليه ونهى عن الاستنجاء بالعظم)) لذلك ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير سورة البقرة الإجماع على شمول رسالته للجن وأما دخول الملائكة في دعوته صلى الله عليه وسلم فذكر البيهقي في الباب الرابع من (شعب الإيمان) أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس دون الملائكة، ونقله عن الحليمي ولم ينكره وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم، وقال: لا هم الملائكة ما دخلت في دعوته فقاموا عليه وقد ذكر فخر الدين في تفسير سورة
(4/748)
 
 
الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا} والملائكة داخلون في هذا العموم.
(ص) المفضل على جميع العالمين.
ش: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ونقل الإمام في تفسيره الإجماع عليه واستثنوه من الخلاف في التفضيل بين الملك والبشر.
(ص) وبعده الأنبياء.
ش: يتضمن أمرين:
أحدهما: أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء واحتج بعضهم على أفضلية الأنبياء بقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فهو
(4/749)
 
 
مأمور بالاقتداء بجميعهم وفعل ما فعلوه ولا بد أنه امتثل والواحد إذا فعل مثل ما فعل الجماعة كان أفضل منهم، قال الطوفي: ويحكى أن هذه المسألة وقعت في زمن ابن عبد السلام فقال: إنه عليه السلام كان أفضل من كل واحد منهم، لأنه أفضل من جميعهم فتمايل جماعة من علماء عصره على تكفيره فعصمه الله منهم وأما حديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء فقال البيهقي في (دلائل النبوة): إنما هي في مجادلة أهل الكتاب في تفضيل نبينا عليه السلام على أنبيائهم، لأن المفاضلة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيكفر بذلك فأما تطلب ذلك ليعرف الشيء بما هو عليه فالمنع منه، قال: وهذا قول الحليمي وغيره.
الثاني: أن الأنبياء عليهم السلام أفضل البشر بعده صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا خلاف فيه، وما يعزى إلى بعض الصوفية من تفضيل الولي، فقد تأوله هو وغيره بأن كل نبي ولي قطعا وهو من حيث إنه ولي أفضل من حيث إنه نبي لأن ولايته وجهته إلى الخلق. وفي هذا من النزاع والشناعة ما لا يخفى وقال والد
(4/750)
 
 
المصنف في بعض تعاليقه: غلط بعض من ينسب إلى الصوفية في هذه الأعصار فزعم أن الولاية أعلى، لأنها نسبة العبد من الله تعالى، وهذا جهل من قائله خفي عليه أن النسبة في النبي صلى الله عليه وسلم أكمل، وفي الرسول أكمل وإنما يصح ما قال هذا الجاهل لو لم يكن في الرسول والنبي بعد حصة الولاية كمال آخر، وهيهات قد عمي بصر هذا القائل عن ذلك، فلو نظر إلى خصائص الأنبياء والكمالات الحاصلة لهم فوق الأولياء لأبصر الأولياء في الحضيض الأسفل وإن كانوا على خير، وأخذ بحجز الكمال الذي للأنبياء.
(ص) ثم الملائكة عليهم السلام.
ش: أما تفضيل الأنبياء على الملائكة فهو عقيدة الأشعري وجمهور أصحابه وهو أحد أقوال أبي حنفية فيما ذكره شمس الأئمة، لاجتماع العصمة مع التركيب المعرب للنوائب التي يجب الصبر عليها، والشهوات التي يجب الصبر عنها ومن أحسن الأدلة قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: {وكلا فضلنا
(4/751)
 
 
على العالمين} والملائكة من العالمين فدل على أنهم أفضل منهم، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} وأراد بني آدم، لأن الملائكة لا يجازون بل هم خدم أهل الجنة وقال الشيخ عز الدين: خير البرية أي خير الخليقة، والملائكة من جملة الخليقة لا يقال: الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لأن هذا اللفظ مخصوص في عرف الشرع بمن آمن من البشر فلا يندرج فيه الملائكة بعرف الاستعمال. انتهى.
وما ذكرنا أحسن ولأن بهم قامت حجة الله على خلقه بخلاف الملائكة حتى قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} ولأن آدم صلى الله عليه وسلم أبا البشر سجد له الملائكة والمسجود له أفضل من الساجد ثم من الأنبياء من هو أفضل من آدم صلى الله عليه وسلم ولأن الناس في الموقف إنما يستشفعون بالأنبياء لا بالملائكة، وذهب المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واختاره القاضي أبو بكر (100/ك) والأستاذ أبو إسحاق والحافظ أبو عبد الله الحاكم، والحليمي والإمام الرازي في (المعالم) وأبو شامة المقدسي من المتأخرين وقال البيهقي في (شعب الإيمان) وقد روى أحاديث المفاضلة بين الملك والبشر، وقال: ولكل دليل ووجه، ثم قال:
(4/752)
 
 
والأمر فيه سهل وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به واستفدنا منه أنه لا يجب ذلك في العقيدة خلاف ما يقتضيه صنيع المصنف، وأن في المسألة قولا ثالثا بالوقف وإليه صار إلكيا في تعليقه وحكى صاحب (التعرف) قولا رابعا: أن مذهبهم السكوت عن التفاضل بينهم وقالوا: الفضل لمن فضله الله تعالى وليس ذلك بالجوهر ولا بالعمل، ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرفة الحكم فيها، فليفوض إلى الله تعالى ويعتقد أن الفضل لمن فضله الله تعالى، ونقل بعضهم قولا خامسا: أن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر وعزاه للمحققين والظاهر أنه تنقيح مناط الخلاف وإليه يشير كلام المصنف، فإنه جعل المسألة بين الأنبياء والملائكة، لا بين البشر والملائكة وقال الإمام أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (التوجيه): اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة، فأما المطيعون فاختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة على قولين وقال ابن يونس في (مختصر الأصول) بعد ذكر القولين وقال (180/ز) الأكثرون
(4/753)
 
 
منا: المؤمن الطائع أفضل من الملائكة، وقيد الإمام في الأربعين
الملائكة بالسماوية وقال ابن منير: مذهب أهل السنة أن الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية، ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من الملائكة لكان كل بشر أفضل من الملائكة معاذ الله، وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): إن فاضل بينهم مفضل من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن أجساد الملائكة أفضل، فإن أجسادهم من نور، وأجساد البشر من لحم ودم، وإن فاضل بينهم أراوح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر عن الأجساد فأرواح الأنبياء أفضل وقال في موضع آخر: وأما أرواحهم وإن كانت أعرف بالله وأكمل أحوالا من أحوال البشر فهم أفضل من البشر وإن استوت الأرواح في ذلك فقد فضلوا على البشر بالأجساد وفضل البشر من نعيم الجنان والنظر إلى الديان، قال: ولا شك أن للبشر طاعات لم تثبت مثلها للملائكة كالجهاد والغزو، ومخالفة الهوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على البلايا والمحن والرزايا وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم ولم يثبت مثل هذا للملائكة وقال في موضع آخر: لا يفضل الملائكة إلا هجام
(4/754)
 
 
بنى التفضيل على حالات توهمها، ولا شك أن القليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف ثم قال: وليس لأحد أن يفضل أحدا على أحد ولا أن يسوي أحدا بأحد حتى يقف على أوصاف التفضيل والتساوي، وذكر الإمام فخر الدين أن الخلاف في التفضيل بمعنى أنهما أكثر ثوابا على الطاعات ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على أفضلية الملائكة فإنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا لم يلق محل النزاع وهذا يزيل الإشكال في المسألة.
(ص): والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدث مع عدم المعارضة والتحدي: الدعوى.
ش: لما قدم الإرسال بالمعجزات احتاج إلى تعريفها ولأن ظهورها طريق إلى معرفة صدق النبي وسميت بذلك لما فيها من تعجيز الذين معهم التحدي عن المقابلة بمثلها قال الإمام في الرسالة النظامية: تسميتها بذلك تجوز، فإن المعجز في الحقيقة خارق، ولكن سميت بذلك، لأنه تبين بها أن من ليس نبيا يعجز عن الإتيان بما يظهره الله تعالى على النبي فقوله: (أمر) جنس يشمل الخارق وغيره، وإنما عبر به لشموله القول والفعل والإعدام، لأن المعجز قد يكون إيجادا وإعداما
(4/755)
 
 
كما لو تحدى بأن يعدم جبلا فينعدم وكمنع إحراق النار ولهذا قال بعضهم: فعل أو ما يقوم مقامه، لأن العدم ليس بفعل وقوله: (خارق للعادة) فصل، لأنه نزل من الله تعالى منزله التصديق بالقول، وأما ما لا يكون خارقا للعادة كطلوع الشمس كل يوم، فلا يكون دالا على الصدق وإلا لادعى كل كاذب أنه نبي، وألبس علينا النبي والمتنبي وعلم من إطلاقه أنه لا يشترط في الخارق أن يكون معينا، ونقل الآمدي فيه الاتفاق وقوله: (مقرون بالتحدي) أي دعوى النبوة أي يشترط أن لا تتقدم المعجزة على دعواه ولا تتأخر، لتخرج الكرامات لأنها لا تكون مع التحدي، ويرج الإرهاص وهو العلامة الدالة على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كالنور الذي ظهر من جبين عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: مع عدم المعارض أي يشترط العجز الآتيان= بمثلها من الخلق ليخرج السحر والشعبذة وليس المراد عدم مطلق المعارضة فإنه قد يدعي المعارضة بما لا تصح المعارضة به بل المراد اشتراط نفي ما يصح أن يكون معارضا.
(4/756)
 
 
قال الآمدي ووجه اشتراط كون المبعوث إليه متعذرا عليه المعارضة: أنه لو لم يكن كذلك لكان مساويا لمن ليس بنبي في ذلك، ويخرج المعجز عن كونه نازلا من الله منزلة التصديق، قال: وهل يشترط أن يكون المعارض مماثلا لما أتي به الرسول؟ ينظر: فإن كان تحديه بخارق معين وأن أحدا لا يقدر على الإتيان بالخارق فأكثر أصحابنا اشترطوا المماثلة والذي اختاره القاضي: أنها غير مشروطة، قال الآمدي: وهو الحق لتبيين المخالفة فيما ادعاه، وهذا القيد وارد على تعريف المصنف ويرد عيه أيضا الخارق المكذب كما لو أنطق جمادا أو أحيا ميتا فأخبر أنه كاذب فاجتنبوه فإنه لا يدل على صدقه على الصحيح، كما قاله أبو إسحاق الشيرازي وجزم به إمام الحرمين في (الرسالة النظامية)، فلو كان تصديقا للهزل يخرج هذا ولعله إنما لم يذكره لأنه يختار قول من قال: إن ذلك لا يقدح لأنه خارق ظهر على وفق دعواه وكذلك التكذيب من (102/ك) الأمور المعتادة، والحق كما قاله صاحب (الصحائف): إنه قادح لأن خلق المعجز لتصديق النبي وهذا ينافيه وجعل الأبياري في (شرح البرهان) للخارق المكذب صورتين:
أحدهما: أن يدعي أن آيته أن ينطق فينطق بكذبه.
والثانية: أن يتحدى بإحياء ميت فيحيى ويكذبه.
وأما الأولى فمتفق على أنها لا تكون معجزة لأنه بمثابة ما لو قال الذي أنه رسول: آية صدقه أن يكلم الملك رعيته على خلاف عادته ثم يستدعي ذلك من الملك فيقول هو كاذب فيما قال، فلا يشك الحاضرون في كونه لم يصدقه في نطقه إن كان خارقا لعادته، وأما الثانية ففيها نظر، إذ يمكن أن يحتج المدعي بأن
(4/757)
 
