تقويم الأدلة في أصول الفقه

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: تقويم الأدلة في أصول الفقه
المؤلف: أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدّبوسيّ الحنفي (المتوفى: 430هـ)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والله المستعان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسول الله محمد وآله أجمعين وبعد:
فإن الأصل عقم عن الإنجاب إلا ما شاء الله تعالى، وحكم النسل بالإعجاب، وحكموا بالظن، وخصموا بالطعن، ولم يبق لمن أصاب بتوفيق ربه شيئًا من الإفاقة عن عجبه متعلق غير الكتاب المتلو بلا شك، والخبر المروي بلا إفك، ولا مقتدى غير السلف الذين أخفاهم التراب، ولا مهتدى غير العقول والألباب، ما له من أقرانه إلا ريبة على التلاق، وعيبة لدى الفراق، وما العبد بموفق لسلوك هذا الصراط إلا بعد علمه بالطبقات، ليقرب من الهادية بقدوةٍ، ويبعد من النابية بنبوة، فلن يصل العبد إلى الهدى سابقًا، وقد عرف نفسه فيه لاحقًا.
فنقول وبالله التوفيق: إن الله تعالى جمع في الإنسان بين روح وعقل، وهوى ونفس، تحقيقًا للبلوى، على ما مر شرحه في كتاب "الأمد الأقصى" فالنفس بهواها تدعوه إلى الحاضرة جهلًا، والروح بعقلها تدعوه إلى العاقبة علمًا، فتفرق الناس عن ذلك طبقات أربعًا:
ضال بالهوى غافل عن نفسه، عامه في طغيانه بجهله.
وضال بنفسه ظان أن الأمر كذلك إلى جنسه.
ومهتد إلى ربه بدلائل عقله متأيد بنصوص شرعه.
ومهتد بالروح القدس في أنوار العقل والشرع.
وهؤلاء الطبقة من بينهم إمامهم. فنور الروح أصلي، ونور العقل فرعي على ما بينا في كتاب "الأمد الأقصى" وكتاب "خزانة الهدى".
ثم تفرق هؤلاء الطبقة أحزابًا أربعةً:
- عارف لربه على جهل بتأويل الكتاب والسنة والفقه والحكمة، وأنه لعلى شفا العبث والبدعة.
- وعارف لربه عالم بتأويل الكتاب والسنة بلا فقه واستمداد من الألباب، وأنه لعلى شفاه الضلال والارتياب، فالحوادث ممدودة والنصوص معدودة، فلا يأمن الابتلاء بما لم ينل فيرتاب أو يضل.
- وعارف لربه متفقه برأي قلبه غائب عن طرق الفقه في نصوص شرعه، وأنه لعلى
(1/9)
 
 
شفا الهلاك بهواه وعجبه، فما بالعقل وحده هداية إلى حدود الهدى، وما بعد العقل ولا شرع معه إلا الهوى.
- وعارف لربه عالم بنصوص شرعه تفسيرًا وتأويلًا وطرق الفقه في أصل الشرع تعليلًا، وهذا الرجل من بينهم إمامهم لكنه على شفا الفسق، فالعلم صالح لكسب الدنيا والآخرة وطلب المولى والورى، ما ينجو عن المحظور بالمأمور إلا بالنظر في المستور من أقسام أعماله وأحواله.
وأنها أقسام أربعة:
- قسم لهو عن العمل بالعلم.
- وقسم شغل بالعمل عن العلم.
واللاهي قسمان:
- قسم اتخذ العلم مكسبه للدنيا.
- وقسم اكتفى بالعلم حظًا يبتغي.
وهما على ضلال، فما العلم إلا للعمل به، وما العمل إلا ترك العاجلة بالآخرة على مخالفة الهوى في إشارته إلى كسب الحاضرة.
والعامل قسمان:
- عامل على قرار وعزلة.
- وعامل على قرار ودعوة، وأنه من بينهم إمامهم، وإليه نهاية الطبقات.
فأقصى مراتب العبد في الدعوة إلى الله تعالى فإنها رتبة الأنبياء عليهم السلام، وتركوها ميراثًا للعلماء، ولأن الداعي إلى الحق هو الله تعالى بآياته، والعبد عامل له فيها بأمره.
وأما العبادة فحق الله تعالى على عبده، والعبد مؤدٍ عن نفسه ما عليها، فلن يصير العبد بالعمل عاملًا لله حتى يدعو، قال الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}، وقوله: {ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا}، وقال الله تعالى في شأن الرسول عليه السلام: {إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا}، {وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا}.
فأبان الله تعالى شرف الرسول بالدعوة والهداية دون العزلة والعبادة، وقال الله تعالى في شأن الأمة: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} يعني يثبت لهم ولاية الأرض وأهلها وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأه من الهدى ثم العمل به.
وقال الله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}. فالخلافة
(1/10)
 
 
بالولاية من أقصى المراتب، وأنها تقوى بالنبوة وتزداد قوة بالرسالة، وتضعف بالاستنباط والدلالة، وتزداد ضعفًا بالقنوع بظواهر المسموع.
واليوم قد انقطعت النبوة فكان ما ذكرنا نهاية في القوة، ولأن نفع العبادة خاص ونفع الدعوة عام.
قال العبد رضي الله عنه: إني لما رأيت كل هذا الشرف للعلم ونوره كامن في قلوب البشر، كمون النار في الشجر، ما يقدحها إلا أيدي الهمم العالية، بفكر في الحجج الهادية، وأكثر الناس قبسوه بحواسهم ففقدوه في اقتباسهم، رأيت اتباع السلف في إثارة هذا النور ببيان الحجج فرضًا، ثم إنارته بوقود المداد في صحائف الكتب حقًا، رجاء أن أكون من الأشباه، واستعنت بالله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله على قصد مني تقويم كتاب "الهداية" الذي ذل خاطري [في بعضه] بحكم البداية، فرارًا عن التمادي في الباطل، وتخريجًا على الأصول الأربعة التي بها يتعلق الابتلاء في الحاصل، وبيانًا للحدود التي بها يمتاز البعض عن البعض على وجه خرس دونه ألسنة الأكثر من أولي هذه الصناعة، والله ولي التوفيق لتتميم هذه البضاعة.
(1/11)
 
 
وصف النسخ المخطوطة للكتاب
اعتمدنا في إخراج الكتاب على ثلاثة نسخ مخطوطة للكتاب، اثنتان كاملتان وواحدة فيها نقص، عملنا على مقارنتها ببعضها وإخراج النص الحالي بهذا الشكل. والنسخ هي:
أولًا: مصورة نسخة خطية من المكتبة السليمانية باستنبول، تحت رقم (690)، تم نسخها في الليلة التاسعة من شعبان سنة سبع عشرة وسبعمائة هجرية (717هـ).
تقع في 260 لوحة، في الصفحة الواحدة 22 سطرًا.
وقد كتبت بخط النسخ الواضح، وعليها كثير من التعليقات والهوامش والتصحيحات المهمة.
ناسخها: هو ابن العميد قوام الدين أمير كاتب الاتقاني. وجاء عنوان الكتاب في بدايتها: "كتاب التقويم في أصول الفقه".
ثانيًا: مصورة نسخة خطية من الكتبخانة المصرية (دار الكتب المصرية) بالقاهرة تحت رقم (255). وهي موجودة في مكتب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم (1822)، تم نسخها في السابع والعشرين من صفر الخير سنة ألف وثلاثمائة وعشرين هجرية (1320هـ).
تقع في 956 لوحة، في الصفحة الواحدة 15 سطرًا.
وقد كتبت بخط واضح مقروء.
ناسخها: اسمه محمد أمين الدنف الأنصاري، وجاء عنوان الكتاب في أولها: "تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع".
ثالثًا: مصورة نسخة موجودة بمكتبة سماحة الشيخ خليل الميس من مجموعة مصورات المخطوطات التي يملكها، فيها بعض النقص والطمس في صفحاتها وأسطرها. تم نسخها سنة أربع وسبعين وتسعمائة (974هـ).
تقع في 432 لوحة، في كل صفحة 21 سطرًا. خطها واضح مقروء.
ناسخها: هو سيد محمد بن سيد عبد القادر، وجاء عنوان الكتاب في بدايتها: "تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي في علم أصول الفقه".
وبالجملة فقد حفظ لنا التاريخ هذا الأثر العلمي النفيس كاملًا غير منقوص، وفي حالة جيدة.
(1/12)
 
 
القول في أسماء أنواع الحجج
التي بها ابتلينا بعلم ما شرع الله تعالى من أحكامه ولزمنا العمل بها، وبها يمتاز البعض عن البعض بعرف لسان الفقهاء، وهذه الأسماء أربعة: الآية، والدليل، والعلة، والحال.
فأما الحجة: فاسم يعم الكل، وكذلك البينة والبرهان.
وتفسير الحجة: أنها اسم من حج إذا غلب، يقال: لج فحج أي غلب، وحاججته فحججته أي: غلبته ألزمته بالحجة حتى صار مغلوبًا.
فسميت الحجة حجة لأن حق الله تعالى يلزمنا بها، ويجعلنا مغلوبين في المناظرة مع الله تعالى بانقطاع العذر بها.
ويحتمل أن يقال بأن الاسم مأخوذ من معنى وجوب الرجوع إليه عملًا به من قول الشاعر:
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يرجعون إليه معظمين إياه، ومنه: "حج البيت".
ألا يرى أن الله تعالى سمى البيت مثابة للناس كما يسمى من الحج محجة، والمثابة المرجع، وسواء أوجبت علم اليقين أو دونه لأن العمل يلزمنا بنوعي العلم على ما يأتيك بيانه من بعد في باب خبر الواحد والقياس.
وكذلك البينة: وهي من البيان قال الله تعالى: {فيه آيات بينات} أي ظاهرات، وهذا لأن الحجة إنما يجب العمل بها إذا ظهر للقلب وجه الإلزام منها، وسواء ظهر ظهورًا أوجب علم اليقين وما دونه لأن العمل يجب بها على ما قلناه.
وكذلك البرهان: اسم للحجة على العموم لغة، وأنواعه أربعة على ما قلنا.
أما الآية: فاسم على الإطلاق لما يوجب علم اليقين، ولذلك سميت معجزات الرسل آيات، قال الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات}، وقال تعالى: {فاذهبا بآياتنا} وهي المعجزات لأن المعجزة توجب علم اليقين بنبوة الرسل. وتفسيرها لغة: العلامة، قال الشاعر:
(1/13)
 
 
درست وغيرت أيها العصر
وقال الله تعالى: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} أي: علامات.
فإن قيل: ومن الناس من لم يعلم بالنبوة بعد ظهور الآيات فكيف يكون تفسيرها ما يوجب العلم؟
قلنا: إن هذه الحجج التي نتكلم فيها مما لا توجب العلم جبرًا بل بالتأمل فيها توجب، وإنما جهل من جهل بعد الآيات بالرسل بترك التأمل لكنه لم يعذر لأن العاقل مما يلزمه التأمل فيها فلم يعذر بالترك، ولو كانت الحجج موجبة للعلم جبرًا لما تعلق بها ثواب ولا عقاب.
وأما الدليل: فهو اسم لحجة منطق، لأنه في اللغة؛ فعيل بمعنى فاعل، فكان اسمًا لفاعل الدلالة كالدال. وعنه قيل: يا دليل المتحيرين أي: هاديهم إلى ما يزول به حيرته، وكذلك دليل القافلة، ثم سمي كلامه باسمه دليلًا، ولما كان حجة نطق كان غير الاسم الموضوع لما لا نطق له. فإن قيل: إن الدخان دليل على النار، والبناء دليل على الباني ولا نطق هناك!. قلنا: إنه اسم مجاز لوجود معنى دلالة النطق منهما، كما قال الله تعالى: {جدارًا يريد أن ينقض فأقامه}.
وقال تعالى: {قالتا أتينا طائعين} وكقول الشاعر:
وعظتك أجداث صمت
ثم الدليل مجازًا كان أو حقيقة: اسم لما يبين أمرًا كامن، وسائر الحجج أسماء لما يبين أو يوجب حكمًا مبتدأ فصار الدليل اسمًا خاصًا لما هو مبين.
والشهادة مثل الدليل، لأنها حجة منطق في الأصل كالدلالة، إلا أنه أخص من الدلالة وهما سواء أوجبا علم اليقين أو دونه، فالشهادات في مجلس القضاة تسمى بينات، وهي لا توجب العلم يقينًا.
وأما العلة: فتفسيرها لغة: اسم لحال تغير بحلوله حكم الحال، أو اسم لما أحدث أمرًا بحلوله لا عن اختيار كالمرض يسمى علة لتغير حكم حال الإنسان بحلوله لا عن اختيار للمريض فيه، وكذلك الجرح علة الموت إذا سرى إليه لهذا الحد، ولا يسمى الجارح علة لأنه مختار غير حال بالمجروح، ولهذا لم يجز وصف القديم -عز ذكره- "بالعلة" لأن الله تعالى أنشأ عن اختيار، ولا يوصف بالحلول، فكانت العلة على هذا السبيل نوعًا ثالثًا غير الآية والدليل لأنهما يوجبان الحكم بلا حلول.
والمراد بالعلة بعرف لسان الشرع: المعاني المستنبطة من النصوص التي تعلقت بها الأحكام شرعًا فيها، وتعدت بتعديها إلى الفروع، لأن تلك المعاني بحكم حلولها في
(1/14)
 
