تشنيف المسامع بجمع الجوامع 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، حَمْداً يَلِيقُ بِجَلالِهِ، والصلاةُ والتسليمُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلاَنِ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ.
أمَّا بعدُ:
فلَمَّا كانَ كِتَابُ (جَمْعِ الجوامعِ) في أُصُولِ الفِقْهِ لِقَاضِي القُضَاةِ أبي نَصْرٍ عبدِ الوَهَّابِ بنِ الشيخِ الإمامِ أبي الحَسَنِ السُّبْكِيِّ - بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعَهُ - مِن الكُتُبِ التي دَقَّتْ مَسَالِكُها، ورَقَّتْ مَدَارِكُها؛ لِمَا اشْتَمَلَ عليه مِن النُّقُولِ الغريبةِ، والمسائلِ العجيبةِ، والحدودِ المنيعةِ، والموضوعاتِ البديعةِ، معَ كثرةِ العِلْمِ، ووَجَازَةِ النَّظْمِ، قد عَلاَ بَحْرُهُ الزاخِرُ، وأَصْبَحَ اللاحِقُ يقولُ: كم تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ؟ - قد اضْطُرَّ الناسُ إلى حَلِّ مَعَاقِدِهِ، وبيانِ مقاصدِهِ، والوقوفِ على كُنُوزِهِ، ومَعْرِفَةِ رُمُوزِهِ، وليسَ عليه ما نَمَى بهذه المسالِكِ، بَيْدَ أنَّ مُؤَلِّفَه أجابَ عن مواضعَ قليلةٍ مِن ذلكَ، فاسْتَخَرْتُ اللهَ تعالَى في تعليقٍ نافعٍ عليه، يَفْتَحُ مُقْفَلَه، ويُوَضِّحُ مُشْكِلَه، ويُشْهِرُ غَرَائِبَه، ويُظْهِرُ عَجَائِبَه، مُرْتَفِعاً عن الإقلالِ المُخِلِّ، مُنْحَطًّا عن الإطنابِ المُمِلِّ، واللهَ أَسْأَلُ أنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الكريمِ، مُقَرِّباً للفوزِ بجَنَّاتِ النعيمِ، وسَمَّيْتُهُ (تَشْنِيفَ المَسَامِعِ بِجَمْعِ الجَوَامِعِ).
ص (نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ على نِعَمٍ يُؤْذِنُ الحمدُ بازْدِيَادِها).
(1/97)
 
 
ش: الحمدُ: الثَّنَاءُ بالوصفِ الجميلِ على جِهَةِ التعظيمِ. هذا أحسنُ حُدُودِهِ، فـ (الثَّنَاءُ) جِنْسٌ، وبـ (الجميلِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ إطلاقَه على غيرِهِ، ومِنه (فَأَثْنَوْا عليها شرًّا)، والفصلُ الثاني يُخْرِجُ التَّهَكُّمَ، نحوُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
وافْتَتَحَ المصنِّفُ بالجملةِ الفعليَّةِ دونَ الاسميَّةِ؛ لِدَلالَةِ الفعليَّةِ على التجَدُّدِ والحُدُوثِ، بخلافِ الاسميَّةِ؛ فإنَّها مَسْلُوبَةُ الدَّلالةِ على الحُدُوثِ وَضْعاً. ولَمَّا كانَ هذا الكِتابُ مِن النِّعَمِ المُتَجَدِّدَةِ، نَاسَبَ أنْ يُؤْتَى بِمَا يَدُلُّ على التجدُّدِ، وانْفَصَلَ المؤلِّفُ بهذا عن سؤالِ عدمِ تَأَسِّيهِ بالقرآنِ في الافتتاحِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ فإنَّه قديمٌ لم يَحْدُثْ ولم يَتَجَدَّدْ، فالاسميَّةُ به أنسبُ، قالَ: وهذا معنًى لطيفٌ اسْتَنْبَطْتُه،
(1/98)
 
 
وبه يَعْتَضِدُ مَنِ افْتَتَحَ كتابَه بالجملةِ الفعليَّةِ؛ كالغَزَالِيِّ والرَّافِعِيِّ.
قلتُ: وحينَئذٍ فكانَ حَقُّه التعبيرَ بالصيغةِ المُتَعَيَّنَةِ للإفرادِ، وهي: (أَحْمَدُكَ)، لا (نَحْمَدُكَ)؛ لأنَّ النونَ لا تَصْلُحُ هنا للجماعةِ؛ فإنَّ تصنيفَ الكتابِ خاصٌّ به، وهي إنَّما تكونُ للمتكلِّمِ وَحْدَهُ إذا كانَ مُعَظِّماً نفسَه، وهو غيرُ لائقٍ هنا، وقد يَلْتَزِمُ الأَوَّلَ ويَدَّعِي شُمُولَ النِّعْمَةِ بذلكَ له ولغيرِهِ بالانتفاعِ، أو يكونُ الجَمْعُ باعتبارِ التجريدِ البيانِيِّ، لكِنْ يَمْنَعُ من هذا قولُه فيما بعدُ: ونَضْرَعُ إليكَ في منعِ الموانِعِ عن إكمالِ (جمعِ الجوامعِ). فإنَّ هذا خاصٌّ به، وقد حَكَى الحَرِيرِيُّ في (شرحِ المُلْحَةِ)
(1/99)
 
 
خِلافاً في عِلَّةِ نونِ الجمعِ في كلامِ اللهِ تعالَى، فقِيلَ: للعَظَمَةِ، وليسَ لمخلوقٍ أنْ يُنَازِعَه فيها، فعلى هذا يُكْرَهُ استعمالُ الملوكِ لها في قَوْلِهِم: نحنُ نَفْعَلُ.
وقِيلَ في عِلَّتِها: لَمَّا كانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِه تعالَى تَجْرِي على أَيْدِي خَلْقِهِ، نَزَلَتْ أفعالُهم مَنْزِلَةَ فِعْلِه؛ فلذلك وَرَدَ الكلامُ مَوَارِدَ الجمعِ، فعلى هذا القولِ يَجُوزُ أنْ يَسْتَعْمِلَ (النونَ) كلُّ مَن لا يُبَاشِرُ العملَ بنفسِه، فأمَّا قولُ العالِمِ: نحنُ نَشْرَحُ، ونحنُ نُبَيِّنُ. فمفسوحٌ له؛ لأنَّه يُخْبِرُ بنونِ الجمعِ عن نفسِه وأهلِ مقالتِه. انْتَهَى.
وذكَرَ ابنُ السيِّدِ في (الاقتضابِ) نحوَه، وزادَ فيه وَجْهاً آخرَ، وهو أنَّ الرجلَ الجليلَ القَدْرِ يَنُوبُ وَحْدَهُ مَنَابَ جماعةٍ، ويَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عَدَدٍ كثيرٍ في فَضْلِهِ وعِلْمِهِ؛ ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي سُفْيَانَ:
(1/100)
 
 
((كُلِ الصَّيْدَ فِي جَوْفِ الْفَرَا)).
والزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَفْتَحَ (المُفَصَّلَ) بالجملةِ الفعليَّةِ، و (الكَشَّافَ) بالاسميَّةِ؛ لأنَّ النعمةَ التي ذَكَرَها في (المُفَصَّلِ) خاصَّةٌ به، وفي (الكَشَّافِ) عامَّةٌ، وفي التعبيرِ بالمُضَارِعِ فائدةٌ أُخْرَى؛ فإنَّ التجَدُّدَ في الماضي معناه الحُصولُ، وفي المضارِعِ معناه الاستمرارُ، يعني: أنَّ مِن شأنِهِ أنْ يَتَكَرَّرَ ويَقَعَ مَرَّةً بعدَ أُخْرَى، كما قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ عندَ قولِهِ تعالَى: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}.
(1/101)
 
 
وأمَّا (اللَّهُمَّ) فلا خِلافَ - كما قالَه ابنُ السيِّدِ - أنَّ المرادَ به: يا اللهُ، وأنَّ الميمَ زائدةٌ، لَيْسَتْ بأصلٍ في الجملةِ. ثمَّ اخْتَلَفُوا بعدَ ذلكَ في هذه (الميمِ) على ثلاثةِ مذاهِبَ: فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والبَصْرِيُّونَ إلى أنَّهم زَادُوا (المِيمَ) في آخِرِهِ عِوَضاً عن حرفِ النداءِ؛ ولهذا لا يُجْمَعُ بينَهما؛ لِمَا فيه مِن الجمعِ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ.
وقالَ الكُوفِيُّونَ: (الميمُ) عِوَضٌ عن جملةٍ محذوفةٍ، والتقديرُ: يا اللهُ أُمَّنَا بخيرٍ؛ أي: اقْصِدْنَا، ثمَّ حُذِفَ للاختصارِ، ولكثرةِ الاستعمالِ وَرَدَ بعدمِ اطِّرَادِ هذا التقديرِ في أكثرِ المواضِعِ؛ قالَ تعالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. ولو كانَتِ (الميمُ) عِوَضَ (أُمَّنَا) لَمَا احتاجَ الشرطُ إلى جوابٍ؛ لأنَّ الفعلَ يكونُ الجوابَ، وهو أُمَّنَا.
والثالثُ: أنَّ (الميمَ) زائدةٌ للتعظيمِ والتفخيمِ؛ لِدَلاَلَتِها على معنَى الجمعِ، كما زِيدَتْ في: زُرْقُمٍ؛ لِشِدَّةِ الزُّرْقَةِ، وابْنُمٍ في الابنِ، قالَ ابنُ السيِّدِ: وهذا غيرُ خارجٍ عن مذهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ أنْ تكونَ للتعظيمِ، وأنْ تكونَ عِوَضاً عن
(1/102)
 
 
حَرْفِ النداءِ، كما أنَّ (التاءَ) في قَوْلِنا: تَاللهِ. بَدَلٌ مِن (الباءِ)، وفيها زيادةُ معنى التعجُّبِ. قالَ: وهذا القولُ أحسنُ الأقوالِ.
وذَكَرَ ابنُ ظَفَرٍ في أوَّلِ (شَرْحِ المُقَامَاتِ)، أنَّ (اللهَ) للذَّاتِ، و (الميمَ) للصفاتِ، فجَمَعَ بينَهما؛ إيذاناً بالسؤالِ بجميعِ أسمائِهِ وصفاتِهِ. وقَوَّاهُ بعضُهم واحْتَجَّ بقولِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: اللَّهُمَّ مُجَمِّعَ الدعاءِ. وقولِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ: مَن قالَ: اللَّهُمَّ فقد دَعَا اللهَ بجميعِ أسمائِهِ، وكأنَّه قالَ: يا اللهُ الذي له الأسماءُ الحسنَى. ولهذا قيلَ: إنَّه اسمُ اللهِ الأعظمُ. وبذلك يَظْهَرُ أيضاًً حُسْنُ ابتداءِ المصنِّف بها.
وقولُه: (على نِعَمٍ) التنكيرُ فيها للتعظيمِ؛ بدليلِ الوصفِ. و (على) إمَّا للتعليلِ على رأيِ الكُوفِيِّينَ، أو على بابِها للاستعلاءِ؛ لِمَا فيه مِن الإشارةِ إلى تفخيمِ الحمدِ،
(1/103)
 
 
لكِنَّ الاستعلاءَ على النعمةِ غيرُ مُنَاسِبٍ، وكانَ الأحسنُ تَجَنُّبَها هنا؛ فإنَّها إنما تُسْتَعْمَلُ في جانبِ النِّقْمَةِ، وتُتْرَكُ في جانبِ النعمةِ، واستعمالاتُ القرآنِ والسنَّةِ على ذلك، وفي الحديثِ: كانَ إذا رَأَى ما يَكْرَهُ قالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ))، وإذا رَأَى ما يُعْجِبُهُ قالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ)).
وأمَّا قولُه تعالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. فلِمَا كانَ في ذلك المَحَلِّ مِن استعلاءِ التكبيرِ برفعِ الصوتِ.
و (النِّعَمُ) جمعُ نعمةٍ، وهي اليدُ والصَّنِيعَةُ والمِنَّةُ، وما أَنْعَمَ به عليكَ؛ قالَه الجَوْهَرِيُّ، والمرادُ هنا الجميعُ.
و (يُؤْذِنُ) بمعنَى يُعْلِمُ، يُقالُ: آذَنْتُكَ بالشيءِ، أَعْلَمْتُكَهُ، وفَسَّرَهُ الراغبُ بالعلمِ الذي يُتَوَصَّلُ إليه بالسماعِ، لا مُطْلَقِ العلمِ.
(1/104)
 
 
و (الازْدِيَادُ) أَبْلَغُ من الزيادةِ، كما أنَّ الاكتسابَ أَبْلَغُ مِن الكَسْبِ، وهو أخذُ الشيءِ بعدَ الشيءِ. و (الدالُ) بدلٌ عن (التاءِ)، وأصلُه ازْتِيَادٌ، أَبْدَلَ من التاءِ دالاً؛ لِتَوَافُقِ الزايِ والدالِ في الجَهْرِ؛ لِيَتَشَاكَلَ اللفظُ، وهو مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.
ص: (ونُصَلِّي على نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ هادِي الأُمَّةِ لِرَشَادِها).
ش: الصيغةُ صِيغَةُ خَبَرٍ، والمقصودُ الطَّلَبُ؛ لِيَكُونَ امْتِثَالاً لقولِهِ تعالَى: {صَلُّوا عَلَيْهِ}، وهو مِن عَطْفِ الإنشاءِ على الإنشاءِ؛ إذ لو قُدِّرَ خَبَراً لَزِمَ عَطْفُ الخبرِ على الإنشاءِ، وهو مُمْتَنِعٌ عندَ البَيَانِيِّينَ، ولو قُدِّرَ هنا إرادتُهما لم يَبْعُدْ، وفَسَّرُوا الصلاةَ مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ بالرحمةِ، ومن الآدَمِيِّ بالدعاءِ.
ورُدَّ الأوَّلُ بأنَّ الرحمةَ فِعْلُها مُتَعَدٍّ، والصلاةَ فِعْلُها قاصِرٌ، ولا يَحْسُنُ تفسيرُ القَاصِرِ بالمُتَعَدِّي، وبأنَّه يَلْزَمُ جوازُ رحمةِ اللهِ عليه والتَّكْرَارُ في قَوْلِهِ تعالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}. ولهذا فَسَّرَها بعضُهم من اللهِ بالمغفرةِ؛ لأجلِ ذِكْرِ الرحمةِ بعدَها.
ورُدَّ الثاني بأنَّه يَلْزَمُ جوازُ: دَعَا عليه، وأُجيب بأنَّها لَمَّا ضُمِّنَتْ معنى العطفِ والتحَنُّنِ عُدِّيَتْ بـ (على)، والأحسنُ ما قاله الغَزَالِيُّ وغيرُه: إِنَّ الصلاةَ موضوعةٌ للقَدْرِ المشترَكِ، وهو الاعتناءُ بالمُصَلَّى عليه.
و (النبيُّ) اخْتُلِفَ في لفظِه ومعناه: أمَّا لفظُه فاختُلِفَ في أنه مهموزٌ أم لا؟ فقيلَ: ليسَ بمهموزٍ، مِن النَّبْوَةِ: وهو ما
(1/105)
 