 
الخارق قد وجد ولما حيي هذا صار من جملة المعاندين، والمختار أنه لا يكون مصدقا في ذلك، وزاد بعضهم قيدا آخر وهو زمن التكليف، لأن ما يقع في القيامة من الخوارق ليس بمعجز، لأن الآخرة ليست دار تكليف قاله الأستاذ أبو إسحاق وقال الأستاذ في كتاب الحدود: والمعجز كل أمر دل على صدق مدعي النبوة، وقيل: أمر خارق للعادة يظهر على وفق مدعي النبوة زمان التكليف مقترنا بالتحدي في دعوى النبوة على جهة الابتداء متضمنا لتصديقه ولهذا قلنا: إن المعجز لا يكون ظهوره على أيدي الكذابين لأن المعجز ما دل على الصدق فيستحيل وجوده على يد الكذاب. فيخرج بقولنا: يظهر على مدعي (181/ز) النبوة ما يظهر من جنس المعجزات لا على مدعي النبوة فليس بمعجزة كالكرامات وخرج بزمن التكليف خرق العادة في القيامة، قال: ومعنى أن يتحدى بها أن يقول: لا يقدر على ذلك أحد وإن كان في قدرة أحد ما يظهر على يدي فهاتوا ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل فأتوا بسورة مثله} {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} وقوله على جهة الابتداء يخرج من مضى في وقتنا هذا إلى بلد بعيد عن الإسلام وقرأ عليهم وتحداهم به، وادعى النبوة فلا يدل على صدقه مع وجود الشرائط كلها، لأنه ما أتى به (لا على) وجه الابتداء. وقوله متضمنا لصدقه، يخرج ما لو قال: آية صدقي أن هذه الأسطوانة تتكلم فتكلمت غير أنها قالت: إنه كاذب فلا يدل على صدقه على الصحيح وقول المصنف: والتحدي الدعوى، أي دعوى النبوة مخالف ما سبق عن الشيخ أبي إسحاق في تفسير التحدي.
وقيل: التحدي لغة: المماراة
(4/758)
 
 
والمنازعة فحصل من كلامه أن شروط المعجزة أربع: كونها خارقة للعادة, والعجز عن الإتيان بمثلها من الخلق، واقترانها بدعوى الرسول، وأن لا تتقدم على دعواه ولا تتأخر، ويعلم مما سبق ما يزيد على ذلك وزاد بعضهم كونها مطابقة لدعواه وأن يحد لها وقتا قريبا فتقع في الوقت الذي حد.
ص: والإيمان تصديق القلب ولا يعتبر إلا مع التلفظ بالشهادتين من القادر، وهل التلفظ شرط أو شطر؟ فيه تردد.
ش: الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع قال الأشعري: التصديق بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، لأن منكر الاجتهاديات لا يكفر إجماعا، وتابعه أكثر المتكلمين كالقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق، وعلم من هذا أن الإيمان الشرعي من قبيل العلوم، والمخالف فيه المعتزلة فإنهم جعلوه من قبيل الأعمال حيث فسروه بالعبادات قال الأشاعرة: ولا يكفي مجرد التصديق بالقلب مع القدرة على الإقرار باللسان ولا ينتفي الكفر إلا بهما، لأن القول مأمور به كالعقد قال تعالى: {قولوا آمنا بالله} الآية. وقال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل
(4/759)
 
 
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) فلا بد من العقد والقول جميعا، وعلى هذا فالتلفظ شرط لا ركن، فمن صدق بقلبه ولم يتلفظ بالشهادتين إن عجز عن التلفظ لخرس أو اقتران منية قبل التمكن منه فهو من الناجين وإن قدرعليه بأن عرض عليه التلفظ وأبى لم ينفعه التصديق القلبي بالاتفاق كأبي طالب وإن لم يعرض عليه أو لم يتفق له التلفظ ومات مصدقا بقلبه فالجمهور على أن مجرد التصديق لا ينجيه والحالة هذه ومال الغزالي إلى أنه ينجيه وقال: كيف يعذب من قلبه مملوء بالإيمان وهو المقصود الأصلي؟ غير أنه لخفائه ينط الحكم بالإقرار الظاهر، وعلى هذا فهو مؤمن عند الله تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا، وهذا كما في المنافق لما وجد منه الإقرار باللسان دون التصديق كان مؤمنا في أحكام الدنيا كافرا عند الله، وهذا هو ظاهر كلام شيخه في (الإرشاد) أيضا، ومن حجته أن حقيقة الإيمان التصديق وأنه عمل القلب ومنهم من فصل فقال: من صدق بقلبه ثم اخترم قبل اتساع وقته للتلفظ بالشهادتين فهو محكوم بإيمانه، وأما من صدق بقلبه وطالت مهلته ولم يتلفظ
(4/760)
 
 
فلا لتفريطه وينبغي تنزيل كلام الإمام الغزالي على هذا، ويشهد له عبارته في (الاقتصاد) حيث قال: من عرف الله بالدليل ومات عقب معرفته حكم له بالإيمان انتهى.
وذهب أكثر السلف إلى أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان ونقل عن الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله وعلى هذا فالتلفظ ركن له وماهية الإيمان مركبة من الثلاثة، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: شرط أو شطر فعلى قول المتكلمين شرط وعلى قول السلف شطر ويدل على أن الإقرار جزء الإيمان ظواهر النصوص الدالة على كون كلمة الشهادة من الإيمان وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره إلا بها، ويجيء من كلام الغزالي السابق مذهب ثالث: وهو أن اللفظ واجب من الواجبات الإيمانية لا جزء له ولا شرط، وحديث جبريل يدل له حيث جعل الإسلام: شهادة وأعمالا والإيمان تصديقا واعتقادا ولم يذكر اللفظ إلا في الشرائع الإسلامية، واحتج الأولون على أن
(4/761)
 
 
الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان وإلا لكان تقييد الإيمان بالطاعة متكررا، وهو باطل لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} ولما صح جعل القلب محلا (103/ك) للإيمان إذ الطاعات ليست جميعها من أفعال القلوب لكنه باطل بقوله تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} ولأن من صدق ومات قبل أن يشتغل بطاعة مؤمن بالإجماع، ولأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بالتصديق المجرد، وهو قوله: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)) أي أن تصدق بذلك والمذكور في جواب ما هو، يكون كمال الحقيقة المسؤول عنها.
وصارت المعتزلة إلى أن الإيمان هو الطاعات أعني امتثال الواجبات واجتناب المنهيات واحتجوا بنحو ما سبق من إطلاق الإيمان على الأعمال ونحن لا ننكر ذلك، إنما النزاع في أنه لا يطلق الإيمان إلا ويراد به الأعمال ولا دليل عليه، وقال الآمدي الحق في هذه المسألة غير خارج عن مذهب الشيخ، وهو أن الإيمان التصديق وأن التصديق من أقوال النفس أو من ضرورته المعرفة وكأنه يشير إلى أن الخلاف لفظي، وفيه نظر، وفروع هذا الأصل كثيرة.
(4/762)
 
 
منها أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا، فإن قلنا: حقيقته التصديق المجرد لم يقبلهما، وإن: قلنا التصديق مع العمل قولا وفعلا قبلهما، لأن القول والفعل جزء الإيمان وهما يقبلان الزيادة والنقص وقد يقال على الأول: الإيمان هو التصديق الاعتقادي لا العلمي. والاعتقاد يقبل التفاوت قوة وضعفا أو بحسب قوله للتشكيك وعدمه.
ومنها تكفير تارك الصلاة والزكاة والحج ونحوهم من العبادات مع الاعتراف بوجوبها إن قلنا: إن هذه الأعمال ركن من الإيمان انتفى بتركها لأن الجملة تنتفي بانتفاء جزأيها، وإن قلنا: ليست (182/ز) ركنا فيه فهو باق بعدها كما كان قبلها في حقيقته وإن فات بتركها كماله الوصفي.
تنبيه: وقع بين جمع من المتأخرين نزاع في تفسير التصديق المعتبر في الإيمان هل هو التصديق الذي قسم العلم إليه وإلى التصوير في علم المنطق وغيره والظاهر أنه هو حاصله إذعان وقبول لوقوع النسبة أو لا وقوعها، ولهذا يسميه ابن سينا
(4/763)
 
 
تسليما وهو يوضح المقصود وأن من جعله مغايراً للتصديق المنطقي قد وهم وحصوله للكفار ممنوع، فإن قيل: فعلى هذا يكون من المتكسبات دون الأفعال الاختيارية فكيف يصح الأمر بالإيمان؟ قلت: باعتبار اشتماله على الإقرار وعلى صرف القوة وترتيب المقدمات ودفع الموانع، واستعمال الفكر في تحصيل تلك الكيفية ونحوه من الأفعال الاختيارية كما يصح الأمر بالعلم والتيقن ونحوه، وذكر بعضهم أن التصديق أمر اختياري وهو نسبة الصدق إلى المخبر اختياراً حتى لو وقع في القلب صدق المخبر ضرورة من غير أن ينسبه إليه اختيارا لم يكن تصديقا ونحن إذا قطعنا النظر عن فعل اللسان لا يفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم إلا قبول حكم الإذعان إليه.
ص: الإسلام أعمال الجوارح ولا تعتبر إلا مع الإيمان.
ش: الإسلام لغة بمعنى الاستسلام وشرعا أعمال الجوارح كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، وهو أدل دليل على التغاير بينهما ولا يعتبر إلا مع الإيمان، أي بأن يوجد معه تصديق بالقلب وهذا كقوله فيما سبق في الإيمان لا يعتبر إلا مع النطق بالشهادتين والحاصل أن وجود كل منهما
(4/764)
 
 
شرط في صحة الاعتداد بالآخر، فمن تحقق منه الإيمان القلبي، ولم ينطق بالشهادتين لم يعتد بإيمانه إلا على ما سبق عن الإمام الغزالي، وكذلك من تحقق إسلامه، ولم يتصف بالتصديق المعتبر فلا اعتداد بإسلامه بالإجماع، لكنه يجرى عليه حكم الإسلام عند فرض خفاء العلم بعدم إيمانه، بخلاف الأول ومن هنا نشأ الخلاف في أن لفظ الإيمان هل يطلق على الإسلام بالوضع الشرعي وبالعكس حتى يكون اللفظان حقيقة في كل واحد منهما بالاشتراك أولا، والصحيح التغاير، فالإيمان: التصديق وهو عمل القلب وأعمال الجوارح شرط فيه، والإسلام: التزام العمل بالأركان الخمسة وذلك عمل بالجوارح ويشهد لذلك حديث جبريل فإنه لما سأل عن الإيمان وعن الإسلام أجابه عليه الصلاة والسلام عن كل واحد منهما بحقيقته، وكذلك حديث سعد (قوله يا رسول) الله صلى الله عليه وسلم ما لك لم تعط فلانا، فوالله إني لأراه مؤمنا فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو مسلم)) وأجابوا عن حديث وفد
(4/765)
 