 
المنصوص عليها غيرت أحكامها لا عن اختيار إلى العموم عن الخصوص.
فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا" غير حال بالحنطة.
ولكن قولنا: إنه مكيل أو مطعوم حال بها.
وهذه العلل تسمى مقاييس لأنها قد تستنبط بالمقايسة فسميت باسم سببها وتسمى نظرًا لهذا المعنى.
وأما حكمها: فالعلم على شبهة متى أريد بها هذه العلل التي هي مقاييس اجتهاد، وقد توجب حكم العلة بلا شبهة إذا أثبتت عللًا بطريق بلا شبهة.
وقد يجوز أن تسمى هذه العلل الشرعية أدلة لأن هذه المعاني دلتنا على حكم الله تعالى في الفروع.
وعلل الشرع أعلام وآيات في الحقيقة على الأحكام والموجب هو الله تعالى.
ولا يجوز أن تسمى الأدلة عللًا لأن في العلة معنى الإيجاب، وما في الدليل ذلك كالدخان نسميه دليلًا على النار ولا نسميه علة.
وكل دليل على شيء علة في حق علمك لأن العلم وجب لك به.
وأما الحال: فعبارة عن الحكم الثابت عن دليل غير متعرض لبقائه ولا لزواله محتمل للزوال بدليله لكنه ملتبس عليك حاله لأن ما ثبت دام حتى يقوم دليل البطلان، على ما نبينه في موضعه.
ثم كل نوع مما ذكرنا من أنواع الحجج ينقسم إلى قسمين: ظاهر وباطن.
فالظاهر: ما عقل بالبديهة.
والباطن: ما لم يعقل إلا بتأمل. فعصا موسى كانت آية ظاهرة، إذ تلقفت عصي آل فرعون فعلمتها السحرة آية ببديهة عقولهم، وكذلك انفلاق البحر وانفجار الصخرة.
والقرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم آية باطنة ما يعرف معجزة إلا بعد تأمل ونظر ومعارضة بسائر أنواع كلام البشر، وما للظاهر رجحان بظهوره، ولا للباطن رجحان ببطونه، بل الرجحان موقوف على قدر الأثر في مضمونه.
ألا ترى أن الله تعالى خلق الدنيا ظاهرة والآخرة باطنة، ثم لم يكن الرجحان بظهور ولا بطون بل كانت الراجحة منهما ما كانت باقية.
وكذلك الرأس ظاهر والقلب باطن ولكل واحد منهما ضرب درك، وكان الرجحان للقلب لوقوفه على العاقبة.
(1/15)
 
 
والنص حجة ظاهرة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعلة حجة باطنة لا تنال إلا بتأمل من العقول.
وكذلك الشمس ضياء ظاهر والعقل ضياء باطن.
والأغذية علل ظاهرة لمصالح عاجلة، والأدوية علل باطنة لمصالح في العاقبة.
وكذلك علل الشرع بعضها أظهر من بعض حتى سمى علماؤنا الظاهر منها؛ قياسًا، والباطن استحسانًا، ثم أخذوا بالقياس مرة وبالاستحسان أخرى ليعلم أن الرجحان بقدر قوة المعنى.
وكذلك الدليل قد تكون دلالته ظاهرة كالدخان على النار، وقد تكون دلالته باطنة كالنجم على الطريق، فإنه لا يهتدى به إلا بضرب تأمل فصار حد الآية ما يفيد العلم يقينًا إذا أبصرها القلب على اضطرار كما إذا رأى شخصًا بالعين بلا ستار، والآية آية سواء نظر العبد فيها فأبصر، أو لم ينظر وقصر. وصار حد الحجة ما يغلب الهوى، فإن للقلب نظرًا بموجب الهوى ونظرًا بموجب العقل فإذا قامت الحجة عليه غلبت جهة العقل جهة الهوى، وسواء في ذلك اضطر القلب إلى العلم بارتفاع الشبهة أو لم يضطر، ووقعت الغلبة بالنظر أو تكاسل فلم يبصر.
وصار حد الدليل ما أتى منه فعل الدلالة بحيث لو تأمله ذو البصيرة لاستدلال به واهتدى، وسواء فيه تأمل أو لا، فأوجب العلم قطعًا أو كان دونه حدًا، وصار حد العلة ما تعلق به الإحداث والإيجاد بلا اختيار بقدر الحلول بمحل الحكم ولكن في علل الشرع يراد بها ما تعلق بحلولها وجوب الأحكام في حقنا لا حدوثها في أنفسها بذوات تلك العلل.
فالعلل الشرعية صارت عللًا بجعل الشرع إياها عللًا لا بذواتها، فصارت بذواتها أعلامًا لما لم تكن موجبة.
غير أنا سمينا هذه المعاني المستنبطة من النصوص عللًا مجازًا لتعلق وجوب الأحكام بها في حقنا شرعًا لا في حق الله، وهي حالة بمحل الأحكام لا وجوب في حقنا قبل الشرع، ولا وجود بعد الشرع قبلها فكانت هذه العلل بمنزلة شرط الطلاق في اليمين بالطلاق في حق المرأة.
فالشرط علم على الطلاق في حق الزوج وفي حق الطلاق، فإنه وجب معه بتطليق الزوج، ولكنه علة في حق الوجوب للمرأة حتى إن الطلاق لا يعمل فيها إلا إذا كانت بمحل الإيقاع ابتداءً حال وجود الشرط، ويعمل وإن لم يكن الرجل من أهله حين الشرط.
لأن العلة في حق الطلاق نفسه لفظ الزوج فيعتبر شرط صحته حال تلفظه.
(1/16)
 
 
والدليل عليه أن هذه المعاني كانت موجودة قبل الشرع ولم تكن موجبة لهذه الأحكام، ولو كانت موجبة لذواتها لم تنفك عن معلولاتها كشرط الطلاق يوجد من المرأة قبل تعليق الزوج الطلاق به ولا يوجب طلاقًا.
وصار حد الحال ما يوجب البقاء على الثابت من الحكم لجهلك بالدليل المغير لا لعلمك بالدليل المبقي.
(1/17)
 
 
القول في أنواع الحجج نفسها
الحجج نوعان: عقلية وشرعية.
وكل نوع قسمان: موجبة للعلم ومجوزة.
فالموجبة: ما أوجبت العلم قطعًا بموجبها ولم تجوز خلافه.
والمجوزة: ما جوزت إطلاق اسم العلم على موجبها وإن جوزت خلافه.
ثم العقلية: ما عرفت حججًا بالاستدلال بمجرد العقول.
والشرعية: ما لم تعرف حججًا إلا بوحي الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه جملة لا نعرف فيها خلافًا فإن من بنى على السماع علمه ما اهتدى إليه حتى يحكم عقله.
فالمسموع في نفسه خبر يحتمل الصدق والكذب، وقائله رجل مثله من الخلق فلا يجوز له اتباع مثله ولا الحكم بقوله حتى تزول عنه جهة كذبه، ولن تزول إلا بمعجزة، ولا معجزة نعرفها إلا بتأمل عن عقله.
ولأنا نرى من لا يعرف الشرع أصلًا يستدل بالبناء على الباني، ويهتدي إلى المصالح الدنيوية ويصل إليها بالدلالات العقلية بنوعي علم: علم بلا شك، وعلم بغالب الرأي مع ضرب ارتياب بحيث جاز أن يتبين له في ضده الصواب.
وكذلك الشرعية فكتاب الله تعالى حجة يوجب العلم قطعًا بلا ريب.
وخبر الواحد يوجب علمًا مع ضرب شك فعلمت أن هذه جملة لا خلاف فيها، وإنما الخلاف في حق أحكام الله تعالى على ما يأتيك شرحها.
(1/18)
 
 
القول في أنواع الحجج الشرعية الموجبة للعلم
قال العبد رضي الله عنه: إن الحجج العقلية وإن كانت قبل الشرعية وجودًا في الذوات، فإني قدمت الشرعية فهي أظهر منها بدرجات.
فالشرع على مثال ضوء النهار.
والعقل على مثال نور النار.
والقلب على مثال العين، فكم من عين لم تر في ضوء السراج، رأت إذا بزغ الضياء الوهاج، لا نظره الجلي فيرغب به في الخفي.
فأقول وبالله التوفيق: إن الحجج الشرعية الموجبة للعلم أربع: كتاب الله تعالى، وخبر الرسول المسموع منه، والمروى بالتواتر عنه، والإجماع.
وطريق ذلك كله واحد، وهو خبر الرسول لأنا لم نعرف الكتاب -كتاب الله تعالى- إلا بخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكذا الإجماع ما ثبت حجة قاطعة إلا بكتاب الله والسنة.
والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر كالمسموع منه على ما يأتيك بيان كل قسم في بابه.
فثبت أن المدار على خبر الرسول، وخبر الرسول صدق وحق لدلالة قامت على أن رسول الله لا يكون رسولًا حتى يكون معصومًا عن الكذب وبالله التوفيق.
(1/19)
 
 
القول في بيان حد الكتاب وكونه حجة
كتاب الله تعالى: ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواتراً، لأن ما دون المتواتر من الأخبار لا يبلغ مرتبة العيان على ما يأتيك البيان، فلا يوجب الإيقان، وكتاب الله تعالى ما علم يقيناً، وأوجب علم اليقين إلا لأنه أصل الدين وبه ثبتت الرسالة وقامت الحجة على بطلان الضلالة.
فإن قيل: كون كتاب الله تعالى معجزاً دليل على أنه من الله تعالى من غير نقل متواتر.
قلنا: إن كل آية منه ليست بمعجزة، وهي حجة قطعاً فلا تثبت إلا بعد السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم. أو نقل عنه بالتواتر.
على أن كونه معجزاً آية على صدق صاحبه في دعواه، وليست بآية على أنه كلام الله، فإنه كان جائزاً أن يقدر الله تعالى رسوله على كلام يعجز عنه الأنام فيكون آية على صدق رسالته، كما أقدر عيسى عليه السلام على إحياء الموتى، ولهذا قالت الأئمة فيمن قرأ في صلاته بكلمات تفرد بها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن صلاته لا تجوز، كما لو قرأ خبراً من أخبار الرسول.
فإن قيل: فإذا الدليل على القرآن النقل المتواتر لا دفات المصاحف؟
قلنا: إن الصحابة رضي الله عنهم ما أثبتوا القرآن في المصاحف بعد حفظ القلوب إلا ليصونوه بها عن الزيادة والنقصان، حتى كرهوا التعاشير وكتابة رأس السورة وأمروا بالتجريد فأثبتوا فيها ما تواتر إليهم نقله وأطبق عليه أهله وشهدت به نسخة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظمه.
فإن قيل: إن التسمية نقلت إلينا مكتوبة بقلم الوحي بين دفات المصاحف لمبدأ كل سورة ثم لم يعدوها آية منها.
قلنا: إن أصحابنا قالوا في المصلي؛ ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم. ففصلوها عن الثناء، ووصلوها بقراءة القرآن فدل هذا الإطلاق على أنها من القرآن عندهم، لكنهم قالوا: ويخفي. كما قالوا بإخفاء القراءة في الأخريين ليعلم أنها ليست بآية من الفاتحة وإنما قرئت تبركاً بها لا أداءً لفرض القراءة، فإن الفاتحة عينت لذلك شرعاً.
وقد روي عن محمد بن الحسن أن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور
(1/20)
 
