تيسير التحرير 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: تيسير التحرير
المؤلف: محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير بادشاه الحنفي (المتوفى: 972هـ)
عدد الأجزاء: 4 × 2
 
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(وَبِهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ اْلإِعَانَةُ)
سُبْحَانَ من نور الْعقل بنوره، ورتب أَحْكَام الْوُجُود قبل ظُهُوره، وَأظْهر بِحِكْمَتِهِ الْفُرُوع من الْأُصُول، وأوضح بكتابه الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول، فسر بمحكمه مَا تشابه على الْأَنَام، ونفع بِظَاهِرِهِ الْخَاص وَالْعَام، مَفْهُومه مَنْطُوق أسفار جَامِعَة، وإشارته من سوق الْعبارَة لامعة، وَبَين مجمله الرَّسُول الْأمين، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، نَبِي أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم، فقبس مِنْهُ الْعلم كل من علم، أخْبرت الْأَنْبِيَاء عَن أَوْصَاف حَقِيقَته، وأجمعت الْعُقُول على اسْتِحْسَان شَرِيعَته، تَوَاتر فِي الْأَعْصَار حسن خصاله، فيا قبح من يخفاه صدق مقاله، عجز الْقيَاس عَن وصف كَمَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله. (أما بعد) فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة الله " مُحَمَّد أَمِين " الشهير بأمير بادشاه الْحُسَيْنِي نسبا، الْحَنَفِيّ مذهبا، الْخُرَاسَانِي مولدا، البُخَارِيّ منشأ، الْمَكِّيّ موطنا: أَن الْعلم حَيَاة النَّفس وكمالها، وصفوته أَن تعرف مَا عَلَيْهَا وَمَا لَهَا، وَهِي ملكة لَا تحصل إِلَّا بأصولها، فَوَجَبَ معرفَة الْأُصُول قبل وصولها.
وَقد اشْتهر فِي الْآفَاق، بِمُوجب الِاسْتِحْقَاق، مُخْتَصر الإِمَام المدقق، والعلامة الْمُحَقق، ذِي الرَّأْي الثاقب، الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب، وَشَرحه للعلامة الْمُحَقق، والتحرير المدقق، عضد الْملَّة وَالدّين، أَعلَى الله درجتهما فِي عليين، وحاشيته للمحقق الثَّانِي، الْعَلامَة التَّفْتَازَانِيّ، أستاذ المخلصين، وخلاصة الْمُتَأَخِّرين، شكر الله بره، وَقدس سره، وَكتاب التَّنْقِيح، مَعَ شَرحه التَّوْضِيح، للْإِمَام الْمُحَقق، وَالْبَحْر المدقق، صدر الشَّرِيعَة وَالْإِسْلَام، أَعلَى الله دَرَجَته فِي دَار السَّلَام، وحاشيته الْمُسَمّى بالتلويح، ناهيك بِهِ فَإِنَّهُ غَنِي عَن المديح.
وَكنت أَقُول: إِن الْعلم انْتهى إِلَيْهِم، وَلَا يطْلب التَّحْقِيق إِلَّا لديهم، إِلَى أَن ظَفرت بمتن بسيط، وبحر مُحِيط بِمَا فِي الْكتب المزبورة، وَغَيرهَا من المؤلفات الْمَشْهُورَة، مَعَ تحقيقات خص بهَا عَن غَيره، فَللَّه در مُصَنفه، وَكَثْرَة خَيره، أبطاله التحقيقات من ذكر غير مَحْصُور، وَدفعهَا غَايَة المرام وَهُوَ غير مَقْدُور، من سلك مَعَه مَسْلَك الْإِنْصَاف، وتجنب عَن التعصب والاعتساف، علم أَن يَدُور مَعَ الْحق أَيْنَمَا دَار، ويسير مَعَ الصَّوَاب حَيْثُمَا سَار، غير أَنه أفرط
(1/2)
 
 
فِيهِ من الإيجاز، فكاد أَن يُجَاوز التعمية وَيلْحق بالألغاز، مسالكه من الوعورة تقصر عَنْهَا الْخَطَأ، تهَامَة فيح يحار فِيهَا القطا، فَصَارَ بذلك محجوبا عَن الْأَبْصَار، وَإِن اشْتهر عنوانه بمعظم الْأَمْصَار، تصدى لشرحه بعض من حضر دراسته، وَلم يكن فَارس ميدان فراسته، فَبَقيت مخدراته عذارى فِي خدورها، وَلم تجل عرائسه بمنصة ظُهُورهَا، لكنه لم يقصر فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من النَّقْل، وَقد ينْقل عَن المُصَنّف مَا يقبله الْعقل، ويحكى أَنه عرض عَلَيْهِ كِتَابه، وَسمع بعد الْعرض جَوَابه.
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا ... شتان بَين مشرق ومغرب)
 
تغمده الله بغفرانه، وَأدْخلهُ فِي جنانه، فَلَمَّا علمت أَنه مجمع الدقائق، ومعدن الْحَقَائِق، وَفِيه بغية المرتحلين هَذِه الأوطان، لطلب مزِيد الْعلم وَكَمَال الْعرْفَان، عرفت أَن شَرحه من أهم المطالب، والكشف عَنهُ من أعظم المآرب، وأنفت همتي عَن التقاعد عَنهُ تعسيرا، فَنَهَضت وشمرت عَن سَاق الْجد تشميرا، مستعينا بجوار بَيت الله الْكَرِيم زَاده الله من التشريف والتعظيم، فَدخلت بادية لم تسلكها سابلة لتقتفي آثَارهم، وَلم يرد مناهلها وَارِدَة ليتبع أخبارهم، فصرفت خِيَار عمري فِي حل مشكلاته، وبذلت كَمَال جهدي فِي فتح مغلقاته، وبالغت فِي التَّنْقِيح والتوضيح، واكتفيت فِيمَا يتَبَادَر بالتلويح، واقتصدت بَين الإيجاز والإطناب، احْتِرَازًا عَن الإملال والإسهاب، وكررت فِيهِ من التَّغْيِير والتبديل، لإِصْلَاح الْخلَل وَقصد التسهيل. فَكَانَ ذَلِك عِنْد المذاكرة والمدارسة، بِمحضر جمع من الحذاق فِي المباحثة والممارسة. فتم بِحَمْد الله مَا كَانَ منيتي بمنة رَبِّي، لَا بحولي وقوتي، فَأصْبح قريب التَّنَاوُل بعد أَن لم تَجِد إِلَيْهِ سَبِيلا، وَصَارَ كجنة أينعت ثمارها، وذللت قطوفها تذليلا، وَحَيْثُ يسر بِهَذَا الشَّرْح ذَلِك الْمَتْن العسير. دعتني هَذِه الْمُنَاسبَة أَن أُسَمِّيهِ " تيسير التَّحْرِير " وأسأل الله تَعَالَى أَن يرزقه الإقبال، ويوفق لمطالعته المستعدين من أهل الْكَمَال.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة، مُجْتَهد دهره، ومحقق عصره، شيخ الْإِسْلَام، ومفتي الْأَنَام، مُفِيد الطالبين، قطب العارفين.
(يَقُول العَبْد الْفَقِير مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن عبد الحميد، الإسكندري مولدا، السيواسي منتسبا، الشهير بِابْن همام الدّين: غفر الله ذنُوبه، وَستر عيوبه) وَالِده الْعَلامَة: كَانَ قَاضِي سيواس من بِلَاد الرّوم وَمن بَيت الْعلم وَالْقَضَاء، قدم الْقَاهِرَة وَولي خلَافَة الحكم بهَا عَن القَاضِي بدر الدّين لحنفي بهَا، ثمَّ ولي الْقَضَاء بالإسكندرية، وَتزَوج بهَا بنت القَاضِي الْمَالِكِي يَوْمئِذٍ، فَولدت لَهُ المُصَنّف، ومدحه الشَّيْخ بدر الدّين الدماميني بقصيدة بليغة يشْهد لَهُ فِيهَا بعلو الْمرتبَة فِي الْعلم،
(1/3)
 
 
وَحسن السِّيرَة فِي الحكم، ثمَّ رغب عَنْهَا وَرجع إِلَى الْقَاهِرَة فَأَقَامَ بهَا مشتغلا بكليته فِي الْعلم إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى، كَذَا نَقله شَارِح هَذَا الْكتاب عَن المُصَنّف، وَهُوَ مِمَّن قَرَأَ عَلَيْهِ، " وَقَوله مولدا ومنتسبا " تَمْيِيز عَن نِسْبَة الصّفة إِلَى ضمير الْمَوْصُوف يَعْنِي مَنْسُوبا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة من حَيْثُ الْولادَة وَإِلَى السيواس من حَيْثُ الانتساب والمولد، والمنتسب بِفَتْح السِّين مصدر ميمي وانتسابه إِلَى السيواس إِمَّا بِاعْتِبَار نِسْبَة آبَائِهِ إِلَيْهِ، أَو بِاعْتِبَار أَن النَّاس كَانُوا ينسبونه إِلَيْهِ (الْحَمد لله) إِخْبَار صِيغَة إنْشَاء معنى كصيغ الْعُقُود، وَلَا مَحْذُور فِي عدم محموديته فِي الْأَزَل بِمَا أنشأه الْعباد من المحامد، وَإِنَّمَا الْمَحْذُور عدم اتصافه بِمَا يحمدونه بِهِ من الكمالات، وَهُوَ غير لَازم، وَالله اسْم للذات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد، وَالصَّحِيح أَنه عَرَبِيّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، لَا عبراني أَو سرياني كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو زيد، وَقيل أَنه صفة، وَالْجُمْهُور على أَنه علم مرتجل من غير اعْتِبَار أصل أَخذ مِنْهُ: مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَالشَّافِعِيّ رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِم والخليل والزجاج وَابْن كيسَان والحليمي وَالْغَزالِيّ والخطابي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وروى هِشَام عَن مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَنه اسْم الله الْأَعْظَم، وَبِه قَالَ الطَّحَاوِيّ وَكثير (الَّذِي أنشأ) أَي أوجد ابْتِدَاء (هَذَا الْعَالم) اسْم لكل مَا سوى الله، إِمَّا مُشْتَقّ من الْعلم فإطلاقه على غير الثقلَيْن وَالْمَلَائِكَة تَغْلِيب، وَإِمَّا من الْعَلامَة فَإِن فَاعِلا يسْتَعْمل فِي الْآلَة كثيرا كالطابع والخاتم، فَإِنَّهُ كالآلة فِي الدّلَالَة على صانعه، وَفِي كلمة هَذَا إِشَارَة إِلَى قرب مَا يسْتَدلّ بِهِ على وجود الصَّانِع من ذَوي الْأَبْصَار فَلَا تغفل عَنهُ (البديع) أَي المخترع، فَقَوله (بِلَا مِثَال سَابق) تَصْرِيح بِمَا علم ضمنا، أَو الْغَايَة فِي الْكَمَال فَهُوَ تأسيس، وَقيل الْإِنْشَاء والإبداع إِيجَاد الشَّيْء بِلَا سبق مَادَّة وزمان وَلَا وَاسِطَة آلَة، فيقابل التكوين لمسبوقيته بالمادة، والأحداث لكَونه مَسْبُوقا بِالزَّمَانِ، ورد بقوله تَعَالَى - {وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة} - و - {ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة} -، وَفِيه نظر لجَوَاز التَّجْرِيد عِنْد الْقَرِينَة (وأنار) أَي أظهر وأوضح (لأبصار الْعُقَلَاء) جمع بصر، وَهُوَ حاسة النّظر وَفِي بعض النّسخ لبصائر، وَهُوَ جمع بَصِيرَة، وَهِي للنَّفس كالبصر للبدن (طرق دلَالَته) وَلَا يخفى مَا فِيهِ من براعة الاستهلال، لِأَن الْأُصُول يبْحَث عَن طرق دلَالَة الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة (على وجوده وَتَمام قدرته) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن من لم يَتَّضِح لَهُ الطّرق لَيْسَ من الْعُقَلَاء فَإِن قلت وُجُوه الِاسْتِدْلَال لَيست مِمَّا يدْرك بالأبصار، فَمَا معنى إنارته لَهَا؟ قلت الإنارة للعقول حَقِيقَة لَكِنَّهَا لما كَانَت بِوَاسِطَة اسْتِعْمَال الْبَصَر غَالِبا نَسَبهَا إِلَيْهَا (فَهُوَ إِلَى الْعلم) أَي الله تَعَالَى أَو الْعَالم (بذلك) الْإِنْشَاء والتنوير (سائق) جعل خلق الْعَالم مَعَ إِيضَاح طرق دلَالَته بِمَنْزِلَة السُّوق تَنْبِيها على أَن الْإِنْسَان كالمضطر فِي الاهتداء إِلَى ذَلِك كالحيوان المسوق إِلَى جِهَة أُرِيد
(1/4)
 
