تيسير علم أصول الفقه

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: تيسيرُ علم أصول الفقه
المؤلف: عبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذبالله من شرورِ أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ شرف العلمِ لا يخفى، وهو درجاتٌ ومنازلُ تعرفُ بما تتَّصلُ به، فسمُوُّها من سُمُوِّه، وقدْرها من قدْرهِ، فلذا كان أعلاها علومَ الدِّين التي تُدركُ بها معانيه وأسرارُه، وإنما شرُفتْ وعظُم قدْرُها لصِلتها بالله ربِّ العالمين، فهي العلومُ الموصلَةُ في الحقيقةِ إليهِ، وهذا معنى أكبرُ من علُوم الشَّريعةِ المقنَّنةِ بالاصطلاحِ، بل هو شاملٌ لما يُحقِّق من العلومِ أسبابَ الوُصولِ إلى الله عزَّوجلَّ، فيندرجُ تحتهُ كلُّ علمٍ أدَّى إلى هذه الحقيقةِ وإن أُلصِقَ بالدُّنيا في عرفِ النَّاسِ، لكن من العلمِ ما يصيرُ إلى هذه الحقيقةِ بالمقاصِدِ والنِّيَّات، ومنه ما هو من هذه الحقيقةِ بأصلهِ، كالعومِ التي يُدركُ بها مرادُالله ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهذه علومٌ باقيةٌ كطريقٍ موصلٍ إلى الله وإن فسدتْ في طلبها النِّيَّاتُ
(1/5)
 
 
والمقاصدُ، على أنه ما من إنسانٍ يسعى لتحصيلهَا فيجدُ لذَّتَها عندَ الطَّلبِ إلاَّ وجرَّتْهُ بنفسهَا إلى الإخلاصِ، كما قال مجاهدٌ رحمه الله: طلبْنا هذا العلمَ، وما لنا فيه كبيرُ نيَّةٍ، ثمَّ رزقَ الله بعدُ فيهِ النيَّةَ [أخرجه الدَّارمي بسندٍ حسنٍٍ] .
وأعظمُ العُلوم الَّتِي يُدْرِكُ بها مُرادُالله تعالى ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -[علمُ أُصولِ الفقهِ] ، فإنَّ الله تعالى أمرَبتدبُّرِ خِطابِهِ فقالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، كما قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، وأعظم ما يؤتاه الإنسانُ من المعرفةِ فقهٌ في دينهِ يُعرِّفهُ بمعبودِهِ تبارك وتعالى ويوصلهُ به، وذلك لهُ من المغاليق التي لا تفتحُ إلا بالإخلاص وسؤال الله تعالى التَّوفيق مع بذلِ الجُهدِ في استعمالِ الآلةِ الَّتي هي مفاتيحُ ذلك، والفتحُ فيها علامةٌ على أنَّ الله تعالى أراد الخيرَ بصاحبهَا، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينَ)) [متَّفقٌ عليهِ] .
وتلك الآلةُ هي (أصول الفقهِ) ، فهي مفتاحُ الفقه في الدِّين، لكنْ أرأيتَ إن كان مفتاحُك لا أسنانَ لهُ، أوْ لَهُ أسنانٌ لكنَّهُ لمْ يُصْنعْ لهذا البابِ، أتظنُّ أنْ سيفتحُ لكَ؟ كذلك مفتاحُ الأصولِ، فإنه لا بدَّ له من أسنانٍ، ولا بُدَّ أن يكونَ للفِقْهِ، فإنْ خرَجَ عن هذا الوصفِ فليسَ علمًا
(1/6)
 