 
وللبدء تبركاً بها فكتبت بقلم الوحي لأنها آية من الكتاب، وكتبت بخط على حدة غير موصولة بالسورة لأنها ليست من تلك السورة، وكيف تثبت التسمية آية من كل سورة مع اختلاف الناس والأخبار، وأدون أحوال الاختلاف المعتبر إيراد شبهة، والقرآن لا يثبت مع الشبهة.
فإن قيل: إنكم أخذتم بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فشرطتم التتابع لجواز الكفارة.
قلنا: أخذنا بها عملاً بها كما لو روي خبر عن الرسول عليه السلام لأنه ما قرأها إلا نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لم يثبت قرآناً لفوات شرطه بقي خبراً.
فإن قيل: فهلا أخذتم بأخبار التسمية الدالة على أنها من الفاتحة عملاً بها من حيث الجهر بها في الصلاة، وحرمة القراءة على الحائض والجنب التي هي من حكم القرآن.
قلنا: لأنا متى صرفناها إلى أن التسمية في حكم الفاتحة لم تكن حكماً لها بظاهر ما توجبه التسمية لغة بل كان عملاً بمقتضى أنها من القرآن، ولا عموم للمقتضى عندنا، وإنما يوجب العمل به بأدنى ما لا بد منه.
والحرمة على الحائض لا بد منها، ولم يرو عن أصحابنا شيء في إباحة القراءة لها.
فأما الجهر بها في الصلاة فمما لا يجب لا محالة بحكم أنها من الفاتحة على ما بينا أنه لا يجهر بها في الأخريين.
ولأن متى لم تثبت التسمية آية من القرآن على قول بعضهم بقيت خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو كانت خبراً لم يكن من حكمه الجهر بقراءته ولا حرمته على الجنب لغة.
فإما الكلام في أن القرآن حجة:
فإنه كلام الله تعالى، وقد ثبت ان الله تعالى لا يتكلم بالباطل، وبالله التوفيق.
(1/21)
 
 
القول في تحديد المتواتر وكونه حجة موجبة
اختلفت العبارات في حد المتواتر، والمختار عندنا؛ ما تواتر نقله أي: اتصل بك من النبي صلى الله عليه وسلم بتتابع النقل.
يقال: تواترت الكتب أي: اتصل بعضها ببعض بتتابع الورود.
ولا تثبت حقيقة الاتصال إلا بعد ارتفاع شبهة الانفصال ومتى ارتفعت الشبهة ضاهى المتصل منه بك بحاسة سمعك.
فطريق هذا الاتصال أن ينقله إليك قوم لا يتوهم في العادات تواطؤهم على الكذب لكثرتهم، لأن الناس على همم شتى تبعثهم على العمل بموافقتها ما يرجعون عنها إلى سنن واحد، إلا عن أصل آخر جامع مانع وذلك سماع اتبعوه أو اتفاق صنعوه، فمتى بطل وهم الاجتماع تعين لهم السماع.
ألا ترى أنك علمت بكون السماء فوقنا، كذلك قبلنا بالسماع كما علمتها للحال بالرؤية.
وعلمت أباك سماعاً حسب ما علمك أبوك عياناً.
ثم إنه حجة بمنزلة آية من كتاب الله تعالى لأنه قد ثبت بالدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكذب والكلام بالباطل، ولأن كتاب الله تعالى ما ثبت إلا بخبره، وعلى هذا أسئلة ذكرناها في باب "مراتب الأخبار" من بعد.
(1/22)
 
 
القول في بيان أن الإجماع من هذه الأمة حجة
إجماع هذه الأمة حجة موجبة للعلم شرعاً، كرامة لهذا الدين، لدلالة أن المجوس اجتمعت على أشياء كانت باطلة، وكذلك النصارى واليهود وسائر الكفرة، وهم أكثر منا عدداً.
ولأن الإجماع جائز من الخلق اتباعاً للآباء من غير حجة بطباعهم كما فعلت الكفرة، فلا يصير عينه حجة فثبت أن إجماعنا جعل حجة شرعاً وذلك بقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
أخبر أنه يخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والباطل إلى نور الإيمان والحق، ولو جاز إجماعهم على الباطل لكانوا في ظلمة فكيف يكون خلاف ما أخبر الله تعالى وأنه لا يجوز.
وقال الله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور}.
وقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وكلمة خير بمعنى أفعل فيدل على نهاية الخيرية ونفس الخيرية في كينونة العبد مع الحق، والنهاية في كينونته مع الحق على الحقيقة، فدل صفة الخير وهو بمعنى أفعل على أنهم مصيبون لا محالة الحق الذي هو حق عند الله تعالى إذا أجمعوا على شيء، وإن ذلك الحق لا يعدوهم إذا اختلفوا.
وكذلك قال الله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} والمعروف والمنكر على الإطلاق ما كان معروفاً ومنكراً عند الله.
فأما الذي يؤدي إليه رأي المجتهد من غير إصابة ما عند الله تعالى فمعروف ومنكر في حقه ورأيه لا أن يكون معروفاً ومنكراً مطلقاً، فكان هذا بياناً لصدر الآية في أن كانوا خير أمة بهذا السبب وهو إصابة المعروف المطلق.
فإن قيل: معنى قوله "تأمرون" أي: يأمر كل واحد منكم كقولك: لبس القوم ثيابهم، وقول كل واحد ليس بحجة.
قلنا: نعم، فيجب إذا أمر كل واحد منهم بمعروف أن يكون المعروف المطلق في جملة ما أمروا.
وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} والوسط في اللغة: من يرتضى قوله.
وقال الله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم} أي أرضاهم قولاً، ومطلق
(1/23)
 
 
الارتضاء في إصابة الحق عند الله تعالى لأن الخطأ في الأصل مردود ومنهي عنه، إلا أن المخطئ ربما يعذر بسبب عجزه ويؤجر على قدر طلبه للحق بطريقه لا أن يكون الخطأ بعينه مرضياً عند الله تعالى.
وقال تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} والشاهد: اسم لمن ينطق عن علم ولمن قوله حجة.
فدل النص على أن لهم علماً بما على الناس من الأحكام، وأن أقوالهم حجة على الناس في حق الله تعالى.
والله تعالى عالم بحقائق الأمور فلا تثبت الحجة حجة في حقه على حكمه إلا ما أوجب العلم يقيناً قطعاً.
بخلاف حجج العباد لأنا لا نقف على حقوقنا إلا من طريق الظاهر فكانت حجتنا ثابتة وفاق حقوقنا.
وكذلك خبر الله تعالى عن علمهم لا يقع إلا حقيقة. ألا ترى أن الله تعالى شبه شهادتنا على الناس بشهادة الرسول علينا فقال الله تعالى: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} وشهادة الرسول موجبة للعلم قطعاً فكذلك شهادتنا.
ولأن شهادة جماعتنا لو لم تكن موجبة علماً كالوحي لصارت معارضة بشهادة غيرنا بآرائهم فلا تبقى حجة.
فإن قيل إن الآية وردت في أمور الآخرة!.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأن شهادة أداء في مجلس القضاء بما علمنا في الدنيا.
فلو لم تكن شهادتنا حجة موجبة للعلم قطعاً لما طلب أداؤها في مجلس الحكم للقضاء بها، والقاضي علام الغيوب لا يقضي إلا بالثابت حقاً على الحقيقة.
ومتى احتمل علمنا للحال الخطأ لم تكن شهادتنا موجبة علماً لا يحتمل الخطأ.
ولن الله تعالى حيث نص على الآخرة خص الرسول عليه السلام بالشهادة فقال: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} وقال: {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم} ولم يقل شهيداً من أمتك فلت هاتان الآيتان على أن المراد بشهادة الأمة الشهادة في الدنيا.
فإن قيل: إن المراد بها في نقل القرآن والأخبار.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأنه لا ذكر للمشهود به فتعين المشهود به لتعليق الحكم به زيادة على كتاب الله تعالى وذلك يجري مجرى النسخ على ما يأتيك بيانه فلا يكون تأويلاً.
(1/24)
 
 
ولأن نقل المتواتر لا يثبت إلا بقوم لا يجوز تواطؤهم على الكذب في العادات لكثرتهم، والإجماع من علماء الأمة حجة وإن كانوا ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وجاز تواطؤهم على الكذب عادة.
فإن قيل: إن جعلهم الله تعالى وسطاً ليكونوا حجة لا يدل على امتناع إجماعهم على الضلالة كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أخبر أنه خلقهم ليعبدوه ثم لم يمتنع إجماعهم على ترك العبادة.
قلنا: لأن معنى قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} بجعل الله تعالى وإكرامه إياهم بأن جعلهم وسطاً، واصطفاهم حتى كانوا وسطاً فصاروا شهداء عن علم بإصابتهم الحق بهذه الصفة، كما خلقهم الله أحراراً ليكونوا من أهل ملك ما سواهم، فكانت اللام لبيان حكم صفة الوساطة التي من الله تعالى بها عليهم فحقيقتها تقتضي ثبوت الحكم إذا ثبتت العلة كما تثبت أهلية الملك إذا ثبتت الحرية، على هذا موجب اللغة.
وكما خلق الله الأنبياء عليهم السلام معصومين عن الكذب والباطل، وكذلك الملائكة حتى كان قولهم موجباً علم اليقين إلا أن الحقيقة تركت في قوله: {ليعبدون} إذ لو عمل بها لاقتضت وقوع العبادة على سبيل الجبر حكاً للتخليق.
والمطلوب منا عبادة يوصف العبد بالاختيار في فعلها فبهذه الدلالة علمنا ان المراد بها: وما خلقت الجن والإنس إلا وعليهم عبادتي، وما منا أحد غلا وعليه أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان على ما يأتيك سلاحه على التفصيل.
ونظير قوله: {لتكونوا شهداء على الناس} قوله: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} فإن قيل: خبر الواحد حجة في حق الله تعالى وكذا القياس ولا يوجبان العلم قطعاً!.
قلنا: أصل الحجة خبر الرسول، وخبره يوجب العلم قطعاً، والشبهة وقعت في النقل وتحمل ذلك لضرورة.
وأما القياس فليس بحجة لنصب الحكم ولكن لتعديه حكم ثبت بنص أصله موجب للعلم إلى محل لم يتناوله النص.
والكلام في الأصل والإجماع من قبلهم حجة لحكم لا نص فيه كرامة لهم على ما قال: {كنتم خير امة اخرجت للناس}، وقال: {لتكونوا شهداء} أثبت تلك الصفة لهم من قبله لا من قبلهم على ما مر.
على أنا لم نجعلهما حجة في حق العلم بما عند الله تعالى بل في حق العمل الذي يلزمنا بهما.
(1/25)
 
 
ويجوز ذلك في حق ما عندنا لأنا لم نؤت في كل شيء علم الحقيقة كما نعمل بالشهادات، وهي لا توجب العلم قطعاً وقال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية ولو جاز إجماعهم على الضلالة لما كان مخالفتهم نظيراً لمشاقة الرسول.
فلما جعل مخالفتهم أحد شطري استيجاب النار علم أنها مثل الشطر الآخر.
وقال: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} والذي ارتضاه الله تعالى لنا هو الذي هو حق عنده دون الخطأ، وإن عذر الله المجتهد على خطئه وأثابه على قدر طلبه فإن الثواب قابل الطلب لكونه مصيباً فيه.
والدين اسم للمطلوب وقد جاء عن الرسول عليه السلام من غير واحد: "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على الضلالة" وقد جاء الوعيد بمخالفة الجماعة وهو قوله عليه السلام: "من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقد صنف الناس في هذا الباب، وأوردوا من المشاهير ما يوجب العلم وكتابنا هذا كان يضيق عن ذكرها على الاستقصاء فاكتفينا بالكتاب وبالإشارة إلى السنة.
فإن قال قائل: إن الاختلاف وقع من إجماع انعقد عن رأي او خبر واحد وإنهما لا يوجبان العلم فكيف أوجب العلم إجماع تفرع عنهما؟
قلنا: اتصالهما بالإجماع وقد ثبت بالأدلة أن الكل عصموا عن الباطل كان بمنزلة الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم وتقريره على ذلك، او الاتصال بآية من كتاب الله تعالى وغير مستنكر أن لا يصيب الواحد الحق برأيه، ويصيب إذا قوي بآراء مثله، كما يجوز ضعفه عن حمل شيء ثقيل وقدرته عليه مع غيره.
فإن قيل: قال الله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله} إلى قوله: {وأنتم شهداء}.
قلنا: يحتمل أن يقال؛ أن إجماعهم كان حجة ما داموا متمسكين بالكتاب، وإنما لم نجعل اليوم إجماعهم حجة لأنهم كفروا به وإنما ينسبون إلى الكتاب بدعواهم لأن تأويل الآية: {وأنتم شهداء} بما فيه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم لا تشهدون بالحق، ألا ترى أنه قال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} يعني الكتاب وهو الذي سبق ذكره، وابتدأ الآية بقوله: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء} فثبت أنهم شهداء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبنقل ما في الكتاب لا غير.
(1/26)
 