 
سوقه إِلَيْهَا، ويناسب هَذَا قَوْله (دفع) أَي ألجأ الْمَدْفُوع إِلَيْهِ (نظامه) أَي حسن تَرْتِيب الْعَالم على الْوَجْه الْمشَاهد (المستقر) أَي الثَّابِت على أتم وُجُوه الانتظام من غير اختلال وَلَا انخرام (إِلَى الْقطع) أَي الْعلم الْقطعِي مُتَعَلق بِالدفع (بوحدانيته) لِأَنَّهُ - {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} - (كَمَا أوجب توالي نعمائه تَعَالَى المستمر) أَي تتابعها الدَّائِم على عَامَّة الْخلق، والنعماء بِالْفَتْح ممدودة بِمَعْنى النِّعْمَة (الْعلم برحمانيته) لِأَن الرَّحْمَن هُوَ الْمُنعم الْحَقِيقِيّ الْبَالِغ فِي الرَّحْمَة غايتها بِأَن يسع كل شَيْء تفضلا من غير انْقِطَاع الْمعْصِيَة وَغَيرهَا، وَفِيمَا ذكر إِشَارَة إِلَى مُعظم مَقَاصِد علم أصُول الدّين الْمُقدم على علم أصُول الْفِقْه من إِثْبَات الْوَاجِب وَقدرته وإيجاده إِلَى غير ذَلِك (وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد) . قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: أجمع الْأَقْوَال الشارحة للرسالة الإلهية أَنَّهَا سفارة بَين الْحق والخلق تنبه أولي الْأَلْبَاب على مَا تقصر عَنهُ عُقُولهمْ من صِفَات معبودهم ومعادهم، ومصالح دينهم ودنياهم، ومستحثات تهديهم، ودوافع شبه ترديهم. قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي المسايرة: وَأما على مَا ذكره الْمُحَقِّقُونَ: من أَن النَّبِي: إِنْسَان بَعثه الله لتبليغ مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وَكَذَا الرَّسُول فَلَا فرق انْتهى، وَمِمَّا قيل فِي الْفرق: أَن الرَّسُول مَأْمُور بالإنذار، وَيَأْتِي بشرع مُسْتَأْنف، وَلَا كَذَلِك النَّبِي، وَإِن أمره بالتبليغ، وَيَأْتِي الْوَحْي الرَّسُول من جَمِيع وجوهه، وَالنَّبِيّ من بَعْضهَا، وَإِنَّمَا سمي بِمُحَمد لِأَنَّهُ مَحْمُود عِنْد الله وَعند أهل السَّمَاء وَالْأَرْض، وَهُوَ أَكثر النَّاس حمدا إِلَى غير ذَلِك.
(وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد)
 
(أفضل من عَبده من عباده) فِيهِ إِشَارَة إِلَى تَفْضِيل الْبشر على الْملك، وَمن تبعيضية لِأَن الْعباد: وهم المماليك يعم من عبد وَمن لم يعبد، وَالْعِبَادَة الطَّاعَة (وَأقوى من ألزم أوامره) بالمعجزات الباهرة والحجج الظَّاهِرَة: وَهُوَ كالدليل على أفضليته. قَالَ تَعَالَى - {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} - الْآيَة وَإِنَّمَا قدم الْوَصْف الأول لكَونه موصلا إِلَى الثَّانِي وَاكْتفى بِذكر الْأَوَامِر، لِأَن إِلْزَامه أصعب، فَإِن الْفِعْل أشق على النَّفس من التّرْك مَعَ أَنه يفهم بِقَرِينَة التقابل، وَترك الْمنْهِي عَنهُ مَأْمُور بِهِ (وَنشر) أَي فرق أَو بسط (ألوية شرائعه) جمع لِوَاء بِالْمدِّ، وَهُوَ الْعلم، أَو شَرِيعَة، وَهُوَ مَا شرع الله لِعِبَادِهِ، شبه الشَّرَائِع بالألوية لكَونهَا عَلامَة الْملك وأضافها، فَيكون التَّشْبِيه أبلغ كَمَا فِي لجين المَاء (فِي بِلَاده حَتَّى افترت) الْبِلَاد: أَي سكنت بعد حِدة، ولانت بعد شدَّة (ضاحكة) حَال من ضمير افترت (عَن جذل) بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة أَي عَن فَرح وابتهاج، شبه بِاعْتِبَار كَثْرَة أَفْرَاده بالأسنان الْبَادِيَة حَال الضحك فِي الظُّهُور عِنْد الانبساط، وَعَن مُتَعَلقَة بِضَاحِكَةٍ لتَضَمّنه معنى الْكَشْف، وَيجوز أَن يُرَاد كَون الضحك ناشئا
(1/5)
 
 
عَن الْفَرح (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان) مُتَعَلق بجذل، فَإِنَّهُمَا يوجبانه (بعد طول انتحابها) أَي بكائها أَشد الْبكاء (على انبساط بهجة الْإِيمَان) أَي حسنه، الْجَار مُتَعَلق بالضحك، فَإِن بِنَاء الضحك على الانبساط وَهُوَ ضد الانقباض، أَو بالانتحاب على أَن يكون مبكيا عَلَيْهِ، شبه الْبِلَاد بِمن يَتَّصِف بالفرح تَارَة والحزن أُخْرَى تَشْبِيها مضمرا، وَأثبت لَهَا من لوازمه الضحك والبكاء تخييلا (وَلَقَد كَانَت) الْبِلَاد (كَمَا قيل:
(فَكَأَن وَجه الأَرْض خد متيم ... وصلت سجام دُمُوعه بسجام)
الخد مَعْرُوف، والمتيم العاشق، من تيمه الْحبّ إِذا ذلله، يُقَال سجم الدمع سجوما وسجاما إِذا سَالَ، وَالْمرَاد من وُصُول السجام بالسجام تواترها وتتابعها (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله الْكِرَام، وَأَصْحَابه الَّذين هم مصابيح الظلام، وَسلم تَسْلِيمًا " وَبعد " فَإِنِّي لما أَن صرفت طَائِفَة من الْعُمر للنَّظَر فِي طريقي الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة فِي الْأُصُول) لما كَانَ علم الْأُصُول يتَوَصَّل بِهِ إِلَى كَيْفيَّة استنباط الْأَحْكَام سمي طَرِيقا، وَاخْتلفت الآراء فِي قَوَاعِده فَصَارَ طرقا، وَلم يقل أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله لاشتمال الطَّرِيقَيْنِ مَا ذَهَبا إِلَيْهِ وَمَا ذهب إِلَيْهِ أصحابهما، وَيجوز أَن يُرَاد أسلوباهما فِيهِ. وظرفية الْأُصُول لَهما ظرفية الْكل للجزء، أَو الْكُلِّي للجزئي (خطر لي أَن أكتب كتابا مفصحا) أَي كاشفا يزِيل الخفاء (عَن الاصطلاحين) هُوَ اتِّفَاق طَائِفَة على وضع لفظ لِمَعْنى، والتثنية بِاعْتِبَار النَّوْعَيْنِ لَا الفردين، وَلَا يلْزم اخْتِلَافهمَا فِي كل فَرد، بل يَكْفِي بِاعْتِبَار الْمَجْمُوع وَلَا ينْحَصر الْكتاب فِي بَيَان الاصطلاحيات، لَكِنَّهَا الْعُمْدَة فِيهِ فَاكْتفى بذكرها (بِحَيْثُ يطير من أتقنه) أَي أحكم هَذَا الْكتاب الْمَذْكُور بفهمه على وَجه التَّحْقِيق يطير (إِلَيْهِمَا) أَي الاصطلاحين أَو طريقي الْفَرِيقَيْنِ (بجناحين) " قَوْله بِحَيْثُ " مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة حَال " كتابا " أَو لمصدر " مفصحا " فَإِن قلت من أتقن الْكتاب المفصح عَن الاصطلاحين فقد بلغ الْغَايَة فيهمَا فَكيف يطير بعد ذَلِك إِلَيْهِمَا قلت مَعْنَاهُ أَن المتقن تحصل لَهُ ملكة يقتدر بهَا على استحضار كل من المصطلحات عِنْد الْحَاجة بِأَدْنَى توجه، وَبِهَذَا ظهر وَجه اسْتِعَارَة الطيران لسرعة الِانْتِقَال، وَفَائِدَة ذكر الجناحين مَعَ أَن الطيران لَا يكون بدونهما إِيهَام أَن الطيران مَحْمُول على حَقِيقَته (إِذْ كَانَ من عَلمته أَفَاضَ) أَي أَفَادَ (فِي هَذَا الْمَقْصد) أَي الإفصاح عَنْهُمَا (لم يوضحهما حق الْإِيضَاح وَلم يناد مرتادهما) أَي طَالب الاصطلاحين (بَيَانه) فَاعل لم يناد (إِلَيْهِمَا) أَي الاصطلاحين (بحي على الْفَلاح) هِيَ اسْم فعل بِمَعْنى أقبل يعدى بعلي، وَقد يَجِيء حَيّ مُتَعَدِّيا بِمَعْنى ائْتِ كَقَوْلِه:
(حَيّ الحمول: فَإِن الركب قد ذَهَبا ... )
والفلاح: الْفَوْز والنجاة والبقاء فِي الْخَيْر، وَالْمَجْمُوع صَار فِي الْعرف مثلا يسْتَعْمل فِي شهار التَّبْلِيغ والإيقاظ لَهُ، والإفصاح عَن الْقَصْد، مَأْخُوذ من قَول الْمُؤَذّن (فشرعت فِي هَذَا الْغَرَض) أَي تأليف الْكتاب الْمَذْكُور (ضاما إِلَيْهِ) أَي بَيَان الاصطلاحين (مَا ينقدح
(1/6)
 
 
لي) أَي يظْهر (من بحث) وَهُوَ فِي اللُّغَة التفتيش، وَفِي الِاصْطِلَاح إِثْبَات حَال الشَّيْء (وتحرير) تَحْرِير الْكتاب وَغَيره تقويمه (فَظهر لي بعد) كِتَابَة شَيْء (قَلِيل) أَو بعد قَلِيل من الزَّمَان (أَنه) أَي الْكتاب الْمَشْرُوع فِيهِ (سفر) أَي كتاب (كَبِير وَعرفت من أهل الْعَصْر انصراف هممهم) جمع همة بِالْكَسْرِ: وَهِي مَا يهم بِهِ من أَمر ليفعله، شاع فِي الْبَاعِث القلبي المنبعث من النَّفس بمطلوب كمالي ومقصود عَال (فِي غير الْفِقْه إِلَى المختصرات. وإعراضهم عَن الْكتب المطولات) عدم انصراف هممهم فِي الْفِقْه هَهُنَا، أما لكَونه ضَرُورِيًّا للْكُلّ بِاعْتِبَار حوادث جمة لَا تكَاد تُوجد إِلَّا فِيهَا، وَإِمَّا لما ترَتّب عَلَيْهِ من حطام الدُّنْيَا، والأغلب هُوَ الثَّانِي، والاختصار رد الْكثير إِلَى الْقَلِيل مَعَ بَقَاء مَعْنَاهُ: وَهُوَ أقرب إِلَى الْحِفْظ وَأنْشط للقارئ وأوقع فِي النَّفس، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أُوتيت جَوَامِع الْكَلم واختصرت لي الْحِكْمَة اختصارا " وَقَالَ الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا " خير الْكَلَام مَا قل وَدلّ وَلم يطلّ فيمل " (فعدلت إِلَى مُخْتَصر مُتَضَمّن إِن شَاءَ الله تَعَالَى الغرضين) بَيَان الاصطلاحين على الْوَجْه الْمَذْكُور وَضم مَا يظْهر لَهُ (واف بِفضل الله سُبْحَانَهُ بتحقيق مُتَعَلق العزمين) الإفصاح والاختصار، وَلَا يخفى على من أتقن هَذَا الْمُخْتَصر الْجَامِع لما فِي المختصرات والمطولات مَعَ كَمَال التدقيق وَالتَّحْقِيق، وَأما الإفصاح وَإِن تبادر إِلَى الْوَهم ضِدّه لما فِيهِ من الصعوبة الَّتِي تعجز عقول الفحول إِلَّا من خصّه الله بمزيد التَّوْفِيق: فقد وَقع على أتم الْوُجُوه الممكنة فِي مثله مِمَّا لَفظه إِلَى مَعْنَاهُ كقطرة بِالنّظرِ إِلَى بَحر عميق (غير أَنه) أَي الْمُخْتَصر (مفتقر إِلَى الْجواد الْوَهَّاب تَعَالَى أَن يقرنه بِقبُول أَفْئِدَة الْعباد) الْجواد السخي، من أَسمَاء الله تَعَالَى من صِفَات الْأَفْعَال، وَكَذَا الْوَهَّاب إِلَّا أَن فِيهِ زِيَادَة مُبَالغَة " وَأَن يقرنه " بِحَذْف الْجَار مُتَعَلق بمفتقر، والأفئدة جمع فؤاد، وَهُوَ الْقلب: أَفَادَ أَن حسن التَّأْلِيف وكماله لَا يُوجب الْقبُول، لِأَنَّهُ موهبة من الله سُبْحَانَهُ، وَلَقَد تأدب فِي سُؤَاله الْمُقَارنَة بقبولها مَعَ الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ: - {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم} - (وَأَن يتفضل عَلَيْهِ) أَي الْمُخْتَصر: أَي على مُؤَلفه على تأليفه، وَفِيه إِيهَام أَنه بِمَنْزِلَة طَالب لِلْأجرِ، ويلائمه مَا سبق من وَصفه بالافتقار (بِثَوَاب يَوْم التناد) أَي يَوْم الْقِيَامَة، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يُنَادي فِيهِ بَعضهم بَعْضًا للاستغاثة، أَو يتنادى أَصْحَاب الْجنَّة وَأَصْحَاب النَّار، وَقيل غير ذَلِك، وَهَذَا إِذا لم تكن الدَّال مُشَدّدَة، فَإِن كَانَت فَالْمَعْنى يند بَعضهم من بعض: أَي يفر (وَالله سُبْحَانَهُ أسأله ذَلِك) أَي الْقبُول وَالثَّوَاب، وَتَقْدِيم الْمَفْعُول لإِفَادَة الْحصْر كَمَا فِي - {إياك نستعين} - (وَهُوَ حُسَيْنًا) كافينا (وَنعم الْوَكِيل) قيل بِمَعْنى موكول إِلَيْهِ تَدْبِير الْبَريَّة وَغَيره على الْحَذف والإيصال، أَو الْكَفِيل بالرزق، أَو الْمعِين، أَو الشَّاهِد، أَو الحفيظ أَو الْكَافِي، وَقدم الْمَخْصُوص بالمدح لإِفَادَة التَّخْصِيص (وسميته: بالتحرير) لتقويمه
(1/7)
 