 
ارْتَفَعَ من الأرضِ، سُمِّيَ نَبِيًّا؛ لارتفاعِهِ وشَرَفِهِ، ولهذا ذَكَرَه الجَوْهَرِيُّ في بابِ المُعْتَلِّ، واحْتَجَّ عليه الأخفشُ بقولِهِ تعالَى: {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ}. قالَ: فهذا جمعُ غيرِ المهموزِ؛ كصَفِيٍّ وأَصْفِيَاءَ، ولو كانَ مهموزاً لقيلَ: نُبَآءُ؛ ككَريمٍ وكُرَمَاءَ. وقيلَ: مهموزٌ مِن النَّبَأِ بمعنى الخبرِ، واحْتَجُّوا بقراءةِ نافعٍ: النَّبِيْء والأَنْبِياء والنُّبُوءَة في جميعِ القرآنِ بالهمزِ، إلاَّ في موضعيْنِ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، و {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}.
وفي (مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ) أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا نَبِيءَ اللهِ.
(1/106)
 
 
فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تُغَيِّرِ اسْمِي)).
وقالَ الجَوْهَرِيُّ: نَهَى عن ذلك؛ لأنَّه يُقالُ: نَبَاتُ من أرضٍ إلى أرضٍ؛ إذا خَرَجْتَ مِنها إلى أُخْرَى، وهذا المعنى أرادَ الأعرابيُّ بقولِهِ: يا نَبِيءَ اللهِ. أي: يا مَن خَرَجَ من مكَّةَ إلى المدينةِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مِن النَّبْوَةِ بمعنى الرفعةِ، فهو أبلغُ من الهمزِ؛ لأنَّه ليسَ كلُّ مُنْبِئٍ رَفِيعَ المَحَلِّ؛ ولهذا نَهَى عن الهمزِ.
وقالَ ابنُ خَرُوفٍ في (شَرْحِ الكِتابِ): إنَّما نَهَى مَن خَفَّفَهُ من أهلِ التحقيقِ، وهم قليلٌ، وجماعةٌ من العربِ من أهلِ التحقيقِ، والتحقيقُ على البدلِ، والقراءةُ بالتحقيقِ ضعيفةٌ، لم يَقْرَا بها في السبعِ غيرُ المَدَنِيِّ. انتهَى.
وكذا قالَ ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ: كلُّ ما لَزِمَ من البدلِ فإنَّه لا يَجُوزُ رَدُّه إلى الأصلِ، إلاَّ في ضرورةٍ؛ فلذلك أَنْكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمزةَ، وإنْ كانَ هو الأصلَ. قالَ: وقد حَمَلَ هذا الحديثَ قومٌ مِن الجُهَّالِ باللغةِ، حتَّى زَعَمُوا أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبْوَةِ، وهذه فِرْيَةٌ على الأنبياءِ؛ لأنَّ النَّبْوَةَ ليسَتْ بالارتفاعِ كما ظَنُّوا، وإنما يُقالُ للسيفِ: نَبَا فهو نابٍ، وللفرسِ: النابِي، وكذلك النابِي من الأرضِ؛ لِمَا غَلُظَ وشَقَّ على سالِكِهِ، فامْتَنَعَ منه الناسُ، وليسَ هو ارتفاعاً فقطْ، بل هو وَصْفٌ له معَ ذَمٍّ.
وقالَ الفَارِسِيُّ في كتابِ (الحُجَّةِ): مَن حَقَّقَ الهمزَ في
(1/107)
 
 
النبيِّ، صارَ كأنَّه رَدَّ الشيءَ إلى أصلِهِ المرفوضِ استعمالُه؛ كوَذَرَ ووَدَعَ، فمِن ثَمَّ كانَ الأمرُ فيه التخفيفَ؛ ولذلك قالَ سِيبَوَيْهِ: بَلَغَنَا أنَّ قَوْماً من أهلِ الحِجازِ من أهلِ التحقيقِ يُحَقِّقُونَ (نَبِيّ وبَرِيَّة). قالَ: وذلك رَدِيءٌ، وإنَّمَا اسْتَرْدَأَهُ؛ لأنَّ الغالبَ في مِثْلِهِ التخفيفُ على وجهِ البدلِ من الهمزِ، وذلك الأصلُ كالمرفوضِ، فضَعْفُه عندَهم لاستعمالِهِم فيه الأصلَ الذي قد تَرَكَه سائِرُهم، لا لأنَّ النبيَّ الهمزُ فيه غيرُ الأصلِ.
قالَ الفَارِسِيُّ: أمَّا ما رُوِيَ من إنكارِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمزَ، فأَظُنُّ أنَّ مِن أهلِ النقلِ مَن ضَعَّفَ إسنادَه. قالَ: ومِمَّا يُقَوِّي تضعيفَه أنَّ مَن مَدَحَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا خَاتَمَ النُّبَآءِ. لم يُؤْثَرْ فيه إنكارٌ عليه، ولو كانَ في واحدِهِ نَكِيرٌ لَكَانَ الجمعُ كالواحدِ، وأيضاًً فلم يُعْلَمْ أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ أَنْكَرَ على الناسِ أنْ يَتَكَلَّمُوا بِلُغَاتِهِم.
وأمَّا معناه: فقيلَ: هو والرسولُ بمعنًى واحدٍ. والصوابُ تَغَايُرُهما، واخْتُلِفَ في التمييزِ بينَهما، والمُعْتَمَدُ ما قالَه الحَلِيمِيُّ وغيرُه؛ مِن أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبَأِ، وهو الخبرُ، إلاَّ أنَّ المُرَادَ هنا خَبَرٌ خاصٌّ عمَّن يُكْرِمُه اللهُ تعالَى بأنْ يُوقِفَه على شَرِيعَتِهِ، فإنِ انْضَافَ إلى هذا التوقيفِ أَمْرٌ بتبليغِهِ الناسَ ودُعَائِهِم إليه كانَ نَبِيًّا ورسولاً، وإلاَّ
(1/108)
 
 
كانَ نبيًّا غيرَ رسولٍ. ثمَّ ذَكَرَ سِتَّةً وأربعينَ خَصْلَةً يَخْتَصُّ بها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحاصِلُه أنَّ النبيَّ هو مَن أُوحِيَ إليه، فإنِ انْضَافَ إليه الأمرُ بالتبليغِ كانَ رسولاً ونبيًّا، وإلاَّ كانَ نبيًّا لا رسولاً، فالنبيُّ أعمُّ، فكلُّ رسولٍ نَبِيٌّ ولا يَنْعَكِسُ. وفي كلامِ الحَلِيمِيِّ فائدةٌ، وهي: تقييدُ الوحيِ بالشريعةِ، فإنْ صَحَّ هذا خَرَجَ وَحْيُهُ إلى مَرْيَمَ وأُمِّ مُوسَى عليهم السلامُ، ولَعَلَّه بَنَاهُ على عَدَمِ ثُبُوتِهِما، وفيه خِلافٌ ذَكَرْتُهُ في أُصُولِ الدِّينِ مِن هذا الشرحِ.
فظَهَرَ بما ذَكَرْنَاهُ أفضلِيَّةُ الرسالةِ على النُّبُوَّةِ، وتَخْرُجُ منه مُنَازَعَةُ المُصَنِّفِ في إِيثَارِهِ هنا صِفَةَ النُّبُوَّةِ على الرسالةِ، ولَعَلَّه لَحَظَ ما صارَ إليه الشيخُ عِزُّ الدِّينِ من تفضيلِ النبوَّةِ على الرسالةِ مِن جِهَةِ شَرَفِ التعلُّقِ، والراجِحُ خِلافُه، وعليه نَقْدٌ آخَرُ، وهو: عَدَمُ تَسْلِيمِهِ، وقد قالَ العلماءُ: يُكْرَهُ إفرادُ الصلاةِ عن التسليمِ.
وقولُه: (هَادِي الأُمَّةِ) مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
(1/109)
 
 
مُسْتَقِيمٍ}. وفَسَّرَ الراغِبُ الهِدَايَةَ بالدَّلالةِ بِلُطْفٍ، قالَ: وأمَّا قولُه تعالَى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}. فهو على التهَكُّمِ.
وفي الحديثِ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ)). قالَ الرَّازِيُّ: الكثيرُ ضَمُّ (الميمِ)، بمعنى أنَّ اللهَ تعالَى أَهْدَاهُ إلى الناسِ، وكانَ ابنُ البرْقِيُّ يقولُ: بكسرِ (الميمِ) مِن الهِدَايَةِ. وكان ضابِطاً فَهِماً مُتَصَرِّفاً في الفِقْهِ واللُّغةِ، والذي قالَه أجودُ؛ لأنَّه بُعِثَ للهِ هَادِياً؛ كما قالَ تعالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. و (الرَّشَادُ) ضِدُّ الغَيِّ.
(1/110)
 
 
ص: (صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه، ما قَامَتِ الطُّرُوسُ والسطورُ لِعُيُونِ الألفاظِ مَقَامَ بَيَاضِها وسَوَادِها).
ش: كانَ الأَوْلَى إضافةَ الآلِ إلى الظاهرِ؛ لأنَّه الوارِدُ في السنَّةِ، وللخروجِ من خِلافٍ مِن مَنْعِ إضافتِهِ إلى الضميرِ؛ كالكِسَائِيِّ والنَّحَّاسِ والزُّبَيْدِيِّ، قالَ ابنُ
(1/111)
 
 
مالِكٍ: وقد ثَبَتَتْ إِضَافَتُه إلى مُضْمَرٍ. وقيلَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن آلُكَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ تَمَّامٌ في فَوَائِدِهِ. وقيلَ: إنَّه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، وفَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ فيما حَكَاهُ ابنُ عَطِيَّةَ: بالقومِ
(1/112)
 
 
الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إلى المضافِ إليه، وهو نَصٌّ في أنَّ (آل) ليسَ أصلُه أَهْلاً كما زَعَمَ النحَّاسُ، وقالَ الإمامُ في تفسيرِ سورةِ مَرْيَمَ: الآلُ: خاصَّةُ الرجُلِ الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه، ثُمَّ قد يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه للقَرَابَةِ تَارَةً وللصُّحْبَةِ أُخْرَى؛ كآلِ فِرْعَوْنَ، وللموافقةِ في الدِّينِ؛ كآلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وهو حَسَنٌ يَجْمَعُ الأقوالَ ويَقْتَضِي أنَّه مُشْتَرَكٌ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ في التعظيمِ، وآلُهُ بنو هَاشِمٍ والمُطَّلِبِ، وقيلَ: جميعُ الأُمَّةِ. وقيلَ: أولادُ فاطمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. والأصحابُ: جمعُ صاحبٍ، وهو كلُّ مُسْلِمٍ رَأَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَدَّمَ الآلَ لِشَرَفِهِم، وعَطَفَ الأصحابَ عليهم؛ لأنَّ بينَهما عُمُوماً وخُصُوصاً مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ التابعيَّ الذي هو من بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ من
(1/113)
 
 
الآلِ، وليسَ من الصحابةِ، وسَلْمَانُ - مثلاً - بالعكسِ، وعليٌّ - مثلاً - صَحَابِيٌّ وآلٌ.
وقولُه: (ما قَامَتْ) ما: في وَضعِ الظرفِ؛ أي: مُدَّةَ. و (الطُّرُوسُ): جَمْعُ طِرْسٍ، بكسرِ الطاءِ، فَسَّرَهُ الجَوْهَرِيُّ بالصَّحِيفَةِ، ثمَّ قالَ: ويُقالُ: هي التي مُحِيَتْ ثمَّ كُتِبَتْ. وعلى هذا اقْتَصَرَ في (المُحْكَمِ)، وحكَى فيها لغةً أُخْرَى: طِلْسٌ، باللامِ بدلَ الراءِ، وقالَ الفَرَّاءُ في (الجامِعِ): الطِّرْسُ: الكتابُ الذي قد مُحِيَ ما فيه ثمَّ كُتِبَ. وقيل: هو الصحيفةُ بعينِها، وإنما يُقالُ للذي مُحِيَ: طُلِسَ، وحُكِيَ فيها: طِرْسٌ وطِرْصٌ، بالسينِ والصادِ، واستعمالُ المصنِّفِ (عُيُونَ الألفاظِ) استعارةٌ بليغةٌ، ورَشَّحَها بالبياضِ والسوادِ؛ فإنَّهما من لَوَازِمِ العيونِ، وفيه لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فالبَياضُ للطُّرُوسِ، والسوادُ للسطورِ، وفيه استعمالُ الطُّرُوسِ للصحيفةِ البَيضاءِ، وفيه ما سَبَقَ، وفي الطُّرُوسِ والسُّطُورِ جِناسُ القَلْبِ؛ لاخْتِلافِهِما في ترتيبِ الحروفِ، فهو نظيرُ: (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وآمِنْ رَوْعَاتِنا) .. ومقصودُ المُصَنِّفِ تَابِيدُ الصلاةِ عليه على الدوامِ؛ إذ لا تَزَالُ طائفةٌ مِن الأُمَّةِ على الحقِّ
(1/114)
 
 
حتَّى تَقُومَ الساعةُ، ووجودُ الطُّرُوسِ مِن لَوَازِمِ بَقَائِها، فعَبَّرَ باللازِمِ وأرادَ الملزومَ، وخَصَّ التعليقَ على ذلك دُونَ غيرِهِ مِن الأشياءِ المُؤَبَّدَةِ؛ لِشَرَفِ العلمِ المبعوثِ به النبيُّ الكريمُ صَلَّى اللهُ تعالَى عليه وسَلَّمَ.
ص: (ونَضْرَعُ إليكَ في مَنْعِ الموانعِ عن إكمالِ جمعِ الجوامِعِ، الآتي مِن فَنَّيِ الأصولِ بالقواعدِ القواطِعِ، البالِغِ مِن الإحاطةِ بالأصليْنِ مَبْلَغَ ذَوِي الجِدِّ والتَّشْمِيرِ، والوارِدِ مِن زُهَاءِ مِائَةِ مُصَنَّفٍ مَنْهَلاً يُرْوِي ويَمِيرُ، المُحِيطِ بِزُبْدَةِ ما في شَرْحِي على المُخْتَصَرِ والمِنْهَاجِ معَ مَزِيدِ كَثِيرٍ).
ش: ضَرَعَ الرجُلُ ضَرَاعَةً؛ خَضَعَ وذَلَّ، قالَ الفَرَّاءُ: يُقالُ: جاءَ فلانٌ يَتَضَرَّعُ ويَتَعَرَّضُ: بمعنَى إذا جاءَ يَطْلُبُ إليكَ الحاجةَ. ولا شكَّ أنَّ التضَرُّعَ أبلغُ؛ فإنَّه نهايةُ السؤالِ؛ فلهذا آثَرَهُ المصنِّفُ.
و (في مَنْعِ) مُتَعَلِّقٌ بِنَضْرَعُ، و (عن) مُتَعَلِّقٌ بِمَنْعِ، وحذفُ تاءِ المضارعةِ فيه تَسْهِيلاً، وأصلُه نَتَضَرَّعُ، ثمَّ أُدْغِمَ. وكأنَّه طَلَبَ مِن اللهِ تَعَالَى دَفْعَ الموانِعِ العائقةِ له عن إكمالِ هذا الكتابِ، وذلك يَسْتَلْزِمُ
(1/115)
 