 
وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} إلى قوله: {وكانوا عليه شهداء} وشهادتهم بما أثبت الله تعالى لهم كانت حجة موجبة قطعاً وصاروا كفاراً بمنعها ولم يجز خلوهم عن ذلك العلم.
وقال في شان هذه الأمة: {لتكونوا شهداء على الناس} ولم يقل على الكتاب، فدل على علمهم قطعاً بما على الناس من أحكام الله تعالى وأنهم بالإعراض عن ذلك قصداً يكفرون ولم يجز أن يعدوهم علم الحق.
(1/27)
 
 
القول في تحديد الإجماع
حد الإجماع الذي هو حجة؛ إجماع علماء العصر من أهل العدالة والاجتهاد على حكم.
وثبوت الإجماع منهم قد يكون بنصهم عليه، وبنص بعضهم وسكوت الباقين على الرد.
والسكوت الذي هو حجة: السكوت عند عرض الفتوى عليهم أو اشتهار الفتوى في الناس من غير ظهور رد من أحد، وذلك لأنه إذا كان الحكم عنده بخلاف ما سمع لم يسعه السكوت عن ذكره فيدل حاله على سكوت يحل، وذلك إذا كان عنده الحكم كذلك، هذا إذا دام على السكوت إلى مدة تنقضي في مثلها الحاجة غلى النظر لإصابة الحق.
فنفس السكوت قد يكون لطلب الصواب ولا عبرة لقلة العلماء وكثرتهم.
ولا عبرة بالثبات على ذلك حتى يموتوا.
ولا عبرة لمخالفة العامة الذين لا رأي لهم في الباب.
ولا بالمتهمين بالهوى فيما خالفونا فيما نسبوا به إلى الهوى.
فأما خلافهم فيما عدا ذلك فمعتبر ما لم يغلو في هواهم حتى كفروا أو تسفهوا حتى صاروا ماجنين لا تقبل شهادتهم.
أما الإجماع نصاً فما فيه إشكال وأما سكوتاً فلأن السامع ما يحل له السكوت عن بيان الحق إذا كان علمه بخلافه فتدل عدالته على أن سكوته على سبيل يحل له، وهو في كون المسموع حقاً إلا أنا شرطنا مدة التأمل لدرك الحق لأن الحق لا ينال بالاجتهاد إلا بعد نظر في أشباه المحادث، وتمييز الأشبه من بين الجملة ولا بد لهذا من مدة.
ثم المدة لمثله في العادات لا يمتد إلى الموت بل إلى حين يتبين له الوجه فيه إما على الموافقة فلا يلزمه النطق به فسكوته عن الرد دليل عليه، أو على المخالفة فيرده، أو يتعارض عليه الأشباه فيلزمه الفتوى بأي الأشباه كان فيصير سكوته فتوى بما ظهر من فتوى الأول.
فإن قيل: وقد يبدو للمجتهد في عمره ما يرجع به عن الأول، فهلا شرط لصحة الإجماع الثبات على الفتوى منهم ما لم يموتوا؟
قلنا: لما ثبت أن الحق لا يعدو إجماعهم علم يقيناً بعد الإجماع إصابتهم الحق
(1/28)
 
 
بعينه، فلا يجوز بعد ذلك من واحد منهم ولا جماعتهم خلافه كما لا يسعهم خلاف كتاب الله تعالى.
فإن قيل: إن السكوت قد يكون مهابة، فقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حجته على رد العول في الفرائض فذكرها، فقيل له: هلا ذكرتها لعمر رضي الله عنه؟ فقال: مهابة له.
قلنا: ما هذا بصحيح عندنا فعمر رضي الله عنه كان يقدمه على الكثير من الصحابة ويسأله ويمدحه ويستحسن اجتهاده، وقد ظهر رده عليه في مسائل.
ولئن ثبت فتأويله أن مهابته لسبقه عليه في الدين والفقه والرأي، منعته عن المبالغة في المناظرة لا أنه سكت عن نفس الرد فعمر رضي الله عنه كان ألين للحق من غيره.
وكان يقول: لا خير فيكم ما لم تقولوا ولا خير في ما لم أسمع.
وكان يقول: رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه وكان أكثر الصحابة شورى.
وجائز عندنا ان يكون فقيهان مختلفان في مسألة، واحدهما أسبق وأكثر فقهاً فيسلم الذي هو دونه للذي هو فوقه اتهاماً لرأي نفسه، ولا يرد عليه رد منكر.
فإن قيل: أليس أن عمراً رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده للمسلمين، فأشاروا عليه بالإمساك إلى وقت الحاجة، وعلي رضي الله عنه كان ساكتاً في القوم فسأله عمر رضي الله عنه فقال: قد تكلم القوم. فقال: لتتكلمن، فأمر بالقسمة. وروى فيها حديثاً عن النبي عليه السلام فقد استجاز علي رضي الله عنه السكوت وعنده الحكم بخلاف ما أفتوا.
قلنا: إن علياً رضي الله عنه استجاز السكوت لأن ما أشار القوم إليه من الإمساك إلى وقت نائبة أخرى كان حسناً جائزاً، ولكن لما استنطق نطق بالقسمة ففيها الاحتياط للخروج عن الأمانة وهو الأحسن والنطق بمثل هذا لا يجب، ولكن يحسن فيجوز السكوت عنه، ويكون دلالة على حسن ما ظهر على أنا لم نجعل نفس السكوت دلالة على التقرير فإنه جائز للتأمل فيما قال القوم، ولتجربة أفهامهم إلى وقت الإمضاء.
ثم لا عبرة لمخالفة العامة لأنه لا بصر لهم في الباب، كما لا عبرة بالمجانين في كل باب.
ولا عبرة بالذين لا تقبل شهادتهم في ابا الدنيا لتهمة الكذب بسبب الفسق لأن أمر الدين فوق أمر الدنيا فكل تهمة أوجبت رد شهادتهم في باب الدنيا أوجبت ردها في باب الدين، إلا أن ما وراء تهمة الفسق من نحو الأبوة [من الإباء] والضغينة لا تتصور تهمة في
(1/29)
 
 
باب الدين وإظهار أحكام الله تعالى فلم تعتبر.
وأما صاحب الهوى فلا عبرة بخلافه في نفس ما نسب إلى الهوى لأنه لا ينسب إلى الهوى إلا إذا خالف فيما يجب الفتوى به بدليل يوجب العلم يقيناً، فيصير خلافه ذلك الدليل برأيه ساقطاً كخلافه نصاً يروى له فيصير هوى.
وأما في غير ذلك من الأحكام فإن ظهرت منه مجانة في نحلته بخلاف الحجج تعصباً لمذهبه بلا دليل أو قلة التأمل لا عن تأويل لشبهته لم يعتبر خلافه، كما لم تقبل شهادته.
وكذلك إذا غلا في هواه حتى كفر لأن المعتبر إجماع المسلمين ولهذا لم نبال بخلاف الروافض إيانا في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وبخلاف الخوارج إيانا في إمام علي رضي الله عنه لفساد تأويلهم وإن لم نكفرهم للشبهة.
وإنما قلنا: إن السكوت الذي هو حجة مرة يثبت بالسكوت بعد عرض الفتوى عليهم، وهو ظاهر ومرة يثبت بعدم الخلاف مع اشتهار الفتوى لأن الفتوى من البعض إذا اشتهر في العامة لم يجز الخفاء على الأقران في العادة فيصير الاشتهار كالعرض عليه.
ثم الرد يجب على السامع إذا كان الحق عنده بخلاف ذلك على سبيل الاشتهار كالأول ليصير معارضاً إياه أينما ثبت الأول، كالآية إذا نسخت لزم الرسول أن يبلغ الناسخ أينما بلغ الأول، وإذا لزمه رد شائع مثل الأول لم يجز ظهور أحدهما دون الآخر، وهذا كما قيل: إن القرآن معجزة لعجز العرب عن المعارضة وهذا العجز لا يمكن إثباته إلا من طريق عدم الظهور فكان حجة، لأنه ممتنع في العادات اندراس أثر مثل القرآن بعد وجوده والمنكرون للقرآن أكثر من المؤمنين به وكانوا محتاجين إلى رده بالمعارض ولا يمكنهم إلا بالرواية كما احتاج المؤمنون إلى رواية القرآن لإثباته.
فإن قيل: إن المزارعة اشتهرت في الناس بعد أبي حنيفة رضي الله عنه من غير ظهور رد ثم لم يصر إجماعاً!.
قلنا: إن الرد شائع من شيعة أبي حنيفة رضي الله عنه فتوى وناظرة إلا أن الناس عملوا بقول غيره.
وعند من لا يجوز المزارعة جائز اتباع الناس في هذا الباب من خالف أبا حنيفة رضي الله عنه لضرب رجحان يبدو لهم، فلا يكون سكوتمه عن تضليلهم عن الرد والتشنيع عليهم، تقريراً إياهم على أنه هو الحق دون ما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه.
وهذا كما إذا بلغ المفتي قضاء القاضي بخلاف رأيه فسكت، لم يدل سكوته على الرجوع إلى قول القاضي لأنه مع خلافه رأياً يعتقد نفاذ قضائه بخلاف رأيه، والله أعلم.
(1/30)
 
 
القول في أقسام الإجماع
أقسام الإجماع أربعة:
1 - إجماع الصحابة نصاً.
2 - وإجماعهم بنص البعض وسكوت الباقين.
3 - وإجماع أهل كل عصر بعدهم على حكم لم يسبقهم فيه قول.
4 - وإجماعهم على أحد أقوال اختلف فيها السلف.
ومن الناس من قال: إن إجماع أهل كل عصر حجة.
ومنهم من قال: لا إجماع لمن بعد الصحابة.
ومنهم من قال: لا إجماع إلا لأهل المدينة.
ومنهم من قال: لا إجماع إلا لعترة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الإمام منهم والإمام معصوم عن الكذب.
ومنهم من قال: لا إجماع إذا كان في السلف من خالفهم.
والصحيح هو القول الأول، لأن الدلائل التي جعلت الإجماع حجة لم تخص قوماً بنسب ولا مكان ولا قرن، والأقوال الأربعة الأخيرة مهجورة.
وقد حكى مشايخنا عن محمد بن الحسن نصاً: أن إجماع أهل كل عصر حجة إلا أنه على مراتب أربعة.
فالأقوى إجماع الصحابة نصاً لأنه لا خلاف فيه بين الأمة لأن العترة يكونون فيهم، وكذلك أهل المدينة.
ثم الذي ثبت بنص بعضهم وسكوت الباقين، لأن السكوت في الدلالة على التقرير دون النص.
ثم إجماع من بعد الصحابة على حكم لم يظهر فيه قول من سبقهم لأن الصحابة كانوا خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم كانوا خلفاء الصحابة فيقع بينهم وبين من خلفهم من التفاوت قريب ما يقع بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب".
(1/31)
 
 
فرتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتب الخيرية.
فكذلك نحن نرتبهم في كونهم حجة أنه نهاية ما ينتهي إلى صفة الخيرية.
ثم إجماعهم على حكم سبق فيه مخالف لأن هذا فصل اختلف فيه العلماء والفقهاء.
فقال بعضهم: هذا لا يكون إجماعاً لأن الدلائل الموجبة عمت جميع الأمة، والأم: اسم يعم الحي والميت، فلا ينعقد الإجماع ما وجد في الأمة مخالف من حي أو ميت.
ولأن ذلك المخالف لو كان حياً للحال لم ينعقد إجماع من سواه إجماعاً فكذلك وإن مات، لأنا لا نعتبر خلافة خلافاً لحياته بل لحجيته وبالموت لا تتبدل الحجة.
ولأنا متى جعلنا إجماع المتأخرين حجة موجبة وجب تضليل المخالف ولا يجوز تضليله.
أيجوز تضليل ابن عباس رضي الله عنهما في مسألة العول؟ ومسألة توريث الأم مع الزوج والأب ثلث المال كاملاً؟ وقد أجمعوا على خلافه.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى فيمن قال لامرأته: أنت خلية، ونوى به ثلاثاً ثم جامعها في العدة وقال: علمت أنها علي حرام: لم يحد، لأن عمر رضي الله عنه كان يراها واحدة رجعية، وقد أجمعنا بخلافه فنية الثلاث صحيحة بلا خلاف بين الأمة اليوم.
ولو سقط قول السابق لانقطعت الشبهة كالآية المنسوخة لا تبقى شبهة في استباحة المنسوخ، ولكن الذي ثبت عندنا أنه إجماع.
وقد روى محمد بن الحسن عنهم جميعاً أن القاضي إذا قضى ببيع أم الولد لم يجز وقد اختلف فيها الصدر الأول لأن الخلف بعدهم أجمعوا على أنه لا يجوز، ولو بقي قول القاضي معتبراً كأنه حي لنفذ قضاء القاضي بما اختلف فيه الفقهاء.
والحجة فيه ان إجماع الصحابة إنما كان حجة لامتناع ان يعدو الحق جماعتهم بالدلائل التي أوجبت الكرامة لهم لكونهم امة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يجز كذلك: أن يعدو الحق جماعة التابعين أو من بعدهم.
ولأن الله تعالى جعلهم خير امة يأمرون بالمعروف وجعل إجماعهم حجة، وصفة الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتصور إثباتها إلا مع الحياة فإن الميت لا يتصور منه الأمر بالمعروف فثبت أنه لم يرد بهذه الكلمة جماعة الأمة من حين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولكن أمته الأحياء في كل عصر.
(1/32)
 