 
قَوَاعِد الْأُصُول عَن مظان العوج، ولكمالها فِي الاتصاف بِهَذَا الْوَصْف، سمي باسم جنسه مُبَالغَة وادعاء لاتحاده بِهِ، وتنزيلا لما سواهُ منزلَة الْعَدَم (بعد ترتيبه على مُقَدّمَة) لتَكون التَّسْمِيَة بعد وجود الْمُسَمّى كَمَا هُوَ الأَصْل، والمقدمة مَأْخُوذَة من مُقَدّمَة الْجَيْش من قدم بِمَعْنى تقدم، يُقَال مُقَدّمَة الْعلم لما يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِله كمعرفة حَده، وغايته، وموضوعه، ومقدمة الْكتاب لطائفة من كَلَامه قدمت أَمَام الْمَقْصُود لارتباطه بهَا، وانتفاع بهَا فِيهِ (هِيَ الْمُقدمَات) أَي الْأُمُور الَّتِي جرت عَادَة الْأُصُولِيِّينَ بجعلها مُقَدّمَة لعلم الْأُصُول من بَيَان مَفْهُوم اسْمه وموضوعه، والمقدمات المنطقية، واستمداده كَمَا سَيَجِيءُ، فَاللَّام للْعهد (وَثَلَاث مقالات) أولاها (فِي المبادئ) اللُّغَوِيَّة (و) ثَانِيهَا فِي (أَحْوَال الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع علم الْأُصُول (و) ثَالِثهَا فِي مَاهِيَّة (الِاجْتِهَاد) وَمَا يُقَابله من التَّقْلِيد وَمَا يتبعهَا من الْأَحْكَام (وَهُوَ) أَي الِاجْتِهَاد وَمَا يتبعهُ (متمم) لمسائل الْأُصُول، لَا مِنْهَا (مسَائِله) أَي الِاجْتِهَاد (فقهية) أَي بَعْضهَا كوجوب الِاجْتِهَاد فِي حق نَفسه وَفِي حق غَيره إِذا خَافَ فَوت الْحَادِثَة على غير الْوَجْه وحرمته فِي مُقَابلَة قَاطع (لمثل مَا سنذكر) فِي بَيَان الْمَوْضُوع من أَن الْبَحْث عَن حجية خبر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس لَيْسَ من مسَائِل الْأُصُول، لِأَن موضوعها فعل الْمُكَلف، ومحمولها الحكم الشَّرْعِيّ، وَهُوَ الْوُجُوب وَالْحُرْمَة، فَتكون فقهية (واعتقادية) كَمَسْأَلَة لَا حكم فِي الْمَسْأَلَة الاجتهادية، وَجَوَاز خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد.
(الْمُقدمَة)
 
(الْمُقدمَة أُمُور) هِيَ الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله هِيَ الْمُقدمَات، نكرت هَهُنَا لِأَنَّهَا ذكرت تَوْطِئَة لتفصيلها، والتنكير بمقام الْإِجْمَال أليق، وَمَا قيل من أَن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت نكرَة، فَهِيَ غير الأولى، فَلَيْسَ على إِطْلَاقه، على أَن ذَلِك عِنْد إِعَادَة اللَّفْظ بِعَيْنِه (الأول) من الْأُمُور الْمَذْكُورَة (مَفْهُوم اسْمه) أَي الْعلم الْمَذْكُور، وَالِاسْم أصُول الْفِقْه، لم يقل تَعْرِيفه مَعَ أَنه أخصر إِشَارَة إِلَى أَن التَّعْرِيف اسْمِي لَا حَقِيقِيّ كَمَا سَيَجِيءُ، مَعَ أَنه جرت عَادَتهم بِاعْتِبَار حَال الِاسْم فِي مقَام تَعْرِيفه (وَالْمَعْرُوف) أَي الْمَشْهُور بَين الْأُصُولِيِّينَ (كَونه) أَي الِاسْم الْمَذْكُور (علما) هُوَ مَا وضع لشَيْء بِعَيْنِه غير متناول غَيره بِوَضْع وَاحِد، وَسَيَجِيءُ بَيَانه (وَقيل) هُوَ (اسْم جنس لإدخاله اللَّام) أضيف الإدخال إِلَى الِاسْم مجَازًا لِأَنَّهُ فعل الْمُتَكَلّم تَنْزِيلا للقابل منزلَة الْفَاعِل مُبَالغَة فِي قبُوله، فَكَأَنَّهُ أدخلها بِنَفسِهِ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَو كَانَ علما لما دَخلته اللَّام، وَإِذا انْتَفَى العلمية تعْيين كَونه اسْم جنس، وَيرد عَلَيْهِ أَنَّهَا تدخل فِي كثير من الْأَعْلَام، إِمَّا لُزُوما كَمَا فِي الْأَعْلَام الْغَالِبَة، أَو بِغَيْرِهِ كَمَا فِي كثير من الْأَعْلَام المنقولة من الصّفة أَو الْمصدر، أَو مَا فِيهِ معنى الْمَدْح أَو الذَّم كالعباس
(1/8)
 
 
وَالْحسن وَالنضْر والأسد وَالْكَلب فِي الْمُسَمّى بهَا، وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى التَّعْرِيف، وَذَلِكَ للمح الوصفية، ومدح الْمُسَمّى بهَا وذمه (وَلَيْسَ بِشَيْء فَإِن الْعلم) على مَا هُوَ الْمَعْرُوف إِنَّمَا هُوَ (الْمركب) الإضافي: أَي أصُول الْفِقْه (لَا الْأُصُول) الَّذِي هُوَ جُزْء مِنْهُ، فالعلم مَا دَخلته اللَّام، وَمَا دَخلته اللَّام فَلَيْسَ بِعلم بل جزؤه، وَلما عين مَدْخُول اللَّام أَرَادَ أَن يبين معنى اللَّام فِيهِ، فَقَالَ (بل الْأُصُول بعد كَونه عَاما فِي المباني) جمع مبْنى، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الشَّيْء (يُقَال) أَي يُطلق (خَاصّا فِي المباني الْمَعْهُودَة للفقه) وَهِي الْأَدِلَّة السمعية (فَاللَّام للْعهد) الْخَارِجِي، لِأَنَّهَا حِصَّة مُعينَة من المباني الْمُطلقَة، وَكلمَة بل اضراب عَمَّا يفهم من الْكَلَام السَّابِق من علمية لفظ الْأُصُول وَحَاصِله أَنه لَيْسَ بِعلم، بل معرف بلام الْعَهْد، وَقيل الأَصْل بعد مَا كَانَ عَاما فِي المباني نقل إِلَى الدَّلِيل، وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة النَّقْل خلاف الأَصْل، وَلَا ضَرُورَة إِلَى الْعُدُول إِلَيْهِ، لِأَن الابتناء كَمَا يَشْمَل الْحسي كابتناء السّقف على الجدران كَذَلِك يَشْمَل الْعقلِيّ كابتناء الحكم على دَلِيله (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْمركب علم (شخصي) حَقِيقَة الْعُلُوم إِمَّا الْمسَائِل، أَو التصديقات الْمُتَعَلّقَة بهَا، أَو الملكة الْحَاصِلَة من ممارستها، وَيُؤَيّد الْأَخيرينِ تَسْمِيَتهَا بِالْعلمِ، وَالْأول قَول الْقَائِل: علمت النَّحْو وَالصرْف، وَكَلَام المُصَنّف يُشِير إِلَى الأول إِذْ التصديقات أَو الملكة الْقَائِمَة بعالم غير الْقَائِمَة بآخر، فالاسم بِهَذَيْنِ الاعتبارين اسْم جنس كَمَا حَقَّقَهُ السَّيِّد السَّنَد، بِخِلَاف مُتَعَلق علومهم، وَهِي الْمسَائِل، فَإِنَّهُ وَاحِد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا يصدق على مَسْأَلَة) يَعْنِي مثلا، فَيشْمَل كل مَا سوى مَجْمُوع الْمسَائِل، وَلم يتَعَرَّض لما سوى الْجَزَاء، لِأَن عدم صدقه على مَا هُوَ خَارج عَنْهَا فِي غَايَة الظُّهُور فَإِن قلت مسَائِل الْعُلُوم تتزايد بتلاحق الأفكار، فالموجود فِي الزَّمَان السَّابِق مُغَاير بِالذَّاتِ للموجود فِي اللَّاحِق تغاير الْجُزْء وَالْكل، وَهَذَا يسْتَلْزم تعدد الْمُسَمّى، وَهُوَ يُنَافِي كَون الِاسْم علما شخصيا قلت الْمَوْجُود فِي كل زمَان شخص معِين، ويلتزم اشْتِرَاك الِاسْم وتعدد وَضعه بِحَسب تعدد الْأَزْمِنَة، وَلَا مَحْظُور وَهَهُنَا بحث، وَهُوَ أَن مَجْمُوع الْمسَائِل إِنَّمَا هُوَ مَوْجُود ذهني لاشتمالها على النّسَب الاعتبارية، وَمن ضَرُورَة تعدد الأذهان: تعدد وجوداته، وَمن ضَرُورَة تعدد الوجودات: تعدد تشخصاته، فَلَزِمَ كَون الِاسْم للْجِنْس بِهَذَا الِاعْتِبَار أَيْضا وَالْجَوَاب أَن حَقِيقَة مَجْمُوع الْمسَائِل من حَيْثُ هِيَ مَعَ قطع النّظر عَن وجودهَا وتشخصها فِي الذِّهْن جزئي حَقِيقِيّ لعدم إِمْكَان فرض اشتراكها بَين كثيرين، والتعدد إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار صورها الْحَاصِلَة فِي الأذهان، فمتعلق تِلْكَ الصُّور وَاحِد بِالذَّاتِ، وَإِن كَانَ كثيرا بِاعْتِبَار التعلقات وَالله أعلم (وَالْعَادَة تعريفة مُضَافا وعلما) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ تَعْرِيف الِاسْم الْمَذْكُور تَارَة من حَيْثُ أَنه مركب إضافي
(1/9)
 
 
نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ الَّذِي نقل عَنهُ إِلَى العلمي، وَتارَة من حَيْثُ أَنه مُفْرد علم نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الشخصي الَّذِي نقل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا عرفوه على الْوَجْهَيْنِ لمزيد الانكشاف (فعلى الأول) يحْتَاج إِلَى تَعْرِيف الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ (الْأُصُول الْأَدِلَّة) مُبْتَدأ وَخبر، والظرف مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره فتعريفه الْمَبْنِيّ على الأول هَكَذَا، وَالْمرَاد بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن التَّوَصُّل بِالنّظرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري كَالصَّلَاةِ وَاجِبَة وَالْخمر حرَام، وَسَيَجِيءُ بَيَانه مفصلا (وَالْفِقْه التَّصْدِيق) قد يُرَاد بِهِ مَا يُقَابل التَّصَوُّر، وَهُوَ إِدْرَاك أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة، وَقد يُرَاد بِهِ مَا هُوَ أخص مِنْهُ، وَهُوَ يُقَابل الظَّن، وَكِلَاهُمَا هَهُنَا جَائِز، تبع عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ فِي تَفْسِير الْفِقْه بِمَا هُوَ من مقولة الْعلم، وَإِن كَانَ الْمُخْتَار عِنْده كَونه من مقولة الْمَعْلُوم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِيمَا سبق (لأعمال الْمُكَلّفين) قيل اللَّام بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وتله للجبين} - مُتَعَلق بالتصديق لتَضَمّنه معنى الحكم، وَفِي الْكَشَّاف فِي - {يخرون للأذقان} - فَإِن قلت: حرف الاستعلاء ظَاهر الْمَعْنى إِذا قلت خر على وَجهه، وعَلى ذقنه فَمَا معنى اللَّام؟ قلت مَعْنَاهُ جعل وَجهه وذقنه للخرور واختصه بِهِ، وَهَذَا يدل على أَن كَونهَا بِمَعْنى على لم يثبت عِنْده، فَالْأولى أَن يُقَال لتَضَمّنه الاثبات عدي بهَا ولتضمنه الحكم عدي بِالْبَاء فالمثبت لَهُ الموضوعات، وَهِي الْأَعْمَال، والمحكوم بِهِ المحمولات، وَهِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، والأعمال تعم أَفعَال الْقُلُوب أَيْضا كالنية وَغَيرهَا، وَخرج التَّصْدِيق لغير الْأَعْمَال، ولأعمال غير الْمُكَلف (الَّتِي لَا تقصد لاعتقاد) فصل ثَالِث يخرج التَّصْدِيق لأعمالهم الَّتِي تقصد لَهُ كالتصديق بِأَن الْخَيْر وَالشَّر بِقَضَاء الله وَقدرته وإرادته، والاعتقاد حكم لَا يحْتَمل النقيض عِنْد الْحَاكِم، وَلَو عرض عَلَيْهِ طرفاه يجوز أَن يحكم بَينهمَا بالنقيض لكَونه على خلاف الْوَاقِع، أَو لعدم استناده إِلَى مُوجب من حس أَو ضَرُورَة أَو عَادَة أَو دَلِيل، بل اتّفق لسَبَب تَقْلِيد أَو شُبْهَة، وَقد يُرَاد بالاعتقاد مَا يعم الْيَقِين والجزم وَالظَّن وَالْجهل الْمركب، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَالْمرَاد هَهُنَا، وَإِلَّا لم يخرج مَا قصد لاعتقاد لَا يصدق عَلَيْهِ الْمَعْنى الأول (بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) الحكم إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو سلبا، أَو خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف اقْتِضَاء أَو تخييرا، وَالْأول هَهُنَا أولى لِئَلَّا يَلْغُو التَّقْيِيد بالشرعية، وَقد يُقَال يجوز أَن يُرَاد بالشرعية مَا لَا يدْرك لَوْلَا خطاب الشَّارِع، وَمن الْأَحْكَام مَا يدْرك بِدُونِهِ كوجوب الْإِيمَان بِاللَّه وتصديق النَّبِي عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه مَا فِيهِ، وعَلى الثَّانِي يُرَاد مَا يَتَرَتَّب على الْخطاب كالوجوب وَالْحُرْمَة، لأنفسه كالإيجاب وَالتَّحْرِيم لِأَنَّهُ الْمَحْكُوم بِهِ على الْأَعْمَال، وَقيل هما متحدان بِالذَّاتِ متغايران بِالِاعْتِبَارِ، وَفِيه بحث، وَبِهَذَا الْقَيْد احْتَرز عَن مثل قَوْلنَا أَفعَال الْمُكَلّفين أَعْرَاض قَائِمَة بذواتهم منقسمة إِلَى الْجَوَارِح والقلوب (القطعية) أَي الثَّابِتَة بِدَلِيل قَطْعِيّ لَا شُبْهَة فِيهِ: أَي الشُّبْهَة الناشئة عَن الدَّلِيل.
(1/10)
 