 
لأصولِ الفقهِ، أُشيرُ بهذا إلى أنَّ التَّأصيلَ لهذا العِلمِ خرجَ به كثيرٌ من المنتسبين إليه عمَّا قُصِدَ بهِ، فجاءُوا ليضَعُوا القوانينَ لفقهِ الكتابِ والسُّنةِ، وجلُّهم لا يعلمُون مخارجَ السُّننِ وكثيرٍ من الكتابِ والسُّنةِ وهو ليسَ من أهلهما؟
على أنَّ هذا العلمَ ابتدأ صناعتَهُ وتقنينَهُ على أقربِ صُورةٍ إلى الاستيعابِ والكمالِ الإمامُ أبوعبد الله الشَّافعيُّ المتوفَّى سنة (204هـ) في كتابهِ العظيمِ (الرِّسالة) ، بناهُ على دلائل الكتابِ والسُّنةِ، بعيدًا عن التكلُّفِ وما لا يترتَّبُ عليه فائدةٌ أو عملٌ، وكانتْ تلكَ الأصولُ منثورةً في طرقِ الأئمَّةِ في الفقهِ قبل الشَّافعيِّ فيها التَّجريدُ والاستدلالُ، فمنْ جاء بعدَهُ بقيتْ فيهم طائفةٌ قليلةٌ على أثرهِ من جميعِ الفُقهاءِ غيرِ الحنفيَّةُ فسلكُوا طريقًا أقربَ إلى الصَّوابِ من أولئكَ الَّذينَ جاءُوا بعدَ الشَّافعيِّ، فإنهمْ نظرُوا في فُروعِ المذهبِ المنقولةِ عن الإمامِ أبي حنيفة وأصحابهِ وتأمَّلُوا طريقةَ فقْهِهمْ، فاسْتَفَادُوا منها التَّأصيلَ، فجاءتْ كُتُبُ كثيرٍ من مُصنِّفيهِمْ في الأصُولِ نافعَةً، من أمثالِ الإمامِ أبي بكْرٍ
(1/7)
 
 
الجَصَّاصِ المتوفَّى سنةَ (370هـ) ، لكن دخلَ متأخِّروهمْ فيما دخلَ فيهِ غيرُهم، وهذا العلمُ لصِلتِهِ بالكتابِ والسُّنةِ يجبُ أن تُستفادَ أصولُهُ منهما، فلذا كان أحسنُ الطُّرُقِ في تقنينِهِ وتأصيلهِ طريقَةَ الشَّافعيِّ رحمهُ اللهُ ومن جرى على مِنْهَاجِهِ.
وهذَا الكتابُ الَّذِي بين يديكَ عوْدَةٌ بهذا العلمِ إلى ذلكَ المِنهاجِ، بأُسلوبِ مناسبٍ للعصرِ في الشَّرحِ والإيضاحِ، سلكْتُ فيه أسْلوبَ التَّقسيمِ والتَّنويعِ مع التَّمثيلِ بأدلَّةِ الشَّريعةِ للمسائلِ الأصوليَّة، وتمييزِ الصَّحيحِ منها بالأدلَّةِ، وأهمُّ خصلةٍ حرصتُ عليها فيه تجنُّبُ تلكَ المسائل الَّتي حُسبتْ على هذا العلمِ وليست منهُ، مع إسقاطِ التَّمثيلِ والاستدلالِ بما لا يثبُتُ من جهَةِ النَّقلِ كالأحاديثِ الضَّعيفةِ، واستدْراكِ قضايا أُصوليَّةٍ كثيرةٍ تفتقرُ إلى ذكرهَا أكثرُ كتُبِ الأصولِ وهي من صميمِ هذا العلمِ، أدَعُ تمييزهَا لمن شاء المُقارنَةَ لهذا الكتابِ بغيرهِ من كتُبِ الأصولِ، كما حرصتُ أن لا يفوتَ شيءٌ لهُ اتِّصَالٌ بهذا العلمِ مما يقعُ منثورًا في كتبِ الأصولِ المتفرقةِ ما جرى منها تصنيفهُ على طريقةِ الشَّافعيِّ أو الحنفيَّةِ أو أهلِ الكلامِ إلاَّ أوردُهُ في هذا الكتابِ، وشرطتُ أن لا أذكر فيه حديثًا أو أثرًا في موضعِ الاستدلالِ والاستشهادِ إلاَّ وهو ثابتٌ من جهةِ النَّقلِ، ولا أُقلِّدُ في عزْوِ الأخبارِ إلى كتبِ الحديثِ، بلْ أستخرجُها من أصُولهَا كالصَّحيحينِ والسُّنَنِ وغيرهَا، كما لا أُقلِّدُ في الحكمِ على إسنادٍ، بل
(1/8)
 