 
وإذا كان كذلك فتبين بإجماع الخلف على قول واحد من الجملة أن ما سواه خطأ يقيناً، كما لو عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فصوب ذلك الواحد ولا يصير من خالفه ضالاً لأنه خالف حين لا إجماع، فكان كخلاف وجد من الصحابة فعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فبين خطا بعضهم فإنه لا يصير ضالاً بما قاله قبل بلوغه نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما كان أهل قباء يصلون إلى بيت المقدس بعد نزول التوجه إلى الكعبة فأتاهم آتٍ وهم في الصلاة فأخبرهم بذلك فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة في صلاتهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم.
وهذا لأن الإجماع هو الحجة التي يضل الإنسان بمخالفتها ولم يكن حين ما قاله هذا القائل يخالفه إجماع.
أليس أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يجوز بيع الدرهم بالدرهمين؟ وكان يبيح المتعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع لما بلغه النص؟ ولسنا نسميه ضالاً فيما كان يقوله أولاً قبل بلوغه النص فهذا مثله.
وإنما أسقط محمد بن الحسن رحمه الله الحد عن الذي جامع امرأته في العدة وقد قال لها: أنت خلية، ونوى بها ثلاث؛ لأن الحد لا يجب مع الشبهة، وقد اختلف الناس في هذا الإجماع أهو حجة أم لا؟ فلا يصير موجباً علماً بلا شبهة ولهذا كان هذا الإجماع حجة على أدنى المراتب.
(1/33)
 
 
القول في أنواع التكلم وضعاً وتفسيرها حقاً
انواع التكلم أربعة:
أخبار، واستخبار، وأمر، ونهي.
لأن الكلام إما شرعه القديم عز ذكره، أو وضعه حكيم فلم يجز خلوه عن فائدة حميدة وما هي إلا إفادة العلم لما يحتاج إليه، والفائدة منه تحصل بالتكلم وتنتهي بهذه الأنواع.
الإخبار بما عندك لتفيد غيرك العلم بما كان أو يكون أو بما توجبه إن جعلته إنشاء كقولك: بعت عبدي أو أعتقته ونحوهما.
والاستخبار: لتستفيد من غيرك ذلك العلم بما كان.
والأمر: بفعل لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد.
والنهي: لبيان أنه مما ينبغي أن لا يكون وأن يعدم.
ولأن أقسام صرف الفعل تنتهي بأربعة أقسام لأنك تقول: فعل يفعل، وتقول افعل ولا تفعل فإذا دخلها حرف الاستفهام صارا للاستخبار وتقول: افعل ولا تفعل وما لها خامس، ثم كل قسم منها ينقسم إلى أقسام قد ذكرنا منه قدر الحاجة إليه لأحكام الشرع. وأما تفسيرها:
فالإخبار: تكلم بكلام يسمى خبراً.
والخبر: الكلام الدال على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر كقولك: "جاء زيد" أو "يجيء عمرو" ونحوه.
والإخبار: تكلمك به.
وأنه ينقسم إلى قسمين في الماضي: صدق، وكذب.
وقسمين في المستقبل: جد، وهزل.
لأن الإخبار نكلم.
والتكلم فعلك باللسان التفعيل منها.
والانفعال في الحروف التي تنتظم حتى يصير مفهوم المعنى والانفعال على هذا متحقق، كذباً كان الإخبار أو صدقاً، جداً أو هزلاً.
نحو "الكتابة" تكون كتابة للكلام كتب باطلاً أم حقاً لأنها فعلك بالقلم.
والانفعال في حرف تنتظم صورة حتى يكون مفهوم المعنى.
(1/34)
 
 
قال علماؤنا- فيمن حلف لا يخبر أن فلاناً قدم فأخبر كذباً: حنث ولم يفد علماً.
وكذلك إذا حلف لا يكتب أن فلاناً قدم فكتب باطلاً؛ حنث وإن لم يفد علماً بما قال.
لأن العلم فيه ثمرته المطلوبة منه بحكمة الوضع لا أنه من نفسه وأنه لا يتم بدونه كما في الكتابة.
بخلاف الإعلام فإنه فعل لا ينفعل إلا بوجود العلم.
وبخلاف ما إذا حلف لا يبيع فباع حراً لم يحنث لأن البيع ليس من أقسام التكلم إنما هو اسم لسبب تمليك بالمال، وانه عبارة عن قوله: لا يملك مالاً بمال فلا ينفعل تمليك المال في غير المال، كما لا ينفعل التكلم في غير الحروف التي يدور عليها الكلام غير أن هذا السبب مما ينفعل بالكلام فيكون آلة في نفسه بفوات ثمرته فإنه يحنث بالبيع الخاسر، فكذلك التكلم بالإخبار لا ينعدم بفوات ثمرته من الإعلام.
وأما الأمر: فتكلم بقولك: افعل وانفعاله بحروفه.
وأما بيان أنه مما ينبغي أن يوجد بحكمه الأمر كالصدق من الأخبار الذي فيه وجود المخبر عنه لأن الأمر أحد أقسام تصاريف الفعل على ما ذكرنا فتكون الفائدة منه على مثال سائره.
وقولك "قدم زيد" لفائدة بيان وجود قدومه، ويقدم لبيان أنه سيوجد فكذا أقدم لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد منه حتى لا يستقيم في الحكمة أن نقول للعمى: أبصر لأنه لا يتصور وجوده منه.
ولما كان وجود فائدة الحكمة صح وضع الأمر لغة لكل فعل يتصور وجوده منه في نفسه، وإن وجب أن يعدم في الحكمة كالسفه والعبث وإذا كان الأمر لهذا الضرب من البيان كان النهي الذي هو خلاف الأمر لبيان ضده، وهو: بيان أنه مما ينبغي أن لا يكون وأن يعدم إلا أن حقيقة إعدام الفعل لا يتصور لأن الموجود منه عرض انقضى، فلا يتصور إعدامه.
وما لم يوجد كذلك لا يمكن أن يعدم ولكن يعدمه بالامتناع عن إيجاده فصار الامتناع حكمه وكان النهي للمنع عن الفعل لغة فيلزمه بالنهي ما يتعلق بعده انعدام ذلك الفعل منه، كما يلزمه بالأمر ما يوجد منه ذلك الفعل.
وأقسام النهي من التصرف: ما علم زيد، ولا يعلم زيد.
والنهي: لا تعلم، على خلاف؛ علم يعلم واعلم.
(1/35)
 
 
القول في حكم الأوامر المطلقة في حق المأمورين شرعاً
اختلف العلماء في حكم الأمر على أربعة أقوال:
فقال بعضهم: حكمه الوقف حتى يأتي البيان.
وقال بعضهم: الإباحة إلا بدليل زائد عليها.
وقال بعضهم: الندب إلا بدليل مغير.
وقال جمهور العلماء: حكمه الوجوب إلا بدليل مسقط.
أما الواقفون: فذهبوا إلى أنا وجدنا موجب الأمر مختلفاً لغة أريد به الإيجاب وأريد به السؤال كقول العبد: اللهم اغفر لي.
وأريد به الإفحام كقول الله تعالى: {فأت بها من المغرب}، وقوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله}.
وأريد به التوبيخ كقول الله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك}.
وأريد به الإباحة كقول الله تعالى: {فانتشروا في الأرض}.
وأريد به الندب كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} ولهذا كان الأمر موضوعاً لغة لما يجب فعله، ولما يباح، ولما يقبح نحو السفه والعبث، فثبت أن الأمر محتمل وجوهاً شتى والمحتمل لا يكون حجة حتى يتعين أحد وجوهه بدليل.
وأما المبيحون: فذهبوا إلى أن الأمر لطلب وجود المأمور به من المأمور، ولا وجود إلا بالائتمار، فدل ضرورة على انفتاح طريق الائتمار عليه وأدناه الإباحة.
فأما الإفحام والتوبيخ ونحوهما فما فهمت مراده للأوامر إلا بدلالة من النص دلت عليه فكانت مجازاً لما لم تفهم إلا بقرينة أخرى على ما قال الله تعالى: {وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} فتبين أنه وبخهم بما أمره، فالغرور حرام والله تعالى لا يوجب الحرام.
وأما أمر الإفحام فمذكور في باب المناظرة فدل سياق الخطاب أنه للإفحام لأن الحجة إنما تقوم لعجزهم عن المأمور به.
والحكيم عند المناظرة لا ينطق إلا بما تقوم به حجته وهذا كما أن لفظة "المشيئة" للتخيير عن تمليك والله تعالى قال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ثم كان للردع بدلالة السياق: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} النار لا تستقيم جزاء
(1/36)
 
 
على اختيار العبد ما خيره الله فيه وملكه.
ولأن الأمر لو وجب به الوقف لوجب بالنهي مثله فحينئذ يصير الأمر والنهي واحداً، وأنه قول محال، وإذا لم يجب الوقف بالنهي ووجبت الحرمة به والأمر ضده وجب أن يثبت به الإباحة.
وأما النادبون: فذهبوا إلى أن الإباحة لا ترجح جهة الفعل على جهة الترك، وفي الأمر طلب الفعل فإن الوجود متعلق بالفعل فلا بد من إثبات ما يترجح به الفعل على الترك وهو في أن يجعل الفعل أحين من الترك وأدنى صفة جهة الحسن في الندب. قالوا: ولا يلزمنا قول الله تعال: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} ولا تنقطع الخيرة إلا بعد الوجوب، لأن الخلاف في مطلق الأمر والله تعالى علق انقطاع الخيرة بأمر مقضي به، وفي القضاء دلالة الإلزام من حيث الحقيقة وإن كان يقام مقام الأمر مجازاً.
ثم دل تعليق الله تعالى انتفاء الخيرة بالقضاء بالأمر، على أن الخيرة غير منتفية ما لم يتصف الأمر بالقضاء.
ولا يلزمنا كفر إبليس- عليه اللعنة- لمخالفته أمر ربه بالسجود لآدم عليه السلام لأنه إنما كفر لاستكباره على ما نص الله تعالى عليه، حتى قال الله تعالى: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج} فأخبر أنه أخرجه لتكبره.
ولنه قال: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت} وقوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه} فبين أنه تركه له لرؤيته الفضل لنفسه بغير حق وهو الكبر، وقال الله تعالى: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} أخبر أنه كفر باستكباره، ولأن الأمر بالسجود لآدم عليه السلام نص على أن الفضل لآدم فصار كافراً برده حكم الله تعالى في تفضيل آدم.
وأما الشرائع التي افترض أداؤها بالأوامر فعرفت فرائض الله بقرائن؛ إما إلحاق وعيد، أو إيجاب صريح، أو بأسباب أخر غير الأوامر على ما بينا.
والحجة لعلمائنا- رحمهم الله- ما ذكرنا أن الأمر لبيان أن المأمور به مما ينبغي أن يوجد من قبل المأمور، وهي صفة لازمة بالأمر، كما كانت صفة الوجود لازمة من سائر أقسام التصريف، فإن قولك: "دخل فلان الدار" على ما عليه حق الكلام وهو الصدق يقتضي وجود الدخول لا محالة.
وكذلك يدخل على ما عليه الحد مقتضى وجود الدخول في الثاني، فكذلك أدخل على ما عليه الحد.
وإذا صار صفة الأمر أن يوجد صفة لازمة للفعل المأمور به من قبل المأمور بحكم
(1/37)
 