 
طَلَبَ كمالِهِ، وكأنَّه إنَّما لم يَطْلُبْهُ ابتداءً؛ لأنَّه قد يَصْحَبُهُ مانِعٌ، فسَأَلَ رَفْعَ الموانِعِ أصلاً ورأساً.
و (الآتي): صِفَةٌ لجمعِ الجوامِعِ، وهو اسمُ فاعلٍ مِن أَتَى بمعنى جاءَ، ومنه قولُهم: ما أَقْرَبَ ما هو آتٍِ.
و (بالقواعدِ) مُتَعَلِّقٌ به، و (مِن فَنَّيِ الأصولِ) متعلِّقٌ بالقواعِدِ، و (مِن) للبيانِ، والفَنُّ: النوعُ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: فَنَّ الرجُلُ؛ كَثُرَ تَفَنُّنُه في الأمورِ؛ أي: تَنَوُّعُهُ. والفُنُونُ: الأنواعُ. والأفانِينُ: الأساليبُ. والألفُ واللامُ في (الأُصُولِ) للاستغراقِ؛ لِيَعُمَّ أصولَ الفقهِ وأصولَ الدِّينِ؛ بدليلِ تَثْنِيَةِ فَنٍّ، وقولِهِ بعدَه: من الإحاطةِ بالأصليْنِ.
وفي (القواعِدِ) و (القواطِعِ) الجناسُ اللاحِقُ؛ لاتِّفَاقِ الكَلِمَتَيْنِ في عددِ الحروفِ والهيئاتِ، واخْتِلاَفِهما في الآخِرِ، فهو نظيرُ قولِهِ تعالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ}.
وفي التعبيرِ بـ (البالِغِ) و (الإحاطةِ) من النهايةِ في الاطِّلاعِ على الأصليْنِ ما لا يَخْفَى.
و (مَبْلَغَ) منصوبٌ بالبالِغِ. و (الجِدُّ) بكسرِ الجيمِ: الجَهْدُ. (وزُهَاءَ مائةٍ) أي: قَدْرَ مائةٍ، هذا مدلولُه لُغَةً، وكلامُ الفُقَهَاءِ في بابِ الوصيَّةِ يُخَالِفُه، ثُمَّ كلامُ الأخفشِ يَقْتَضِي أنَّها ممدودةٌ؛ فإنَّه ذَكَرَها في بابِ ما يُمَدُّ، ولكِنَّ صَاحِبَ (الصِّحَاحِ) ذَكَرَها في المُعْتَلِّ، وعلى المدِّ اقْتَصَرَ صاحِبُ (المَشَارِقِ)، قالَ: ويُقالُ: لُهَاء، باللامِ بَدَلَ الزايِ.
و (يُرْوِي) بضمِّ أَوَّلِهِ: من الرِّيِّ، وهو الشِّبَعُ من الماءِ، يقالُ منه: رَوِيتُ، بكسرِ الواوِ، أَرْوَى رَيًّا ورِيًّا، وفي الحديثِ: (رَوَيتُ) بالفتحِ، وما أحسنَ قولَ بعضِهم: رَوَيْتُ وما رَوِيتُ من الروايةِ.
و (يَمِيرُ): بفتحِ أوَّلِهِ، ويَجُوزُ ضَمُّها؛ لأنَّه يقالُ: مارَ وأمارَ بمعنًى، من قولِهم: مارَ أهلَه يَمِيرُهُم؛ إذا حَمَلَ لهم المِيرَةَ، وهو الطعامُ، ومنه قولُهم: ما عندَهم خيرٌ ولا مَيْرٌ.
(1/116)
 
 
ص: (ويَنْحَصِرُ في مُقَدِّمَاتٍ وسَبْعَةِ كُتُبٍ).
ش: الانحصارُ مُطَاوِعُ حَصَرَ، وحقُّ انْفَعَلَ أنْ يُطَاوِعَ مِثلَ الثلاثيِّ، نحوُ: ضَرَبْتُهُ فانْضَرَبَ، ويَقِلُّ في الرُّبَاعِيِّ: أَزْعَجْتُهُ فانْزَعَجَ، قالَ أبو السَّعَادَاتِ: والحَصْرُ: التَّضْيِيقُ، قالَ تعالَى: {وَاحْصُرُوهُمْ}، وانْحِصَارُ الشيءِ في أشياءَ يكونُ على وجهيْنِ:
أَحَدُهما: انحصارُه في جُزْئِيَّاتِه؛ كانحصارِ الكَلِمَةِ في الاسمِ والفعلِ والحرفِ.
الثاني: انْحِصَارُه في أجزائِهِ؛ كانحصارِ الكلامِ في الاسمِ والفعلِ والحرفِ أيضاًً.
والفرقُ بينَهما أنَّ اسمَ المحصورِ في الأوَّلِ يكونُ صَادِقاً على كلِّ واحدٍ مِن الأشياءِ المحصورِ فيها هو، بخلافِ الثاني، والضميرُ في قَوْلِهِ: (ويَنْحَصِرُ) إمَّا أنْ يعودَ على هذا المُخْتَصَرِ، أو إلى أُصُولِ الفِقْهِ، لا جائزَ أنْ يعودَ على المُخْتَصَرِ المدلولِ عليه بقولِهِ في الخُطْبَةِ: (جَمْعِ الجوامِعِ الآتي من فَنَّيِ الأصولِ بالقواعدِ القواطِعِ)؛ فإنَّ (جمعَ الجوامِعِ) يَشْتَمِلُ على غيرِ المقدِّمَةِ والسبعةِ كُتُبٍ، من علمِ أصولِ الدينِ وخاتمةِ التصوُّفِ، فلا انْحِصَارَ، وإمَّا أنْ يعودَ إلى أصولِ الفِقْهِ المدلولِ عليه بقولِهِ في الخُطْبَةِ: (المُحِيطِ بِزُبْدَةِ ما في شَرْحِي على (المُخْتَصَرِ) و (المِنْهَاجِ) معَ مَزِيدِ كثيرٍ)، وليسَ المذكورُ في الشرحيْنِ غيرَ أصولِ الفقهِ، فيقالُ عليه: إنَّ مِن جملةِ المُقَدِّمَاتِ حَدَّ أُصُولِ الفقهِ وغيرِه مِن قواعدِ المَنْطِقِ، ونَحْوِها مِمَّا لا يُعَدُّ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، فلا يكونُ جُزْءاً منه؛ لِخُرُوجِها عنه اصطلاحاً، وقد يُجابُ بأنَّه لَمَّا تَوَقَّفَ الأصولُ عليها، جَعَلَها جُزْءاً منه على طريقِ التغليبِ، ووجهُ الانحصارِ فيما ذَكَرَه أنَّ ما تَضَمَّنُه الأصولُ إمَّا مقصودٌ بالذاتِ، أو لا، والثاني: المُقَدِّمَاتُ؛ إذ لا بُدَّ أنْ يَتَوَقَّفَ عليهِ المقصودُ، وإلاَّ لم يُحْتَجْ إليه، والأوَّلُ: إنْ كانَ الغرضُ مِنه استنباطَ الأحكامِ، فالبحثُ إمَّا عن نفسِ الاستنباطِ، وهو الاجتهادُ، وإمَّا عمَّا تُسْتَنْبَطُ هي مِنه، إمَّا عندَ تَعَارُضِها، وهو الترجيحُ، أو لا، وهو الأدِلَّةُ والاستدلالُ.
(1/117)
 
 
ص: (الكلامُ في المُقَدِّمَاتِ).
ش: المُقَدِّمَاتُ: جمعُ مُقَدِّمَةٍ، وهي في اصطلاحِ الحكماءِ: القَضِيَّةُ المَجْعُولَةُ جُزْءَ الدليلِ؛ كقولِنا: العالِمُ مُمْكِنٌ، وكلُّ مُمْكِنٍ له سببٌ، فيَنْتُجُ: أنَّ العالِمَ له سَبَبٌ، فكلُّ وَاحِدَةٍ من هذه تُسَمَّى مُقَدِّمَةً، وأمَّا عندَ المُتَكَلِّمِينَ: فما يَتَوَقَّفُ عليه حُصُولُ أمرٍ آخرَ، وهو مرادُ المصنِّفِ، وهي أعمُّ مِن الأُولَى، فالمقدِّمَةُ لبيانِ السوابِقِ، والفصولُ المُعَبَّرُ عنها هنا بالكتبِ لبيانِ المقاصِدِ، وهي مأخوذةٌ مِن مُقَدِّمَةِ العَسْكَرِ، وهو أوَّلُ ما يَبْدُو، وفيها لغتانِ: فتحُ الدالِ، باعتبارِ المفعوليَّةِ، بمعنى قُدِّمَتْ على المقصودِ إعانةً على فَهْمِهِ، وكَسْرُها، باعتبارِ الفاعليَّةِ، بمعنى مُتَقَدِّمَةٍ، من قولِه تعالَى: {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}. قيلَ: والكسرُ أشهرُ. وكأنَّهم لَحَظُوا أنَّه لَمَّا وَجَبَ تَقَدُّمُها بالذاتِ؛ لابتناءِ ما بعدَها عليه، رَجَحَ تقديرُ الفاعليَّةِ فيها؛ للإشعارِ بأنَّها تَقَدَّمَتْ بنفسِها، بخلافِ الفتحِ.
ص: (أُصُولُ الفِقْهِ: دلائلُ الفِقْهِ الإجماليَّةُ، وقيلَ: مَعْرِفَتُها).
ش: الدلائلُ جِنْسٌ،
(1/118)
 
 
والإجماليَّةُ فَصْلٌ أَخْرَجَ به الأدِلَّةَ التفصيليَّةَ بحَسَبِ مسألةٍ مسألةٍ، وهو الفِقْهُ،
(1/119)
 
 
ومعنى الإجماليَّةِ كما قالَ أبو الحُسينِ في المُعْتَمَدِ: إِنَّها غيرُ مُعَيَّنَةٍ، ألاَ تَرَى أنَّا إذا تَكَلَّمْنَا في أنَّ الأمرَ للوجوبِ، لم نُشِرْ إلى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وكذلك النهيُ والإجماعُ والقياسُ، وليسَ كذلك أَدِلَّةُ الفِقْهِ؛ لأنَّها مُعَيَّنَةٌ، نحوُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). قالَ: ولهذا كانَ قولُ مَن قالَ: أصولُ الفقهِ كلامٌ في أَدِلَّةِ الفقهِ - يَلْزَمُ عليه أنْ يكونَ كلامُ الفقهاءِ في أدلَّةِ الفقهِ المعيَّنَةِ كلاماً في أصولِ الفِقْهِ؛ فلهذا قَيَّدْنَا الأدِلَّةَ الإجماليَّةَ. انْتَهَى.
وهذا هو المُخْتَارُ في تَعْرِيفِهِ، أعنِي أنَّ الأصولَ نَفْسُ
(1/120)
 
 
الأدِلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها؛ لأنَّ الأدِلَّةَ إذا لم تُعْلَمْ لا تَخْرُجُ عن كَوْنِها أُصُولاً، وهو الذي ذَكَرَه الحُذَّاقُ؛ كالقاضي أبي بكرٍ، وإمامِ الحَرَمَيْنِ، والرَّازِيِّ والآمِدِيِّ
(1/121)
 
 
وغيرِهم، واختارَهُ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ بنُ دَقِيقِ العِيدِ.
وقيلَ: بل أصولُ الفقهِ مَعْرِفَةُ الأدِلَّةِ. وعليه جَرَى في (المِنْهَاجِ).
وكذا ابنُ الحاجِبِ، إلاَّ أنَّه عَبَّرَ بالعلمِ بها، ووَجَّهَهُ بعضُهم بأنَّ العِلْمَ
(1/122)
 
 
بالأدِلَّةِ مُوصِلٌ إلى المَدْلُولِ، والأدِلَّةُ لا تُوصِلُ إلى المدلولِ إلا بواسطةِ العِلْمِ بها.
والحاصلُ: أنَّ الأدِلَّةَ لها حقائِقُ في أَنْفُسِها من حيثُ دَلاَلَتُها، ومِن حيثُ تَعَلُّقُ العِلْمِ بها، فهل موضوعُ أصولِ الفقهِ تلكَ الحقائقُ أو العِلْمُ بها؟ والمختارُ الأوَّلُ؛ لأنَّ أهلَ العُرْفِ لا يُسَمُّونَ العلومَ أُصُولاً، ويقولُ: هذا كتابُ أُصُولٍ، ولأنَّ الأصولَ لُغَةً: الأدِلَّةُ، فجَعْلُه اصطلاحاً نفسَ الأدِلَّةِ أقربُ إلى المدلولِ اللُّغَوِيِّ، ومِن هنا جَعَلَ المصنِّفُ وغيرُه الفِقْهَ: العلمَ بالأحكامِ، لا نَفْسَها؛ لأنَّه أقربُ إلى الاستعمالِ اللُّغَوِيِّ؛ إذ الفِقْهُ لغةً: الفَهْمُ، وليسَ كذلك الأصولُ، وبهذا يَنْفَصِلُ عن سؤالِ جَعْلِ الأصولِ الأدِلَّةَ، والفِقْهِ العِلْمَ بالأحكامِ.
هذا تقريرُ كلامِ المصنِّفِ، وفيه كَلِمَاتٌ:
الأُولَى: أَنَّه إنَّما يُحَدُّ اللَّقَبِيُّ، لا الإضافيُّ؛ بدليلِ أنَّه لم يُعَرِّفِ الأصولَ بمفردِهِ، وحينَئذٍ فكيفَ يَصِحُّ جَعْلُه نفسَ الأدِلَّةِ؟! فإنَّ اللَّقَبِيَّ هو ما نُقِلَ عن الإضافةِ وجُعِلَ عَلَماً على الفَنِّ، أو صارَ عَلَماً بالغَلَبَةِ، لا نَقْلَ فيه.
وكيفَ يَصِحُّ أنْ يَحْكِيَ فيه قَوْلاً: إنَّه معرفةُ الأدِلَّةِ، وليسَ ذلك خِلافاً مُتَوَارِداً على مَحَلٍّ واحدٍ، بل هما طريقانِ لمقصوديْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، فمَن قَصَدَ الإضافِيَّ فَسَّرَهُ بالأدِلَّةِ، ومَن قَصَدَ اللَّقَبِيَّ فَسَّرَهُ بالعِلْمِ بها؛ ولهذا لَمَّا جَمَعَ ابنُ الحاجِبِ بينَهما عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بالعِلْمِ، والإضافِيَّ بالأدِلَّةِ، ومَن أَوْرَدَ عليه أنَّ أصولَ الفقهِ نفسُ تلكَ القواعدِ، لا العِلْمُ بها؛ لِثُبُوتِها في نفسِ الأمرِ، عَلِمَ بها أم لا - فقد غَفَلَ عن هذا المعنَى، ولم يَقَعْ على مُرَادِهِ؛ فإنَّه قبلَ العِلْمِيَّةِ بمعنى الأدِلَّةِ، وأمَّا بعدَه فصارَ معنى
(1/123)
 