 
عبد القيس حيث فسر فيه الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل غير الحج وزاد عطاء والحسن بأنه إطلاق مجازي لارتباط أداء أحدهما بالآخر، وفي ذلك جمع بين الأحاديث ولهذا قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} فتبين أنه ليس في قلوبهم تصديق الرسول ولكنهم أظهروا القبول مخافة ولم يحكوا خلافا في أن الإيمان شرط في الإسلام أو شطر.
(4/766)
 
 
ص: والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ش: قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وقصد المصنف الجمع بين الحقائق الثلاثة المذكورة فيه لقوله في آخره: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) فالإيمان مبدأ والإسلام وسط، والإحسان كمال، والدين الخالص شامل للثلاثة، ومن يحقق مقام الإحسان لم يقع منه عصيان ولا خلل في الطاعة، فإنه إذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه كف ورجع لحصول البرهان الآجلي عنده، وإنما العبد يزهل عن نظر الله تعالى أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه فيقع في المعصية، وإذا علم العبد أن سره موضع نظر الله تعالى منه وجب عليه تصفية سره لمولاه ونفسه مما يكره الله أن يراه حتى يكون كالمرآة المجلوة لتجلي النظر من الله فيه، وهناك يشرف على مقام القرب فيصير سمعه وبصره وجاءته السعادة من كل جانب.
واعلم أن بعضهم فسر الإحسان بالإخلاص قال: وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام وفيما قاله نظر، فإن الحديث تضمن تفسير الإحسان بما هو فوق الإخلاص وهو مشاهدة لعزة المعبود حال (104/ك) التعبد وذلك يوجب تحسين العبادة بالإخلاص وغيره.
ص: والفسق لا يزيل الإيمان.
ش: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وخالف في ذلك طائفتان، الخوارج فقالوا: يكفر بذلك والمعتزلة فقالوا: لا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر والصحيح أنه مؤمن
(4/767)
 
 
مطيع بإيمانه عاص بفسقه وليس بين الإيمان والكفر وساطة، لأنا فسرنا الإيمان بالتصديق وإنما قالت المعتزلة ليس بمؤمن ولا كافر بناء على تفسيرهم له بالطاعات فتتحقق الواسطة، لأن من صدق الرسول وترك شيئا من العبادات لا يكون مؤمنا ولهذا سموه منزلة بين المنزلتين قال الراغب في (الذريعة) وردت الشريعة بإطلاق اسم الإيمان على من أظهره من غير فحص عن قائله بخلاف ما ادعاه المعتزلة فإنه لا يصح إطلاق اسم المؤمن عليه ما لم يختبر في الأصول الخمسة انتهى وفي هذا فائدة وهو أن الرجل ليس بمعتزلي العقيدة خلافا لما يتوهمه كثير من الناس ولنا قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى} الآية. فسماهم مؤمنين مع إثبات البغي من إحداهما وحكى ابن عقيل عن أحمد
(4/768)
 
 
رواية أنه يخرج بالفسق من الإيمان إلى الإسلام وروي عن ابن عباس لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) واستشكل مذهب السلف فإنهم جعلوا الإيمان عبارة عن الثلاثة السابقة ثم إذا فات العمل مع بقاء التصديق لا يسمونه كافرا بل هو مؤمن والحقيقة تنتفي بانتفاء جزئها كذا قاله الإمام في المعالم ولم يجب عنه، وقال: إن المعتزلة طردوا أصلهم ويمكن أن يجاب (183/ز) بحمل كلامهم على الإيمان الكامل عبارة عن المجموع المذكور فإن لفظ الإيمان يطلق على أصله الذي هو التصديق مع الإقرار، وعلى المجموع المركب من أصله وفرعه كما تسمى الشجرة المتناولة لأصلها وحده، وله مع أغصانها وقد يتوسع فيطلق لفظ الإيمان على الفروع كما في قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
(4/769)
 
 
ص: والميت مؤمنا فاسقا تحت المشيئة إما أن يعاقب ثم يدخل الجنة وإما أن يسامح بمجرد فضل الله أو مع الشفاعة.
ش: المعتزلة كما جعلوه منزلة بين منزلتين قالوا: إذا مات على فسقه فهو مخلد في النار وقال أهل السنة: إنه تحت المشيئة لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لما يشاء} ولا يجوز أن يفرض في خبر الله خلف وفي الصحيح: ((من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وإن ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) ثم التعذيب لا يكون مؤبدا بدليل أخبار الشفاعة، قال البيهقي: والأحاديث تواترت في أن المؤمن لا يخلد في النار بذنوبه غير أن القدر الذي يبقى فيها غير معلوم، والذي تلحقه الشفاعة ابتداء حتى لا يعذب أصلا غير معلوم، والذنب خطره عظيم وشأنه جسيم وربنا غفور رحيم وعقابه شديد أليم، وأنكرت المعتزلة الشافعة بناء على أصلهم الفاسد أن
(4/770)
 
 
العبد يستوجب العقوبة بالمعصية وأنه لا يجوز العفو عنه وقد روى الدارقطني مرفوعا وموقوفا على أنس: (من كذب بالشفاعة لم يكن له فيها نصيب) وهذه الشفاعة بعد قطع الصراط وهي إجازة الصراط، ويلزم منها النجاة من النار، وكلام القاضي عياض مصرح بأن هذه الشفاعة لا تختص بنبينا صلى الله عليه وسلم وجوز الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اختصاصها به، ولم يرد تصريح بالاختصاص، وعليك أن تتأمل هذه المسألة مع قول المصنف فيما سبق إلا أن يغفر.
ص: وأول شافع وأولاه حبيب الله سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ش: لما في الصحيحين من طرق: ((أنا أول شافع وأول مشفع)) وهذه
(4/771)
 
 
الشفاعة لأهل الجمع في تعجيل الحساب والإراحة من طول الوقوف والغم، وهي الشفاعة العظمى وهي المراد بالمقام المحمود قال البيهقي: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أحد، وفي (صحيح مسلم): ((اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وتأخير الدعوة الثالثة إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام)) وله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شفاعات:
أحدها: في قوم يدخلون الجنة بغير حساب جعلني الله منهم بجاهه صلى الله عليه وسلم قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: وهي مختصة به قال ابن دقيق العيد: لا أعلم الاختصاص فيها أو عدمه.
ثانيها: في أقوام استوجبوا النار كما سبق وفي صحيح مسلم: ((وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)).
ثالثها: فيمن يدخل النار من الموحدين وفي الصحيحين: ((إن الله يخرج
(4/772)
 
 
قوما من النار بالشفاعة)) وصحح الحاكم حديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقال: هذه شفاعة فيها قمع للمبتدعة المفرقة بين الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر قال البيهقي: وهذه يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والصديقين، وقد قيل: إنه مخصوص بها من بينهم.
ورابعها: في زيادة الدرجات في أهل الجنة.
خامسها: التخفيف عن بعض الكفار وهي من خصائصه كما في أبي طالب وأبي لهب.
وسادسها: التخفيف من عذاب القبر ففي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرزفه عنهما ما دام هذان
(4/773)
 
 
الغصنان رطبين)).
ص: ولا يموت أحد إلا بأجله.
ش: أما غير المقتول فبالإجماع وأما المقتول فكذلك عند أهل الحق وصادف قتله الأجل المضروب له ولم يتضمن القتل قطع أجله، فلو قدر عدم قتله لمات، ولا فرق بين قتله وموته حتف أنفه إلا أن السبب في القتل اختياري وفي الموت اضطراري ووافقنا من المعتزلة الجبائي وابنه، وذهب الباقون من المعتزلة إلى (105/ك) أن القاتل قطع أجله المضروب له، وأنه مات بغير أجله، ثم اختلفوا في أنه لولا القتل لكان يعيش أو يموت بفعل الله تعالى على قولين، ولنا قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن مثل قول المعتزلة ونسبه إلى الكفر بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في
(4/774)
 
 
رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) وينسأ أي يؤخر، والأثر الأجل لأنه تابع الحياة، فقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: فيه أجوبة: أصحها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وصيانة أوقاته عن الضياع، وقيل: بالنسبة لما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ فيظهر لهم أن عمره ستون إلا أن يصل رحمه فيزداد أربعين، وأما بالنسبة إلى علم الله تعالى وما علم أنه سيقع فالزيادة مستحيلة، وقيل: المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت وأما حديث: ((أن المقتول يتعلق بقاتله يوم القيامة ويقول ربي ظلمني وقتلني وقطع أجلي)) فرواه الطبراني وقد تكلم في سنده، ولو صح حمل على مقتول سبق في علم الله أنه لو لم يقتل لكان يقسم له أجلا زائدا.
تنبيه: قيل: الخلاف في هذه المسألة لفظي لأنه لا خلاف بيننا وبينهم أنه لا يجوز وجود شيء بخلاف ما قد علم الله تعالى، ولا خلاف أيضا أن كل وقت يموت المكلف فيه فإن الله تعالى قادر على أن يبقيه (184/ز) ولا يميته، ذكره
(4/775)
 
 
القاضي أبو يعلى في (المعتمد).
ص: والنفس باقية بعد موت البدن.
ش: هذا مبني على أن النفس غير البدن وهو المعروف وأشار الإمام في (المطالب) إلى شذوذ فيه لا اعتداد به، وقال: إن الكتاب والسنة مملو بالتغاير إذا علمت هذا فبقاء النفس بعد فناء الأبدان إما في السعادة أو الشقاوة وهو قول أهل الحق لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} الآية وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} والذائق لا بد أن يبقى بعد المذوق، وقوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق} الآية وهو نص في بقاء الأرواح وسوقها إلى الله تعالى يومئذ وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} الآية فإنه لا يقال برجوعها إلا لما هو موجود، وظاهر الآية أن هذه أحوالهم بعد الموت على الاتصال وقوله تعالى: {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} وقوله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} والقول لا يصح إلا من حي، وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم} وفي الصحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور ويسلم عليهم) والأحاديث فيه كثيرة، فوجب القول به ومن جهة العقل: أن النفس
(4/776)
 