 
فَانْدفع مَا قيل: من أَنه إِن أُرِيد بِالْأَحْكَامِ جَمِيعهَا لم يُوجد الْفِقْه وَلَا الْفَقِيه، لِأَن الْحَوَادِث وَإِن كَانَت متناهية ضَرُورَة انْقِضَاء دَار التَّكْلِيف، لَكِنَّهَا لكثرتها وَعدم انقطاعها مَا دَامَت الدُّنْيَا غير دَاخِلَة تَحت ضبط الْمُجْتَهدين، وَإِن أُرِيد بَعْضهَا، فإمَّا بعض لَهُ نِسْبَة مُعينَة إِلَى الْكل كالنصف، فَيلْزم الْجَهَالَة بِجَهَالَة الْكل، وَإِمَّا مُطلق فَيلْزم كَون الْعَالم بِمَسْأَلَة فَقِيها، وَلَيْسَ كَذَلِك اصْطِلَاحا، وَجه الاندفاع أَن القطعية تدخل تَحت الضَّبْط فَيمكن الْإِحَاطَة بهَا (مَعَ ملكة الاستنباط) فَخرج التَّصْدِيق الَّذِي لَيْسَ مَعهَا، وَهِي كَيْفيَّة راسخة فِي النَّفس حَاصِلَة باستجماع المآخذ والأسباب والشروط الَّتِي يَكْفِي الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَيْهَا فِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يقتدر بهَا على اسْتِخْرَاج كل مَسْأَلَة ترد عَلَيْهِ بعد التَّأَمُّل، فَلَا يخل قَول مَالك: لَا أَدْرِي فِي سِتّ وَثَلَاثِينَ من أَرْبَعِينَ مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا فِي اجْتِهَاده، وَلَا توقف أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي مسَائِل مَعْدُودَة، لجَوَاز أَن يكون لتعارض الْأَدِلَّة، أَو وجود الْمَانِع، اَوْ مُعَارضَة الْوَهم الْعقل، أَو مشاكلة الْحق الْبَاطِل، فَإِن الخلوص عَن هَذِه الْمَوَانِع خَارج عَن الطَّاقَة، فَلَا يشْتَرط (وَدخل نَحْو الْعلم بِوُجُود النِّيَّة) لما مر من عُمُوم الْأَعْمَال، فَإِن النِّيَّة من الْأَعْمَال القلية، وَالْمرَاد دُخُول الْجُزْء فِي الْكل إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي الْمُعَرّف، أَو الجزئي فِي الْكُلِّي إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي مَا يعم الْكل والجزء الْمَفْهُوم ضمنا أَي التَّصْدِيق لعمل الْمُكَلف بالحكم الشَّرْعِيّ، وَالْمرَاد بِنَحْوِهِ مَا كَانَ مَوْضُوعه فعل الْقلب ومحموله حكم شَرْعِي (وَقد يخص) الْفِقْه (بظنها) أَي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة للأعمال الْمَذْكُورَة، قيل الْمُخَصّص الإِمَام الرَّازِيّ، وَذَلِكَ لِأَن الْفِقْه مُسْتَفَاد من الْأَدِلَّة السمعية، وَهِي لَا تفِيد إِلَّا الظَّن
لتوقف إفادتها الْيَقِين على نفي الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز وَنَحْوه، ونفيها لَا يثبت إِلَّا بِأَن الأَصْل عدمهَا، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَجَوَابه منع الْحصْر (وعَلى مَا قُلْنَا) من أَنه التَّصْدِيق للأعمال بِالْأَحْكَامِ القطعية (لَيْسَ هُوَ) أَي الظَّن (شَيْئا من الْفِقْه) أَي جُزْءا من أَجْزَائِهِ، فضلا عَن أَن يكون عينه، وَذَلِكَ لِأَن التَّصْدِيق الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ القطعية لَا يكون إِلَّا قَطْعِيا (وَلَا الْأَحْكَام المظنونة) أَي وَلَا الْأَحْكَام المظنونة شَيْئا من أَحْكَامه ومحمولاته، عطف على ضمير لَيْسَ، وَلِهَذَا أكد بالمنفصل وَلَا، بِإِعَادَة النَّفْي (إِلَّا بإصطلاح) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع: أَي لكنه مِنْهُ إِن وَقع الِاصْطِلَاح على وضع اسْم الْفِقْه لما يصدق على الظَّن فَقَط، أَو لما يعمه وَغَيره، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الْأَلْيَق بِالِاعْتِبَارِ مَا ذَكرْنَاهُ لما مر (ثمَّ على هَذَا التَّقْدِير) أَي على تَقْدِير تَخْصِيصه بِالظَّنِّ (يخرج) مِنْهُ (مَا علم من الْمسَائِل بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة) بطرِيق البداهة الْحَاصِلَة من الْخَبَر الْمُتَوَاتر الْمَشْهُور الَّذِي عرفت الْعَامَّة حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان فِي دين الْإِسْلَام كَونه مِنْهُ بِإِخْبَار الْمخبر الصَّادِق كوجوب الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان، لِأَن التَّصْدِيق بهَا يقيني، وَكَذَا يخرج على تَفْسِيره
(1/11)
 
 
بِالْعلمِ بِالْأَحْكَامِ العملية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى إِخْرَاجه كَون الْفِقْه لُغَة إِدْرَاك الْأَشْيَاء الْخفية، وَذَلِكَ فِي النظريات: يُقَال فقهت كلامك، وَلَا يُقَال فقهت السَّمَاء وَالْأَرْض وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يلْزم اعْتِبَار وَجه التَّسْمِيَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل جُزْء من الْمُسَمّى، على أَن مَا علم بالضررة كَانَ خفِيا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَائِل (وَأما قصره) أَي الْفِقْه (على الْيَقِين وَجعل الظَّن فِي طَرِيقه) أَي الْفِقْه أَو الْيَقِين دفعا لاعتراض القَاضِي أبي بكر على التَّعْرِيف بِأَنَّهُ من بَاب الظنون، فَلَا يجوز أَن يعْتَبر الْعلم جِنْسا فِي تَعْرِيفه تَلْخِيص الْجَواب الْتِزَام كَون الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة كلهَا يقينية، وَإِن كَانَ أَكثر أدلتها أَمَارَات ظنية، لانعقاد الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ على الْمُجْتَهد إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَكل حكم كَذَا يجب الْعَمَل بِهِ قطعا تعلق بِهِ الْخطاب قطعا وَلَا نعني بالقطعي إِلَّا هَذَا فَثَبت أَنَّهَا قَطْعِيَّة، وَالظَّن فِي طريقها (فمغير لمفهومه) جَوَاب أما، بِمَعْنى قصره على الْيَقِين بالتأويل الْمَذْكُور يسْتَلْزم أَن يُرَاد بِهِ غير مُسَمَّاهُ، لِأَن مُسَمَّاهُ تصديقات، أَو مسَائِل موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين، ومحمولاتها الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كالوجوب وَالْحُرْمَة، وَهِي قد تكون ظنية نَحْو الْوتر وَاجِب، وَمَا ذكر لَا يُخرجهَا من الظَّن إِلَى الْقطع بل يُفِيد الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل بهَا قطعا، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم كَونهَا مُتَعَلق حكم الله قطعا لظُهُور عدم الْقطع بِكَوْن الْوتر مثلا مَطْلُوبا غير جَائِز التّرْك، وَلِهَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي وُجُوبه: نعم هَهُنَا تصديقات أخر موضوعاتها الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة ومحمولها مَفْهُوم وَاحِد أَعنِي وجوب الْعَمَل بهَا قطعا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويقصره على حكم) أَي يقصر الْقصر الْمَذْكُور الْفِقْه على حكم وَاحِد بِاعْتِبَار الْمَحْمُول لَا الْمَوْضُوع لما عرفت فَإِن قلت الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل رَفعهَا عَن حضيض الظَّن لي ذرْوَة الْيَقِين فالوتر مثلا بَعْدَمَا كَانَ ظَنِّي الثُّبُوت نظرا إِلَى أمارته صَار قَطْعِيّ الثُّبُوت بِاعْتِبَار تعلق الطّلب بِالْعَمَلِ بِهِ قطعا قلت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكم خَاص فِي كل عمل، وَحكم عَام وَهُوَ وجوب الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد وَالْعلم بِالْأولِ تَارَة يكون قَطْعِيا، وَتارَة يكون ظنيا بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَطْعِيّ دَائِما، والمجتهد مَأْمُور بمظنونه وَإِن كَانَ خلاف حكم الله بِالْمَعْنَى الأول نعم عِنْد المصوبة الْكل حكم الله، وَالتَّحْقِيق خِلَافه، وَالْمُعْتَبر فِي مَفْهُوم الْفِقْه الْقطع، وَالظَّن بِاعْتِبَار الأول لَا الثَّانِي، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله يُشِير إِلَى مَا قلت بقوله (وَمَا قيل فِي إِثْبَات قَطْعِيَّة مظنونات الْمُجْتَهد مظنونه) بدل من ضمير الْمَوْصُول (مَقْطُوع بِوُجُوب الْعَمَل بِهِ) بِالْإِجْمَاع وَالْأَخْبَار المتواترة معنى (وكل مَا قطع إِلَى آخِره) أَي وجوب الْعلم بِهِ مَقْطُوع بِهِ (فَهُوَ) أَي مظنونه (مَقْطُوع بِهِ، مَمْنُوع الْكُبْرَى) يَعْنِي كل مَا قطع إِلَى آخِره لجَوَاز وجوب الْعَمَل بِهِ من غير أَن يكون مُتَعَلق الْخطاب الْخَاص على مَا عرفت (وَالْمرَاد بالملكة) الْمَذْكُورَة فِي التَّعْرِيف (أدنى مَا تتَحَقَّق بِهِ الْأَهْلِيَّة) للاستنباط، وَفِي إِضَافَة الملكة إِلَيْهِ إِشْعَار بالمراد، لِأَن مَعْنَاهَا ملكة يقتدر
(1/12)
 
 
بهَا على مَا يصدق عَلَيْهِ مُطلق الاستنباط، وَلَيْسَ المُرَاد اعْتِبَار الْأَدْنَى بِعَيْنِه وَنفي الزِّيَادَة، بل المُرَاد الْأَدْنَى سَوَاء تحقق مُنْفَردا، أَو فِي ضمن الْأَوْسَط، أَو الْأَعْلَى، وَلَا جَهَالَة فِيهِ حَتَّى يلْزم فَسَاد التَّعْرِيف، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي المُرَاد (مضبوط) انضباط الْمُطلق إِذا أُرِيد بِهِ الْإِطْلَاق من غير إِرَادَة خُصُوصِيَّة من خصوصياته، فَإِن الْإِيهَام عِنْد ذَلِك، ثمَّ المُرَاد من التَّصْدِيق مَا هُوَ الْمُتَبَادر بِقَرِينَة السِّيَاق، وَهُوَ الْحَاصِل بالاستنباط الْمُتَرَتب على الملكة فَلَا يرد علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجِبْرِيل بِالْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَة بطرِيق الضَّرُورَة الحاصلين من الْأَدِلَّة بطرِيق الحدس، وَيتَّجه حِينَئِذٍ مَا علم بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة فَتَأمل (وعَلى الثَّانِي) أَي بِاعْتِبَار علمية الِاسْم الْمَذْكُور (فَقَالَ كثير) مِمَّن عرفه، وَالْفَاء للتفصيل كَمَا فِي الأول (أما تَعْرِيفه لقبا) حَال من الضَّمِير (ليشعروا) أَي الْكثير مُتَعَلق بقال، يَعْنِي يذكر الْكثير اللقب بدل الْعلم، فَإِن اللقب مِمَّا يدل على الْمَدْح أَو الذَّم، وَهُوَ غير مُحْتَمل هَهُنَا (برفعة مُسَمَّاهُ) أَي الِاسْم لكَونه مَبْنِيّ الْفِقْه الَّذِي هُوَ أهم الْعُلُوم وأنفعها، (و) قَالَ (بَعضهم علما) مَوضِع لقبا (لِأَن التَّعْرِيف) أَي التَّعْرِيف الأسمى (إِفَادَة مُجَرّد الْمُسَمّى) فالمنظور فِيهِ بَيَان مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (لَا) إِفَادَة الْمُسَمّى (مَعَ اعْتِبَار ممدوحيته وَإِن كَانَت) الممدوحية (ثَابِتَة) فِي نفس الْأَمر (فَلَا يعْتَرض) على من قَالَ علما بدل لقبا (بثبوتها) أَي الممدوحية بِأَن يُقَال الممدوحية ثَابِتَة فِي نفس الْأَمر، وَلَفظ الْعلم لَا يدل عَلَيْهَا لكَونه أَعم من اللقب فَإِن قلت مُسَمّى الْعلم الشخصي لَا يحد لِأَن مَعْرفَته لَا تحصل إِلَّا بتعين مشخصاته بِالْإِشَارَةِ وَنَحْوهَا، والتعريف غَايَته الْحَد التَّام، وَهُوَ إِنَّمَا يشْتَمل على مقومات الْمَاهِيّة دون مشخصاتها قلت الْحق كَمَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَنه يحد بِمَا يُفِيد امتيازه عَن جَمِيع مَا عداهُ بِحَسب الْوُجُود لَا بِمَا يُفِيد تعينه وتشخصه، وَلما ذكر اخْتِلَاف الْقَوْم فِي التَّعْبِير عَن تَعْرِيفه على اعْتِبَار العلمية أَرَادَ أَن يصدر التَّعْرِيف بتوطئة مفيدة لمزيد الانكشاف لَهُ، فَقَالَ (وكل علم) من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة (كثرتا ادراكات) تصورية وتصديقية (ومتعلقاتها) أَي تِلْكَ الادراكات، وَهِي الْمسَائِل وموضوعاتها ومحمولاتها وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَفِيه مُسَامَحَة لِأَن الْعلم عبارَة عَن أَحدهمَا لَا الْمَجْمُوع الْمركب مِنْهُمَا، وَالْمرَاد وجودهما فِي كل علم، وَالْكَثْرَة بِمَعْنى الْكَثِيرَة وَإِضَافَة الكثرتين إِلَى الادراكات كإضافة حُصُول صُورَة الشَّيْء، أَي الادراكات الْكَثِيرَة والمدركات الْكَثِيرَة (وَلها) أَي لتِلْك الْكَثْرَة المتحققة فِي ناحيتي الْإِدْرَاك والمدرك (وحدة غَايَة) أَي وحدة بِاعْتِبَار الْغَايَة، وَهِي الْعلَّة الغائية الباعثة لإقدام الطَّالِب على تَحْصِيله، وَهِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة المفضية إِلَى السَّعَادَة الدِّينِيَّة والدنيوية (تستتبع) تِلْكَ الْوحدَة (وحدة موضوعها) أَي تِلْكَ الْكَثْرَة يَعْنِي أَن وحدة الْغَايَة تستدعى، وحدة الْمَوْضُوع وَالثَّانيَِة تَابِعَة للأولى، وَذَلِكَ لِأَن الطَّالِب إِذا
(1/13)
 