 
أصولِ الفقهِ عِلْمَ أُصُولِهِ، كما يُقالُ: سورةُ البقرةِ، ثمَّ يقالُ: البقرةُ؛ باعتبارِ النقلِ إلى عِلْمِ السورةِ.
وإمامُ الحَرَمَيْنِ لَمَّا عَرَّفَه في (البُرْهَانِ) بالأدلَّةِ قالَ شَارِحُه الإبياريُّ: أرادَ الإضافِيَّ. نَعَم المصنِّفُ تابَعَ والدَه الشيخَ الإمامَ، فإنَّه اقْتَنَصَ ذلك مِن تَخَالُفِ عبارةِ (المِنْهَاجِ) (والمحصولِ)، معَ أنَّ كُلاًّ مِنهما حَدَّ اللَّقَبِيِّ، فالبَيْضَاوِيُّ جَعَلَه العِلْمَ بالأدلَّةِ والكَيْفِيَّتَيْنِ، والإمامُ جَعَلَه عبارةً عن
(1/124)
 
 
الثلاثةِ، قلتُ: وتَابَعَه الهِنْدِيُّ على ذلك، وقالَه قبلَهما ابنُ بُرْهَانَ في (الأوسطِ)، ونَقَلَ إجماعَ المُتَقَدِّمِينَ على أنَّ أَدِلَّةَ الفِقْهِ تُسَمَّى أُصُولَ الفِقْهِ، والناظِرُ فيها يُسَمَّى أُصُولِيًّا، وقالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ: أُصُولُ الفِقْهِ عندَ الفقهاءِ: طُرُقُ الفِقْهِ
(1/125)
 
 
التي يُؤَدِّي الاستدلالُ بها إلى معرفةِ الأحكامِ. انْتَهَى.
ويُمْكِنُ رَفْعُ الخلافِ؛ فإنَّه كما يَتَوَقَّفُ الفِقْهُ على هذه الحقائقِ يَتَوَقَّفُ على العِلْمِ بها، فيَجُوزُ حينَئذٍ إطلاقُ أصولِ الفقهِ على الأدلَّةِ نفسِها، وعلى العلمِ بها، لكِنَّ إطلاقَه على نفسِ الأدلَّةِ أَوْلَى؛ لأنَّ الغرضَ ما يُسْتَنْبَطُ منه الأحكامُ، لا العلمُ بتلك الطرقِ، نَعَمْ يَنْبَغِي تخريجُ خلافٍ في أنَّ الفقهَ هل هو مدلولُ تلك الأدلَّةِ أو العلمُ بالمدلولِ من الخلافِ الكلاميِّ، فيما إذا أَقَمْنَا دليلاً على حدوثِ العالَمِ مثلاً، فهل المدلولُ حُدُوثُ العالَمِ أو العلمُ بحدوثِ العالَمِ؟ والصحيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ حدوثَ الأكوانِ دالٌّ على حدوثِ الجواهِرِ، سواءٌ أَنَظَرَ الناظِرُ أم لا، والدليلُ مُرتبِطٌ بالمدلولِ؛ نَظَرَ الناظِرُ أم لا، وهذا الخِلافُ قيلَ: إنَّه لَفْظِيٌّ؛ إذ لا يَصِحُّ ثُبُوتُ العلمِ دونَ المعلومِ.
الثانيةُ: جَعْلُه (الإجماليَّةَ) قَيْداً (للأَدِلَّةِ)، والأَشْبَهُ - كما قَرَّرَهُ والِدُه - أنَّه قَيْدٌ (للمعرفةِ)؛ فإنَّ أدلَّةَ الفِقْهِ لها جِهَتَانِ: إحداهما: أعيانُها، والثانيةُ: كُلِّيَّاتُها، فلَيْسَتِ الأدلَّةُ تَنْقَسِمُ إلى ما هو إجماليٍّ غيرِ تَفصيليٍّ، أو تفصيليٍّ غيرِ إجمالِيٍّ، بل كلُّها شيءٌ واحدٌ لها جهتانِ، فالأُصُولِيُّ يَعْلَمُه مِن إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، والفقيهُ يَعْلَمُه مِن الجِهَةِ الأُخْرَى، نَعَمْ يَصِحُّ أيضاًً جَعْلُها قَيْداً (للأدلَّةِ) باعتبارِ أنَّ لها نِسْبَتَيْنِ، فهي باعتبارِ إحداهما، غيرُها باعتبارِ الأُخْرَى.
الثالثةُ: المرادُ بالأدلَّةِ الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ والقياسُ والاستدلالُ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغزاليُّ: ثلاثةٌ فقطْ، وأَسْقَطَا القياسَ والاستدلالَ، فالإمامُ بَنَاهُ على أنَّ الأدلَّةَ لا تَتَنَاوَلُ إلاَّ القَطْعِيَّ، فلَزِمَ إخراجُ القياسِ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، ثمَّ اعْتَذَرَ عن إدخالِهِ فيه بِقِيَامِ القاطِعِ على العملِ به، والغزاليُّ خَصَّ الأدِلَّةَ بالمُثْمِرَةِ للأحكامِ،
(1/126)
 
 
فلهذا كانَتْ ثلاثةً، وجَعَلَ القياسَ من طرقِ الاستثمارِ؛ فإنَّ دَلالَتَه من حيثُ مَعْقُولُ اللفظِ، كما أنَّ العمومَ والخصوصَ دَلالَتُه من حيثُ صِيغَتُه.
الرابعةُ: أُورِدَ على المُصَنِّفِ أنَّه هَلاَّ قالَ: أُصُولُ الفقهِ: دلائلُه الإجماليَّةُ. وأجابَ بثلاثةِ أجوبةٍ:
أَحَدُها: أنَّه لو أَعَادَهُ مُضْمَراً لأَوْهَمَ عَوْدَه إلى نفسِ الأصولِ؛ لأنَّها المُحَدَّثُ عنها.
وثانيها: أنَّ التعاريفَ يُجْتَنَبُ فيها الضمائرُ ما أَمْكَنَ الإتيانُ بالمُظْهَرِ؛ لأنَّها موضوعةٌ للبيانِ، فإذا قلنا: الإنسانُ هو الحيوانُ الناطِقُ، لا يقالُ: هو الحيوانُ الناطقُ، تعريفٌ؛ لأنَّ (هو) ضميرٌ يَفْتَقِرُ إلى الوقوفِ على ما قبلَه.
ثالثُها، وهو المُعْتَمَدُ: أنَّ الفِقْهَ في قَوْلِهِ: (دلائلُ الفقهِ) غيرُ الفقهِ في قَوْلِهِ: أصولُ الفقهِ؛ لأنَّ الفقهَ في قولِنا: أصولُ الفقهِ. أحدُ جُزْئَيِ اسمِ لَقَبٍ مُرَكَّبٍ مِن مُتَضَايِفَيْنِ، وفي قولِنا: دلائلُ الفقهِ العَلَمُ المعروفُ.
ص: (والأُصُولِيُّ: العارِفُ بها، وبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِها ومُسْتَفِيدِها).
ش: الأُصُولِيُّ صِفَةٌ لمحذوفٍ؛ أي: والمَرْءُ الأُصُولِيُّ، نِسْبَةً إلى معرفةِ الأصولِ، فهو العارِفُ بها، غيرَ أنَّ معرفتَه بِدُونِ أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ اسْتِفَادَتِها ومُسْتَفِيدِها - مُحَالٌ، ضرورةَ تَوَقُّفِ العلمِ بالشيءِ على مُقَدِّمَاتِهِ، فهو العارِفُ بها وبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِها، وهو بابُ التراجيحِ؛ أي: ترتيبُ الأدلَّةِ؛ بأنْ يُقَدَّمَ الخاصُّ على العامِّ، والمُبَيَّنُ على المُجْمَلِ، والظاهرُ على المُؤَوَّلِ، وهكذا.
(ومُسْتَفِيدِها)؛ أي: وهو المُجْتَهِدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن الأدلَّةِ، والمُقَلِّدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن المُجْتَهِدِ. قالَ المصنِّفُ: وقد عُلِمَ بهذا أنَّ المَعْرِفَةَ بِطُرُقِ الاستفادةِ
(1/127)
 
 
والمستفيدِ لا بُدَّ مِنهما في صِدْقِ مُسَمَّى الأُصُولِيِّ، وإنْ لم تَكُنْ تلك الطرُقُ جُزْءاً مِن مُسَمَّى الأُصُولِ. قالَ: وجَعْلُ المعرفةِ بِطُرُقِ استفادَتِها جُزْءاً من مدلولِ الأُصُولِيِّ دُونَ الأُصُولِ - أَمْرٌ لم يَسْبِقْنِي إليه أحدٌ. ووجهُه أنَّ الأُصُولَ لَمَّا كانَ عندَنا نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، لَزِمَ من ذلك أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ هو المُتَّصِفَ به؛ لأنَّ الأصولِيَّ نِسْبَةٌ إلى الأصولِ، وهو مَن قامَ به الأصولُ، وقيامُ الأصولِ به معناه معرفتُه إيَّاه، ومَعْرِفَتُه إيَّاه مُتَوَقِّفَةٌ على أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ الاستفادةِ؛ فإنَّ مَن لا يَعْرِفُ الطريقَ إلى الشيءِ مُحَالٌ أنْ يَعْرِفَ الشيءَ، فمِن ثَمَّ لَزِمَ كونُ معرفةِ الطرقِ أَمْراً لا بُدَّ مِنه في صِدْقِ مُسَمَّاهُ؛ ولهذا ذُكِرَ في أُصُولِ الفقهِ، وإنْ لم تَكُنْ نفسَ الأصولِ ولا مِنه. ولا يُنْكَرُ اشْتِرَاطُنا في الأصوليِّ ما ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ؛ فإنَّ الناسَ قاطِبَةً قد عَرَفُوا الفِقْهَ بالعلمِ بالأحكامِ. إلى آخِرِهِ.
وقالَ: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ، وهو ذو الدرجةِ الوُسْطَى عربِيَّةً وأُصُولاً. إلى آخِرِ صِفاتِ المجتهِدِ، فما قالُوا: الفقيهُ: العالِمُ بالأحكامِ، بل: مَن قَامَتْ به شرائطُ الاجتهادِ، وعَدَّدُوها؛ لأنَّ بِدُونِها لا يُمْكِنُ العلمُ بالأحكامِ، فكذلك بدونِ الطرقِ لا يُمْكِنُ العلمُ بالأصولِ، فلْتَكُنِ الطرُقُ جُزْءاً من مُسَمَّاهُ أو شَرْطاً لِصِدْقِ اسْمِهِ، وإنْ لم يَكُنْ جُزْءاً ولا شَرْطاً فلا بأسَ بِذِكْرِها في تعريفِهِ؛ لِتَتِمَّتِهِ. انْتَهَى.
قلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ طُرُقَ الاستفادةِ ثابتةٌ في أنفُسِها، سواءٌ عَرَفَها الأصوليُّ أم لا، كما قلنا في الأدلَّةِ سواءٌ، فوَجَبَ أنْ يَدْخُلَ في مُسَمَّى الأصولِ، لا الأُصُولِيِّ. وإنما افْتَقَرَ العالِمُ بالأدِلَّةِ إلى ذلك؛ لِيَصِحَّ كَوْنُه عَالِماً بالأدلَّةِ على الحقيقةِ، وما انْفَصَلَ به المصنِّفُ عن سؤالِ الاشتراطِ في الأصولِيِّ، ما ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ بما ذَكَرَهُ في الفقيهِ -فممنوعٌ؛ لأنَّ قولَهم في الفقهِ: إنَّه العِلْمُ بالأحكامِ المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ-
(1/128)
 
 
صريحٌ في اعتبارِ الاجتهادِ؛ لأنَّ العِلْمَ المكتسَبَ إنما يكونُ بالاستنباطِ، وذلك موافقٌ لقولِهِم: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ ... إلى آخرِهِ، فلم يَشْتَرِطُوا في الفقيهِ ما ليسَ شرطاً في الفِقْهِ، ثمَّ قولُه: فما قالُوا: الفقيهُ: العالمُ بالأحكامِ. ممنوعٌ؛ فقد قالَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِهِ المسمَّى (بالحدودِ والحقائِقِ): الفقيهُ: مَن له الفِقْهُ، فكلُّ مَن له الفقهُ فهو فَقِيهٌ، ومَن لا فِقْهَ له فليسَ بفقيهٍ. وقيلَ: الفقيهُ هو: العالِمُ بأحكامِ أفعالِ المكلَّفِينَ التي يَسُوغُ فيها الاجتهادُ. هذا كلامُه، والأحسنُ طريقةً الشيخُ وابنُ بُرْهَانَ وغيرُهما: أنَّ أصولَ الفقهِ الأدلَّةُ، وكيفيَّةُ الاستدلالِ خاصَّةٌ؛ ضرورةَ أنَّ المُسْتَدِلَّ إذا كانَ غيرَ عالِمٍ بِمُقَدِّمَاتِ الدليلِ، أو بما يَتَرَتَّبُ عليه الدليلُ، لم يُتَصَوَّرْ أنْ يكونَ عالِماً بالدليلِ، وأمَّا حالَ المستفيدِ فليسَ من مُسَمَّاهُ؛ ولهذا قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: لو اقْتَصَرَ على الدلائلِ وكيفيَّةِ الاستفادةِ منها، لَكَفَى، ويكونُ حالُ المستفيدِ كالتابِعِ والتَّتِمَّةِ، لكِنْ جَرَتِ العادةُ بإدخالِهِ في أصولِ الفقهِ وَضْعاً، فأُدْخِلَ فيه حَدًّا.
قلتُ: ولو قيلَ: إنَّ المرادَ بمعرفةِ الدلائلِ مَعْرِفَتُها في نفسِها، ومعرفةُ أقسامِها، والعلمُ بأحوالِها التي لا بُدَّ مِنها في معرفةِ الأحكامِ الشرعيَّةِ - لكَفَى الاقتصارُ على الدلائلِ؛ كما فَعَلَ المصنِّفُ معَ التوفِيَةِ بطريقِ الجمهورِ. وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه إذا كانَ الأُصُولُ عندَه الأدِلَّةَ، لَزِمَ أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ العارِفَ بها، فحينَئذٍ فزيادةُ: (طُرُقِ اسْتفادتِها ومُسْتَفِيدِها) غيرُ محتاجٍ إليه، وأجابَ بأنَّ الأُصُولَ: نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، وأمَّا الأُصُولِيُّ: فهو المُتَلَبِّسُ بتلكَ الأدِلَّةِ؛ أي: العارِفُ بها، غيرَ أنَّ العِرْفَانَ لا يَتَهَيَّأُ إلاَّ لِمَن عَرَفَ طُرُقَ الاستفادةِ والمُسْتَفِيدِ؛ لأنَّ للمعرفةِ شُرُوطاً لا
(1/129)
 