 
بمثابة الساكن في الدار فإذا هدمت الدار لم يلزم موت الساكن فيها وبطلانه في هذا معلوم بالضرورة، وإنما جاءت الشبهة من اعتقاد أنها سارية في البدن فسبق حينئذ الوهم إلى موته بموت البدن، ونحن نقول: إنما هي جوهر مجرد ليس بينه وبين البدن مناسبة إلا من جهة الحيز وذلك لا يقتضي عدم الجوهر ولا يغير حاله، ولأنها لو ماتت بموت البدن لضعفت بضعفه واختلت اختلاله واللازم منتف فالملزوم مثله، ولم تخالف فهي إلا الفلاسفة
بناء على إنكارهم الميعاد الجسماني ومن اعترف بالميعاد لزمه القول ببقاء النفس قال الإمام في (المعالم): وطريقنا في إطباق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه ونحن نجري معهم بالإقناعات العقلية، فإن عندهم الرياضة الشديدة تلوح للنفس الأنوار ويكشف لها العيان مع أنه يضعف البدن جدا وكل ما كان يضعف البدن آكد كانت قوة النفس أكمل فوجب عقلا بقاؤها بعد فناء البدء=، وقال بعض المحققين: اتفق العقلاء كلهم على إثبات حياة بعد الموت وأما كون الإنسان مطلقا بعد الموت له وجود وبقاء وإدراك وشعور وعلوم لذات هي جوهر روحاني فالمتشرعون على إثباته وأن نوع الإنسان بذاته الحقيقية ثابت باق بعد اضمحلال جسده، وأما مخالفة الفلاسفة فالظاهر أنهم إنما تكلموا فيما هو موضوع علمهم وهو ذات الإنسان الظاهرة وقالبه الطين المركب من العناصر الأربعة ويكون الروح الحيواني الحامل للغذاء الكائن لتنمية الأعضاء ومبدأ علمهم فيما دون فلك القمر من الفيض الناري وغايته النظر في الروح الحيواني، وذلك كله من عوالم الأجساد الكثيفة فليس لهم علم فيما وراء ذلك لا نفيا ولا إثباتا، إلا أن يجهل جاهل منهم فينفي ما بعد ذلك وليس هو من دأبه، إنما حكمه أن ينفي العلم بما وراء ذلك لا أن يعلم النفي
(4/777)
 
 
به، وبينهما فرق إذ الأولى سالبة والثانية معدولة، ويجهل من ينقل عنهم إذا لم يثبتوا شيئا وراء ذلك أنهم يقولون بنفيه وذلك غفلة من ناقله وعلى مثل هذه الجهالة ينقلون عنهم عدم الحشر الجسماني وحقيقة مذهبهم ما قلناه، إنهم لا يتعرضون لشيء من ذلك لا نفيا ولا إثباتا ومن اطلع على حقيقة علمهم علم ذلك علما ظاهرا ولهذا كان المنقول عن رئيسهم جالينوس أنه من الموافقين في المعاد الجسماني وهذا من وفائه لقانون علمه وتبحره فيه، قال: وهذه نكتة ينبغي أن يتنبه لها، والمقصد الإعلام بقيام الإجماع من سائر الملل على إثبات ذلك شرعا ولم يتكلم فيه الفلاسفة.
ص: وفي فنائها عند القيامة تردد قال الشيخ الإمام: والأظهر لا تفنى أبدا.
ش: هذا التردد لوالد المصنف ذكره في تفسيره فقال: إذا قلنا: إن الأرواح تبقى وهو الحق فهل يحصل لها عند القيامة فناء ثم تعاد فتوفي بظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان} (105/ك) أو لا بل يكون من المستثنين في قوله تعالى: {إلا من شاء} والأقرب أنها لا تفنى من المستثني كما قيل في الحور العين
(4/778)
 
 
واعلم أن الحليمي وغيره نصروا القول بأن الاستثناء للشهداء لحديث رواه زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام فقال: ((من الذي لم يشأ الله أن يصعقوا قال: هم شهداء الله)) وقال ابن العربي إنه صحيح، وقال القرطبي: إنه أولى ما في المسألة
(4/779)
 
 
لأنه نص وضعف الحليمي قول من زعم أن الاستثناء لأجل بعض الملائكة لأنهم ليسوا من سكان السماوات والأرض، لأن العرش فوق السماوات فلم يدخلوا في الآية، وهذا لا يدخل فيه الولدان والحور العين، في الجنة لأن الجنة فوق السماوات والآية في سكان السماوات وقال غيره: الصحيح أنه لم يرو في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل.
ص: وفي عجب الذنب قولان وقال المزني الصحيح يبلى وتأول الحديث.
ش: حجة من قال لا يبلى بل يبقى إلى يوم يبعث فيركب منه وهو المشهور ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب)) وهو بفتح العين وإسكان الجيم وآخره باء وقد تبدل الباء ميما وحكى اللحياني تثليث العين
(4/780)
 
 
فيهما حكى ذلك أبو الطيب اللغوي عنه فتحصل ست لغات وفسروه: بأنه عظم كالخردلة في أصل الصلب عند العجب وهو رأس العصعص وفي صحيح ابن حبان قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((مثل حبة خردل منه ينشأ)) وحجة من قال يبلى: ظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان} وهو قول المزني وتأول الحديث فقال: خلق الله الخلائق لا غيره فمنه ما خلق بعضه ببعض ومنه ما أفنى بعضه ببعض، ومنه ما أنشأه لا ببعض وأفناه لا ببعض، وقد حكم الله تعالى بالموت على جميع خلقه فقال: {يتوفاكم ملك الموت} فإذا (185/ز) لم يبق إلا ملك الموت توفاه الله تعالى بلا ملك موت، فغير مستنكر أن يكون كذلك يفني الله تعالى الإنسان بالتراب فإذا لم يبقى إلا عجم الذنب أفناه الله تعالى بلا تراب كما أمات ملك الموت بلا ملك الموت. انتهى.
ولا يشكل عليه رواية مسلم الأخرى: ((إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا منه يركب يوم القيامة)) قالوا: أي عظم يا
(4/781)
 
 
رسول الله؟ قال: ((عجم الذنب)) لأنه ليس في الحديث تعرض إلا لعدم فنائه بالأرض، والمزني يقول به وليس فيه تعرض لفنائه بغير الأرض، والكلام فيه وقد وافقه ابن قتيبة وقال: إنه آخر ما يبلى من الميت ولم يتعرضوا لوقت فناء العجب هل هو عند فناء العالم أو قبل ذلك وكلاهما محتمل، والأقوى في النظر أنه لا يبلى عملا بظاهر الحديث، ويشهد له ما صح في الحديث ((إنه ينزل من السماء ماء فتنبتون منه كما ينبت البقل)) وقال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} وقد قال بعض العلماء: إن عجب الذنب بالنسبة إلى الإنسان كالبذر بالنسبة إلى جسم النبات، ولهذا قال تعالى: {كذلك الخروج}
فإن قيل: فما فائدة إبقاء هذا العظم دون سائر الجسد؟ أجاب ابن عقيل فقال: لله سبحانه وتعالى في هذا سر لا نعلمه، لأن من ينحت الوجود من العدم لا يحتاج إلى أن يكون لفعله شيء يبنى عليه ولا خميرة، فإن علل هذا فيجوز أن يكون الباري سبحانه جعل ذلك للملائكة علامة على أنه يحيي كل إنسان بحواهره بأعيانها ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم من كل شيء ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هذا جزء منها، كما أنه لما أمات عزيرا وحماره أبقى عظام الحمر وكساها ليعلم أن هذا المنشأ ذلك الحمار لا غير ولولا إبقاء شيء
(4/782)
 
 
لجوزت الملائكة أن تكون الإعادة للأرواح إلى أمثال الأجساد لا إلى أعيانها.
ص: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتمسك عنها.
ش: هذه طريقة المحتاطين كالجنيد رضي الله عنه فإنه قال: الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} وعلى ذلك جرى خلق من أئمة التفسير كالثعالبي وابن عطية قال الشيخ شهاب الدين السهروردي بعد ذكره كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأديب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما قاله الجنيد، قلت: وعليه حملوا قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} ولم يأمره أن يبينه لهم، وأما المتكلمون على الروح فأجابوا عن هذه الشبهة بوجوه:
أحدها: أن اليهود قد قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي وإن لم يجب فهو صادق
(4/783)
 
 
فلم يجب لأن الله تعالى لم يأذن فيه ولا أنزل عليه بيانه في وقته تأكيدا لمعجزته وتصديقا لما تقدم من وصفه في كتبهم لا لأنهم لا يمكن الكلام فيه.
وثانيهما: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعجيز وتغليظ إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصف من الملائكة والقرآن وعيسى ابن مريم، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي شيء أجابهم، قالوا: ليس هذا فجاء الجواب مجملا كما سألوه مجملا، فإن أمر ربي تصديق على كل واحد من مسميات الروح وقال عبد الجليل القصري في (شعب الإيمان) - وكان من ذوي المعارف والأحوال - اختلف الناس في معرفة الروح فقيل: لا تعلم أصلا، لقوله تعالى: {من أمر ربي} قال: وقائل هذا أراد أنه (106/ك) لا يعرف ولا يحاط بمقداره وأما إنكار معرفته أصلا من جميع الوجوه فذلك جهل عظيم ممن قاله، فإنه معروف بالوجود بالضرورة قال: والآية التي احتج بها حجة عليه فإن الجواب بقوله: {من أمر ربي} على حسب السؤال عن الروح بقول اليهود: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فأجابهم بمن ولم يسألوه عن وجوده
(4/784)
 
 
فيقول: نعم أو لا، ولا كيف هو كالأجسام أم على صفة كذا، ولو كان لأجابهم بصفته كما أجاب ربه حين سألوه عنه فنزل {قل هو الله أحد} قال: والروح أمر من أمر الله والأمر هو الصادر عن الإرادة: فالروح إرادة منه أن تكون على هذه الصورة فهو كلمة الله وذكر الشيخ شهاب الدين السهروردي إمساك الصوفية وخوض غيرهم في الروح ثم قال: ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسوغ القول في التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل وهو ذكر ما تحتمل الآية من غير القطع بذلك قال: وإذا كان كذلك فللقول فيه وجه وعمل، ونوزع في ذلك: بأن هذا ظاهر إذا لم يكن في الآية ما يمنع القول فيها لكن ظاهرها المنع من السؤال عن الروح والخوض في طلب العلم بها بدليل قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي فاجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ولا تسألوا عنه، فإنه سر من أسراري ومنهم من حمل قوله
تعالى: {من أمر ربي} على أن المراد به كون الروح من عالم الأمر وهو عالم الغيب، وعالم الملكوت، ومقابله عالم الخلق الذي هو عالم الشهادة وعالم الملك وحمل قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} على العالمين المذكورين وأراد بعالم الأمر عالم المجردات لأنها وجدت بمجرد الأمر الذي هو قول (كن) ومقابله الجسمانيات وإذا كان الروح من باب الأمر فقد انفتح باب الكلام فيها فذهب كثير من الصوفية إلى أنها ليست بجسم ولا عرض بل هو جوهر مجرد قائم بنفسه، غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا خارج عنه وهذا هو رأي الفلاسفة وذهب جمهور المتكلمين إلى أنه جسم لطيف قال إمام الحرمين: مشتبك
(4/785)
 