 
كَانَ لَهُ مطلب وَاحِد علمي يعمد إِلَى أُمُور مُنَاسبَة لذَلِك الْمطلب فيبحث عَن أحوالها الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال إِلَيْهِ فَيصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْأُمُور الْكَثِيرَة مَا يبْحَث عَن حَاله للإيصال إِلَى غَايَة كَذَا، وَلَا يَعْنِي بوحدة الْمَوْضُوع الأمثل هَذَا (أول الملاحظة) ظرف للاستتباع يَعْنِي الاستتباع الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مُلَاحظَة الْغَايَة أَولا، فَإِن مدون الْعلم يُلَاحظ الْغَايَة أَولا، لِأَنَّهَا الباعثة لإقدامه على التدوين فملاحظته إِيَّاهَا من حَيْثُ يستدعى تدوين علم مَوْضُوعه كَمَا عَرفته مُتَقَدّمَة، وَأما بِاعْتِبَار تحققهما فِي الْخَارِج، فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَفِي التَّحْقِيق إِلَّا تصافى بِالْقَلْبِ 1) يَعْنِي إِذا نَظرنَا إِلَى تحقق الوحدتين من حَيْثُ أَنَّهُمَا وصفان ثابتان لموصوفيهما أَي الْغَايَة والموضوع وجدنَا وحدة الْمَوْضُوع سَابِقَة على وحدة الْغَايَة ضَرُورَة تَأَخّر وصف الْمُتَأَخر عَن وصف الْمُتَقَدّم وَتَأَخر الْعلَّة الغائية عَن معلولها بِاعْتِبَار الْوُجُود الْخَارِجِي (وَأَسْمَاء الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة مَوْضُوعَة لكل) من الكثرتين لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي كل مِنْهُمَا على السوية، وَهُوَ دَلِيل الْوَضع عِنْد عدم الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة وَلم يذكر الملكة مَعَ أَنهم جَعَلُوهُ من جملَة مسمياتها، لِأَن أَكثر الاستعمالات يَأْبَى عَنْهَا وَيلْزم أَن لَا يكون إِطْلَاق اسْم الْعلم على الْأَلْفَاظ والنقوش من بَاب تَسْمِيَة الدَّال باسم الْمَدْلُول (وَكَذَا الْقَاعِدَة والقضية) مَوْضُوعَة لكل من الادراكات إِدْرَاك الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَبِه وَالنِّسْبَة وَالْحكم ومتعلقاتها، والقضية أَعم من الْقَاعِدَة، فالقاعدة قَضِيَّة كُلية منطبقة على جزئياتها كَقَوْلِنَا: الْفَاعِل مَرْفُوع وجزئياتها كزيد مَرْفُوع فِي جَاءَ زيد، والقضية قَول يحْتَمل الصدْق وَالْكذب (فعلى) اعْتِبَار (الأول) وَهُوَ وَضعهَا للادراكات (هُوَ) أَي أصُول الْفِقْه (إِدْرَاك الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْفِقْه) وَجه التَّوَصُّل أَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة بِوَاسِطَة كيفيات فِيهَا متنوعة، وكل قَاعِدَة من الْأُصُول تبين نوعا من تِلْكَ الكيفيات وَعند الاستنباط كَمَا تقع الْحَاجة إِلَى معرفَة تِلْكَ الكيفيات تقع إِلَى معرفَة الْقَوَاعِد المبينة لَهَا، لِأَن معرفَة تِلْكَ الكيفيات بِدُونِ الْقَوَاعِد لَا تخلص عَن الشُّبْهَة، وَلَا يرد عَلَيْهِ قَوَاعِد الْعَرَبيَّة والمنطقية لِأَن التَّوَصُّل بهَا بعيد والمتبادر مِنْهُ الْقَرِيب (وَقَوْلهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعْرِيف (عَن الْأَدِلَّة التفصيلية) بعد قَوْلهم هُوَ الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (تَصْرِيح بِلَازِم) يفهم ضمنا، لِأَن المُرَاد استنباط الْأَحْكَام تَفْصِيلًا، وَهُوَ لَا يكون إِلَّا عَن أدلتها تَفْصِيلًا فَهُوَ لمزيد الْكَشْف لَا للِاحْتِرَاز فَلَا يضر تَركه (وَإِخْرَاج) علم (الْخلاف) عَن التَّعْرِيف (بِهِ) أَي القَوْل الْمَذْكُور (غلط) لِأَنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ الْأَحْكَام المستنبطة الْمُخْتَلف فِيهَا أَو هدمها، لَا إِلَى الاستنباط، وَكَذَلِكَ علم الجدل فَإِنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ رَأْي أَو هَدمه، أَعم من أَن يكون
(1/14)
 
 
فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَو غَيرهَا، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم كَونه يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستنباط لَا يخرج بالقيد الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل إِلَّا عِنْد استنباط الْأَحْكَام عَن أدلتها التفصيلية (وَعَلِيهِ) أَي على الأول (مَا تقدم من) تَعْرِيف (الْفِقْه) وَهُوَ قَوْله التَّصْدِيق الخ، فَإِنَّهُ إِدْرَاك فتعريف الْفِقْه مَبْنِيّ على الأول (وَجعل الْجِنْس) فِي تَعْرِيف الْأُصُول (الِاعْتِقَاد الْجَازِم المطابق) للْوَاقِع احْتِرَازًا عَن الظَّن وَالْجهل (مُشكل بقضية الْمُخطئ فِي الْكَلَام) يَعْنِي يلْزم اعْتِبَار الْجَزْم والمطابقة فِي جَمِيع مَا ينْدَرج تَحت الْجِنْس، وَمن جملَته علم الْأُصُول الْكَلَام فَيلْزم أَن يخرج مِنْهُ الْمُخطئ فِي الِاعْتِقَاد سَوَاء بدع كالمعتزلة أَو كفر كالمجسمة، وَقد صَرَّحُوا باندراج اعْتِقَاد الْمُخطئ تَحْتَهُ (ولأنا نمْنَع اشْتِرَاطه) أَي المجعول جِنْسا (فِي أصُول الْفِقْه) نقل سَنَد الْمَنْع عَن المُصَنّف، ومحصوله أَن الظَّن يَكْفِي فِي إِثْبَات محمولات مسَائِل الْأُصُول لموضوعاتها نَحْو الْأَمر للْوُجُوب وَالنَّهْي للْحُرْمَة، وَتَخْصِيص الْعَام يجوز والمشترك لَا يعم، وَخبر الْوَاحِد مقدم على الْقيَاس، فَإِنَّهَا غير قَطْعِيَّة لعدم قَطْعِيَّة أدلتها، وَرُبمَا لم يكن مطابقا للْوَاقِع، وَالْمرَاد من الْمَنْع النَّقْض الَّذِي يُورد فِي التعريفات (فَالْأَوْجه كَونه) أَي جنس التَّعْرِيف (أَعم) من أَن يكون جَازِمًا أم لَا، مطابقا أم لَا، أَشَارَ إِلَى أَن عدم التَّعْمِيم أَيْضا لَهُ وَجه لما مر من أَنه لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الأولى والأنسب هُوَ التَّعْمِيم (وعَلى) اعْتِبَار (الثَّانِي) وَهُوَ وَضعهَا للمتعلقات هُوَ (الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بمعرفتها) إِلَى استنباط الْفِقْه (وَالْقَوَاعِد فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّعْرِيف (مَعْلُومَات) لَا عُلُوم وتصديقات فِيهِ أَن الْقَاعِدَة مُشْتَركَة بَين الْعلم والمعلوم، والاحتراز عَن إِيرَاد الْمُشْتَرك فِي التعريفات وَاجِب قلت لَا يضر فِي مثل هَذَا، لِأَن التَّعْرِيف صَحِيح على التَّقْدِيرَيْنِ على أَن قَوْله بمعرفتها يعين المُرَاد و (أَعنِي) بالمعلومات (المفاهيم التصديقية الْكُلية) الْفَهم هُوَ الْإِدْرَاك وَالْمَفْهُوم مُتَعَلقَة يَنْقَسِم إِلَى التصوري والتصديقي ضَرُورَة انقسام الْإِدْرَاك إِلَى التَّصَوُّر والتصديق، والكلية مَا حكم فِيهِ على كل فَرد من أَفْرَاد مَوْضُوعَة (من نَحْو الْأَمر للْوُجُوب) من بَيَانِيَّة للمفاهيم (وَلذَا) أَي لأجل أَن المُرَاد بهَا المعلومات (قُلْنَا بمعرفتها) لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَى الْمَعْلُوم لَا الْعلم (وَمَعْنَاهَا) أَي الْقَاعِدَة (كالضابط والقانون وَالْأَصْل والحرف) فَهِيَ أَلْفَاظ مترادفة اصْطِلَاحا، وَإِن كَانَت فِي الأَصْل لمعان مُخْتَلفَة، أما الأَصْل فقد مر، وَأما الْقَاعِدَة فَهُوَ اسْم فَاعل من قعد، وقواعد الهودج خشبات أَربع تَحْتَهُ ركب فِيهِنَّ، وَالضَّابِط من ضبط، والقانون، قيل سرياني اسْم مسطر الْكِتَابَة أَو الْجَدْوَل، وَفِي الْقَامُوس مقياس كل شَيْء، وَأما الْحَرْف فَلهُ معَان مِنْهَا الطّرف، وَأحد حُرُوف التهجي، والمناسبة بَين اللُّغَة والاصطلاح تظهر بِأَدْنَى تَأمل (قَضِيَّة كُلية كبرى لسهلة الْحُصُول) أَي لقضية صغرى سهلة الْحُصُول بترتيبها مَعهَا تحصل النتيجة، وَأَشَارَ إِلَى وَجه سهولتها
(1/15)
 