 
يَتَهَيَّأُ إلاَّ بها، فإذنْ مَعْرِفَةُ تلكَ الطرقِ تُوصِلُ إلى معرفةِ الأدلَّةِ المُقْتَضِيَةِ لتسميةِ العارِفِ أُصُولِيًّا، كما أنَّ الضربَ هو الإيلامُ، والضاربَ هو المؤلِمُ على كيفيَّةٍ خاصَّةٍ.
ص: (والفِقْهُ: العِلْمُ بالأحكامِ الشرعيَّةِ العَمَلِيَّةِ، المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ).
ش: هذا حَدُّ الفِقْهِ اصْطِلاحاً، فالعِلْمُ جِنْسٌ، ولو عَبَّرَ بالمعرفةِ لكانَ أحسنَ، كما قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ؛ فإنَّ العلمَ يُطْلَقُ بمعنى حصولِ المعنَى في الذهنِ،
(1/130)
 
 
ويُطْلَقُ على أخصَّ من ذلك، وهو الاعتقادُ الجازِمُ المطابِقُ لِمُوجِبٍ، ولهذا جاءَ سؤالُ الفقهِ من بابِ الظنونِ، فلا يَحْسُنُ جَعْلُه عِلْماً، ومَن عَبَّرَ بالمعرفةِ سَلِمَ منه لذلكَ. انْتَهَى.
وقد انْفَصَلَ المصنِّفُ عن هذا، فقالَ: المرادُ به هنا الصِّنَاعةُ، كما تقولُ: عِلْمُ النحوِ؛ أي: صِنَاعَتُه، وحينَئذٍ يَنْدَرِجُ فيه الظنُّ واليقينُ، ولا يَرِدُ سؤالُ الظنِّ، وهذا يُنَازِعُ فيه أنَّ جَوَابَهُم عن السؤالِ بالطريقِ التي ذَكَرُوها، يَدُلُّ على أنَّ مُرَادَهم بالعلمِ اليقينُ، وإلاَّ كانَ جَوَابُهُم أنَّ الظنَّ دَاخِلٌ في العلمِ، ولو تَجَنَّبَهُ المصنِّفُ لَسَلِمَ مِن التَّمَحُّلِ لِدَفْعِ السؤالِ.
وقولُه: (بالأحكامِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ الإدراكَ بلا حُكْمٍ؛ كالعلمِ بالذواتِ والصفاتِ الحقيقيَّةِ والإضافةِ، فلا شيءَ مِن هذه العلومِ بِفِقْهٍ.
(1/131)
 
 
وقولُه: (الشرعيَّةِ) يُحْتَرَزُ به عن العلمِ بالأحكامِ العقليَّةِ، مثلُ كونِ العَرَضِ هل يَبْقَى زَمَانَيْنِ، والمرادُ بالشرعيَّةِ ما يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُها على الشرعِ، والشرعُ: الحُكْمُ، والشارِعُ هو اللهُ تعالَى. والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغٌ، ويُطْلَقُ عليه أيضاًً بهذا الاعتبارِ.
واعْلَمْ أنَّ جَعْلَ قولِهم: بالأحكامِ الشرعيَّةِ، قيديْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، حتَّى يُحْتَرَزَ بكلِّ واحدٍ مِنهما عن شيءٍ. وهي طريقةُ الإمامِ في (المحصولِ) ومُتَابِعِيهِ. والتحقيقُ أنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ لفظٌ مُفْرَدٌ لا يَدْخُلُ جُزْؤُه فيه على شيءٍ؛ فإنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ جمعُ الحكمِ الشرعيِّ، وهو عِلْمٌ لِمَا سيأتي تَعْرِيفُه مِن الخطابِ المُنْقَسِمِ إلى الإيجابِ والتحريمِ وغيرِهما، وقد صَرَّحَ إِمامُ الحَرَمَيْنِ في (البُرهانِ) بأنَّ المرادَ بالأحكامِ الشرعيَّةِ في حَدِّ الفِقْهِ ذلكَ، فلْيُتَفَطَّنْ له؛ فإنَّه مِن النفائِسِ.
قولُه: (العَمَلِيَّةِ) قَيْدٌ لم يَذْكُرْهُ القاضِي، ولكِنْ ذَكَرَه المُتَأَخِّرُونَ، واخْتَلَفُوا في المُحْتَرَزِ عنه؛ فقالَ الإمامُ: إنَّه احترازٌ عن العِلمِ بكونِ الإجماعِ حُجَّةً، وخبرِ الواحدِ والقياسِ حُجَّةً؛ فإنَّ العِلمَ به ليسَ عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ، فلا يكونُ فِقهاً، وفَسَّرُوا العَمَلِيَّةَ بما يكونُ العلمُ به عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ.
واسْتَشْكَلَهُ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ؛ لأنَّ جميعَ هذه القواعدِ التي ذَكَرَ أنَّه يُحْتَرَزُ عنها - فإنما الغايةُ المطلوبُ منها العملُ. والخَلاَصُ من هذا بزيادةِ الكيفيَّةِ غيرُ واضحٍ كلَّ الوضوحِ، إلاَّ أنْ يَرُدُّوا الأمرَ إلى الاصطلاحِ، وتفسيرِ معنى ما يُرِيدُه المتكلِّمُ من
(1/132)
 
 
كلامِهِ، فيَقْرُبَ الحالُ.
وقالَ القَرَافِيُّ: يُخْرِجُ العِلْمِيَّةَ؛ كأصولِ الدينِ، وساعَدَهُ الشيخُ علاءُ الدينِ البَاجِيُّ، وخَالَفَه صَاحِبُه الشيخُ الإمامُ السُّبْكِيُّ، وقالَ: أُصُولُ الدينِ مِنه ما يَثْبُتُ بالعقلِ وَحْدَهُ؛ كوُجُودِ البارِي، ومنه ما يَثْبُتُ بكلِّ واحدٍ مِن العقلِ والسمعِ؛ كالوَحْدَانِيَّةِ والرؤيةِ، ومِنه ما لا يَثْبُتُ إلاَّ بالسمعِ؛ ككَثِيرٍ مِن أحوالِ القيامةِ، فأمَّا ما يَثْبُتُ بالعقلِ فخَرَجَ بقولِنا: الشرعيَّةِ، وتَفْسِيرِنا إيَّاها بما يَتَوَقَّفُ على الشرعِ، وأمَّا ما يَتَوَقَّفُ على السمعِ فقد يقالُ: إنها داخلةٌ في حَدِّ الشرعيَّةِ.
وقولُه: (المُكْتَسَبُ) مرفوعٌ على أنَّه صفةٌ للعِلْمِ، وخَرَجَ به علمُ اللهِ تعالَى، وما يُلْقِيهِ في قلوبِ الأنبياءِ والملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ مِن الأحكامِ بلا
(1/133)
 
 
اكتسابٍ.
وقولُه: (مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ) قالَ الإمامُ وغيرُه: يُخْرِجُ اعتقادَ المُقَلِّدِ؛ فإنَّه مُكْتَسَبٌ مِن دليلٍ إجماليٍّ، وهو أنَّ هذا أَفْتَانِي به المُفْتِي، وكلُّ ما أَفْتَانِي به فهو حكمُ اللهِ في حَقِّي.
وقالَ المصنِّفُ: خروجُ اعتقادِ المقلِّدِ به يَسْتَدْعِي سَبْقَ حُصُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ الحاصلَ عندَ المقلِّدِ عِلْمٌ، وقد قالَ الإمامُ في تعريفِ العلمِ: إنَّه لا بُدَّ أنْ يكونَ عن مُوجِبٍ. وعِلْمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ، فالأَوْلَى أنْ يُخْرَجَ بِقَيْدِ (التفصيليَّةِ) عِلْمُ الخلافِ؛ فإنَّه عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بأحكامٍ شرعيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لكِنَّها إجماليَّةٌ؛ لأنَّ الجَدَلِيَّ لا يَقْصِدُ صورةً بعينِها، وإنما يَضْرِبُ الصورةَ مِثالاً لقاعدةٍ كلِّيَّةٍ، فيَقَعُ عِلْمُهُ مُسْتَفَاداً من الدليلِ الإجمالِيِّ، لا من التفصيليِّ؛ كذا قالَ الأصفهانيُّ في (شرحِ
(1/134)
 
 
المحصولِ): اعتقادُ المُقَلِّدِ لا يُسَمَّى عِلماً. وقد صَرَّحَ بذلك في (المحصولِ) في تقسيمِهِ، وجَعَلَ اعتقادَ المُقَلِّدِ قَسِيماً للعلمِ، وحينَئذٍ فهو خارجٌ بقيدِ العلمِ، فلا حاجةَ إلى الاحترازِ عنه بقيدٍ آخرَ.
قلتُ: الأَوْلَى أنْ يُقالَ: خُرُوجُ المُقَلِّدِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ دُخُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ قولَ المُفْتِي دليلُ الحكمِ الشرعيِّ؛ فإنَّ دليلَه النصُّ والإجماعُ والقياسُ، والظاهرُ أنَّ ذِكْرَها ليسَ للاحترازِ عن شيءٍ؛ فإنَّ اكتسابَ الأحكامِ لا يكونُ من غيرِ أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ، وإنما ذُكِرَ للدَّلالةِ على المُكْتَسَبِ مِنه بالمطابقةِ.
قيلَ: وقولُ الإمامِ: علمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ ممنوعٌ، بل لا بُدَّ له مِن مُوجِبٍ؛ كحُسْنِ ظَنِّهِ بِمَن قَلَّدَهُ فيه.
قلتُ: مرادُه (بالموجِبِ) ما كانَ عن بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ أو عقليٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنهما، واعتقادُ المُقَلِّدِ خارِجٌ عن ذلك، ولهذا قالَ في (المَطَالِبِ العالِيَةِ): أمَّا التقليدُ فهو أنْ يَعْتَقِدَ الإنسانُ اعتقاداً جازِماً في الشيءِ من غيرِ دليلٍ ولا شُبْهَةٍ.
وقولُه: إنَّه يَخْرُجُ به علمُ الخلافِ. أي: فإنَّ الخلافِيَّ يقولُ: يَجِبُ بالمُقْتَضِي ولا يَجِبُ بالنافِي، بلا تَعْيِينٍ للمُقْتَضِي ولا للنافي، فغيرُ سَدِيدٍ؛ لأنَّ قولَ المُسْتَدِلِّ بالمُقْتَضِي أو النافي لا يُفِيدُ شَيْئاً إنْ لم يُعَيِّنْهُما، ثمَّ الظاهرُ أنَّ المرادَ به في كلامِهِ مُقْتَضٍ ونافٍ معهودٌ، فلم يَخْرُجْ عن التفصيلِ، فكانَ الصوابُ الاقتصارَ على (أَدِلَّتِهَا) من غيرِ وَصْفِها (بالتفصيليَّةِ)؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّه قيدٌ زائدٌ.
(1/135)
 
 
ص: (والحُكْمُ: خِطَابُ اللهِ تعالَى المُتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ).
ش: لَمَّا عَرَّفَ الفِقْهَ بالحُكْمِ، وَجَبَ تعريفُ الحكمِ، والألِفُ واللامُ فيه للعَهْدِ؛ أي: الشرعيُّ؛ لِيُحْتَرَزَ به عن العقليِّ، وبهذه القَرِينَةِ اسْتَغْنَى المُصَنِّفُ عن التقييدِ. فالخِطَابُ: جِنْسٌ، والمرادُ به: ما وُجِّهَ من الكلامِ نحوَ الغيرِ لإفادتِهِ، وبإضافتِه إلى اللهِ تعالَى يَخْرُجُ خِطَابُ غيرِه. واسْتَغْنَى عن تَقْيِيدِهِ بالقديمِ؛ لأنَّ كلامَه قديمٌ. و (المُتَعَلِّقُ بفعلِ
(1/136)
 
 
المكلَّفِ) يُخْرِجُ أربعةَ أشياءَ: ما تَعَلَّقَ بذاتِهِ، نحوُ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، وبفعلِهِ، نحوُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وبالجماداتِ نحوُ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}، وبذواتِ المُكَلَّفِينَ، نحوُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}.
وإنَّما أَفْرَدَ المُكَلَّفَ ولم يَجْمَعْهُ؛ لِئَلاَّ يَرِدَ عليه ما يَتَعَلَّقُ بمُكَلَّفٍ واحدٍ؛ كخَوَاصِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقولُه: (من حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ) يُخْرِجُ ما تَعَلَّقَ بفِعْلِ المُكَلَّفِ، لا مِن حيثُ تكليفُه؛ كخبرِ اللهِ عن أفعالِ المكلَّفِينَ، نحوُ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، فقولُه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} مُتَعَلِّقٌ بعملِ المكلَّفِ، لا مِن حيثُ فِعْلُه؛ بدليلِ أنَّه يَعُمُّ المُكَلَّفَ وغيرَه، بل مِن حيثُ إنَّه مخلوقٌ للهِ تعالَى، وليسَ ذلك حُكْماً شرعيًّا، بل هو مِن بابِ العقائدِ، لا الأحكامِ. وكذا قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الرِّزْقِ)) وغيرُه.
وهذا القيدُ مُغْنٍ عن قولِ البَيْضَاوِيِّ: بالاقتضاءِ أو التخييرِ. وهو يُفْهِمُ اختصاصَ التعلُّقِ بوجهِ التكليفِ، لا يقالُ: فحينَئذٍ يَخْرُجُ ما سِوَى الإيجابِ والحَظْرِ، من الندبِ والإباحةِ والكراهةِ وخلافِ الأَوْلَى؛ لأنَّا نقولُ: هذه تَخُصُّ أفعالَ المُكَلَّفِينَ. وقولُ الفقهاءِ: (الصبيُّ يُثَابُ ويُنْدَبُ له) كلُّه على سبيلِ
(1/137)
 