 
بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود (186/ز) الأخضر قال النووي في (شرح مسلم): إنه الأصح عند أصحابنا وذهب كثير منهم إلى أنه عرض وإنه هو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا، قال السهروردي: ويرد على هذا الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد فيه من الهبوط والعروج والتردد في البرزخ والعرض لا يوصف بهذه الأوصاف ونقلهم عن الصوفية الإمساك مرادهم الأقدمون وإلا فقد تكلم عليها المتأخرون فقال الشيخ العارف أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من ظن أن علم الروح وغيره مما ذكر ومما لم يذكر لم تحط به الخاصة من
(4/786)
 
 
العلماء أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظمتين: تجهيل أولياء الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يطلق على مخصوص؟ ويسري به التكذيب إلى القدرة والشرع بقوله عن اليهود أو عن العرب كما تضمن الخلاف {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} فما الدليل لك منها على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العليا؟ والكشف عن هذا أن السؤال يقع بأربعة أحرف: بهل، وكيف، ولم، ومن، فـ (هل) يقع السؤال بها عن الشيء أموجود هو أو معدوم و (كيف) يقع السؤال بها عن الشيء و (لم) عن علته، وليس في الآية شيء من ذلك، فإنك إن قلت: فيها
معنى (هل) فهل يقتضي: هذا الروح موجود أو معدوم؟ وقد عرفنا وجوده من قبل ولولا ذلك ما قال: يسألونك عن الروح، فثبت أنهم عرفوا وجوده فبطل هذا، وليس فيها سؤال عن الحال، كيف هو؟ ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا؟ ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله: {قل الروح من أمر ربي} فثبت أن السؤال إنما هو عن الشيء من أين هو؟ بدليل الجواب والبيان الظاهر الشافي بقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} إذ الرسول عليه السلام عالم بما سألوا عنه فأجاب عن الله سبحانه بذلك كما تقول آدم نسألك عنه وفهم المسؤول السؤال فقال: آدم من تراب فإذا رضي الجواب قنع، وليس يرجع العدو إلا بفهم عظيم من الحق العظيم الذي لا مرد له، فكيف يزعم الزاعم أنه لا يعرف ولا يجوز أن يعرف؟ فقد أوجب الله سبحانه وتعالى علينا معرفته ولا مثل له ولو ضيعناها كنا كفارا أو عصاة، فكيف بموجود ومخلوق أمثاله كثيرة؟ هذا عين الجهل أن يقال: لا يجوز أن يعرف من له المثل والنظير وهو روح، ويوجب معرفة من لا شبيه له ولا نظير، والذي نقول به: إن لله تعالى أسرارا لا يسع فيها الوهم ولا يليق بها الكتم لوضوحها وشدة
(4/787)
 
 
ظهورها انتهى.
وحاصله أن المقدار الذي ينبغي أن يطلب من يعرف الروح إنما هو عالمه ومن أين هو، فأوجب الشيخ معرفة مثل هذا من الروح وهو كون الحياة والحركة والعقل مثلا تابعا لها لا معرفة حقيقتها، وإنما عرف الآية فيها عالما فقط أعني من أين هي؟ ولم يقع الجواب بتعريف الحقيقة، وفرق الغزالي بين عالم الخلق وعالم الأمر فإن ما يقع عليه مساحة وتقدير وهي الأجسام وعوارضها من عالم الأمر، والخلق هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد وما لا كيفية له ولا تقدير له يقال له: أمر رباني، وأرواح البشر والملائكة من عالم الأمر فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهات والمكان (107/ك) والتحيز قال: ولا يتوهم من هذا أن الروح قديم بل هو مخلوق بمعنى أنه محدث، وقد نسب القاضي ابن العربي هذا إلى الصوفية واستنكر قولهم العالم عالمان: عالم الخلق وعالم الأمر، وأن الروح من عالم الأمر وقال: إنهم تلقوه من الفلاسفة ومقصود الفلاسفة منه: أن الخلق ما كان كماً مقدرا والأمر ما لم يكن مقدرا، والروح عندهم لا يكون محدثا، قال: وقد أوضحنا أن العالم وكل ما سوى الله مخلوق داخل في الكمية،
(4/788)
 
 
وقال: ويقال: هذا القول تحليقا على مذهب الحلولية واعتصاما بمذهب النصارى في عيسى، وعجب من حكاية الغزالي له، قال: وتسور القاضي عليها وأبان أنها مخلوقة بالدليل وأشار إلى أنها عرض ومال الجويني إلى أنها جسم تعويلا على ظواهر الشرع فيما أضاف إليها من الأفعال والانتقال والأكل من الجنان، ومال جماعة إلى أنها تفارق البدن، وهي عرض متقوم بجزء من الجسم يضاف إليه هذه الأوصاف كلها التي تسحيل على الأعراض، لعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار إلى هذا بقوله في الصحيح: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب)) قال ولما تعارضت هذه الأعراض المشار إليها توقف قوم عنها والمتحصل من ذلك كله أمران:
أحدهما: أنها بالدليل القاطع العقلي مخلوق ويكفر جاحد ذلك.
والثاني: أنها بالدليل القاطع السمعي باقية لا فناء لها، ثم النظر بعد في أنها جوهر أو عرض فمحل اجتهاد، والأقوى أنها عرض فإن التحامل على الألفاظ وتأويلها، وصرفها إلى المجاز أقرب في النظر من الاضطراب في الأدلة العقلية التي
(4/789)
 
 
توجب أنها لا تقوم بنفسها. قلت: وصنف الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده كتابا في الروح والنفس ذكر فيه عن الإمام محمد بن نصر المروزي إجماع المسلمين على أن الروح التي في ابن آدم مخلوقة وإنما يذكر القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة وقال إمام الحرمين في (الرسالة النظامية): إنه جمع فيه كتابا سماه كتاب (النفس)، وأنه يشتمل على قريب من ألف ورقة.
(ص) وكرامات الأولياء حق، قال القشيري: ولا ينتهون إلى نحو ولد دون والد.
(ش) كون الكرامات حقا هو قول أهل الحق، وقال أبو تراب النخشبي: من لا يؤمن بها فقد كفر، ولعله يرى تكفير المبتدعة، والدليل على الجواز أنه لا يلزم
(4/790)
 
 
من فرضه محال، والدليل على الوقوع قصة أصحاب الكهف ولم يكونوا أنبياء بالإجماع وكذلك كرامات مريم عليها السلام متواترة ولم تكن نبية عند الجمهور لقوله تعالى: {وأمه صديقة} ولو كانت نبية لما عدل عن ذكرها بالوصف الأعلى إلى ما لم يبلغ ذلك لأن درجة النبوة (187/ز) أعلى من درجة الصديقية إجماعا وادعى الشيخ محيي الدين النووي الإجماع على عدم ثبوتها وليس كما قال، فقد نقل القرطبي في تفسيره كونها نبية عن الجمهور، ويشهد له أن الملائكة خاطبتها بالوحي قال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} ولأن الله تعالى ذكرها مع الأنبياء في سورة الأنبياء والذي أوقع الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في ذلك إمام الحرمين في (الإرشاد) فإنه ادعى الإجماع على عدم نبوة أهل الكهف ثم قال: وكذلك مريم فظن الشيخ الإجماع فيها أيضا وليس كذلك، وينبغي أن يكون مراده أنها ليست نبية لا دعوى الإجماع ونقل ابن حزم عن ابن فورك والأشعري أنه كان يقول في النساء أربع نبيات وتوقف بعض
(4/791)
 
 
المحققين في صحة هذا النقل عنه قال: فإن صح فلعله مع حديث: ((ولم يكمل من النساء إلا أربع)) ولم يسمع تفصيل الحديث فإنه ذكر فيهن خديجة وفاطمة ولا يمكن القول بأنهن نبيات، والقول بنبوة مريم إنما يقوى إذا فسرنا النبي بمن يوحى إليه، وأطلقنا فأما إذا قيدنا بأمر خاص وهو الوحي بالشريعة كما فسره الحليمي فلا وإنما أطلت في هذا الموضع لأني رأيت من نسب إلى الأشعرية القول بنبوتها من غير تحقيق إذا علمت هذا فقد استفاض في العالم وقوع الخوارق من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ولم يزل شأن الأنبياء والصديقين التصديق بها، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفت فقالت: إني لم
أخلق لهذا إنما خلقت للحرث)) فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم فقال
(4/792)
 
 
النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمنت بهذا وأبو بكر وعمر وما هما)) ثم (وحلية الأنبياء) لأبي نعيم (والصفوة) لأبي الفرج وغيرهما مجموع لذلك.
وكذلك الآجري في كتابه (براهين الصالحين) والمنكرون لها كلها المعتزلة ومنهم من نقل عنهم إنما أنكروا خرق العادات وتأولوا ما جرى لمريم عليها السلام ونحوه بأنه كان إرهاصا لنبوة عيسى، يعني تأسيسا وهو بالصاد المهملة مأخوذ من الرهص وهو السياق الأول من الحائط فيكون من مقدمات النبوة ومعجزاتها وما جرى في زمن نبي كإحضار الذي عنده علم من الكتاب لعرش بلقيس جعلوه
(4/793)
 
 
معجزة لذلك النبي مستندين في ذلك إلى أن تجويزه لغير الأنبياء يؤدي إلى التباس النبي بغيره.
وأجيب بالفرق بين المعجزة والكرامة بأن الأنبياء مأمورون بإظهارها والتحدي بها بخلاف الكرامة ويتميز النبي عنه بدعوى النبوة، وقيل: باختيار الخارق وقيل غير ذلك، ثم القائلون بالكرامات اختلفوا هل تعم سائر الخوارق أم يختص ذلك بما لم يظهر معجزة لنبي؟ فالجمهور على التعميم وذهب بعض أصحابنا إلى أن كل ما وقع معجزة لنبي لا يصح أن يقع كرامة لولي كإحياء الموتى وقلب العصا حية وفلق البحر ونحوه وهذا هو مذهب الأستاذ أبي إسحاق، وبه يظهر غلط الإمام فخر الدين (108/ك) وغيره ممن نقل عنه إنكاره على الإطلاق كالمعتزلة والذي رأيته في كتبه التصريح بإثباتها إلا أنها لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة للفرق بينها وبين
(4/794)
 