 
اللغة على ما عليه حق الكلام، ولا وجود إلا بفعله صار طلباً للفعل على وجه لا بد من وجوده، وهذا معنى الإيجاب والفرض، ولهذا فرق لغة بين الآمر والمأمور في رتبة الولاية، فكان الآمر والياً والمأمور مولياً عليه حتى يسمى السلطان الذي له ولاية الإلزام أميراً.
ولن موجب الأمر الائتمار لغة. يقال: أمرته فأتمر، ونهيته فانتهى، كما تقول: كسرته فانكسر وهدمته فانهدم، وعلمته فتعلم.
وإذا كان حكماً له لم يتصور إلا واجباً به كأحكام سائر العلل لا يتصور حكم العلة إلا واجباً بالعلة وقد تراخى عناه بمانع أو اتصل بها.
وكان ينبغي أن يحصل الائتمار مقروناً بالأمر حكماً له واجباً به إلا أنه تراخى لأن حصوله من مختار فيتراخى إلى حين اختياره، وانعدم الفعل إلى حين اختياره، وبقي الوجوب حكماً له لأنه مما يثبت بالآمر الذي إليه الولاية حتى لما أنبأنا الله تعالى عما لا اختيار له في الإجابة أنبأ عن الائتمار مقروناً به فقال: {كن فيكون} فلولا أن الأمر لإيجاد المأمور به، لما استقامت الكناية عن الإيجاد بالأمر.
وكذلك قال الله تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} فجعل القيامة بحيث لا يجوز غيره موجب الأمر فيما لا اختيار له.
فإن قيل: أليس العبد فيما يتطوع عاملاً لله تعالى بأمره، ولم يدل على الوجوب؟
قلنا: إنه عامل لله تعالى لا بأمره بل بإذنه بأن يجعل لله تعالى ما جعله الله تعالى له من عمل تلك المدة.
والمفترض عامل لله تعالى بالأمر من حيث يوفيه ماله عليه بالأمر، كالأجير يعمل للمستأجر من حيث يوفيه ما له عليه من عمل في تلك المدة.
والمعين يعمل له من حيث يجعل له عمله بلا وجوب له عليه.
والبائع يسلم المبيع موفياً ما عليه.
والواهب يسلم الموهوب جاعلاً للموهوب له ماله لا موفياً ما عليه.
ولهذا سمى الله تعالى نفل الصدقة قرضاً، لأن المقرض لا يسلم ما عليه ولكن يجعل ما له للمستقرض.
ولهذا سمي خلاف الأمر فسقاً قال الله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}، وسمي عصياناً قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} قال دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا .... فلم يتبينوا الرشد إلا ضحى الغد
(1/38)
 
 
فلما عصوني كنت منهم وقد .... أرى غوايتهم وأني غير مهتد
وهل أنا إلا من غزية: إن غوت .... غويت، وإن ترشد غزية أرشد.
والفسق في عرف اللسان: اسم لفعل حرام شرعاً، وكذلك المعصية، ولو لم يجب الائتمار لم يكن خلافه حراماً، ولن النهي خلاف الأمر لغة، وبالنهي يجب أن يعدم المنهي عنه فيجب بالأمر أن يوجد المأمور به، وبالله التوفيق.
(1/39)
 
 
القول في الأمر بالفعل ماذا حكمه في التكرار؟
قال بعض العلماء: الأمر بالفعل يقتضي التكرار إلا بدليل.
وقال بعضهم: يحتمله ولا يثبت التكرار إلا بدليل.
وقال بعضهم: المطلق لا يقتضي تكراراً، ولكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره.
والصحيح: أنه لا يقتضي التكرار ولا يحتمله ولكنه يحتمل كل الفعل المأمور به وبعضه، غير ان الكل لا يثبت إلا بدليل وعليه دلت مسائل علمائنا.
فأما الذين قالوا بالتكرار؛ فإنهم احتجوا بما روي أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الحج في كل عام أو مرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل مرة، ولو قلت في كل عام لوجب، ولو وجب ثم تركتموه لضللتم" ولو لم يكن الأمر يحتمل الوجهين لما سأله الأقرع ولما احتملهما.
والتكرار من المرة يجري مجرى العموم من الخصوص فوجب القول بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص.
ولأن للفعل بعضاً وكلاً من جنسه كما للمفعول، فمطلقه يتناول كله كما في الاسم.
ثم كل الفعل لا يتأدى إلا بالتكرار فيصير التكرار مقتضاه. ولهذا قالوا- فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك! ونوى الثلاث: أن النية تصح لأنه نوى ما يحتمله لفظه من حيث العموم وبالكلية، ولو نوى ثنتين لم يصح عندنا لأنه نوى العدد ولفظه لا يحتمل عدداً، إلا أن تكون المرأة أمة فيصح لأن الثنيتين كل فعل تطليقها.
وكذلك فيمن قال لعبده: تزوج فتزوج امرأتين ونوى المولى ذلك صح. لأن ذلك كل تزوجه.
وكذلك أمر الله تعالى بالصلاة مطلقاً وتكرر به الوجوب علينا، وكذلك سائر العبادات.
فأما الحج فإنما سقط تكراره بدلالة السنة، ولن النهي عن فعل يقتضي النفي عاماً فكذا الأمر بالفعل الذي هو ضد النهي يقتضي الوجود عاماً.
(1/40)
 
 
- وأما الذين قالوا: إنه لا يقتضي التكرار إلا بدلالة فذهبوا إلى أن الأمر بالفعل لا يصح إلا بمفعول هو اسم على سبيل النكرة كقولك: صل، لا يستقيم إلا بمفعول هو صلاة، ولكنه ثبت على سبيل التنكير لأنه يثبت مقتضى بالنص لا منصوصاً عليه، والمقتضى لا يثبت إلا ضرورة، والضرورة ترتفع بالنكرة فيصير في التقدير كأنك قلت: صل صلاة، فتكون الصلاة نكرة في الإثبات فتخص كقول الله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} إلا ان يزيد القائل زيادة فتثبت لأنه يحتمل ذلك فإن المقتضى يجوز أن تكون صلاة، وكل الصلوات، ألا ترى أنه لو صرح به فقال: صل الصلوات استقام وكان بياناً.
بخلاف النهي فإنه للنفي، فإذا قلت: لا تصل فكأنك قلت: لا تصل صلاة، فتكون نكرة في النفي فيعم كقول الله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} فثبت أن التكرار لا يثبت إلا بدلالة أخرى ولهذا قلنا- فيمن قال لآخر: تصدق من مالي بدرهم-: لم يملك إلا مرة واحدة، ولأن الأمر أحد أقسام التصريف.
ومن قال دخل فلان الدار لم يفهم منه التكرار ولكن يحتمل أنه دخل مراراً، وكذلك إذا قيل: يدخل فكذلك إذا قيل له: ادخل.
فأما الذين قالوا بالتكرار في المعلق بالشرط فإنهم تمسكوا بالأوامر الشرعية المتعلقة بأوقات أو أموال في باب الزكاة، والعقوبات المتعلقة بالمعاصي فإنها متكررة بتكرر شروطها.
وأما الدليل لما قلنا، وهو أن الأمر بالفعل لا يقتضي تكراراً ولا يحتمله: فإن التكرار في اللغة: العود مرة بعد أخرى والفعل لا يحتمل العود لأنه حركات تنقضي فيكون الثاني غير الأول لا محالة، وإنما يسمى تكراراً مجازاً لعود مثل الأول، وهو في الحقيقة إعداد يحتمل كما في الأعيان، وليس في النص ما يحتمل العدد لأن قول القائل: ادخل الدار، أمر بحركات معلومة في تمامها دخول، لا عدد دخول ولهذا قلنا- فيمن قال لامرأته؛ طلقي نفسك ونوى به ثنتين-: لم يصح، لأنه نوى زيادة عن عدد التطليق. وما في نصه ما يحتمل التعدد لأن التطليق اسم للقول لا للحساب كما لو قال: اشتر لي عبداً لم يحتمل عبيداً ولا شراء بعد شراء.
وكذلك لو قال: تزوج امرأة ونوى به مرة بعد أخرى لم يصح.
وكذلك لو قال لامرأته: طلقتك، ونوى به ثنتين لم يصح لأنه نوى ما لا يحتمل لفظة.
فأما عبادات الله تعالى فإنما لزمتنا على سبيل التكرار لا بالأوامر، ولكن بتكرر علل الوجوب على ما نذكرها، وهي أسباب أخرى غير الأمر، فالأمر كان طلباً لأداء الواجب
(1/41)
 
 
بسببه كقولك لآخر: أد الثمن للشراء والنفقة للنكاح.
فإن قيل: كيف يقال أن الأمر لا يحتمل التكرار، ولو قرن به التكرار تفسيراً له لاستقام كقول القائل لآخر: طلق امرأتي! مرتين أو ثلاث مرات فكانت المرة نصباً على التفسير، ولو لم يحتمله مطلق الأمر كان الذكر تفسيراً له، وكذلك تقول: صم أبداً، أو أياماً كثيرة.
قلنا: هذا القرآن لم يصح لغة على سبيل التفسير لما يحتمله، ولكن على سبيل التغيير إلى معنى آخر ما كان يحتمل مطلقه بل يحتمل التغيير إليه، كما يصح قران الشرط بالطلاق والاستثناء بالجملة على سبيل تغيير موجبه إلى وجه آخر لا على سبيل بيان موجب المطلق منه.
فإن قول القائل: أنت طالق ثلاثاً ما كان يحتمل التأخير ولا ثنتين، ولو قال: إلى شهر إلا واحدة تأخر إلى شهر ولم يقع إلا ثنتان.
وأما النصب فليس على معنى التفسير ولكنه لقيامه مقام المصدر، وقوله: طلق امرأته ثلاث مرات أي؛ تطليقات ثلاثاً على أن النصب وإن جاز على سبيل التفسير فيجوز على بيان تغيير موجبه مطلقاً إلى موجب آخر باقتران زيادة به، ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته: أنت طالق وسكت؛ طلقت مع هذه اللفظة، ولو قال: ثلاثاً لم تطلق إلا مع قوله: ثلاثاً، فتأخر الوقوع إلى العدد، ولو كان هذا تفسيراً له لم يتغير به حكمه بل كان يتقرر، وكذلك المرات.
وأما قولنا: إنه يحتمل كل الفعل المأمور به، فلأن قول القائل لآخر: ادخل الدار! أمر بفعل الدخول وإنه يتناول كل ما يتصور منه دخولاً كما يتناول البعض.
والدخول اسم للفعل وللفعل كل وبعض من جنسه كما لغير الفعل من الأعيان وغيرها، فإنه اسم لجنس الفعل فيعتبر بأسماء أجناس الأشياء سوى الأفعال نحو الماء والطعام والناس.
ثم حكم المتعلق باسم الجنس يتعلق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم على احتمال العموم على ما نذكر في باب ألفاظ العموم، فكذلك هذا.
ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته؛ طلقي نفسك: أنها على واحدة فإن نوى ثلاثاً صح لأنه نهوى الكل وهو يحتمله وإن نوى ثنتين لم يصح لأنه نوى التكرار والعدد لا غير، إلا أن تكون المرأة أمة فيصح لأنهما كل طلاقها عندنا.
ولو قال لعبده: تزوج، لم يملك إلا امرأة ولو نوى ثنتين يصح لأنه نوى الكل لأنهما كل نكاحه، لا لأنه نوى التكرار.
(1/42)
 
 
وذكر عيسى بن أبان: أن الأمر بالفعل إذا كان له نهاية معلومة يجوز أن يقال فيه بالعموم حتى يقوم الدليل على الخصوص اعتباراً بالنص العام فيما عدا الفعل، إلا أن الرواية تخالف هذا، فإن الأمر بالطلاق لامرأته أمر بفعل معلوم كله ولم ينصرف إليه إلا بينة، والجواب عن حجته ما ذكرنا أن هذا بمنزلة أسماء الأجناس، والفرق بين اسم الجنس وغيره من العام ما نذكره بعد هذا في موضعه.
وأما إذا كان الأمر بفعل لا نهاية له معلومة، كالأمر بالصلاة والصوم، فإن المأمور به، مما لا يتناهى في نفسه، وإنما نهايته بعجز الفاعل بموته، فهذا من جنس ما لا يمكن القول فيه بعمومه، وكل لأنه ليس في وسع العبد فعل كل الصيام التي هي قربة لله تعالى، ولا فعل كل الصلاة، وإذا لم يكن بوسعه ذلك لم يخاطب بتعمبم هذا الفعل بل يصير مخاطباً بالبعض، فيصير الأمر بهذا الفعل من قبيل ما لا يمكن القول بعمومه من النصوص فيما عدا الأفعال نحو قول الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} وقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} ولما انصرف إلى البعض لم يلزمنا منه إلا ما يتيقن به إلا بدليل زائد.
وأما حديث الأقرع بن حابس فالجواب عنه: أن الأقرع إنما أشكل عليه أمر تكرره، لاعتباره الحج بالصلاة والصيام، فإنه كان عرف الصلاة متكررة وقتها، وكذلك الصوم ثم وجد الحج متعلقاً بالوقت أيضاً، فأشكل عليه أمر تكرره بتكرر وقته فسأل عنه.
ولو أجيب بنعم لصار الوقت علته وتكرر بتكرره كالصلاة، فلما أجيب بالمرة في العمر تبين له أن الوقت شرط محض لجواز الأداء كالطهارة للصلاة وأن سبب الوجوب مما لا يتكرر وهو البيت على ما نبين في باب أسباب هذه العبادات.
ولأن كينونة البيت بيت الله تعالى يجوز أن يكون علة لوجوب الحج في العمر مرة، ويجوز أن يكون علة لوجوبه كل سنة أو كل شهر ككينونة النصاب في ملك الرجل يكون علة للزكاة كل سنة، فإن البقاء في زمن آخر غير الأول فإذا كان البقاء علة جاز تكرار الوجوب بتكرار البقاء، وجاز ان لا يتكرر ترفيهاً علينا ودفعاً للحرج.
(1/43)
 