 
التجَوُّزِ عندَ الأُصُولِيِّينَ، فلا يكونُ نَدْبٌ ولا كراهةٌ إلاَّ في فِعْلِ المكلَّفِ، وهذا أمرٌ مفروغٌ منه عندَ الأُصُولِيِّينَ، نَبَّهُوا عليه بقولِهِم: المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المكلَّفِينَ. كذا قالَه المصنِّفُ، وسَبَقَه إليه الهِنْدِيُّ، فقالَ: الدليلُ على أنَّه لا يَتَعَلَّقُ بفعلِ الصبيِّ حُكْمٌ شرعيٌّ, الإجماعُ؛ فإنَّ الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أنَّ شرطَ التكليفِ العقلُ والبلوغُ، وإذا انْتَفَى التكليفُ عنهم؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، انْتَفَى الحكمُ الشرعيُّ عن أفعالِهم، والمعنى مِن تَعَلُّقِ الضمانِ بإتلافِ الصبِيِّ أمرُ الولِيِّ بإخراجِهِ من مالِهِ.
وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: عَبَّرَ بعضُهم بأفعالِ العبادِ؛ لِيَشْمَلَ الضمانَ المُتَعَلِّقَ بِفِعْلِ الصبِيِّ والمجنونِ. ومَنِ اعْتَبَرَ التكليفَ، رَدَّ ذلك الحُكْمَ إلى الوَلِيِّ، وتكليفُه بأداءِ قَدْرِ الواجِبِ.
قلتُ: وكذا القولُ في إتلافِ البَهيمةِ ونحوِهِ؛ فإنَّه حُكْمٌ شرعيٌّ، وليسَ مُتَعَلِّقاً بفعلِ المكلَّفِ، والحاصلُ رَدُّهُ إلى التعلُّقِ بفعلِ المكلَّفِ، إلاَّ أنَّ التَّعَلُّقَ تارَةً يكونُ بواسطةٍ، وتَارَةً يكونُ بغيرِ واسطةٍ، وكذا القولُ فيما يَثْبُتُ بِخِطَابِ الوضعِ على أحدِ الأقوالِ؛ فإنَّ الزوالَ سببٌ لوجوبِ الصلاةِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بفعلِ مُكَلَّفٍ؛ إذ مُوجِبُهُ وُجُوبُ الصلاةِ، لا أنَّه بِوَاسِطَةٍ، وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه كانَ يَنْبَغِي أنْ يَزِيدَ: به، فيقولَ: مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ به؛ لأنَّ الخطابَ من الشارِعِ لا يكونُ إلاَّ معَ المُكَلَّفِ، لا معَ الصبيِّ والمجنونِ، وأجابَ بأنه لو قالَ: به، لاقْتُضِيَ أنَّ المُكَلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، وليسَ كذلكَ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بما كَلَّفَ به الأُمَّةَ، بمعنى تَبْلِيغِهم، وكذا جميعُ المُكَلَّفِينَ بفرضِ الكفايةِ، وإنْ كانَ المكلَّفُ به بعضَهم، لا
(1/138)
 
 
الكلَّ، على المختارِ.
ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ امتناعَ كونِ المكلَّفِ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به؛ فإنَّ سائرَ التكليفاتِ كذلك، ولا يَرِدُ عليه تكليفُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتبليغِ دونَ العملِ؛ فإنَّه لم يُكَلَّفْ إلاَّ بالتبليغِ، ولا يَضُرُّ تَعَلُّقُ التكليفِ بغيرِهِ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، فصَدَقَ قَوْلُنا: إنَّه لم يُخَاطَبْ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، ويَبْقَى سؤالُ المُعْتَرِضِ وتنظيرُه بفرضِ الكفايةِ عجيبٌ؛ فإنَّ كونَ الجميعِ مُخَاطَبِينَ معَ القولِ بأنَّ المكلَّفَ بعضُهم - مِمَّا لا يُمْكِنُ، والأَوْلَى أنْ يُقالَ: لو قالَ: به، لاقْتَضَى أنَّ المكلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به، وليسَ كذلك؛ فإنَّ المندوبَ والمكروهَ والمباحَ مُخَاطَبٌ بها، معَ أنَّه غيرُ مكلَّفٍ بها؛ على ما اخْتَارَهُ المصنِّفُ فيما سيأتِي، ولا تكليفَ في الحقيقةِ إلاَّ بالواجبِ والمحظورِ، فوَجَبَ حذفُ (به) لِيَتَنَاوَلَ جميعَ الأحكامِ المخاطَبِ بها؛ مُكَلَّفاً به وغيرَ مكلَّفٍ به.
فائدةٌ: قولُه: (مِن حيثُ إنَّه) بكسرِ الهمزةِ، ثَمَّ، وقد أُولِعَ الفقهاءُ بالفتحِ، وعُدَّ مِن اللَّحْنِ، لكِنْ يَجِيءُ على رأيِ الكِسَائِيِّ في إضافةِ حيثُ إلى المفردِ.
ص: (ومِن ثَمَّ لا حُكْمَ إلاَّ للهِ).
ش: هذه المسألةُ فرعٌ لِمَا سَبَقَ، ولهذا قالَ: (ومِن ثَمَّ) وهي هنا للمكانِ المجازيِّ؛ أي: مِن أجلِ أنَّ الحُكْمَ خِطابُ اللهِ، وحيثُ لا خِطابَ لا حُكْمَ، فعُلِمَ أنه لا حُكْمَ إلاَّ للهِ، خِلافاً للمعتزلةِ في دَعْوَاهُم أنَّ العقلَ يُدْرِكُ الحكمَ بالحُسْنِ والقُبْحِ، فهو عندَهم طريقٌ إلى العلمِ بالحُكْمِ الشرعيِّ.
(1/139)
 
 
فائدةٌ: قالَ الراغِبُ: (ثَمَّ) إشارةٌ إلى المُتَبَعِّدِ من المكانِ، و (هناكَ) للمُتَقَرِّبِ، وهما ظرفانِ في الأصلِ، وقولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} فهو في موضعِ المفعولِ. انْتَهَى.
وقولُه: إنَّ (هناكَ) للمتقرِّبِ. خلافُ المشهورِ، وقولُه: إنَّها في الآيةِ مفعولٌ. مردودٌ؛ لأنَّه ظرفٌ لا يَنْصَرِفُ.
ص: (والحَسَنُ والقَبيحُ بمعنى مُلاَءَمَةِ الطبعِ ومُنَافَرَتِهِ، وصفةِ الكمالِ والنقصِ -عقليٌّ، وبمعنَى تَرَتُّبِ الذمِّ عاجِلاً والعِقابِ آجِلاً -شَرْعِيٌّ، خِلافاً للمعتزلةِ).
ش: الحُسْنُ والقُبْحُ يُطْلَقُ بثلاثِ اعتباراتٍ.
أَحَدُهما: ما يُلائِمُ الطَّبْعَ ويُنَافِرُه؛ كإنقاذِ الغريقِ واتِّهَامِ البَرِيءِ.
والثاني: صِفَةُ الكمالِ والنقصِ؛ كقولِنا: العلمُ حَسَنٌ، والجهلُ قبيحٌ.
وهو بهذيْنِ الاعتباريْنِ عقليٌّ بلا خلافٍ؛ إذ العقلُ مُسْتَقِلٌّ بإدراكِ الحُسْنِ والقُبْحِ منهما، فلا حَاجَةَ في إِدْرَاكِهِما إلى الشرعِ.
والثالثُ: ما يُوجِبُ المَدْحَ أو الذمَّ الشرعيَّ عاجلاً، والثوابَ أو العقابَ آجِلاً، فهو مَحَلُّ النِّزَاعِ.
(1/140)
 
 
فالمُعْتَزِلَةُ قالُوا: هو عقليٌّ أيضاًً، يَسْتَقِلُّ العقلُ بإدراكِهِ دونَ الشرعِ؛ إمَّا لذاتِ الفعلِ، أو لصفةٍ عائدةٍ إلى الأحكامِ، أو لِوُجُوهٍ واعتباراتٍ على خلافٍ لهم، وأهلُ السنَّةِ قالُوا: هو شرعيٌّ؛ أي: لا يُعْلَمُ استحقاقُ المدحِ أو الذمِّ، ولا الثوابِ أو العقابِ شَرْعاً على الفعلِ، إِلاَّ مِن جِهَةِ الشرعِ.
ومِن المُحَقِّقِينَ مَن رَدَّ هذا القِسْمَ إلى الأوَّلِ، وقالَ: إنَّه في الحقيقةِ راجِعٌ إلى الألَمِ واللَّذَّةِ؛ ولهذا سَلَّمَ الرَّازِيُّ في آخِرِ عُمُرِهِ ما ذَكَرَه في كِتَابِهِ (نِهَايَةِ العقولِ): أنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ العَقْلِيَّيْنِ ثابتانِ في أفعالِ العبادِ؛
(1/141)
 
 
إذ كانَ معناهما يَؤُولُ إلى اللَّذَّةِ والأَلَمِ.
تَنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: أنَّ المُعْتَزِلَةَ لا يُنْكِرُونَ أنَّ اللهَ تعالَى هو الشارِعُ للأحكامِ، وإنما يقولون: إنَّ العقلَ يُدْرِكُ أنَّ اللهَ شَرَعَ أحكامَ الأفعالِ بِحَسَبِ ما يَظْهَرُ مِن مَصَالِحها ومَفَاسِدِها، فهو طريقٌ عندَهم إلى العلمِ بالحكمِ الشرعيِّ، والحكمُ الشرعيُّ تابعٌ لهما، لا عَيْنُهما، فما كانَ حَسَناً جَوَّزَهُ الشرعُ، وما كانَ قَبِيحاً مَنَعَه، فصارَ عندَ المُعْتَزِلَةِ حُكْمَانِ: أَحَدُهما: عقليٌّ، والآخرُ شرعيٌّ تابعٌ له، فبانَ أنَّهم لا يقولون: إنَّه - يعني العقابَ والثوابَ - ليسَ بشرعيٍّ أَصْلاً، خِلافاً لِمَا تُوهِمُهُ عبارةُ المصنِّفِ وغيرِهِ.
الثاني: ما اقْتَصَرَ عليه المصنِّفُ من حكايةِ قَوْلَيْنِ هو المشهورُ، وتَوَسَّطَ قومٌ فقالوا: قُبْحُها ثابتٌ بالعقلِ، والعقابُ يَتَوَقَّفُ على الشرعِ، وهو الذي ذَكَرَه سعدُ بنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ مِن أَصْحَابِنا، وأبو الخَطَّابِ من الحنابلةِ، وذَكَرَه
(1/142)
 
 
الحَنَفِيَّةُ، وحَكَوْهُ عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا، وهو المنصورُ؛ لِقُوَّتِهِ مِن حيثُ الفِطْرَةُ وآياتُ القرآنِ المجيدِ وسلامتُهُ مِن الوَهَنِ والتناقُضِ، فههنا أمرانِ:
أحدُهما: إدراكُ العقلِ حُسْنَ الأشياءِ وقُبْحَها.
والثاني: أنَّ ذلك كافٍ في الثوابِ والعقابِ، وإنْ لم يَرِدْ شَرْعٌ، ولا تَلاَزُمَ بينَ الأمريْنِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ}؛ أي: بِقَبِيحِ فِعْلِهِم، {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}؛ أي: لم تَاتِهِم الرسُلُ والشرائِعُ، ومِثْلُه: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من القبائِحِ، {فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}.
الثالِثُ: إنَّما ذَكَرَ المُصَنِّفُ الذمَّ والعِقَابَ وأَهْمَلَ المَدْحَ والثوابَ؛ لِتَلاَزُمِهِمَا نَفْياً
(1/143)
 
 
وإِثْبَاتاً، وخَصَّ الذَّمَّ والعقابَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّه على أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ، لا يَتَخَلَّفُ ولا يَقْبَلُ المزيدَ، بخلافِ الأجرِ والثوابِ؛ فإنَّه قابلٌ للزيادةِ، فعَبَّرَ بما يُنَاسِبُ أُصُولَ الخُصُومِ، ومرادُهُ بِتَرَتُّبِ العِقابِ نَصُّ الشارعِ عليه، وهو لا يُنَافِي جوازَ العفوِ، ولو قالَ: كونُه مُتَعَلِّقَ العِقَابِ، لكانَ أحسنَ.
فإنْ قُلْتَ: كيفَ قالَ: عقليٌّ وشرعيٌّ والمبتدأُ اثنانِ، والخبرُ يَجِبُ مطابقتُه للمبتدأِ؟
قلتُ: يَجُوزُ أنْ يكونَ الخبرُ حُذِفَ أحدُ جُزْأَيْهِ؛ أي: كلاهما عَقْلِيٌّ، أو هو خبرٌ عن الثاني، وحُذِفَ من الأوَّلِ لِدَلالتِه عليه. ويَجُوزُ في انتصابِ قولِهِ: (خِلافاً) وجهانِ: أَحَدُهما: أنْ يكونَ مصدراً، والثاني: أنْ يكونَ حَالاً؛ أي: أقولُ ذلك خِلافاً لهم؛ أي: مُخَالِفاً، واسْتَحْضِرْ هذا في كلِّ موضعٍ ذُكِرَ فيه هذا. وكذا قولُهم: وِفَاقاً.
ص: (وشُكْرُ المُنْعِمِ واجبٌ بالشرعِ، لا بالعقلِ، خِلافاً للمعتزلةِ).
ش: عادَةُ الأُصُولِيِّينَ أنْ يَذْكُرُوا بعدَ هذا الأصلِ فرعيْنِ على طريقِ التنَزُّلِ، فتَابَعَهُمُ المصنِّفُ.
أحدُهما: شُكْرُ المُنْعِمِ غيرُ واجبٍ عقلاً؛ لأنَّه لو وَجَبَ عَقْلاً، لَعُذِّبَ تَارِكُه قبلَ الشرعِ، لكنَّه لا يُعَذَّبُ؛ لقولِهِ تعالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}؛
(1/144)
 
 
فإنَّه نَفَى التعذيبَ مُطْلقاً إلى البَعْثَةِ، فإنْ قِيلَ: التعذيبُ ليسَ بلازمٍ لِتَرْكِ الواجِبِ؛ لِجَوازِ العفوِ.
قلنا: تَرْكُ الواجبِ يَلْزَمُهُ التعذيبُ قبلَ التوبةِ عندَهم، والعفوُ غيرُ جائزٍ قبلَها.
فإنْ قيلَ: كيفَ يُسْتَدَلُّ عليهم بالآيةِ، والتفريعُ على تسليمِ الحُسْنِ والقُبْحِ العقلِيَّيْنِ. قيلَ: لأنَّ عندَهم لا يَجُوزُ وُرُودُ الشرعِ بِخِلافِ العقلِ، فصَارَتِ المُعْتَزِلَةُ إلى وُجُوبِهِ بالعقلِ، وأَوْرَدَ عليهم الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازِيُّ في كتابِهِ (الحُدُودِ) مُنَاقَضَةً؛ فإنَّهم قالُوا: يَجِبُ على اللهِ أنْ يُثِيبَ المُطِيعِينَ، وأنْ يُنْعِمَ على الخَلْقِ، وإذا كانَ الثوابُ وَاجِباً، فلا معنى للشكرِ؛ لأنَّ مَن قَضَى دَيْنَه فلا يَسْتَحِقُّ الشكرَ، ففي الجمعِ بينَ هذيْنِ القوليْنِ تناقُضٌ.
ص: (ولا حُكْمَ قبلَ الشرعِ، بل الأمرُ موقوفٌ إلى وُرُودِهِ).
(1/145)
 