 
بقوله (لانتظامها) أَي الصُّغْرَى (عَن) أَمر (محسوس) وَهِي (كَهَذا أَمر و) هَذَا (نهي) وكل أَمر للْوُجُوب فَهَذَا للْوُجُوب، وكل نهي للتَّحْرِيم فَهَذَا للتَّحْرِيم، فقولنا الْأَمر للْوُجُوب قَضِيَّة جعلت كبرى لصغرى وَهِي كَقَوْلِنَا أقِيمُوا الصَّلَاة أَمر وسهولة حُصُولهَا ظَاهِرَة، لِأَن الْعلم بِكَوْنِهَا أمرا للْعَالم باللغة والاصطلاح بديهي لَا يحْتَاج إِلَى تَأمل، والنتيجة، وَهِي أَن أقِيمُوا الصَّلَاة للْوُجُوب من جزئيات الْأَمر للْوُجُوب فَيرجع مآل هَذَا التَّعْرِيف إِلَى مَا مر من تَعْرِيفهَا، وَمعنى انتظام الصُّغْرَى تركب أَجْزَائِهَا من الْمَوْضُوع والمحمول وَالْحكم، وَإِنَّمَا ينشأ هَذَا الانتظام عَن محسوس، وَهُوَ موضوعها، وَإِنَّمَا حكم بِكَوْن موضوعها محسوسا على الْإِطْلَاق لاندراجها تَحت مَوْضُوع الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ من مسَائِل الْأُصُول، وموضوع مسَائِل الْأُصُول على الْإِطْلَاق مندرج تَحت مَوْضُوع الْأُصُول، وَهُوَ الدَّلِيل السمعي، وَهُوَ محسوس بحاسة السّمع، وَكَيْفِيَّة الانتظام أَنَّك إِذا نظرت فِي المحسوس الَّذِي هُوَ أقِيمُوا الصَّلَاة مثلا وجدت أَنه أَمر، فتحكم أَنه أَمر ثمَّ تضم هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي انتظمت إِلَى الْكُلية الَّتِي تكون النتيجة من جزئياتها (وَهَذَا) التَّعْرِيف (حد أسمى) الْحَد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ مَا يُمَيّز الشَّيْء عَن غَيره، وينقسم إِلَى حَقِيقِيّ وأسمى ولفظي، فالحقيقي مَا أنبأ عَن ذاتياته الْكُلية المركبة، لِأَنَّهَا فُرَادَى لَا تفِيد الْحَقِيقَة لفقد الصُّورَة، والأسمى مَا أنبأ عَن الشَّيْء بلازمه مثل الْخمر مَائِع يقذف بالزبد، واللفظي مَا أنبأ عَن الشَّيْء بِلَفْظ أظهر مرادف، كَذَا ذكر الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته عَلَيْهِ: الْحَد اللَّفْظِيّ عِنْد الْمُحَقِّقين هُوَ أَن يقْصد بَيَان مَا تعقله الْوَاضِع، فَوضع الِاسْم بإزائه سَوَاء كَانَ بِلَفْظ مرادف، أَو باللوازم، أَو بالذاتيات حَتَّى أَن مَا يُقَال فِي أول الهندسة أَن المثلث شكل يُحِيط بِهِ ثَلَاثَة أضلاع تَعْرِيف اسْمِي، ثمَّ بعد مَا يتَبَيَّن وجوده يصير هُوَ بِعَيْنِه حدا حَقِيقِيًّا انْتهى، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الأسمى هُنَا مَا ذكره الْمُحَقق يُشِير إِلَى قَوْله (وَلَا يُنَافِي الْحَقِيقِيّ) أَي لَا يُنَافِي كَونه الْحَد الأسمى كَونه الْحَد الْحَقِيقِيّ، وَقد عرفت لجَوَاز أَن يبين وجوده، وَتَكون الْمَذْكُورَات ذاتيات الْمُعَرّف (وَاخْتلف) بَين الْأُصُولِيِّينَ (فِيهِ) أَي الْحَد من حَيْثُ كَونه (مُقَدّمَة الشُّرُوع وَلَا خلاف) بَينهم (فِي خِلَافه) وَهُوَ الْحَد بِدُونِ الْقَيْد الْمَذْكُور: أَي لم يَخْتَلِفُوا فِي جَوَاز أَن أَن يكون للْعلم حد حَقِيقِيّ من غير أَن يَجْعَل مُقَدّمَة، فَالضَّمِير للمقيد (كَمَا قيل) من أَنه لَا خلاف فِيهِ بَينهم، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى كَمَا قيل من أَن بَينهم فِيهِ خلافًا، وَإِنَّمَا لم يَخْتَلِفُوا (لِإِمْكَان تصور) الْعقل (مَا يَتَّصِف بِهِ) الضَّمِير الْمَرْفُوع لِلْعَقْلِ المرموز إِلَيْهِ بِذكر التَّصَوُّر، وَالْمَجْرُور للموصول حَاصِل التَّعْلِيل رفع مَا يتَوَهَّم أَن يكون مَانِعا عَن التَّحْدِيد من أَنه لَا يجوز تَحْدِيد الْعلم، لِأَنَّهُ إِدْرَاك، وَالْحَد كَذَلِك فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلَّا يلْزم إِدْرَاك الْإِدْرَاك، فَالْجَوَاب منع بطلَان الثَّانِي
(1/16)
 
 
لجَوَاز أَن يتَصَوَّر الْعقل مَا قَامَ بِهِ أَي وصف كَانَ (وَلَو) كَانَ ذَلِك الْوَصْف (تصورا) من تصوراته، لَا يُقَال لَا يجوز أَن يتَصَوَّر تصَوره، وَإِلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل (إِذْ الْحُصُول) أَي حُصُول التَّصَوُّر الَّذِي اتّصف بِهِ الْعقل فِي نفس الْأَمر (لَا يستلزمه) أَي لَا يسْتَلْزم تصور التَّصَوُّر، بل علمه وتصوره كَسَائِر صِفَاته الْمَوْجُودَة فِيهِ، وَلَا شكّ أَنه لَا يلْزم من اتصافه بِتِلْكَ الصِّفَات شعوره بهَا فَإِن قلت تصور التَّصَوُّر عينه، لأَنهم صَرَّحُوا بِأَن علم النَّفس بذاتها وصفاتها حضوري لَا حصولي: يَعْنِي يحضر عِنْدهَا بِذَاتِهِ لَا بصورته ومثاله قلت لَكِن لَا بُد من توجه النَّفس إِلَى مَا يَتَّصِف بِهِ لينكشف عِنْده بِذَاتِهِ لَا بصورته، والحصول لَا يسْتَلْزم ذَلِك، على أَن التَّوَهُّم الْمَذْكُور مَبْنِيّ على كَون الْمَحْدُود إِدْرَاك الْقَوَاعِد لَا نَفسهَا، ثمَّ بَين الِاخْتِلَاف بقوله (فَقيل لَا) يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الْكَثْرَة) الْمَذْكُورَة فِي الادراكات ومتعلقاتها (بِتِلْكَ الْوحدَة) الاعتبارية الْحَاصِلَة للْعلم من جِهَة الْغَايَة والموضوع (لَا تصير نوعا حَقِيقِيًّا) وَلَا بُد أَن يكون الْمَحْدُود نوعا حَقِيقِيًّا لاتحاده مَعَ الْحَد الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ مركب من الْجِنْس والفصل الَّذِي لَا يتركب مِنْهُمَا إِلَّا الماهيات الْحَقِيقِيَّة الَّتِي وحدتها حَقِيقِيَّة، لَا بِمُجَرَّد اعْتِبَار الْعقل (وَمُقْتَضى هَذَا) الدَّلِيل (نَفْيه) أَي نفي الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (مُطلقًا) سَوَاء جعل مُقَدّمَة الشُّرُوع أم لَا (فَفِيهِ) أَي فِي حكم وجود الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (الْخلاف أَيْضا) كَمَا فِي كَونه مُقَدّمَة الْعلم: يَعْنِي الْخلاف الْمَذْكُور خلاف فيهمَا جَمِيعًا بِاعْتِبَار هَذَا الدَّلِيل فَصَاحب هَذَا الدَّلِيل يَنْفِيه، وخصمه يُثبتهُ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْحَد الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا يتَحَقَّق (بسرد الْعقل) كل الْمسَائِل) أَي بتعقلها متتابعة، لِأَن الْحَد عبارَة عَن تعقل كنه الْمَاهِيّة، وكنه مَاهِيَّة الْعلم عين مسَائِله (وَلَيْسَ) الْحَد الْحَقِيقِيّ (حِينَئِذٍ الْمُقدمَة) أَي مُقَدّمَة الشُّرُوع للْعلم، بل هُوَ نفس الْعلم وَتَمَامه مفصلا (وَقيل نعم) أَي يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الادراكات أَو متعلقاتها كالمادة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْقُوَّةِ كأجزاء السرير بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ قبل التَّرْكِيب وَبعده إِذا قطعت النّظر عَن هَيئته (ووحدتها الدَّاخِلَة) أَي وحدة الادراكات أَو متعلقاتها بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية الدَّاخِلَة فِي حَقِيقَتهَا (كالصورة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لم يقل مَادَّة وَصُورَة، لِأَنَّهُمَا لَا يتحققان إِلَّا فِي المركبات الخارجية (فينتظم) الْمركب (الْمَأْخُوذ مِنْهُمَا) أَي شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة (جِنْسا وفصلا) أَي يَنْتَظِم الْمركب الْمَأْخُوذ من شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة بِأَن يُؤْخَذ الْجِنْس مَا هُوَ كالمادة والفصل مِمَّا هُوَ كالصورة فيركب حد مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادر من الْعبارَة، وَلَا يخفى فَسَاده لِأَن الْمَادَّة وَالصُّورَة متباينان
(1/17)
 
 
فَكيف يكون المأخوذان مِنْهُمَا المحمولان عَلَيْهِمَا جِنْسا وفصلا مَعَ أَن الْجِنْس مَحْمُول على الْفَصْل، وَيُمكن أَن يكون المُرَاد أَخذ كل وَاحِد من الْجِنْس والفصل من مَجْمُوع الْمَادَّة وَالصُّورَة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ (من غير حَاجَة) للحاد (إِلَى سرد الْكل) كَمَا زعم النَّافِي، ثمَّ لما ذكر الْخلاف أَرَادَ بَيَان مَا عِنْده من تَحْقِيق الْمقَام، فَقَالَ (وَإِذا كَانَ الْعلم مُطلقًا) أَي مَفْهُوم الْعلم الَّذِي يصدق على كل وَاحِد من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة من غير تَقْيِيد (ذاتيا لما) ينْدَرج (تَحْتَهُ) كالفقه وَالْأُصُول وَالْكَلَام وَغَيرهَا دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَالْعلم الْمَحْدُود) كالأصول (لَيْسَ إِلَّا صنفا) مِنْهُ، وَلَعَلَّه قَالَ صنفا، وَلم يقل نوعا لكَون الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة كلهَا مندرجة تَحت نوع من أَنْوَاع الْعلم الْمُطلق، وَهُوَ الْعلم الْمُتَعَلّق بالمسائل المتحدة بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية، والصنف كلي مندرج تَحت النَّوْع حَقِيقَته النَّوْع الْمُقَيد بِعَارِض غير شخص (لم يبعد) جَوَاب إِذا (كَونه) أَي الْخلاف (لفظيا) أَي فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى، لعدم وُرُود النَّفْي وَالْإِثْبَات على مَحل وَاحِد (مَبْنِيا على) اخْتِلَاف (الِاصْطِلَاح فِي مُسَمّى) الْحَد (الْحَقِيقِيّ أهوَ) اصْطِلَاحا (ذاتيات) الْمَاهِيّة (الْحَقِيقِيَّة) أَي الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن اعْتِبَار الْعقل كَمَا هُوَ اصْطِلَاح المنطقيين (أَو) هُوَ ذاتيات الْمَاهِيّة (مُطلقًا) حَقِيقِيَّة كَانَت أَو اعتبارية، فَمن ذهب إِلَى الأول نفي، وَمن ذهب إِلَى الثَّانِي أثبت، فمورد النَّفْي الْحَد بِالْمَعْنَى الأول، وَالْإِثْبَات بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَلَا مُنَافَاة بَين نفي الْأَخَص وَإِثْبَات الْأَعَمّ.
(الثَّانِي) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَي فِي بَيَان مَوْضُوعه أَو قَوْله (مَوْضُوعه الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي) إِلَى آخر المبحث: مَوْضُوع الْعلم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، والعارض الْخَارِج الْمَحْمُول والذاتي الَّذِي منشأ عروضه الذَّات كالمدرك للْإنْسَان، أَو مَا هُوَ مسَاوٍ للذات كالضاحك الْعَارِض لَهُ بِوَاسِطَة التَّعَجُّب، أَو جزئها الْأَعَمّ كالمتحرك بِوَاسِطَة الْحَيَوَان، والبحث عَنْهَا حملهَا على نفس الْمَوْضُوع بِدَلِيل، نَحْو الدَّلِيل السمعي يُفِيد الحكم قطعا أَو ظنا، أَو على نوع مِنْهُ نَحْو الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب، أَو على عرضه الذاتي نَحْو الْعلم يُفِيد الْقطع، أَو على نَوعه نَحْو الْعَام الَّذِي يخص مِنْهُ الْبَعْض يُفِيد الظَّن، قيد بالكلى لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد مَا صدقاته، وَقيل مَوْضُوعه الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَحْكَام لِأَن الْأَحْوَال بَعْضهَا رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة، وَبَعضهَا إِلَى الْأَحْكَام، وَقيل هُوَ الْأَدِلَّة وَمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ من حَيْثُ الثُّبُوت رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة من حَيْثُ الْإِثْبَات، وَقيل هُوَ الْأَحْكَام من حَيْثُ ثُبُوتهَا بالأدلة. وَاخْتَارَ المُصَنّف رَحمَه الله مفهوما وَاحِدًا، أَفْرَاده الْأَدِلَّة نظرا إِلَى كَونه أقرب إِلَى الضَّبْط (من حَيْثُ يُوصل الْعلم بأحواله إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لأفعال الْمُكَلّفين) الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة
(1/18)
 