 
المعجزة، قال: وكل ما كان تقديره معجزة لنبي لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي، قال: وإنما مبالغ الكرامات: إجابة دعوة أو موافاة ماء في بادية في غير موضع المياه، ونحو ذلك مما لا ينحط عن خرق العادات، وهذا حكاه عنه إمام الحرمين والآمدي في أبكار الأفكار، وهذا هو عين ما نقله المصنف عن القشيري فقال في (الرسالة): إن كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن تظهر كرامة لولي لضرورة أو لشبه ضرورة يعلم ذلك منها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد بهيمة، وأمثال هذا يكثر. انتهى وإلى قلب الجماد أشار المصنف بقوله: نحو يتعجب منه في أمرين:
أحدهما: مغايرته بين هذا القول وقول الأستاذ كما فعله في (منع الموانع) ولهذا لم ينقله هنا عن الأستاذ مع أنه أقدم منه وأحق بالذكر.
وثانيهما: اعتقاد أن هذا قيد في الجواز لمن أطلقه فقال في (منع الموانع الكبير): وبهذا يصح أن قولهم ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي ليس على عمومه، وأن قول من قال: لا تفارق المعجزة الكرامة إلا بالتحدي ليس على وجهه.
قلت: وليس كما ظن، بل الذي قاله القشيري مذهب ضعيف والجمهور على خلافه وقد أنكروا على القشيري حتى ولده أبو نصر في كتابه (المرشد) فقال:
(4/795)
 
 
قال بعض الأئمة ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي كقلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى والصحيح تجويز جملة خوارق العادات كرامة للأولياء هذا لفظه، وذكر إمام الحرمين في (الإرشاد) مثله وتابعه شراحه، وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في (شرح المسلم) في باب البر والصلة: إن الكرامات تجوز بخوارق العادات على جميع أنواعها ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه وهذا غلط من قائله وإنكار للحس، بل الصواب جريانها بقلب الأعيان ونحوه.
انتهى وقال المقترح بعد حكاية مذهب الأستاذ وغيره، وهؤلاء زعموا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به)) يمنع وقوع شيء من معجزات الأنبياء على أيدي الأولياء لئلا يؤدي إلى تكذيب من ثبت صدقه، وهذا يندفع فإن تحدي النبي مقيد بأنه لا يظهر ما أتي به على يد من يبغي معارضته ومناقضته ولا على مفتر كذاب، والدليل عليه أن ظهور جنس واحد من المعجزات على يد شخص لا يقدح في ثبوت معجزة من ظهر على يده من ذلك الجنس قبله، وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه ابن بطال في (شرح البخاري): وهو التفصيل بين زمان الأنبياء وما بعدهم فقال في حديث خبيب لما
(4/796)
 
 
أسر رئي يأكل من قطف عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة) قال ابن بطال: فهذا يمكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار وبرهانا (188/ز) لنبيه صلى الله عليه وسلم من أجل ما كانوا عليه من تكذيبه، فأما من يدعي اليوم مثل هذا بين ظهراني المسلمين فليس لذلك وجه، إذ المسلمون قد دخلوا في دين الله أفواجا فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ لا سيما وقد يشكك به المرتاب القائل: إذا جاء ظهور هذه الخوارق على يد غير النبي فكيف نصدقها من نبي؟ فلو لم يكن في هذا القول إلا رفع الارتياب عن قلوب أهل النقص، والجهل لكان قطع الذريعة واجبا ولا معنى لها في الإسلام بعد تأصله إلا أن يكون مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا مثل إكرام الله عبده بإجابة دعوة في أمر عسير ودفع بأس نازل ونحوه قال أخبرني أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه أوقف أبا بكر بن الطيب الباقلاني
(4/797)
 
 
على تجويزه لهذه المعجزات وقال: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم هو ظهور هذه الآية على يدي رجل صالح منا، قال أبو عمران: فأطرق عني ومطلني بالجواب ثم أقبضته في مجلس آخر فقال لي: كل ما اعترض من هذه الأشياء من أمر الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم فلا يقبل أصلا على
أي طريق جاء، وهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب.
قلت: وقد وقفت للقاضي أبي بكر على تصنيف في مجلد سماه (البيان في الفرق بين المعجزات والكرامات والسحر والشعوذة) قال في خطبته كان بعض أصحابنا المغاربة ذكر لنا من إنكار شيخنا أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله للكرامات فلم يثبت عليه عندنا ولعله إن قال ذلك فإنما أنكر منه ما يجب إنكار مثله، فإنا لا نجيز الكرامات للصالحين لجميع الأجناس وبمثل سائر آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام أو لعله أنكر ذلك لمثل من لا يجوز ظهوره على مثله لأن في فضل علمه وما نعرفه من دينه واطلاعه ما يبعد عندنا خلافه في هذا الباب. انتهى، وما صار إليه ابن بطال قد حكاه القاضي أبو الفرج النهرواني في كتابه (الجليس
(4/798)
 
 
الصالح) فقال: وكان أبو بكر بن الأخشاذ من جملة المعتزلة يجيز الكرامات إذا أبديت على وجه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بصحة رسالته قال: ورأيت من شاهدته من نظار المعتزلة يجيز إظهاره للصالحين وعلى أيدي الأبرار المخلصين، قال ومن المتكلمين من أجاز ظهورها على يد من يدعي الربوبية على وجه الفتنة وتغليظ المحنة كالمروي في أمر الدجال ولا يجيز ذلك على مدعي النبوة لما فيه من فساد الأدلة. انتهى.
فروع: تقع الكرامة باختيار الولي وطلبه على الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، وقيل: لا تقع باختيارهم وطلبهم، قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: وقال أصحاب القاضي: الكرامة لا تشهد بالولاية على القطع لئلا (109/ك) يأمن العواقب وقال: هيبته كخوفه وقد بشر صلى الله عليه وسلم العشرة بالجنة، قال الشيخ شهاب الدين السهروردي: ومن ظهر على يده شيء من الخوارق وهو على غير الالتزام ليزداد يقينه في مطاوي الانكسار والحياء. وذلك الانكسار والانفعال هو غاية الاتصال فيقول بعضهم الاستسلام عند التلاقي جرأة والانبساط في محل الأنس عزة، واللياذ بالهرب من علم الدنو وصلة.
(4/799)
 
 
تنبيه: إنما لم يعرف المصنف الكرامة، لأن تعريفها يعلم من تعريف المعجزة فيما سبق.
ص: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة.
ش: أي بشيء من الذنوب، كذا جعله القصري من شعب الإيمان وأورد فيه حديث: ((ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله، ولا يكفر بذنب ولا يخرج من الإيمان بعمل)) قال: فجعل الكف عن أهل التوحيد أصلا من أصول الإيمان، ومن لا يري ذلك فهو من أهل الزيغ والضلال الذين يكفرون بالذنب غلوا في تعظيم الذنب حتى خرجوا عن الحد لكن في كتاب (التوبيخ والتنبيه): للحافظ أبي محمد بن حبان: سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حديث ((لا نكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب)) فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث
(4/800)
 
 
النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة فقد كفر))؟ وفي صحة هذا عن أحمد نظر، فإن معناه ثابت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في بيعة النساء: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) وروى البيهقي بسند صحيح إلى جابر (189/ز) بن عبد الله أنه سئل: هل كنتم تسمون من الذنوب كفرا أو شركا أو نفاقا؟ قال: معاذ الله! ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين وأما حديث ((من ترك الصلاة فقد كفر)) فلم يكن إجراؤه على ظاهره لمعارضة ما ذكرنا، فلا بد من تأويله إما على أنه يعامل معاملة المرتد في وجوب القتل ولهذا خص الصلاة بالذكر كما قاله البيهقي وإما
(4/801)
 
 
على أن تركها أول بداية الكفر، لأن اعتبار ذلك يؤدي إلى جحدها، فأطلق عليه اسم النهاية، كما قال ابن حبان في صحيحه قالوا: لو كان ترك الصلاة كفرا لما أمر الشارع بقضائها وجعله كفارة دون تجديد إيمان. إذا علمت هذا فههنا أمران:
أحدهما: في بيان المراد بهذه العبارة وقد قال والد المصنف رحمهما الله تعالى: يعني هذه العبارة إنا لا نكفر بالذنوب التي هي المعاصي كالزنا والسرقة وشرب الخمر خلافا للخوارج حيث كفروهم أما تكفير بعض المبتدعة بعقيدة تقتضي كفره حيث يقتضي الحال القطع بذلك أو ترجيحه، فلا يدخل في ذلك وهو خارج بقولنا: بذنب، غير أني أقول شيئا وهو أنه ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتكفره صعب، وما يعرض في قلبه بدعة إن لم تكن مضادة لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة فإذا فرضت غفلته عنها واعتقاده للشهادتين، مستمر، فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام وأكثر أهل الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم، إلا أن يقال: ما كفر به لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل نظر، وجميع هذه العقائد التي يكفر به أهل القبلة قد لا يعتقد بها صاحبها إلا عن بحثه فيها لشبهة تعرض له أو مجادلة أو غير ذلك، وفي أكثر الأوقات يغفل عنها وهو ذاكر للشهادتين، لا سيما عند الموت انتهى. وفيما قاله نظر لأن الحكم منسحب عليه وإن لم يستحضره كما تجرى أحكام الإسلام على المسلم وإن لم يكن مستحضر الأركان، وأما ذكره أولا فينازع فيه كلام لابن القشيري حيث
(4/802)
 
 
جعل ذلك في العقائد فقال في (المرشد): فمن كان من أهل القبلة وانتحل شيئا من البدع كالمجسمة والقدرية وغيرهم هل يكفر؟ للأصحاب فيه طريقان وكلام الأشعري يشعر بهما وأظهر مذهبيه ترك التكفير وهو اختيار القاضي، ومن قال قولا أجمع المسلمون على تكفير قائله أو فعل فعلا أجمعوا على تكفير فاعله كفرناه وإلا فلا.
والطريقة الثانية: تكفير المتأولين، ومثال المسألة من قال: إن الله ليس بعالم كفر بإجماع الأمة على تكفيره، ومن قال: هو عالم وليس له علم فهذا موضع الخلاف إذ لا إجماع هنا بخلافه ثم من قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء أيضا كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها، قال: وإذا لم يكفر فلا أقل من التفسيق والتضليل، ومن أصحابنا من لا يرى التفسيق أيضا، قال: وهذه الطريقة التي هي نفي التكفير مبنية على أن الشيء الواحد يجوز أن يكون معلوما (110/ك) من جهة مجهولا من وجه آخر. انتهى.
الثاني: أن معنى هذه العبارة نقلوها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله والأشعري: فأما أبو حنفية فصح عنه التصريح به وكذلك الأشعري قال في كتاب (المقالات): إن المسلمين اختلفوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض، فصاروا فرقا شتى إلا أن الإسلام يعم جميعهم انتهى، وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقال: اختلفنا
(4/803)
 
 
في عبارة، والمشار إليه واحد وقال القاضي ابن العربي: اختلف العلماء في إكفار المتأولين على قولين، فذهب شيخ السنة وإليه صنعو= القاضي في أشهر قوليهما أن الكفر يختص بالجاحد والمتأول ليس بكافر، وأما الشافعي رضي الله عنه فأخذ ذلك من قوله: لا أرد شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية فإنهم
(4/804)
 