 
ش: الفرعُ الثاني في حكمِ الأشياءِ قبلَ الشرعِ، وقد ذَهَبَ أَئِمَّتُنا إلى أنَّه لا حُكْمَ فيها؛ فإنَّ الحكمَ عندَهم عبارةٌ عن الخِطابِ؛ كما تَقَدَّمَ، والأحكامُ هي نَفْسُ الشريعةِ، فلا تَثْبُتُ الشريعةُ قبلَ ثُبُوتِها، ثمَّ ظاهرُ كلامِ المصنِّفِ انتفاءُ الحُكْمِ نفسِه؛ أي: أنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ ما لم تَرِدِ البَعْثَةُ، وهو ما قالَه النَّوَوِيُّ في (شرحِ المُهَذَّبِ): إِنَّه الصحيحُ عندَ أَصْحَابِنا. وقيلَ: المرادُ عَدَمُ العِلْمِ بالحُكْمِ؛ أي: أنَّ لهما حُكْماً قبلَ وُرُودِ الشرعِ، لكِنَّا لا نَعْلَمُهُ، قالَ البيضاويُّ: وهذا مرادُ الشيخِ بالوقفِ في هذه المسألةِ؛ لأنَّ الحكمَ عندَه قديمٌ، فتفسيرُ الوقفِ بعدمِ الحكمِ يَلْزَمُ منه حدوثُ الحكمِ، وهو خلافُ مَذْهَبِهِ. والصوابُ ما جَرَى عليه المصنِّفُ؛ فإنَّه المنقولُ.
وقد قالَ القاضي أبو بَكْرٍ في (مُخْتَصَرِ التقريبِ): صارَ أهلُ الحقِّ إلى أنَّه لا حُكْمَ قبلَ وُرُودِ الشرعِ. وعَبَّرُوا عن نَفْيِ الأحكامِ بالوقفِ، ولم يُرِيدُوا بذلكَ الوقفِ الذي
(1/146)
 
 
يكونُ حُكْماً في بعضِ مسائلِ الشرعِ، وإنَّما عَنَوْا به انتفاءَ الأحكامِ، وذَكَرَ مِثْلَه الإمامُ في (البُرْهَانِ) والغزاليُّ وابنُ السمعانِيِّ وغيرُهم من الأصحابِ، وإنما قالَ المصنِّفُ: بل الأمرُ موقوفٌ إلى وُرُودِهِ؛ دَفْعاً لِتَوَهُّمِ مَن ظَنَّ أنَّ القولَ بالوقفِ غيرُ القولِ بنفيِ الأحكامِ، وليسَ كذلك، بل مُرَادُهم بالوقفِ أنَّ الأمرَ موقوفٌ على وُرُودِ الشرعِ، وأنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ ما لم يَرِدِ الشرعُ.
ص: (وحَكَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ العقلَ، فإنْ لم يَقْضِ فثَالِثُها لهم: الوقفُ عن الحَظْرِ والإِبَاحَةِ).
ش: هذا من المصنِّفِ تحريرٌ لنقلِ مذهبِ الاعتزالِ؛ فإنَّ الإمامَ الرَّازِيَّ عَمَّمَ الخلافَ عنهم في جميعِ الأفعالِ، وليسَ كذلك، بل الأفعالُ الاختياريَّةُ عندَهم تَنْقَسِمُ إلى ما يَقْضِي العقلُ فيها بِحُسْنٍ أو قُبْحٍ، فيُتَّبَعُ فيها حُكْمُ العقلِ، وتَنْقَسِمُ إلى الأحكامِ الخمسةِ بِحَسَبِ تَرَجُّحِ الحُسْنِ أو القُبْحِ وتَعَادُلِهِما، ولا خِلافَ عندَهم في هذا، وإليه أشارَ بقولِهِ: (وحَكَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ العقلَ)؛ أي: فيما يَقْضِي فيه العقلُ، ودَلَّ
(1/147)
 
 
عليه قولُه بعدَه: (فإنْ لم يَقْضِ)، وإنَّما الخلافُ فيما لا يَقْضِي العقلُ فيه بِحُسْنٍ ولا قُبْحٍ؛ كفُضُولِ الحاجاتِ والتنَعُّمَاتِ هل هو واجبٌ أو مُبَاحٌ أو الوَقْفُ؟ ثلاثةُ مذاهبَ، والقائلون بالحَظْرِ - كما قالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ - لا يُرِيدُونَ به باعتبارِ صفةٍ في المَحَلِّ، بل حَظْرٌ احتياطيٌّ، كما يَجِبُ اجتنابُ المنكوحةِ إذا اخْتَلَطَتْ بأجنبيَّةٍ، والقائلونَ بالوقفِ أرادوا وقفَ حِيرَةٍ. وطريقُ البحثِ معَهم في هذه المسألةِ والتي قبلَها: أنَّ كلَّ احتمالٍ عَيَّنُوه، وبَنَوْا عليه حُكْماً قابَلْنَاهُم بِنَقِيضِهِ، فنُعَارِضُ شُبَهَ القائلينَ بالإباحةِ بِشُبَهِ القائلينَ بالحَظْرِ، وشُبَهَ الواقفينَ بِشُبَهِهِمَا.
تنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: تحريرُ النقلِ عنهم هكذا تَابَعَ فيه الآمِدِيَّ، قالَ القَرافِيُّ: وإطلاقُ الإمامِ الخلافَ عنهم يُنَافِي قواعدَهم؛ فإنَّ القولَ بالحَظْرِ مُطْلَقاً يَقْتَضِي تحريمَ إنقاذِ الغَرِيقِ ونحوِهِ، والقولُ بالإباحةِ مُطْلَقاً يَقْتَضِي إباحةَ القتلِ والفسادِ، أمَّا ما لم يَطَّلِعِ العقلُ على مَفْسَدَتِه أو مَصْلَحَتِهِ فيُمْكِنُ أنْ يَجِيءَ فيه الخلافُ.
قالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ كلامَ أبي الحُسَيْنِ في (المُعْتَمَدِ) وقد حَكَى عن شِيعَةِ المُعْتَزِلَةِ الخلافَ مُطْلَقاً من غيرِ تَقْيِيدٍ، وهو أعلمُ بِمَذْهَبِ القومِ، فرَجَعْتُ إلى طريقةِ الإمامِ.
الثاني: قولُه: (وحَكَّمَتِ المعتزلةُ العقلَ) يَقْتَضِي أنَّ مَذْهَبَهم أنَّ العقلَ مُنْشِئُ الحكمِ مُطْلَقاً، وليسَ كذلك، بل التحقيقُ في النقلِ عنهم أنَّهم قالُوا: الشرعُ مُؤَكِّدٌ لحكمِ العقلِ فيما أَدْرَكَهُ مِن حُسْنِ الأشياءِ وقُبْحِها؛ كحُسْنِ الصدقِ النافعِ والإيمانِ،
(1/148)
 
 
وقبحِ الكَذِبِ الضارِّ والكُفرانِ، وليسَ مُرَادُهُم أنَّ العقلَ يُوجِبُ أو يُحَرِّمُ، وقد لا يَسْتَقِلُّ بذلك، بل يُحْكَمُ به بواسطةِ وُرُودِ الشرعِ بالحُسْنِ والقُبْحِ؛ كحُكْمِهِ بِحُسْنِ الصلاةِ في وقتِ الظهرِ وقُبْحِها في وقتِ الاستواءِ.
الثالِثُ: يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلى استشكالِ قولِ المصنِّفِ (لهم)؛ فإنَّ الخِلافَ أيضاًً يُحْكَى عن جماعةٍ مِن أصحابِنا؛ كابنِ أبي هُرَيْرَةَ وغيرِهِ، والذي فَعَلَه المصنِّفُ هو الصوابُ؛ لأنَّ الخلافَ المَحْكِيَّ عن أصحابِنا في ذلك إنما هو لِمُقْتَضَى الدليلِ الشرعيِّ الدالِّ على ذلكَ بعدَ مَجِيءِ الشرعِ، لا بِمُجَرَّدِ العقلِ، وليسَ خِلافُهم في أصلِ التحسينِ والتقبيحِ بالعقلِ، وصارَ الفرقُ بينَهم وبينَ أصحابِنا في هذا الخلافِ مِن ثلاثةِ أوجهٍ:
أَحَدُها: أنَّهم خَصُّوا هذه الأقوالَ بما لا يَقْضِي العقلُ فيه بِحُسْنٍ ولا قُبْحٍ، وأمَّا ما يَقْضِي فيَنْقَسِمُ إلى الأحكامِ الخمسةِ؛ ولهذا نَسَبَهُم أصحابُنا إلى التناقُضِ في
(1/149)
 
 
قولِ مَن رَجَّحَ الإباحةَ أو الحَظْرَ؛ لأنَّ ذلك عندَهم يَسْتَنِدُ إلى دليلِ العقلِ، وفَرْضُ المسألةِ فيما لم يَظْهَرْ للعقلِ حُسْنُهُ ولا قُبْحُهُ، وأمَّا أصحابُنا فأقوَالُهُم في جميعِ الأفعالِ، هذا على طريقةِ الآمِدِيِّ ومَن تَابَعَهُ.
والثاني: أنَّ مُعْتَمَدَهُم دليلُ العقلِ، ومُعْتَمَدُ أصحابِنا الدليلُ الشرعيُّ؛ إمَّا على التحريمِ؛ لقولِهِ تعالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}. ومفهومُه أنَّ المتقدِّمَ قبلَ الحِلِّ هو التحريمُ، فدَلَّ على أنَّ حُكْمَ الأشياءِ كلِّها على الحَظْرِ، وإمَّا على الإباحةِ؛ لِقَوْلِهِ تعالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، وقولِهِ تعالَى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}؛ وذلك يَدُلُّ على الإذنِ في الجميعِ، وأمَّا الوقفُ فلِتَعَارُضِ الأدِلَّةِ، فهذه المَدَارِكُ الشرعيَّةُ الدالَّةُ على الحالِ قبلَ وُرُودِ الشرائِعِ، فلو لم تَرِدْ هذه النصوصُ لقالَ الأصحابُ: لا عِلْمَ لنا بتحريمٍ ولا إباحةٍ، ولقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُدْرِكُ عِنْدَنا العَقْلُ، فلا يَضُرُّ عدمُ ورودِ الشرائِعِ.
والثالثُ: أنَّ الوَاقِفِينَ أَرَادُوا وَقْفَ حِيرَةٍ؛ كما قَالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وأمَّا أَصْحَابُنا فأَرَادُوا به انتفاءَ الحكمِ على ما سَبَقَ.
ص: (والصوابُ: امتناعُ تكليفِ الغافلِ والمُلْجَأِ، وكذا المُكْرَهُ على الصحيحِ، ولو على القتلِ، وأَثِمَ القاتِلُ؛ لإيثارِهِ نفسَه.
ش: فيه مسائلُ:
أحَدُها: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ؛ كالنائِمِ والناسِي؛ لِمُضَادَّةِ هذه الأمورِ الفَهْمَ،
(1/150)
 
 
فيَنْبَغِي شرطُ صِحَّةِ التكليفِ، ولا يَرِدُ ثُبُوتُ الأحكامِ في أفعالِهِ في الغَفْلَةِ والنومِ؛ لأنَّ ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الأحكامِ بالأسبابِ، وقالَ القَفَّالُ: إِنَّمَا طَلَبَ منه سُجُودَ السهوِ، ووَجَبَتِ الكَفَّارَةُ على المُخْطِئِ؛ لكونِ الفعلِ في نفسِهِ مُحَرَّماً مِن حيثُ إنَّه محظورٌ عَقْدُه، لا إِنَّه في نَفْسِهِ غيرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُهُ التحفُّظُ منه، وتعبيرُ المصنِّفِ بـ (الصوابِ) يُشْعِرُ بأنَّ مُقَابِلَه قَوْلٌ مُزَيَّفٌ، وإليهِ أشارَ في (المِنْهَاجِ) بقولِهِ: بِنَاءً على التكليفِ بالمُحَالِ. أي: فإنْ مَنَعْنَاهُ فهَهُنا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاهُ فللأَشْعَرِيِّ هنا قَوْلانِ، نَقَلَهُما ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ وغيرُه.
قالُوا: والفرقُ أنَّ
(1/151)
 
 
للتكليفِ هناكَ فائدةً، وهي الابتلاءُ، وهنا لا فائدةَ له، لكِنْ نَقَلَ ابنُ بُرهانَ في (الأوسطِ) عن الفقهاءِ أنَّه يَصِحُّ تكليفُ الغافلِ على معنَى ثُبُوتِ الفِعْلِ في الذمَّةِ، وعن المُتَكَلِّمِينَ المَنْعُ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ ذلك عندَهم.
وقد يُظَنُّ أنَّ الشافعيَّ يَرَى تكليفَ الغافلِ مِن نَصِّهِ على تكليفِ السَّكْرَانِ، وهو فاسدٌ؛ فإنَّه إنما كَلَّفَ السكرانَ عُقُوبَةً له؛ لأنَّه تَسَبَّبَ بِمُحَرَّمٍ حَصَلَ باختيارِهِ؛ ولهذا وَجَبَ عليه الحَدُّ، بخلافِ الغافِلِ.
(1/152)
 
 
الثانيةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُلْجَأِ أيضاًً، والمرادُ به مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً على الفعلِ معَ حضورِ عَقْلِهِ، وذلك كمَن يُلْقَى من شاهِقٍ، فهو لا بُدَّ له من الوقوعِ، ولا اختيارَ له فيه، ولا هو بفاعلٍ له، وإنما هو آلةٌ مَحْضَةٌ كالسِّكِّينِ في يدِ القاطِعِ، فلا يُنْسَبُ إليه فِعْلٌ، وحَرَكَتُه كحركةِ المُرْتَعِشِ، وسِيَاقُ المُصَنِّفِ يَقْتَضِي حكايةَ خلافٍ في هذه الحالةِ، وكلامُ الآمِدِيِّ في (الإحكامِ) يُشِيرُ إليه؛ بِناءً على جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ عقلاً، وإنِ امْتَنَعَ سَمْعاً.
الثالثةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُكْرَهِ، والمرادُ به مَن يُنْسَبُ إليه الفعلُ، فيقالُ: فَعَلَ مُكْرَهاً غيرَ مُخْتَارٍ، وهو مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الفعلِ إلاَّ بالصبرِ على إيقاعِ ما أُكْرِهَ به، كمَن قالَ له قادرٌ على ما يَتَوَعَّدُ: اقْتُلْ زَيْداً وإلاَّ قَتَلْتُكَ. لا يَجِدُ مندوحةً عن قتلِهِ إلاَّ بتسليمِ نفسِه للهلاكِ، فهذا إقدامُه على قَتْلِ زيدٍ ليسَ كَوُقُوعِ الذي أُلْقِيَ مِن شاهِقٍ، وإنِ اشْتَرَكَا في عدمِ التكليفِ، لكِنَّ تكليفَ هذا المُكْرَهِ أَقْرَبُ مِن تكليفِ المُلْجَأِ، كما أنَّ تَكْلِيفَ المُلْجَأِ أَقْرَبُ من تكليفِ الغافلِ الذي لا يَدْرِي، فإذاً المَرَاتِبُ ثلاثةٌ كما رَتَّبَهَا المصنِّفُ: فأَبْعَدُها تكليفُ الغافِلِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي. ويَتْلُوها: تَكْلِيفُ المُلْجَأِ؛ فإنَّه يَدْرِي، ولكِنْ لا مَنْدُوحَةَ له عن الفعلِ. ويَتْلُوها: المُكْرَهُ؛ فإنَّه يَدْرِي وله مَنْدُوحَةٌ عن الفعلِ، لكِنْ بطريقٍ تارَةً لم يُكَلِّفْهُ الشرعُ الصبرَ عليها؛ كما
(1/153)
 
 
في الإكراهِ على شُرْبِ الخَمْرِ وكَلِمَةِ الكُفْرِ، وتَارَةً قيلَ: إنَّه كَلَّفَه، كما في الإكراهِ على القتلِ، فيَعْتَقِدُ أكثرُ الفقهاءِ أنَّه كُلِّفَ الصبرَ على قتلِ نفسِه، والمختارُ عندَ المصنِّفِ أنَّه كُلِّفَ أنْ لا يُؤْثِرَ نفسَه على نفسِ غيرِ المكافِئِ له؛ لاسْتِوَائِهِما في نظرِ الشارعِ، فلَمَّا آثَرَ وأقدَمَ لمجرَّدِ حَظِّ نفسِه وَجَبَ عليه القِصاصُ في الأصحِّ، وأَثِمَ بلا خلافٍ، وهذا معنى قولِه: (ولو على القتلِ).
 