 
قيد للموضوع عِنْد الْمُحَقِّقين: يَعْنِي موضوعيته لَهُ بِاعْتِبَار الإيصال الْمَذْكُور فَلَا يبْحَث فِيهِ إِلَّا عَن أَحْوَاله الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال، وَقيل قد يكون جُزْءا مِنْهُ، وَذَلِكَ إِذا لم يبْحَث فِي الْعلم عَنْهَا كحيثية الْوُجُود فِي مَوْضُوع الْعلم الإلهي الباحث عَن أَحْوَال الموجودات الْمُجَرَّدَة، وَهُوَ الْمَوْجُود من حَيْثُ هُوَ مَوْجُود، إِذْ لَا يبْحَث فِيهِ عَن نفس الْوُجُود، لِأَنَّهُ لَا يبْحَث فِي الْعلم عَن نفس الْمَوْضُوع وَعَن أَجْزَائِهِ، وَقد تكون خَارِجَة عَنهُ وَلَيْسَت بِقَيْد لَهُ، بل تذكر لبَيَان الْأَعْرَاض المبحوث عَنْهَا كالصحة وَالْمَرَض فِي مَوضِع الطِّبّ وَهُوَ بدن الْإِنْسَان، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يلْزم حِينَئِذٍ تشارك العلمين الباحثين عَن أَحْوَال شَيْء وَاحِد فِي مَوْضُوع وَاحِد بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَار، لعدم تَقْيِيد الْمَوْضُوع بِقَيْد، وَقد تقرر أَن تمايز الْعُلُوم بِحَسب تمايز الموضوعات، فالتحقيق أَنَّهَا قيد لَهُ، وَإِنَّمَا اعْتبر الْقُدْرَة لَا الْإِثْبَات بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد معرفَة تفاصيل الْأَدِلَّة، وَالْمَذْكُور فِي الْأُصُول إجمالها، فَالْمُرَاد إِثْبَات الْأَحْكَام تَفْصِيلًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أخذا من شخصياته) حَال من الْأَحْكَام لكَونهَا مفعول الْإِثْبَات معنى: أَي إِثْبَاتهَا حَال كَونهَا مَأْخُوذَة من شخصيات الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي: يَعْنِي أَفْرَاد الشخصية، وَذَلِكَ لِأَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام التفصيلية بِوَاسِطَة كيفيات متنوعة كل نوع مِنْهَا يبين مَسْأَلَة من مسَائِل الْأُصُول، فَمن عرف الْأُصُول عرف تِلْكَ الْأَنْوَاع فَحصل لَهُ قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لحُصُول الاستعداد لَهُ بمعرفتها، فَكل حكم أَرَادَ إثْبَاته بدليله وجد عِنْده مَا يبين كَيْفيَّة إثْبَاته، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِالْقُدْرَةِ (وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاعه وأعراضه وأنواعها) عطف على مَحْذُوف هُوَ مُتَعَلق الْمُبْتَدَأ، وَالتَّقْدِير مَوْضُوعَة بِالْقُوَّةِ الدَّلِيل السمعي إِلَى آخِره، وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاع الدَّلِيل السمعي، وأنواع تِلْكَ الْأَعْرَاض، أما كَون هَذِه الْأَشْيَاء مَوْضُوعَات فَظَاهر لِأَنَّك إِذا نظرت فِي مسَائِل الْأُصُول وجدت موضوعاتها هَذِه الْأَشْيَاء، وَهِي الَّتِي يبْحَث عَن عوارضها الذاتية فِي هَذَا الْعلم، وَأما الدَّلِيل السمعي الْمُطلق فَلَا يكَاد يُوجد الْبَحْث عَن عَارضه الذاتي من حَيْثُ هُوَ مَوْضُوع بِالْفِعْلِ فِي مَسْأَلَة غير أَنه لما كَانَت من مَوْضُوعَات الْمسَائِل كلهَا جزئيات إضافية لَهُ أمكن أَن يُؤْخَذ من كل طَائِفَة مستوعبة جَمِيع أَفْرَاد الْمُطلق من محمولات الْمسَائِل مَفْهُوم مردد بَين آحَاد تِلْكَ الطَّائِفَة فَيثبت للمطلق، وكما أَن كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد عرض ذاتي للجزئي الإضافي للمطلق كَذَلِك المردد الْمَأْخُوذ مِنْهَا عرض ذاتي للمطلق، فَثَبت كَونه مَوْضُوعا بِالْقُوَّةِ، وَسَيَجِيءُ فِي كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى مَا يُشِير إِلَى هَذَا (فَالْمُرَاد بالأحوال) الَّتِي يتَوَصَّل الْعلم بهَا إِلَى الْقُدْرَة الْمَذْكُورَة (مَا يرجع إِلَى الْإِثْبَات) يَعْنِي أحوالا حَاصِل الْبَحْث عَنْهَا ومآله يرجع إِلَى كَون الدَّلِيل مثبتا للْحكم، وَلِهَذَا يُفِيد الْعلم بهَا قدرَة الاثبات
(1/19)
 
 
وَبِهَذَا ظهر وَجه التَّفْرِيع، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعض الْمُحَقِّقين من أَن فَائِدَة قيد الْحَيْثِيَّة أَن جَمِيع الْعَوَارِض المبحوث عَنْهَا فِي الْعلم لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار قيدا للموضوع (وَهُوَ) أَي الْإِثْبَات الَّذِي هُوَ مرجع الْأَحْوَال عرض (ذاتي للدليل) السمعي الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْعلم، فمرجع الْأَحْوَال عرض ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بِالْقُوَّةِ، وَهَذَا مَا وعدناك آنِفا (وَإِن لم يحمل الْإِثْبَات بِعَيْنِه) على الدَّلِيل: أَن وصلية، وَالْمعْنَى هُوَ ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بإثباته لَهُ فِي ضمن إِثْبَات مَا يرجع إِلَيْهِ بجزئياته: وَإِن لم يكن هُوَ بِعَيْنِه مَحْمُولا عَلَيْهِ، وَوضع الظَّاهِر مَوضِع الضَّمِير للتنصيص على أَن الْمَنْفِيّ عَنهُ الْحمل إِنَّمَا هُوَ نفس الْإِثْبَات لَا مَا يرجع إِلَيْهِ، وَقد عرفت (وَنَظِيره) أَي الْإِثْبَات فِي كَونه عرضا ذاتيا للموضوع غير مَحْمُول عَلَيْهِ مَا يرجع إِلَيْهِ (فِي الْمنطق) الإيصال، لِأَنَّهُ (لَا مَسْأَلَة) فِيهِ (محمولها الإيصال) كَمَا لَا مَسْأَلَة فِي الْأُصُول محمولها الْإِثْبَات وموضوع الْمنطق الْمَعْلُوم التصوري أَو التصديقي من حَيْثُ الإيصال إِلَى التَّصَوُّر، أَو التَّصْدِيق بِمَعْنى أَن جَمِيع الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا فِيهِ يرجع إِلَى الإيصال (وَمُقْتَضى الدَّلِيل خُرُوج عنوان الْمَوْضُوع) أَي خُرُوج الْبَحْث عَن عنوان الْمَوْضُوع عَن مبَاحث الْعلم الَّذِي هُوَ مَوْضُوعه: والبحث عَنهُ إثْبَاته لنَفس الْمَوْضُوع، وَالْمرَاد بعنوانه مَا جعل آلَة ملاحظته عِنْد تَعْيِينه فِي قَوْلهم: مَوْضُوع الْعلم كَذَا من حَيْثُ كَذَا، مَأْخُوذ من عنوان الْكتاب الدَّال على مضمونه إِجْمَالا، فالعنوان هَهُنَا الدَّلِيل السمعي من حَيْثُ يُوصل الخ، وَذَلِكَ لِأَن وَظِيفَة الْعلم بَيَان أَحْوَال الْمَوْضُوع، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد الْعلم بِذَاتِهِ وعنوانه الَّذِي بِهِ يعرف وَلِأَن الْمَوْضُوع إِنَّمَا وضع لِأَن يحمل عَلَيْهِ، لَا لِأَن يحمل على شَيْء، فَإِنَّهُ قلب الْمَوْضُوع (فالبحث عَن حجية الْإِجْمَاع) بِأَن يُقَال الْإِجْمَاع حجَّة (وَخبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس) بِأَن يُقَال هما حجتان (لَيْسَ مِنْهُ) أَي علم الْأُصُول لِأَن معنى " حجَّة " دَلِيل. وَهُوَ عنوان الْمَوْضُوع (بل من) مسَائِل (الْفِقْه لِأَن موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين ومحمولاتها الحكم الشَّرْعِيّ إِذْ معنى حجَّة يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ) أَي مَا ذكرنَا (فِي الْقيَاس على تَقْدِير كَونه فعل الْمُجْتَهد) بِأَن يُفَسر ببذل الْجهد فِي اسْتِخْرَاج الْحق أَو حمل الشَّيْء على غَيره بإجراء حكمه عَلَيْهِ وَنَحْوه (أما على) تَقْدِير (أَنه الْمُسَاوَاة الكائنة عَن تَسْوِيَة الله تَعَالَى بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الْعلَّة) المشيرة للْحكم (فَلَيْسَتْ) حجيته (مَسْأَلَة) أصلا (لِأَنَّهَا) أَي حجية الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة (ضَرُورِيَّة دينية) أَي بديهية فِي الدّين وضروريات الدّين لَا تكون مسَائِل، لِأَن المسأله مَا يبرهن عَلَيْهِ فِي الْفَنّ، والبديهي لَا يبرهن عَلَيْهِ، أما البداهة فَلِأَن من عرف معنى الْقيَاس على الْوَجْه الْمَذْكُور وَعرف معنى الحجية لَا يتَوَقَّف فِي الحكم بِأَنَّهُ حجَّة، وَلَا يضر فِي بداهة الحكم نظرية طَرفَيْهِ (بِخِلَاف) الْبَحْث عَن
(1/20)
 
 
(عُمُوم النكرَة) الْوَاقِعَة (فِي) سِيَاق (النَّفْي) فَإِنَّهُ غير خَارج عَن مبَاحث الْأُصُول بِمُقْتَضى الدَّلِيل لعدم اندراجه تَحت عنوان الْمَوْضُوع (فَإِنَّهُ) أَي الْعُمُوم (حَال للدليل) أَي عرض ذاتي للدليل الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْأُصُول، لَا من عنوانه، وَلَيْسَ ببديهي أَيْضا، وَكَأَنَّهُ تَركه لظُهُوره (فَعَن هلية الْمَوْضُوع البسيطة أولى) يَعْنِي إِذا كَانَ الْبَحْث عَن حجية الْمَذْكُورَات خَارِجا عَن الْأُصُول، بِمُقْتَضى الدَّلِيل لاندراجها تَحت العنوان بالتأويل الْمَذْكُور، فالبحث عَن وجود الْمَوْضُوع أولى بِالْخرُوجِ عَنهُ، لِأَن الْعلم بِوُجُود الشَّيْء يقدم على الْعلم بعنوانه لِأَن عنوانه وصف ثَابت لَهُ وَثُبُوت الشَّيْء للشَّيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلِأَن الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الإيصال، والوجود لَا مدْخل لَهُ فِيهِ ثمَّ اعْلَم أَن " هَل " لطلب التَّصْدِيق، وَهِي قِسْمَانِ بسيطة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود الشَّيْء أَولا وجوده كَقَوْلِه: هَل الْحَرَكَة مَوْجُودَة أَو لَا مَوْجُودَة، ومركبة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود شَيْء لشَيْء كَقَوْلِنَا: هَل الْحَرَكَة دائمة أَو لَا دائمة؟ ، وَقد أَخذ فِي هَذِه شيآن غير الْوُجُود، فَإِن الْمَطْلُوب فِيهِ وجود الدَّوَام لَهَا أَو لَا وجوده، والوجود فِي البسيطة مَحْمُول، وَفِي المركبة رابطة، وَتَسْمِيَة وجود الشَّيْء هليته لِأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى " هَل " لِأَنَّهُ يسْأَل عَنهُ بهَا وَإِنَّمَا قيد بالبسيطة لِأَن الْبَحْث عَن المركبة من الْعلم، بل الْمَطْلُوب فِي كل مَسْأَلَة وجود شَيْء للموضوع (وَقَوْلهمْ) أَي الْقَائِلين بِأَن الْبَحْث عَن الهلية من الْفَنّ فِي إِثْبَات مدعاهم (مَا لم يثبت وجوده) أَي الْمَوْضُوع (كَيفَ يثبت لَهُ الْأَحْكَام.) فَإِن ثُبُوت شَيْء لشَيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ (يَقْتَضِي التَّوَقُّف) أَي توقف الْبَحْث عَن أَحْوَال الْمَوْضُوع على ثُبُوت وجوده (لَا) يقتضى (كَونهَا) أَي هليته (من مسَائِل الْعلم) كَيفَ وَقد صَرَّحُوا بِأَن التَّصْدِيق بموضوعيته لَيْسَ من مسَائِل الْعلم، وَهُوَ بعد الْعلم بِوُجُودِهِ، كَذَا قيل، وَلَا يخفى عدم استلزام الأول للثَّانِي غير أَن الأول أقرب مِنْهُ فِي كَونه من الْمسَائِل (وعَلى) قَول (من أَدخل الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة فِي مَوْضُوع الْأُصُول (إِذْ يبْحَث) فِيهِ (عَنْهَا) أَي عَن أَحْوَال الْأَحْكَام (من حَيْثُ تثبت) أَي الْأَحْكَام (بالأدلة لَا يبعد إِدْخَال الْمُكَلف الْكُلِّي) أَيْضا فِيهِ لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى (إِذْ يبْحَث عَنهُ) أَي الْمُكَلف الْكُلِّي أَيْضا فِيهِ (من حَيْثُ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام وَقد وَضعه الْحَنَفِيَّة) أَي عدوا الْمُكَلف الْكُلِّي من الْمَوْضُوع (معنى) أَي يُسْتَفَاد من كتبهمْ من غير تَصْرِيح مِنْهُم (وأحواله) أَي وضعُوا أَحْوَال الْمُكَلف أَيْضا (فِي تَرْجَمَة الْعَوَارِض السماوية والمكتسبة) تَرْجَمَة الْبَاب عنوانه لِأَنَّهُ يترجم عَن مضمونه إِجْمَالا من الترجمان، وَهُوَ الْمُفَسّر للسان، وَالْمرَاد بالعوارض السماوية مَا لَيْسَ للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار، والمكتسبة الَّتِي اكتسبها العَبْد (لبَيَان كَيفَ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام) أَي وضع
(1/21)
 