 
القول في صفة حسن المأمور به
قد ذكرنا أن الأمر لغة لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد، ومطلقه على الوجوب، فإذا كان الأمر من الله تعالى صار وجود المأمور به منا واجباً علينا لله تعالى، ولا يجوز في الحكمة أن يجب علينا إيجاده لله تعالى إلا لحسنه عند الله تعالى على الحقيقة، فغن القبيح في الحكمة: اسم لما ينبغي أن يعدم، والله تعالى هو الحكيم الذي لا سفه له فلا يأمرنا به فلا نجد بداً من معرفة صفة الحسن فيما أمرنا به، فنقول:
- إن هذه الأفعال في صفة الحسن على أقسام أربعة:
أ- ما حسن لمعنى في غيره.
ب- وما حسن لمعنى في غيره.
والذي حسن لمعنى في عينه على نوعين:
أ- ما كان المعنى في وضعه.
ب- وما كان اتصل المعنى بوضعه بواسطة حتى التحق بالواسطة القسم الأول، والذي حسن لمعنى في غيره على نوعين:
أ- ما يحصل المعنى بفعل العبادة.
ب- وما يحصل بعده بفعل مقصود له.
فصارت الأقسام أربعة:
- فأما الأول: فنحو الصلاة لأنها تتأدى بأفعال وأقوال وضعت للتعظيم في الشاهد، والتعظيم حسن في نفسه في حق المعظم إلا أن يكون في غير حينه أو حاله فيشوبه القبح لذلك المعارض، ولهذا كانت الصلاة حسنة دائمة، واستقبحت لأوقات مخصوصة وأحوال فنهينا عنها.
- وأما الثاني: فنحو الزكاة والصوم والحج، لأن الزكاة تمليك المال للفقير على سبيل الكفاية بأمر الله تعالى، ولا يتم هذا العمل عملاً لله تعالى إلا بواسطة الفقير المحتاج.
والصوم: كف النفس الشهوانية عن اقتضاء شهوة البطن والفرج بأمر الله تعالى ما يتم عملاً لله تعالى إلا بالنفس الشهوانية.
والحج: زيارة البقعة المعظمة على سبيل التعظيم بأمر الله تعالى، ما يتم عملاً لله تعالى إلا بواسطة البقعة المعظمة، غير أن احتياج الفقير إل الكفاية كان بخلق الله تعالى
(1/44)
 
 
إياه على صفة لا يبقى إلا بالكفاية، واشتهاء النفس كذلك بخلق الله تعالى.
وكذلك شرف المكان وفضله كان بخلق الله تعالى.
ولما حسنت هذه الأفعال من حيث أن في الزكاة إغناء عباد الله تعالى المحتاجين.
وفي الصوم قهر النفس التي هي عدو الله تعالى.
وفي الحج تعظيم شعائر الله تعالى وهذه الأفعال بهذه الوسائط حسنة في الشاهد لمن وقعت له، والوسائط تثبت وسائط بخلق الله تعالى فصارت حسنة من العبد للرب عزت قدرته بلا ثالث معنى.
فالوسائط لما ثبتت لله تعالى كانت مضافة إليه، ولم يبق للواسطة عبرة حكماً فصارت كأفعال الصلاة التي حسنت لأنها في نفسها تعظيم للمفعول له.
وأما الوجه الثالث: فنحو قتال الكفرة والصلاة على الميت وإقامة الحدود.
فالقتال فساد وما حسن إلا لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى وكبت أعدائه ودفع قتالهم، فحسن بواسطة العدو وإن كان عدواً بمعصية كانت منه باختياره فصارت الواسطة واسطة بسبب مضاف إلى الكافر فصار حسناً لمعنى في غير العبادة.
فالعبادة تتم بالعبد للرب تعالى فتكون الواسطة المضافة إلى غير الله تعالى غير فعل العبادة صورة ومعنى.
وكذلك إقامة الحدود إضرار وإفساد وإنما حسنت لأنها زاجر عن المعاصي فحسن بواسطة المعاصي، وإنما كان عاصياً لمعنى مضاف إليه.
والصلاة على الميت حسن عبادة شرعية بالميت فأما بدون الميت فعبث وإنما صلح بواسطة الميت لا بموته الثابت بالله تعالى. ولكن بإسلامه المضاف إلى المسلم كالكفر في الفصل الأول.
وأما الوجه الرابع: فنحو الوضوء والسعي إلى الجمعة والغسل تبرد وتطهر عادة، وإنما انقلب عبادة شرعية وعملاً لله من حيث أنه مفتاح الصلاة المشروعة لله تعالى ألا ترى أن الوضوء لا يلزم من لا صلاة عليه، وإن كان محدثاً وكذلك لا يجب قبل مجيء وقت الصلاة.
وكذلك السعي إلى الجمعة حسن لأنه سبب لإمكان إقامة الجمعة، فأما هو في نفسه فعمل مباح.
والجمعة التي هي الحسنة لا تحصل بالسعي ولا بالوضوء بل بعدهما بفعل مقصود لها، وفي الفصل الأول يحسن ما فيه الحسن من قضاء حق الميت وكبت أعداء الله تعالى وزجر العاصي بنفس الفعل.
(1/45)
 
 
ثم حكم وجوب القسمين الأولين واحد وهو أن الوجوب متى ثبت لم يسقط إلا بفعل الواجب أو اعتراض ما يسقط لعينه ولا يسقط بغيره، لأنه وجب لعينه لا لغيره فلا يسقط بغيره.
وحكم وجوب القسمين الآخرين واحد أيضاً وهو بقاء الوجوب ببقاء وجوب الغير، والسقوط بسقوط الغير حتى إذا سقطت الجمعة بسبب سقط السعي.
وكذلك الطهارة.
وكذلك حق الميت مت سقط ببغيه أو بكفره سقطت الصلاة.
وكذلك لو سقطت بقضاء الولي حقه بالصلاة عليه سقطت الصلاة عن الباقين، والناس لو أسلموا حتى علت كلمة الله تعالى وذهب القتال سقط الجهاد ما لم يحدث قتال مثله من البغاة.
ومتى لم يقض حق الميت بالصلاة بأن صلى عليه غير وليه كانت الصلاة باقية على الولي.
وكذلك شوكة الكفار متى لم تنكسر بالقتال مرة لم يسقط الفرض ووجب ثانياً لأن المعنى الذي له وجبت العبادة في ذلك الغير بمنزلة السبب الموجب فلا يبقى الحكم بدون السبب.
(1/46)
 
 
القول في مطلق الأمر ماذا موجبه في حسن المأمور به من الفعل
قال العبد رحمه الله تعالى: إني لم أقف على أقوال الناس في هذا الفصل كما وقفت على أقوالهم في حكم الأمر، فما أحد استقصى كل هذا، والذي مال إليه رأيي أن ينصرف مطلق الأمر إلى القسم الأول دون الثاني، ويحتمل القسم الثاني لأن الحسن إنما يثبت صفة للفعل المأمور به مقتضى حكمة الأمر لا موجباً للأمر لغة، لما ذكرنا إن اللغة لا تفصل بين الحسن والقبيح من الأفعال بل لكل فعل أمر موضوع منه لغة، ولما كان طريق ثبوته مقتضى الحكمة ثبت أدنى ما يرتفع به الضرورة على ما يأتيك البيان في باب المقتضى. والأدنى يتأدى بحسن في غيره، فلا يثبت الحسن في نفسه إلا بدلالة زائدة.
ولكن القول الأول أصوب لأن الكلام في الأوامر بأفعال هي لله تعالى عبادة، وإذا كان المر استعباداً في نفسه صار صفة العبادة للفعل ثابتة لغة لا اقتضاءً، فقول الله تعالى: {أقيموا الصلاة} واعبدوني بها واحد فهو اسم وضع للعبادة، وكذلك الصوم إلا أنها عرفت لغة باستعارة لسان الشرع، ولسان الشرع لسان العرب، ولما وجب إثبات صفة العبادة للفعل لغة لا اقتضاء وجب إثبات صفة العبادة للفعل نفسه لا لغيره، حتى لا يصير مجازاً، ولما وجب هذا تبع صفة الحسن صفة العبادة، وكذلك شرع الله تعالى بيان للأحسن.
(1/47)
 
 
القول في الأمر بفعل واجب، ماذا حكمه في ضده؟
قال بعضهم: الأمر بفعل واجب لا حكم له في ضده.
وقال بعضهم: يقتضي نهياً في ضده، وإليه ذهب أبو بكر الجصاص.
وقال بعضهم: يدل على كراهة ضده.
وقال بعضهم: يقتضي كراهة ضده، وهو المختار عندنا.
فأما الأولون: فذهبوا إلى أن ضده مسكوت عنه فيبقى على ما كان عليه قبل الأمر، كالمعلق بشرط لا يقتضي نفياً عند عدم الشرط لأنه مسكوت عنه فيبقى على ما كان عليه قبل التعليق. قالوا: والعبد يأثم إذا لم يأتمر بترك الواجب لا بارتكاب الضد.
وأما أبو بكر الجصاص فقد ذكر في "أصوله" أن الأمر المطلق على الفور، لأن الأمر اقتضى نهياً عن ضده، والنهي عن مطلق الفعل يوجب موجبه على الفور، فكأنه ذهب إلى أن الفعل إذا وجب الإتيان به حرم تركه ضرورة واقتضاء، والحرمة حكم النهي فيثبت النهي عن ضده اقتضاء.
وأما الثالث فوجهه: أن وجوب الفعل يدل على حرمة الترك ضرورة، كما قاله أبو بكر إلا أن الحرمة التي تثبت ضرورة لا تكون كالتي تثبت بالنص عليها بالتحريم او النهي.
لأن الثابت بالنص يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة.
والثابت بالضرورة يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة.
والضرورة ترتفع بكون ضده مكروهاً لقبح في غيره، وإن كان في نفسه حسناً كالصلاة في أرض مغصوبة، إلا أنا نقول ان الثابت بهذا الطريق يكون بالاقتضاء دون الدلالة.
فإن النص يدل على مثل المنصوص عليه كتحريم التأفيف يدل على تحريم الشتم لوجود ذلك الأذى فيه وزيادة.
فالدلالة أخت الإيجاب، فكما لا يوجب النص ضد الحكم المنصوص عليه لا يدل عليه، ولكن ثبوت الضد يقتضي نفي ضده كالليل مع النهار، وكذلك في الحكام إذا
(1/48)
 
 
وجب فعل في وقت لا بد أن يحرم تركه اقتضاءً فيحرم ضده لما فيه من ترك المأمور به الواجب، فكان لمعنى في غيره فلا يوجب الفساد بخلاف النهي.
فأما الجواب عن القول الأول: ما ذكرنا ان الكراهة تثبت بمقتضى النص لا بالنص، والمقتضى أبداً إنما يثبت حيث لا نص ما له حد غير هذا، وليس هذا كالمعلق بالشرط فإن تعليق الحكم بالشرط لإيجاد الحكم ابتداء عند الشرط، ولما كان ابتداء الوجود عنده لم يقتض هذا نفياً قبله لأن النفي لا يتصور ابتداء الوجود عند الشرط أن يكون عدماً قبل الشرط، ولما لم يكن موجوداً من الأصل لا يتعلق عدمه بمعدم فلذلك قلنا غنه يقتضي عدماً من حيث عدم دليل الوجود، لا عدماً بدليل نافٍ.
وأما الإيجاب فيقتضي حرمة ترك الواجب ضرورة، وكان حلالاً قبل الإيجاب فلذلك أضفنا ثبوتها إلى الأمر.
ثم قول أبي بكر أن الأمر المطلق على الفور لأنه نهي عن ضده دعوى، والرواية في الأصول في الأمر المطلق بخلاف ما قاله أبو بكر الجصاص على ما نذكره.
وكذلك النهي فإن النهي إنما يكون على الفور إذا كان مما يستغرق انتهاء العمر، فأما ما لا يستغرق انتهاء العمر فلا، فإنا نهينا عن ترك فرض الصلاة وقت الظهر ويباح الترك لأول الوقت لأن فعل الصلاة مما لا يعم ولا يستغرق الوقت فالانتهاء عن النهي بفعل الصلاة مما لا يستغرق الوقت فلا يجب البدار إلى الانتهاء على الفور، والذي يدل عليه أنا متى جعلناه نهياً عن ضده نصاً أو دلالة فقد جعلنا ضده حراماً لمعنى يرجع إليه كما في مطلق النهي، وإنه ما حرم إلا لمعنى في غيره وهو من حيث المأمور به وبينهما فرق على ما مر، والله أعلم.
 