 
يعتقدون جواز الشهادة لأوليائهم على أعدائهم زورا، وقال بعضهم: هذا لا يدل على إطلاق عدم التكفير، إذ لا يلزم من عدم تكفير أهل البدع والأهواء عدم التكفير مطلقا فإن مخالفة الحق في الديانات تارة توجب البدعة والضلال، وتارة توجب الكفر، والمخالف في الأول هو المسمى بأهل البدع والأهواء دون الثاني.
قلت: وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه إطلاق القول بتكفير القائل بخلق القرآن لكن جمهور أصحابه أولوه على كفران النعمة كما قاله النووي وغيره وحكى ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه أن القدري لا يستتاب ذكره القاضي عياض في (الشفاء) وأما مالك وأحمد فقد نقل عنهما ما يوهم الخلاف في ذلك، وقال ابن العربي: من أعظم أصول الإيمان القدر فمن أنكره فقد كفر نص عليه مالك رحمه الله فإنه سئل عن نكاح القدرية فقال: قد قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} وقال القاضي عياض: أكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم لكن يؤدبون ويستتابون وأما أحمد فنقل عنه القاضي عياض تكفيرهم وقال: إن عليه أكثر السلف ونقل عنه تكفير تارك الصلاة وإن اعتقد وجوبها، واحتج بعضهم على عدم التكفير بقوله صلى الله عليه
(4/805)
 
 
وسلم: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما)) ولأنا لو كفرناه كفرنا بعض أصحابنا في نفي البقاء ونحوه، ولأن الكفر عبارة عن إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وليس المراد بالضرورة: ضرورة العقل بل إنه لشهرته والاتفاق عليه كالضروري كالصلاة والزكاة، وعلى هذا فلا نكفر أحدا من أهل القبلة، لأن كونهم جاحدين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم غير معلوم بالضرورة بل بالنظر أي لم يشتهر اشتهارا يصير به كالضروري. ولم يتفق عليه وهذا تحقيق جيد بين على تفسير المتكلمين الإيمان بما علم أنه من دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة فسبق تقريره وقد قال القاضي في كتابه المسمى (بإكفار المتأولين) أما مسائل الوعد والوعيد والرؤية وخلق الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها (109/ك) من الدقائق فالمنع، من إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل بشيء من ذلك جهل بالله تعالى ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل منها شيئا، وقد نقله عنه القاضي عياض وغيره.
(4/806)
 
 
قلت: ولعل هذا مأخذ الشيخ عز الدين في فتياه أنه لا يكفر مثبت الجهة قال: ولا مبالاة بمن كفرهم لمزاحمته لما عليه الناس، وحمل بعضهم كلام القاضي السابق فيمن جهل شيئا منها، أما من قال بجملته وكان علمه به على خلاف ما هو عليه أهل السنة فجهله هذا جهل مركب فهو أشد من جهله بسيطا، وأطلق الآمدي في التكفير حكاية قولين ثم قال: والحق التفصيل وهو إن كان من البدع المضللة والأقوال الممكنة يرجع إلى اعتقاد وجود غير الله تعالى وحلوله في بعض الأشخاص كالنسبة لبعض غلاة الشيعة، أو إلى إنكار الرسالة أو إلى استباحة المحرمات فلا نعرف خلافا بين المسلمين في التكفير به وأما ما عدا ذلك من المقالات المختلفة فلا يمتنع أن يكون معتقدها مبتدعا غير كافر وذلك لأنه لو توقف الإيمان على أمر غير التصديق بالله تعالى ورسوله وما جاء به من معرفة المسائل المختلف فيها في أصول الديانات كما عددناه لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالب الخلق بمعرفته كالشهادتين، ولم ينقل ذلك وجرى عليه الصحابة والتابعون فالجهل به لا يكون كفرا انتهى. والأول يخرج بقول المصنف: عن أهل القبلة فإن صاحب هذه المقالات ليس منها، لكن حصره التكفير فيما ذكره ممنوع، بل من أنكر ما يعلم مجيء الرسول به ضرورة في الحشر والعلم بالجزئيات وحدوث العالم ونحوه، لا شك في تكفيره واعلم أنه وقع في كلام الطحاوي زيادة مذهب في هذه العقيدة واستغنى المصنف عنه بأنه إن لم يكن بذنب لم يقع كلام في التكفير.
(4/807)
 
 
فرع: من لم نكفره من أهل الأهواء والبدع لا نقطع بخلوده في النار وهل نقطع بدخوله إياها فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب إمامة المرأة من تعليقه. وقال المتولي: هناك: ظاهر المذهب أنه لا يقطع به، وعليه يدل كلام الشافعي رضي الله عنه.
ص: ولا يجوز الخروج على السلطان.
ش: هذا الإطلاق يشمل ما إذا كان عادلا ولا خلاف فيه، وأما إذا كان جائرا وهو المشهور في الأصول ونقلوا عن المعتزلة تجويزه بناء على أن الإمام ينعزل بالظلم والفسق، ونقل صاحب (البيان) من أصحابنا في باب قتال أهل البغي أن لا ينعزل بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو خارجا لأن الخروج عليه جور وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في البويطي، لكن كلام الرافعي يقتضي
(4/808)
 
 
تخصيص المنع بالعادل ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم لكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا)) رواه مسلم في كتاب الحج (111/ك) عن أم الحصين وهو مقيد للمطلقات وقال أبو القاسم الأنصاري في باب الأمر بالمعروف في شرحه للإرشاد: إذا جار والي الوقت وظهر ظلمه وغصبه للمال فهل يجوز منعه من ذلك؟ فإن كان ممن ثبتت ولايته وانعقدت إمامته ففي خلفه وانخلاعه كلام يأتي في باب الإمامة، وإن كان متغلبا فقد صار بعض الفقهاء والمحدثين إلى أنه لا يجوز للرعية منابذته، قال الإمام: وعندي أن المتغلب وإن كثرت عدته فسبيله فيما يفعله من الجور والظلم سبيل البغاة في الأرض بالفساد وقطاع الطريق يجوز منابذته ودفعه بأقصى المجهود كما يجوز في كل متلصص ونحوه، قال القاضي: والذي عليه أكثر أصحاب الحديث: الانقياد والطاعة لكل إمام عادل أو جائر وإن فعل المنكر وعطل الحدود، قال: وتمسكوا في ذلك بأخبار وآيات قال القاضي: والظاهر أنها في منع الخروج على من تثبت إمامته، فأما المتغلب فيجب الإنكار عليه.
ص: ونعتقد أن عذاب القبر وسؤال الملكين والحشر والصراط والميزان حق.
ش: أما عذاب القبر فأجمع سلف الأمة أن الميت يحيا فيعذب في قبره وهو من لوازم القول ببقاء النفس بعد البدن وقد قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا
(4/809)
 
 
وعشيا} أي في البرزخ بدليل قوله بعده: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وقال تعالى في المنافقين: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وفي (صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} نزلت في عذاب القبر وفيه: ((قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال)) وتواترت الأحاديث واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، والمسألة سمعية فوجب الإيمان به، وأنكره أكثر المعتزلة، بناء على أن شرط الحياة البنية ولما انقضت البنية لم يكن حيا، والميت لا يعذب.
(4/810)
 
 
وعارضهم أصحابنا بأن: هذا استبعاد ومنعوا كون البنية شرطا في الحياة لجواز أن يخلق الله الحياة في جزء منفرد كما يجوز أن يجعلها في بنية، على أن عبد الجبار في الطبقات أنكر هذا عن المعتزلة وقال إنما أنكره ضرار بن عمرو ولما كان من أصحاب واصل نسب للمعتزلة وإنما ينكرون تعذيبهم وهم موتى وقال بعضهم: لا خلاف في أن الإيمان به ركن من أركان العقد الديني الذي لا يصح إلا به، والمعتزلة وإن خالفوا فيه فليس خلافهم فيما قررناه، وإنما المفهوم من مذهبهم استبعاد تعجيل جزاء قبل يوم القيامة، ولم يبلغ السمع عندهم مبلغ العلم وقام عند غيرهم ذلك، ولعذاب القبر ببعض المعاصي خصوصية، وهي: البول ولهذا ورد فيه: ((تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) وكذلك (النميمة
(4/811)
 
 
والغيبة) حتى قيل: إن عذاب القبر في هذه الثلاثة، وأما الكيفية فقال الحليمي: إن عذاب القبر يكون بعد إحياء الميت بجملته لقوله تعالى: {أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} فإن (191/ز) مراده بإحدى الإماتتين ما في الدنيا وبالثانية ما في القبر بعد الإحياء فيه، وهو أحد الإحياءين، والثاني يوم القيامة، وقيل: بالإحياء في القبر لأقل جزء يحتمل الحياة فيه والعقل لا إلى جميعه، ونقل عن ابن جرير الطبري قال الحليمي: فإن صح فلا جزء أولى به من القلب الذي كان ينبوع الحياة ومحل العقل.
قلت: وهو اختيار إمام الحرمين فقال: الظاهر سؤال آخر يعلمه الله تعالى من القلب أو غيره وقيل: الروح تعذب لا غير، وقيل: تتألم كما يتألم النائم والحق
(4/812)
 
 
أن الميت يحيا في القبر للأحاديث الصحيحة في عود روحه إلى جسده، وأن الملكين يأتيانه فيقعدانه.
وقول الملحد: إنا نراقب الميت أياما لا نشاهد فيه شيئا يدل على الحياة ولا التعذيب فالجواب: أن عدم الشهود لا يدل على عدم الوجود كما حجبنا على الملائكة والجن وليس بأعجب من استخراج الله تعالى الذر مع خطابهم وجوابهم وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وينزل عليه بالوحي بمحضر من الصحابة وهو صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يراه ويخاطبه وهم لا يشاهدونه إلى غير ذلك من الأحوال الخارقة، ومن أنكر خارقا ورد عليه سائر الخوارق، على أن الواجب في هذه المسألة أن يقتصر على الإيمان بما صح من عذاب القبر ووقوعه، وأما الكيفية فلم يصح فيها شيء غير عود روحه في جسده، رواه أبو داود من حديث البراء بن
(4/813)
 
 
عازب وصححه أبو عوانة وابن مندة والبيهقي والحاكم وغيرهم وأما سؤال الملكين فهو حق وورد الخبر به في الصحيحين عن أنس قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله.
قال: فيقال له: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة)) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((فيراهما جميعا، وأما المنافق والكافر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس عنه - فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين)) وفي رواية الترمذي ((يقال لأحدهما: المنكر والآخر النكير)) وقال: حسن غريب وقال إمام تاج
(4/814)
 
 
الدين بن يونس: منكر ونكير للمذنب لإنكارهما، وأما المطيع فملكاه مبشر وبشير، وأنكر بعض المعتزلة وجودهما وقالوا: لا يجوز تسمية الملائكة بمنكر ونكير، وأنكروا دخولهما القبر للعادة، فإنه مسدود، قال أصحابنا: لا ينكر دخولهما من تحت الأرض ويكون الله قد وسع لهما وقد علمنا أن الملائكة ليسوا (112/ك) على كثافة بني آدم وأنهم لسلطانهم متمكنون من دخولهم الأماكن على غير الوجه الذي نقدر نحن عليه، وقد ورد: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) قال الحليمي: والذي يشبه أن يكون ملائكة السؤال جماعة كثيرين يسمى بعضهم منكرا وبعضهم نكيرا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم كما كان الموكل عليه لكتابة عمله ملكين، ويشهد له رواية النسائي: ((منكر ونكير وأنكر وناكور وسيدهم دومان)).
(4/815)
 