 
الْحَنَفِيَّة الْمُكَلف وأحواله فِي الْبَحْث الْمَذْكُور لبَيَان كَيْفيَّة تعلق الْأَحْكَام بِهِ، وَقَوله لبَيَان كَيفَ الخ كَقَوْلِهِم فِي جَوَاب مَا هُوَ: أَي فِي جَوَاب السُّؤَال بِمَا هُوَ. أَي فِي جَوَاب هَذَا اللَّفْظ فَلَا يرد أَنه لَا يجوز إِضَافَة الْبَيَان إِلَى مَا يقتضى صدر الْكَلَام (وَإِذا كَانَت الْغَايَة الْمَطْلُوبَة) من الْعلم (لَا تترتب إِلَّا على) الْبَحْث عَن أَحْوَال (أَشْيَاء كَانَت) تِلْكَ الْأَشْيَاء (الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع الْعلم المغيا بِتِلْكَ الْغَايَة (كَمَا لَو ترتبت غايات على جمل من أَحْوَال) شَيْء (وَاحِد) كَانَ ذَلِك الْوَاحِد من مَوْضُوع عُلُوم فَهُوَ تَشْبِيه مركب بمركب، وهما الهيئتان الحاصلتان من الشرطيتين، وَوجه الشّبَه استتباع الْغَايَة من حَيْثُ الترتب الْمَوْضُوع من حيثية التَّعَدُّد أَو الْوحدَة فَفِي الْمُشبه استتبع ترتبها، وَهِي وَاحِدَة على الْبَحْث عَن أَحْوَال المتعدد ووحدة الْمَوْضُوع، وَفِي الْمُشبه بِهِ استتبع ترتبها، وَهِي مُتعَدِّدَة على أَحْوَال شَيْء وَاحِد تعدده، وَكلمَة مَا زَائِدَة مسوغة دُخُول الْحَرْف على الشّرطِيَّة، فَالْعِبْرَة فِي وحدة الْمَوْضُوع وكثرته بِحَال الْغَايَة ووحدتها وتعددها وترتبها (حَيْثُ يكون) الْوَاحِد الَّذِي ترتبت الغايات على جمل من أَحْوَاله (مَوْضُوع عُلُوم يخْتَلف) ذَلِك الْوَاحِد الْمَوْضُوع (فِيهَا) فِي تِلْكَ الْعُلُوم (بالحيثية) بِأَن يَجْعَل مَوْضُوع هَذَا الْعلم من حَيْثُ يُوصل الْعلم بجملة من أَحْوَاله إِلَى غَايَة كَذَا، وموضوع ذَلِك الْعلم من حَيْثُ يُوصل إِلَى جملَة أُخْرَى إِلَى غَايَة أُخْرَى وَهَكَذَا (وَمن هُنَا) أَي من أجل مَا ذكر من أَن الْعبْرَة بِحَال الْغَايَة فِي تعْيين الْمَوْضُوع (استتبعته) أَي الْغَايَة الْمَوْضُوع، إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من قَوْله وَلها وحدة غَايَة تستتبع وحدة موضوعها (وَلُزُوم التناسب) بَين الْأَشْيَاء الَّتِي ترتبت عَلَيْهَا الْغَايَة وَجعلت مَوْضُوعا أَمر (اتفاقي) لَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل عَقْلِي فَإِن قلت كَيفَ جمع بَين اللُّزُوم والاتفاق قلت لَا مُنَافَاة، لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ اللُّزُوم الْعقلِيّ بل كَونه أمرا مطردا لَا يتَخَلَّف فِي مَادَّة أصلا، فاللزوم أُرِيد بِهِ لَازمه (وَلَو اتّفق ترتبها) أَي الْغَايَة على الْأَشْيَاء (مَعَ عَدمه) أَي التناسب كَمَا اتّفق مَعَه (أهْدر) أَي التناسب وَأسْقط عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ كلمة لَو لِأَنَّهُ غير وَاقع (وبحسب اتِّفَاق الترتب) أَي ترَتّب الْغَايَة على مَا يُوصل الْبَحْث عَن أَحْوَاله إِلَيْهَا (كَانَت) طَائِفَة من الْعُلُوم (متباينة) غير متشاركة فِي الْمَوْضُوع لترتب غَايَة بَعْضهَا على شَيْء مباين لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر (و) طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا (متداخلة) لترتب غاياتها على شَيْء وَاحِد (إِلَّا فِي لُزُوم عرُوض عَارض المباين للْآخر فِي الْبَحْث) اسْتثِْنَاء من عُمُوم اعْتِبَار التباين والتداخل بِحَسب اتِّفَاق الترتب، يَعْنِي تباينها وتداخلها إِنَّمَا يعْتَبر بِحَسبِهِ فِي جَمِيع الصُّور إِلَّا فِي صُورَة لُزُوم الْعرُوض، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يعْتَبر التَّدَاخُل بِاعْتِبَار ذَلِك اللُّزُوم بِأَن يكون علمَان غَايَة كل مِنْهُمَا يَتَرَتَّب على مَا يباين مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر لكنهما متشاركان فِي لُزُوم عرُوض
(1/22)
 
 
عَارض لموضوعيهما (فتتداخل) الْعُلُوم المتشاركة فِي لُزُوم عرُوض الْعَارِض على الْوَجْه الْمَذْكُور (مَعَ التباين) بِحَسب الْمَوْضُوع (للْعُمُوم الاعتباري) فَإِن موضوعاتها، وَإِن كَانَت متباينة بِحَسب الْحَقِيقَة لَكِنَّهَا بِسَبَب اشتراكها فِي لُزُوم الْعَارِض الْمَذْكُور صَارَت كَأَنَّهَا مَفْهُوم وَاحِد عَام يَشْمَل تِلْكَ الْعُلُوم، فالعموم الاعتباري بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَحْمُول (كالمويسيقي) بِضَم الْمِيم وَكسر الْمُهْملَة وَالْقَاف يوناني مَعْنَاهُ تأليف الألحان، واللحن من الْأَصْوَات المصنوعة (مَوْضُوعه النغم) محركة ويسكن، الْكَلَام الْخَفي، الْوَاحِدَة بهاء، وَفِي الِاصْطِلَاح النغمة صَوت يتصاعد أَو يتنزل بِدَرَجَة من الدَّرَجَات الشَّرِيفَة ظَاهرا أومخيلا كَمَا إِذا سمع شخص صَوتا مُخْتَلفا فِي الحدة والثقل، وَاسْتقر فِي سامعته، ثمَّ بَدَأَ بِصَوْت لَا اخْتِلَاف فِيهِ فيتخيل التصاعد أَو التنزل فِيهِ بِاعْتِبَار مَا اسْتَقر فِي سامعته، والدرجات الشَّرِيفَة تعرف بِأَن يبْدَأ بِصَوْت معِين بعلامة خَاصَّة فيتصاعد دَرَجَة دَرَجَة بِأَن يكون التَّفَاضُل فِي كل دَرَجَة يسع مِقْدَار حَده المبدأ إِلَى أَن يبلغ إِلَى سبع وَعشْرين دَرَجَة، وَهَذَا نِهَايَة التصاعد بِحَسب الاستقراء فيتضاعف الأَصْل أَربع مَرَّات، وَهَذِه الدَّرَجَات تسمى بالدرجات الشَّرِيفَة (ويندرج) المويسيقى (تَحت علم الْحساب، وموضوعه الْعدَد) وَهُوَ نصف مَجْمُوع الحاشيتين، وَقيل مَا يبين بِهِ كمية الشَّيْء (مَعَ تبَاين موضوعيهما كَمَا قيل إِذْ كَانَ الْبَحْث فِي النغم عَن النّسَب العددية) تَعْلِيل لاندراجه تَحت علم الْحساب، يُرِيد أَن النّسَب العددية عوارض ذاتية للعدد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع علم الْحساب المباين لموضوع علم المويسيقى، وَقد بحث عَنْهَا فِي المويسيقى، كَمَا سبق إِلَيْهِ إِشَارَة على سَبِيل اللُّزُوم بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهَا مَبْحَث مِنْهُ، فَصَارَ عرُوض هَذَا الْعَارِض للنغم لَازِما للبحث عَن النغم، وَهَذَا معنى لُزُوم عرُوض عَارض المباين: أَي الْعدَد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْحساب فِي الْبَحْث عَن النغم الَّذِي هُوَ مَوْضُوع المويسيقى وَاعْلَم أَن الْمُعْتَبر فِي عَامَّة مسَائِل المويسيقى تأليف الألحان المتناسبة والتناسب بَينهَا إِنَّمَا يظْهر بِاعْتِبَار عدم الْأَجْزَاء وكيفياتها مثل الْبعد الصُّغْرَى إِنَّمَا يحصل بترتيب ثَلَاث دَرَجَات من الشَّرِيفَة، والكبرى من الْأَرْبَع، والكامل من الْخمس، وعَلى هَذَا الْقيَاس فالتناسب بَين الأبعاد لَا يظْهر إِلَّا بِالنّسَبِ العددية (وَاعْلَم أَن إيرادهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم (كلا من الْحَد والموضوع والغاية لتَحْصِيل البصيرة) للشارع فِي الْعلم (لَا يَخْلُو عَن اسْتِدْرَاك) لِأَنَّهُ فِي الْحَد يعرف الْمَوْضُوع والغاية، لِأَنَّهُ إِذا قيل: علم باحث عَن أَحْوَال كَذَا من حَيْثُ إِنَّه يُفِيد فَائِدَة كَذَا علم الْمَوْضُوع والغاية، فَإِن مَا يبْحَث عَن أَحْوَاله هُوَ الْمَوْضُوع، وَتلك الْفَائِدَة هِيَ الْغَايَة (إِلَّا من حَيْثُ التَّسْمِيَة باسم خَاص) اسْتثِْنَاء مِمَّا يدل عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاك، وَهُوَ نفي الْفَائِدَة، والمستثنى معرفَة اسْم خَاص للموضوع والغاية، وَفِي قَوْله لَا يَخْلُو إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ
(1/23)
 
 
بمستدرك من كل وَجه (وَلم يوردوه) أَي كلا مِنْهَا (لذَلِك) أَي لبَيَان ذَلِك الِاسْم الْخَاص بل لأجل البصيرة.
(الثَّالِث) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب (الْمُقدمَات المنطقية) سميت بهَا لكَونهَا من مسَائِل الْمنطق (مبَاحث النّظر) عطف بَيَان للمقدمات (وَتَسْمِيَة جمع) من الْأُصُولِيِّينَ كالآمدي وَمن تبعه (لَهَا) أَي للمقدمات المنطقية، أَو مبَاحث النّظر (مبادي كلامية بعيد) لِأَنَّهَا لَيست من الْكَلَام وَلَا كَونهَا مبادي يقْتَصر عَلَيْهِ (بل الْكَلَام فِيهَا كَغَيْرِهِ) من الْعُلُوم (لِاسْتِوَاء نسبتها إِلَى كل الْعُلُوم وَهُوَ) أَي وَجه الاسْتوَاء (أَنه) أَي الشَّأْن (لما كَانَ الْبَحْث ذاتيا للعلوم) أَي دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَهُوَ) أَي الْبَحْث (الْحمل) أَي إِثْبَات شَيْء لشَيْء (بِالدَّلِيلِ) لِأَن حَقِيقَتهَا التصديقات المدللة وَالْإِثْبَات جُزْء مِنْهَا (وَصِحَّته) أَي الدَّلِيل (بِصِحَّة النّظر وفساده بِهِ) أَي بِفساد النّظر، والجمل مُعْتَرضَة بَين لما وجوابها: أَعنِي قَوْله (وَجب التَّمْيِيز) بَين صَحِيحه وفاسده بِبَيَان شَرَائِط صِحَّته من حَيْثُ الْمَادَّة وَالصُّورَة بالقوانين الْمَوْضُوعَة لذَلِك كَمَا سَيَجِيءُ (ليعلم) بالتمييز بَينهمَا (خطأ المطالب) الْمَقْصُودَة من الْأَدِلَّة الْقَائِمَة على الأبحاث الْمَذْكُورَة فِي الْعُلُوم (وصوابها) الْخَطَأ وَالصَّوَاب إِنَّمَا يستعملان فِي الْأَحْكَام العملية كَمَا أَن الْحق وَالْبَاطِل يستعملان فِي العقائد، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُمَا هَهُنَا مَا هُوَ أَعم (وَلَيْسَ فِي الْأُصُول من) مسَائِل (الْكَلَام إِلَّا مَسْأَلَة الْحَاكِم) وَهِي أَن الْحَاكِم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة كلهَا هُوَ الله سُبْحَانَهُ بِلَا خلاف، لَكِن هَل يتَعَلَّق لَهُ تَعَالَى حكم قبل الْبعْثَة وبلوغ الدعْوَة أم لَا، الأشعرية لَا، فَلَا يحرم كفر، وَلَا يجب إِيمَان قبلهَا، والمعتزلة نعم فِيمَا أدْرك الْعقل فِيهَا حسنا أَو قبحا (وَمَا يتَعَلَّق بهَا) بِمَسْأَلَة الْحَاكِم (من) مَسْأَلَة (الْحسن والقبح) هَل هما عقليان أم لَا (وَنَحْوه) أَي الْمَذْكُور، قيل كَمَسْأَلَة الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب، وَمَسْأَلَة خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد (وَهَذِه) أَي الْمَذْكُورَات (من الْمُقدمَات) لهَذَا الْعلم لَا من مسَائِله (يتَوَقَّف عَلَيْهَا زِيَادَة بَصِيرَة) فِي معرفَة بعض مقاصده وَلَيْسَت بمقدمة الشُّرُوع لعدم مدخليتها فِي أَكثر الْمَقَاصِد، وَلِهَذَا لم يوردوها قبل الشُّرُوع (وَتَصِح) أَن تكون (مبادي على) اصْطِلَاح (الْأُصُولِيِّينَ) قَالَ الْآمِدِيّ فِي الْأَحْكَام: اعْلَم أَن مبادي كل علم هِيَ التصورات والتصديقات الْمسلمَة فِي ذَلِك الْعلم، وَهِي غير مبرهنة فِيهِ لبِنَاء مسَائِل ذَلِك الْعلم عَلَيْهَا سَوَاء كَانَت مسلمة فِي نَفسهَا كمبادي الْعلم الْأَعْلَى، أَو غير مسلمة فِي نَفسهَا، بل مَقْبُولَة على سَبِيل المصادرة أَو الْوَضع على أَن تبرهن فِي علم أَعلَى من ذَلِك الْعلم انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمسَائِل الْمَذْكُورَة مبرهنة فِي الْأُصُول فَلَا تكون من المبادي على مَا ذكره الْآمِدِيّ، نعم ذكر غَيره أَنَّهَا قد تطلق على مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشُّرُوع والبحث عَن مسَائِله بوسط أَو بِغَيْرِهِ وَلم يشْتَرط فِيهَا أَلا تكون
(1/24)
 
 
مبرهنة فِي الْعلم الَّذِي يتَوَقَّف الْبَحْث عَن مسَائِله عَلَيْهَا، وَقد يُقَال كَونهَا مبرهنة فِي كتب الْأُصُول لَا يستدعى كَونهَا جُزْءا من الْعلم لجَوَاز كَونهَا استطرادية (وَلما انقسم) النّظر (إِلَى مَا يُفِيد علما) (و) إ