وأمَّا قولُهُ: (وإثمُ القاتلِ) فهوَ جوابٌ عنْ سؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ تقديرُهُ: إذَا كَانَ المُكْرَهُ غيرَ مُكَلَّفٍ، فَمَا بالُ المُكْرَهِ على القتلِ يَاثَمُ؟
وَأَجَابَ بأَنَّهُ لاَ يَاثَمُ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ مُكْرَهٌ وَإِنَّهُ قَتَلَ؛ بَلْ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على غيرِهِ.
فَهُوَ ذُو وجهينِ: جِهَةُ الإكراهِ ولاَ إِثْمَ فيها، وجِهَةُ الإِيثَارِ ولاَ إِكْرَاهَ فيها، وَهَذَا لأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: اقْتُلْ زَيْداً وإِلاَّ قَتَلْتُكَ. فمعنَاهُ التخييرُ بينَ نَفْسِهِ وزيدٍ، فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فقدْ أَثِمَ؛ لأَنَّهُ اختيارٌ، وهذا كَمَا يُقَالُ فِي خِصَالِ الكَفَّارَةِ: مَحِلُّ التخييرِ لاَ وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحِلُّ الوجوبِ لاَ تخييرَ فِيهِ، فَكَذَا هُنَا، أَصْلُ القتلِ لاَ عِقَابَ فِيهِ، وَالْقَتْلُ المخصوصُ فِيهِ عِقَابٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ الاختيارَ، وَهُوَ إِيثَارُ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
قالَ: وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ، وبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ استثناءَ لصورةِ القتلِ مِنْ قولِنَا: الْمُكْرَهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ.
وقولُ الفقهاءِ: (11 أ) الإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التصرفِ إِلاَّ في صُوَرٍ - إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تلكَ الصُّورَةِ؛ لاَ لأنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ حقيقتِهِ شَيءٌ.
(1/154)
 
 
تنبيهانِ:
الأولُ: مَا اخْتَارَهُ المُصَنِّفُ هُنَا مِنَ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، خِلاَفَ مَا عَلَيْهِ الأصحابُ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ آخِراً وَوَافَقَ الأَشْعَرِيَّةَ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاقِعٍ.
قالَ ابنُ بُرْهَانَ في (الأَوْسَطِ): المُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بالفعلِ الذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قالَ: وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَباً بِمَا عَدَا مَا أُكْرِهَ عَلَيهِ مِنَ الأَفْعَالِ، وَنَقَلَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ إِنَّهُ مُخَاطَبٌ، إِلاَّ أَنَّ العلماءَ رَأَوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ ليسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ والْمُكْرَهَ وَاحِدٌ، وليسَ كَذَلِكَ. انتهَى.
وَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِيُخْرِجَ الصُّورَةَ التِي حَكَى ابنُ بُرْهَانَ فِيهَا الإجماعَ، وَكأنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لَيْسَ بِمُكْرَهٍ.
الثَّانِي: مَا اخْتَارَهُ فِي القَاتِلِ، هُوَ بِظَاهِرِهِ مُصَادِمٌ للإِجْمَاعِ، فِفِي (التَّلْخِيصِ) لإمامِ الحرمينِ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوْجِيهِ النَّهْي عَلَى المُكْرَهِ عَلَى القتلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ فِي حَالِ الإِكْرَاهِ، وَهُوَ مِمَا لاَ مَنْجَى مِنْهُ. انتهَى.
وَقَالَ الشيخُ فِي (شَرْحِ اللُّمَعِ): انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ المُكْرَهَ عَلَى القتلِ مأمورٌ باجتنابِ القتلِ، وَدَفْعِ المُكْرَهِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِنْ أَثِمَ بِقَتْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قتلِهِ، وَذَلِكَ يَدْلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الإِكْرَاهِ.
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الغزاليُّ وَغيرُهُ، وَاقْتَضَى كلامُهُمْ تخصيصَ الخلافِ بِمَا إِذَا وَافَقَ دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ، كَالإِكْرَاهِ عَلَى قتلِ الكافرِ، وِإِكْرَاهِهِ عَلَى الإسلامِ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ فِيِه دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ كَالإِكْرَاهِ عَلَى
(1/155)
 
 
القتلِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التكليفِ بِهِ. انتهَى.
(ص): (وَيَتَعَلَّقُ الأمرُ بالمعدومِ تَعَلُّقاً معنوياً خِلافاً للمعتزلةِ).
(ش): المعدومُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مأموراً عِنْدَنَا خِلافاً للمعتزلةِ، وَلاَ نُرِيدُ تَنْجِيزَ التكليفِ، أي: إِنَّهُ مأمورٌ حالَ عدمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مستحيلٌ؛ بَلِ المُرَادُ تَعَلُّقُ الأمرِ بِهِ فِي الأَزَلِ، وَإِذَا وُجِدَ وَاسْتَجْمَعَ شرائطَ التكليفِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُكَلَّفاً بِذَلِكَ الطلبِ القديمِ مِنْ غيرِ تَجَدُّدِ طلبٍ آخَرَ، هَكَذَا حَرَّرَهُ عَنِ الأَشْعَرِىِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إثباتِ كلامِ النفسِ، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَتِ المعتزلةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قديمٍ أَزَلِيٍّ قائمٍ بِذَاتِهِ، لَزِمَ وجودُ الأمرِ فِي الأَزَلِ، وَلاَ مأمورَ، للعلمِ بِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ.
وَاعْتَرَضَ الخُصُومُ وَقَالُوا: يَلْزَمُ وجودُ أَمْرٍ وَلاَ مأمورَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لكونِهِ عَبَثاً، ولأَنَّ الأمرَ مِنَ المعانِي المُتَعَلِّقَةِ؛ وَوُجُودُ مُتَعَلِّقٍ وَلاَ مُتَعَلَّقَ بِهِ،
(1/156)
 
 
مُحَالٌ، وَقَدِ ارْتَاعَ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، والقَلاَنِسِيُّ مِنْ أصحابِنَا، وَمَالاَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى فِي الأَزَلِ أَمْراً وَلاَ نَهْياً، وَلاَ خَبَراً، ثُمَّ صَارَ فِيمَا لاَ يَزَالُ كَذَلِكَ، فَجَعَلاَهُ مِنْ صِفَاتِ الأفعالِ.
والفرقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مذهبِ الأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الأَشْعَرِيَّ يَقْولُ: الأمرُ بذاتِهِ وصفتِهِ فِي الأَزَلِ، وَلاَ مأمورَ فِي الأَزَلِ.
وَهُمَا يَقُولاَنِ: الموجودُ فِي الأَزَلِ (11 ب) الأمرُ بِذَاتِهِ بدونِ وصفِ كَوْنِهِ أَمْراً.
وَاسْتَضْعَفَ المحققونَ هَذَا التوسطِ، بِأَنَّا لاَ نعقلُ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ إِلاَ الأمرَ والنَّهْيَ والخبرَ، فَإِذَا قِيلَ بِحُدُوثِهَا، لَزِمَ حُدُوثُ كلامِ اللَّهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَمَّا لُزُومُ الْعَبَثِ: فَلِبِنَائِهِ عَلَى التحسينِ والتقبيحِ، وَأَمَّا الثَّانِيَ: فَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ الأمرَ مِنَ الحقائقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ شأنِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ، والتعليقُ أمرٌ نسبيٌّ، والنسبُ والإضافاتُ موجودةٌ فِي الذهنِ دُونَ الخارجِ، وبهذا التقريرِ يَزُولُ الإشكالُ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَلُّقٌ ذِهْنِيٌّ مَجَازِيٌّ لاَ حَقِيقِيٌّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا يَقُولُهُ الفقيهُ: إِنَّ الوصيةَ للحملِ صحيحةٌ، لِتَوَقُّعِ
(1/157)
 
 
وُجُودِهِ، بِخِلاَفِ الوصيةِ للمعدومِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ الحُكْمُ عَلَى الأشياءَ المعدومةِ وَتُقَدَّرُ مَوْجُودَةً، كالإيمانِ فِي حَقِّ أطفالِ المؤمنينَ، وَالْكُفْرِ فِي أولادِ الكُفَّارِ؛ حتى يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَقَدْ حَقَّقَ الإمامُ الْمُقْتَرِحُ ـ جَدِّ الشيخِ تَقِيِّ الدينِ بْنِ دَقِيقِ العِيدِ لأُمِّهِ ـ العبارةَ عَنْ هَذِهِ المسألةِ بِمَا يُفْسِدُ تعبيرَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: الأمرُ لَمْ يُتَعَقَّلْ بالمعدومِ، بَلْ بالموجودِ المُتَوَقَّعِ، فكما أَنَّ العِلْمَ الأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بالموجودِ الذِي سَيَكُونُ، فَكَذَلِكَ الطلبُ الأَزَلِيُّ يُتَعَقَّلُ بِالْمُكَلَّفِ الذِي سَيَكُونُ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الأول: قَدْ تُسْتَشْكَلُ هَذِهِ المسألةُ مَعَ التي قَبْلَهَا مِنِ امْتِنَاعِ تكليفِ الغافلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ المُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مأموراً فِي حالةِ الغفلةِ، وَلاَ يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ بالأمرِ الموجودِ فِي حالةِ غفلتِهِ - اسْتُشْكِلَ الفرقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المعدومِ؛ بَلِ الغَافِلُ أَوْلَى بالجوازِ؛ لأَنَّهُ إِذَا كَانَ المعدومُ مأموراً بَعْدَ وجودِهِ بالأمرِ المُتَقَدِّمِ عَلَى وجودِهِ كَانَ الغافلُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ بالأمرِ الوَارِدِ قَبْلَ تَذَكُّرِهِ بطريقِ الأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ المرادُ أَنَّهُ لاَ يَكْونُ مأموراً حَالَ غفلتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَّكُرِهِ بالأمرِ الوَارِدِ فِي حَالِ غفلتِهِ - فَيَكُونُ حُكْمُ الغافلِ كَحُكْمِ المعدومِ سواءً فِي أَنَّ كُلاَّ مِنْهُمَا لاَ يَكُونُ مأموراً حَالَ عَدَمِهِ، ولاَ حَالَ غَفْلَتِهِ، وَيَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ أَوْ وُجُودِهِ بالأمرِ الواردِ فِي حالةِ العدمِ وحالةِ الغفلةِ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وِحِينَئِذٍ فَلاَ وَجْهَ لإفرادِ كُلٌّ مِنْهُمَا بمسألةٍ،
(1/158)
 
 
وَقَدْ عَمَّيْتُ الجوابَ لِتَشْحِيذِ الأذهانِ.
الثَّانِي: لاَ يَخْتَصُّ الخلافُ بالمعتزلةِ، فَإِنَّ الإمامَ نَقَلَ مذهبَنَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الفِرَقِ فَقَدْ أَنْكَرُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ ـ خِلاَفاً للمعتزلةِ وأكثرِ الطوائفِ؛ بَلْ كلامُ إِمَامِ الحرمينِ فِي (الْبُرْهَانِ) يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ المعتزلةِ؛ إِذْ قَالَ ـ: إِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ المعدومَ مأمورٌ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ [المعقولِ] =، وقولُ القائلِ: إِنَّهُ مأمورٌ عَلَى تقديرِ الوجودِ تلبيسٌ، فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ لَيْسَ معدوماً، ولاَ شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ شرطٌ فِي كَوْنِ المأمورِ مأموراً، فَإِذَا لاَحَ ذَلِكَ بَقِيَ النظرُ فِي أَمْرٍ بِلاَ مأمورٍ، وَهَذَا مُعْضِلٌ فَإِنَّ الأَمْرَ مِنَ الصفاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالنفسِ، وفرضُ مُتَعَلِّقٍ ولاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ مُحَالٌ.
هَذَا كلامُهُ، وجوابُهُ بِمَا سَبَقَ، وَقَدْ نُظِرَ فِي (الشَّامِلِ) قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ.
 
الثالثُ: أَنَّ الخِلاَفَ لاَ يَخْتَصُّ بالأمرِ، فالنَّهْيُ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لدخولِهِ ضِمْناً أَوْ لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بالفرقِ؛ بَلْ يَجْرِي أَيْضاًً فِي الخَبَرِ، وَهَذِهِ المسألةُ فرعٌ لأصلٍ، وَهُوَ أَنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى (12 أ) فِي الأَزَلِ، هَلْ يُسَمَّى خِطَاباً؟ وَسَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَاتِي. اهـ.
(1/159)
 
 
(ص): (فَإِنِ اقْتَضَى الخطابُ الفعلَ اقتضاءً جازماً فإيجابٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ فَنَدْبٌ، أَوِ التركِ جازماً فتحريمٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ بِنَهْيٍ، مخصوصٍ فكراهةٌ، أَوْ غَيْرَ مخصوصٍ فَخِلاَفُ الأَوْلَى، أَوِ التخييرَ فإباحةٌ).
(ش): الخطابُ إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ الفعلَ أَوِ التركَ أَوْ لاَ يَقْتَضِيَ واحداً مِنْهُمَا، فِإِنِ اقْتَضَى الفعلَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، والأولُ الإيجابُ، والثانِي النَّدْبُ، وَإِنِ اقْتَضَى التَّرْكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، وَالأولُ التحريمُ، والثانِي هُوَ الْمُقْتَضِي للتَّرْكِ مَعَ عدمِ الجزمِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مخصوصٌ أَوْ لاَ، والأولُ المكروهُ والثانِي خِلاَفُ الأَوْلَى؛ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى كتركِ صلاةِ الضُّحَى، أَوْ عَدَمُهُ أَوْلَى كصومِ عرفةَ بعرفةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ الفعلَ وَلاَ التَّرْكَ فَإِبَاحَةٌ، وَقَيَّدَ فِي (الْمِنْهَاجِ)
(1/160)
 
 
الاقْتِضَاءَ بالمانعِ مِنَ النَّقِيضِ، وَعَدَلَ عَنْهُ الْمُصَّنِفُ إِلَى الجازمِ؛ لأَنَّهُ أَخْصَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ والدُهُ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَكَانَ المانعِ مِنَ النقيضِ (الجازمَ) فَهُمَا مترادفانِ.
فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (الخِطَابُ) أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي كَوْنِهِ إِبَاحَةً إِذْنَ الشَّا