 
واعلم أن المساءلة لم ترد إلا للمدفون، والظاهر أن الخطاب وقع بحسب الغالب وإنما المسألة تقع للحريق والغريق ومن أكله السباع، وكيف مات على اختلاف الأحوال ابتلاء من الله تعالى لعباده، وهو من جملة منازل الآخرة ومرافقها ولا يستثنى من ذلك إلا الشهيد وقد ثبت في (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: ((كفى ببارقة السيوف شاهدا)) وأما الحشر فذكر أبو الخير الطالقاني في العروة الوثقى أنه عبارة عن معنيين:
أحدهما: إحياء الله تعالى الخلق بعد الإماتة والجمع بعد التفريق وذلك واقع لا
(4/816)
 
 
محالة، قال تعالى: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا}
والثاني: إيجاد وإعادة بعد العدم والفناء وكلا المعنيين للحشر جائزان من الله والعقل يجوزهما جميعا، والسمع لم يرد قطعا بأحدهما، ولعل الغالب على ما دل عليه السمع ظاهرا: أن الحشر الواقع هو الإحياء بعد الإماتة والجمع بعد التفريق.
قلت: يريد بالثاني ابتداء من غير جمع ما قد تفرق ويشهد لما قال من ورود السمع حديث المسرف على نفسه لما أوصى بأن يحرق ويذر نصفه في البحر ونصفه في البر، فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه وفي رواية ((فقال للأرض: أدي ما أخذت)) وفي رواية ((قال الله لكل من أخذ منه شيئا: رد ما أخذت منه، وقال: كن فإذا رجل قائم)) رواه الشيخان واللفظ الأول لمسلم قال: وأما النشر فهو عبارة عن بعث الله الخلق من القبور وجمعهم جميعا في عرصة القيامة، والحشر والنشر لهذه الأجساد حق خلافا للفلاسفة حيث أحالوا حشر الأجساد وردوها إلى حشر الأرواح، والنصوص في القرآن والسنة متواترة على حشر الأجساد. انتهى.
وأما الصراط فوردت فيه الأخبار الصحيحة واستفاضت وهو محمول على
(4/817)
 
 
ظاهره بغير تأويل والله أعلم بحقيقته، وفي الصحيحين ((أنه جسر يضرب على ظهراني جهنم تمر عليه جميع الخلائق وهم في جوازه متفاوتون)) قالوا: ومن الحكمة فيه أن يظهر للمؤمن من عظم فضل الله النجاة من النار وتصير الجنة بعد أسر لقلوبهم، ولتحسر الكفار بفوز المؤمنين بعد اشتراكهم في الورود، ولم يحكوا فيه الخلاف فيه النار هل هو مخلوق الآن أم فيما بعد، وجوز القاضي عياض أن الله يحدثه حينئذ، وأن يكون مخلوقا الآن كجهنم، وقال الحليمي: لم يثبت أنه يبقى إلى خروج الموحدين من النار ليجوزوا عليه إلى الجنة أو يزال ثم يعاد لهم أو لا يعاد، أو تصعد به الملائكة إلى السور الذي في الأعراف، وفي بعض الروايات ((إنه أدق من الشعر وأحد من السيف)) فإن ثبت فهي محمولة على ظاهرها لمنافاته الحديث الآخر من قيام الملائكة على سلمه وكون الكلاليب والحسك فيه وإعطاء المار إليه من النور قدر موضع قدميه للدلالة على أن المار من مواطئ الأقدام ومعلوم أن دقة
(4/818)
 
 
الشعر لا يحتمل ذلك فيجوز أن تؤول أدق من الشعر، فإن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله وقد جرت العادة بضرب دقة الشعر مثلا للغامض الخفي، وضرب حد السيف لإسراع الملائكة إلى المضي لامتثال أمر الله في إجازة الناس عليه، وقال البيهقي: هذا اللفظ لم أجده في الروايات الصحيحة وإنما يروى عن بعض الصحابة.
قلت: في (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري: ((بلغني أنه أدق من الشعر وأحد من السيف)) قال الحليمي: وزعم بعض العلماء أن الكفار لا يمرون على الصراط لأنهم للنار وهي في الأرض وهم فيها.
وأما الميزان فهو حق والمراد به نصب الميزان ذا كفتين ولسان ويوزن فيه الأعمال والكتاب والسنة واردان به، والأعمال وإن كانت أعراضا لا تقبل الوزن، فالوزن للصحف التي للأعمال مكتوبة فيها، أو الأعراض نفسها توزن على ما
(4/819)
 
 
سبق ومقصود الموازنة: تعريف العباد مقادير أعمالهم إذ لو أدخلهم الدارين قبل الموازنة ربما ظن المطيع أن نيله لدرجات الجنة عن الاستحقاق، وتوهم المعذب أن عذابه فوق دينه، فتوزن أعمالهم ليتفقوا على مقادير أجزائها فيعلم الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله لا بمجرد عمله، وليتيقن المجرم أن ما ناله من العذاب دون ما ارتكب من الحرام، وأن الله لا يظلمه والمعتزلة أنكرت ذلك.
ص: والجنة والنار مخلوقتان اليوم.
ش: لقوله تعالى: {وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} وفيه دلالتان:
إحداهما: قوله عرض، لأن المعدوم لا عرض له.
والثاني: أعدت بلفظ الماضي وكذا قوله في النار: {أعدت للكافرين} والمعدوم لا يقال فيه أعد، وفي الصحيحين ((اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف)) وقوله صلى الله عليه وسلم إنه رأى في الجنة قصرا ذكره لعمر ورأى عمر بن
(4/820)
 
 
لحي: ((يجر قصبه في النار)) وإسكان آدم الجنة وخروجه منها دليل على أنها وجدت وهي ذات الثواب بإجماع أهل السنة فيما حكاه ابن بطال عن بعضهم، وشذ من زعم أنها غيرها، وفي الصحيح من محاجة آدم موسى عليهما السلام أن موسى قال لآدم: أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة ولم ينازعه آدم) بل احتج بالقضاء والمنكر لها طائفة من المعتزلة كعبد الجبار وأبي (113/ك) هاشم لأن إيجادها قبل الحاجة إليها عبث.
(4/821)
 
 
وأجيب بالمنع بل في ذلك ترغيب وترهيب، وقد ثبت بقواطع الشرع أن الله عجل بعض بني آدم إلى الجنة كالشهداء، وببعض عصاتهم إلى النار كآل فرعون، وأجمع المسلمون على ذلك قبل ظهور هؤلاء المبتدعة، قال ابن القشيري: وأما أين محلها؟ فذلك ما يعلمه الله ويحتمل أنهما فوق السماوات إذ الجنة في عالم علوي والنار في عالم سفلي.
قلت: روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن جهنم محيطة بالدنيا وإن الجنة من ورائهما)) فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة لكن حديث الإسراء يدل على أن الجنة في السماء السابعة ومما يجب اعتقاده أن كل ما ورد من نعيم أهل الجنة من الحور العين والقصور والولدان والغلمان
(4/822)
 
 
والأنهار والأشجار، وقص جميع ذلك على ما ورد (أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام) فاعلم أن ذلك حق وهناك أعظم مما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإنما أخبرت بيسير من كثير على قدر فهمك وخيالك وضيق وعائك، لأنك ما دمت في هذا العالم مقيدا بعقال العقل الذي لا يقبل الشيء إلا بالبرهان، ومن اعتمد ذلك هلك فالعقل تابع والشرع متبوع.
ص: ويجب على الناس نصب إمام ولو مفضولا.
ش: أما وجوب نصبه فهو قول أهل الحق وإلا لفسد نظام الناس، وقد أجمع الصحابة عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعندنا يجب شرعا، وقالت المعتزلة: عقلا، وذهبت الخوارج إلى أنه لا يجب ومنهم من فصل فقال: يجب عند ظهور الفتن دون وقت الأمن، وعكس آخرون وأشار المصنف بقوله:
(4/823)
 
 
(على الناس) إلى وجوبه على الخلق خلافا للإمامية حيث قالوا: واجب على الله وأشار بقوله: (ولو مفضولا) إلى انعاقد إمامة المفضول وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب، ومنهم ابن خزيمة وذهب الأشعري في جماعة من قدماء أصحابه إلى المنع وإن اجتمعت فيه الشرائط إذا وجد أفضل منه فيها، وأنه إن عقدوا له الإمامة لم تنعقد نعم يكون ملكا لا إماما فتمضي أحكامه، وهذا يدل على أن المسألة عندهم اجتهادية، لأنها لو كانت قطعية لوجب القول بتعصية العاقدين وبه
(4/824)
 
 
صرح الإمام في (الإرشاد).
ص: ولا يجب على الرب سبحانه شيء.
ش: لأنه لوجب= عليه لكان لموجب ولا حاكم غير الله، ولا يجوز أن يكون بإيجابه على نفسه لأنه في حقه غير معقول، وأما نحو قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} {حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو ((ما حق العباد على الله)) فليس مما نحن فيه، لأنه مما يقتضي رحمته إحسانا وتفضلا لا إيجابا والتزاما والمعتزلة أوجبوا على الله أمورا:
منها: اللطف، وهو فعل ما يقرب العبد إلى الطاعة، ومنها: الثواب على الطاعة جزاء للعمل، ومنها: العقاب على الكبائر قبل التوبة، ومنها: فعل الأصلح لعباده في الدنيا، قال أصحابنا: ومن زعم ذلك بطل قوله بنفسين أمات أحدهما مؤمنا وأمات الآخر بالغا كافرا مع علمه أنه إن بلغ كان كافرا، أو نفسين أمات أحدهما مؤمنا وأبقى الآخر سنة أخرى حتى كفر مع علمه بأنه يكفر.
(4/825)
 
 
ص: المعاد الجسماني بعد الإعدام حق.
ش: وقد أخبر به جميع الرسل، وزعم بعض الفلاسفة أنه لم يخبر به إلا محمد وعيسى، ويرد عليهم قوله تعالى حكاية عن نوح: {والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا} وإخبار الله به عن مؤمن آل فرعون بقوله: {إني أخاف عليكم يوم التناد} وقال تعالى: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} والقرآن مملوء منه، ولقد أحسن الرازي في الأربعين إذ قال الجمع بين إنكار الجسماني وبأن القرآن حق: متعذر، فإن نصوص الكتاب والسنة تواترت به تواترا لا يقبل التشكيك. انتهى، وقد قدر الله براهين المعاد بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء {كما بدأكم تعودون} {كما بدأنا أول خلق نعيده} {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} {أفعيينا بالخلق الأول}.
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق أولى نحو: {أو ليس
(4/826)
 
 
الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} {على أن يحيي الموتى} {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها}
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات وهو في كل