القول في النهي ماذا حكمه؟
قال العبد- رحمه الله-: إني لم أقف على الأقوال في حكمه على الاستقصاء من السلف، كما وقفت على حكم الأمر. ولكنه ضد المر لغة فيحتمل أن يكون للناس فيه أقوال أربعة على حسب أقوالهم في الأمر.
فمن وقف في الأمر فليجب مثله في النهي.
ومن قال بالندب في الأمر فكذا يجب في النهي أن يقول بندب على ضده.
ومن قال بالإباحة فيه قال بإباحة الانتهاء هنا.
ومن قال بالوجوب، ثم قال بوجوب الانتهاء هنا وعليه جمهور العلماء.
ويحتمل ان لا يكون على الاختلاف لأن القول به يؤدي إلى أن يصير موجب الأمر
(1/49)
 
 
والنهي واحداً وهو الوقف، وهذا لا سبيل إليه لأن الضدين يختلف أثرهما كالإحياء والإماتة والتحريك والتسكين والله أعلم.
 
فصل: الأقوال في تكرار الانتهاء
وأما الأقوال في تكرار الانتهاء فلا يتصور لأن الانتهاء بالنهي مما يستغرق العمر إن كان مطلقاً لأنه لا انتهاء إلا بانعدام المنهي عنه من قبله، ولا يتم الانعدام من قبله إلا بالموت عليه قبل الفعل، فلا يتصوره تكراره، بخلاف الأمر بالفعل لأن الأمر بالفعل المسمى له حد يعرف وجوده بحده ثم يتصور التكرار بعده، إلا ترى ان من حلف لا يدخل الدار لم يبر إلا بالموت قبل الدخول، ولو حلف ليدخلن الدار فدخل ساعتئذ بر في يمينه وإن ترك بعد ذلك وتصور منه بعده دخول آخر.
 
فصل في بيان علة وجوب الانتهاء:
اعلم بأن الشرع لا ينهى عن فعل غلا لقبحه كما لا يأمر به حقاً لله تعالى إلا لحسنه، فالقبيح: اسم لما ينبغي أن يعدم في الحكمة بخلاف الحسن، وقد ذكرنا ان النهي لغة لبيان أنه مما ينبغي ان يعدم على خلاف الأمر، فدل النهي على قبح المنهي عنه كما دل الأمر على حسن المأمور به تحقيقاً للمخالفة.
فإن قال قائل: فهلا قيل إن النهي ورد لحسن الانتهاء كما قيل في الأمر أنه ورد لحسن الائتمار؟
قلنا: لأن المطلوب بالأمر فعل، والفعل حادث يكون من العبد، فالصفة التي لأجلها صح الأمر لا بد أن تثبت لذلك الحادث.
فأما المطلوب من النهي أن لا يوجد المنهي عنه من قبل العبد ويبقى عدماً كذلك، والعدم الأصلي لا يكون بعلة ولا مضافاً غلى العبد حقيقة فلا يصح النهي لحسن الانتهاء فإنه ضرب فعل من العبد، وفعل العبد غير مطلوب بالنهي، بل المطلوب أن لا يوجد من قبله ذلك الفعل، وأن لا يوجد المعدوم ولا يتعلق بسبب موجب للعدم بل بانعدام أسباب الوجود فوجب ضرورة أن يقال: إن النهي صح لقبح الفعل المنهي عنه على خلاف الأمر، فإنه لحسن الفعل المأمور به يصير الفعل المسمى بالأمر مما ينبغي أن يوجد، وبالنهي مما ينبغي أن يعدم، ولهذا يصير العبد منتهياً بالنهي أولى إذا لم يوجد منه فعل المنهي عنه، ولو كان الانتهاء مطلوباً به حقاً لله تعالى لما أمرنا بالصوم وتأدية بالترك لم يكن الترك صوماً لله تعالى إلا على وجه يضاف وجوده إلى العبد بحق الأمر من الله تعالى من قصد لما فيه من منع نفسه عن اقتضاء الشهوات، وغنه ضرب فعل لأنه يثبت بالأمر ولا
(1/50)
 
 
يتصور إلا بفعل يوجده وهذا كما قالوا- فيمن حلف وقال لامرأته: إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق، ثم قال: لا أشأ- لم تطلق حتى يموت لأنه علق بعدم المشيئة لا بفعل سماه والعدم لا يتحقق إلا بالموت.
ولو قال: إن أبيت طلاقك فأنت طالق حنث إذا قال أبيت طلاقك لأن الإباء اسم لضرب فعل كالصوم وله حد يعقل فثبت ان الواجب بالنهي أن لا يوجد الفعل المنهي عنه من قبله، فغن دعته نفسه إلى فعل المنهي عنه فعليه الآن أن يمنع نفسه عن ذلك بالرد عليه وينتهي عنه ولا يطيعه ضرورة أنه إن لم ينته وجد منه ما نهي عنه فصار مرتكباً للنهي فيصير الانتهاء حسناً الآن مقتضى الفرار عن ارتكاب النهي لا لنفسه فيصير من قبيل الأمر الذي حسن لغير المأمور به، فلا يلزمه غلا بقدر ما يتعلق به حصول المقصود وبقدر ما يتعلق به المقصود يلزمه لله تعالى فيكون عبادة فإنها اسم لفعل يأتي به العبد تعظيماً لربه.
(1/51)
 
 
القول في صفة قبح المنهي عنه وحكمه
النهي على أربعة أقسام في هذا الباب، كالأمر في حق الحسن.
- منه ما ورد لقبح الفعل المنهي عنه في عينه.
- ومنه ما ورد لقبح في غيره.
- والذي قبح في عينه نوعان:
- ما قبح وضعاً.
- وما التحق به شرعاً.
والذي قبح لغيره نوعان:
- ما صار القبح مهم وصفاً.
- وما جاوره جمعاً.
- أما الأول: فكالسفه والعبث، فواضع اللغة وضع الاسمين لفعلين عرفهما قبيح في ذاتهما عقلاً.
- وأما الثاني: فكالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين، والصلاة بغير وضوء، فالبيع في نفسه مما يتعلق به المصالح ولكن الشرع لما قصر محله على مال متقوم حال العقد، والماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال صار بيعه عبثاً لحلوله في غير محله كضرب الميت وقتل الموات وأكل ما لا يتغذى به.
وكذلك الشرع قصر اهلية العبد لأداء الصلاة على حال طهارته عن الحدث فصار فعل صلاته مع الحدث عبثاً لخروجه من غير أهله، نحو كلام المجنون والطائر فالتحقا بالقبيح وضعاً بواسطة عدم الأهلية والمحلية شرعاً.
- وأما الثالث: فنحو البيع بشرط فاسد، وبيع الدرهم بالدرهمين فالنهي ورد بمعنى الشرط والشرط غير البيع، وبيع الربا منهي عنه لعدم شرط المماثلة الذي علق الجواز به فالمماثلة شرط زائد على البيع فتمامه بوجوده من أهله في محله والمحل قائم شرعاً مع المفاضلة فإنهما مالان متقومان.
وأما الرابع: فنحو البيع وقت النداء يوم الجمعة، والصلاة في أرض مغصوبة، والنهي ورد لمعنى الاشتغال بالبيع عن السعي إلى الجمعة، وبين الاشتغال والبيع مجاورة فما هو من البيع في شيء، والنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة جاء لمعنى الغصب، وما هو من الصلاة في شيء فغصب الأرض في شغلها بنفسه لا بصلاته.
(1/52)
 
 
وحكم القسمين الولين أنهما حرامان غير مشروعين أصلاً لأن القبح صار صفة لعينه، والقبيح لعينه لا يجوز أن يكون مشروعاً، فالشرع ما جاء إلا لشرع ما هو حسن ورفع ما هو قبيح.
وحكم القسمين الآخرين: أنهما دليلان على كون المنهي عنهما مشروعين لأن القبح ثابت في غير المنهي عنه فلم يوجب دفع المنهي عنه بسبب القبح والقبح في غيره.
وهذا مذهب علمائنا رحمهم الله تعالى على ما نبينه في الباب الذي يليه.
قال الشافعي رحمه الله: النهي على أقسام ثلاثة، فالقسم الثالث الذي ذكرناه من جملة ما قبح لمعنى في عينه شرعاً، والله أعلم.
(1/53)
 
 
القول في النهي المطلق ماذا حكمه؟ وإلى أي قسم ينصرف؟
قال علماؤنا: مطلق النهي عن الأفعال التي تتحقق حساً ينصرف إلى القسم الأول.
وعن التصرفات والأفعال التي تتحقق شرعاً نحو العقود والعبادات ينصرف القسم الثالث إلا بدليل.
وقال الشافعي رحمه الله: النهي في البابين يدل على قبحه لمعنى في عينه، ويكون نسخاً لما كان مشروعاً إلا بدليل.
ويحتمل أن يقال ينصرف إلى القسم الرابع بلا تفصيل.
ويحتمل الانصراف إلى القسم الأول غير أني لم أقف على هذين القولين الاخرين من السلف.
وإنما قلنا يحتمل لأن النهي للمنع عن الفعل والقبح يثبت ضرورة ومقتضى فيثبت الأدنى وذلك في القسم الرابع كما قلنا مثله في المر في صفة الحسن.
ويحتمل أن يقال: إن النهي عن الفعل تقبيح كالأمر تحسين فيثبت الأكمل كما في الأمر.
والحجة للشافعي أن النهي ضد الأمر فلما كان الأمر شرعاً للمأمور به كان النهي رفعاً للمنهي عنه إلا بدليل.
ولن الأمر شرعاً لتحسين المأمور به في نفسه إلا بدليل فكذلك النهي يكون لتقبيحه في نفسه.
وكذلك التحريم والإحلال متضادان فيرتفع بأحدهما الآخر.
ولأن الشرع ابتلاء من الله إيانا بما أمر ونهى وأحل وحرم بأصل الحكم، ثم الفعل بناء عليه فيتعين بهما أصل الحكم ثم الأداء ألا ترى أن الشرع نهانا عن الصلاة محدثاً، وعن نكاح المعتدة وبغير شهود، فلم يبق المنهي عنه مشروعاً، وغن كان النهي ورد لدخول زيادة أو لفقد شرط زائد على أصل الاسم.
ولأن أدنى درجات المشروع ان يكون مباحاً في نفسه، ثم مندوباً إلى فعله، ثم واجباً، ثم فرضاً.
والربا حرام في نفسه فلم يجز أن يكون مشروعاً لأن الله تعالى كما قال: {وحرم عليكم الربا} قال: {حرمت عليكم أمهاتكم} ثم لم يبق نكاح الأم مشروعاً بتحريم مضاف إلى الأم فلأن لا يبقى الربا مشروعاً والتحريم مضافاً إليه أولى.
(1/54)
 
 
ولا يلزمنا قولنا: أن الظهار حرام وأنه سبب مشروع لإيجاب الكفارة، لأن الكفارة تجب جزاء على ارتكاب حرام في الأصل زجراً كالحدود فلا تكون أسبابها مشروعة، ولا حسنة، فأسبابها في الحقيقة المعاصي التي هي غير مشروعة.
ولا يلزمنا قولنا: إن طلاق الحائض مشروع وقد نهينا عنه لأن الطلاق مشروع بسبب ملك النكاح، والحيض صفة المرأة غير موجب خللاً في ملك النكاح، والنهي جاء لأجلها فكان لمعنى في غير المنهي عنه غير متصل به إلا على سبيل الوجود معه فكان من القسم الرابع.
ولا يلزم استيلاد الرجل امة بينه وبين شريكه فإنه سبب مشروع للنسب وتملك نصيب الشريك وأنه حرام، لأن سبب النسب وطؤه ملك نفسه والحرمة لملك الشريك وانه مجاور لملكه لا أن يكون وصفاً له، وإنما تملك نصيب الآخر لصحة النسب ولا حرمة فيه، وإنما الحرمة في وطئه نصيب الشريك.
و