 
هي نتيجةُ البحثِ والدِّراسةِ.
ولا أدَّعي في هذا الجُهدِ الكمالَ، لكنِّي قصدْتُ إليه بما آتى الله عزَّوجلَّ من العلمِ والقوَّةِ، فإن كان مُحقِّقًا للغايةِ منهُ فهذا ما أرْجوهُ، وإن كان دُون ذلك فحسْبِي أن يكونَ مُشاركَةً ومُحاولَةً لتذليلِ صِعابِ هذا العلمِ وتيْسِيرِهِ، الأمْرُ الَّذي ليسَ لي فيهِ فضْلُ تفرُّدٍ أدَّعيهِ، بل قد سبقَ إليهِ علماءُ كِبارٌ لم نزَلْ نقْطِفُ من نِتاجِ علمِهم، وسنبقى إن شاء اللهُ، كالشَّيخِ عبد الوهَّاب خلاَّف رحمه الله، والعلاَّمةِ الفقيه عبد الكريم زيدان مدَّ الله بعُمرِهِ ونفعَ به في كتابيهِما في الأصولِ.
وأُنبِّهكَ إلى أنِّي قصدتُ إلى تركِ إثقالِ الكتابِ بالحواشي في عزْوِ المسائل الأصولية إلى الكتبِ المختلفةِ إرادَةً للتَّخفيفِ، واكتفيتُ بذِكرِ أسماءِ المراجعِ آخرِ الكتابِن لأني لم أعمدْ إلى سياقِ الألفاظِ من تلكَ المراجع بحروفها لأكونَ مضطَرًّا إلى عزوِهَا في أصلِ الكتابِ، وما يكونُ من كثيرٍ من التَّعاريفِ والمصطلحاتِ والتَّقسيماتِ محكيًّا بألفاظه في كتبِ الأصولِ، فهذا النَّمطُ لم أرَ ضرورةً لعزوِهِ لأنَّ الأصوليِّين تواردوا على ذكرهِ، فتراهُ مكرَّرًا بحروفهِ في أكثرهَا من غيرِ عزوٍ لقائلٍ في الغالبِ، لأنها مصطلحات أشْبهَت التَّفسيراتِ اللُّغويَّة، وحسبُ الباحثِ أن يقول فيها: ((تفسير هذا اللَّفظِ في اللُّغة كذا)) ، فكذلك المُصطلحُ الأصوليُّ.
(1/9)
 
 
ومن جملةِ ذلك تركي لتفصيلِ التَّخريجِ والتَّحقيقِ للأحاديث والآثارِ، فإنَّ هذا لو أوردتُه لصارَ الكتابُ ضِعفَ حَجْمِهِ، وليسَ إيرادُه من لوازمِ علم أُصولِ الفقهِ.
وسمَّيتهُ (تيسيرُ علم أصول الفقه) على ما قصدتُ إليه فيهِ من تقريبِ هذا العلم وتيسيرهِ على طالبهِ، وتهيئةِ الأسبابِ الواجبِ تحصيلُها للمجتهدِ، ويأتي واحدًا من أهمِّ علومِ الآلةِ الَّتي أرجو أن تكون لي مشاركَةٌ في تسهيلِ عرضها، كما أنَّه يأتي باكورةَ إصداراتِ المركز الّضذي أنشأناهُ في أرضِ المهجرِ بريطانيا (مركز البحوث الإسلامية) ، والَّذي نطمعُ أن يُحقِّقَ المقصودَ به لخدمةِ العلومِ الإسلامية على أتمِّ وجهٍ وأكملهِ.
والله عالى أسألُ التَّوفيقَ والسَّداد في القولِ والعمَلِ، وأن يجعلَ هذا الكتابَ قُرَّةَ عينٍ لأولي الألبابِ، وأن يغفر لي ما زلَّ به اللِّسانُ والقلَمُ، هو حسبِي ونِعمَ الوكيلُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بهِ.
وكتب
أبومحمَّدعبد الله بن يوسف الجُديع
يوم عرفة ذ417هـ الموافقُ للسَّادس عشرَ من نيسان 1997م
في مدينة ليذز ـ بريطانيا ـ
(1/10)
 
 
أصول الفقه
"تعريفه:
"الأصولُ: جمعُ أصلٍ، وهو لُغةً: ما ينبني عليه غيرُهُ.
واصطلاحًا: يُطلقُ (الأصلُ) على أمورٍ، منها:
1-الدليلُ، ومنه: قولهمْ: (أصل هذه المسألةِ الكتابُ والسُّنة) .
2-الرَّاجحُ، كقولهم: (الأصلُ في الكلامِ الحقيقة) أي لا المجازُ، لأنها أرجحُ منه.
3-القاعدةُ، ومنهُ قولهُم: (الأصلُ أنَّ الفاعلَ مرفوعٌ) .
4-الاستصحابُ، ومنه قولُهم: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ) ، وسيأتي بيانُ معناهُ.
والفقهُ؛ لغةً: الفهمُ
واصطلاحًا: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة المُكتسبة من أدلَّتِها التَّفصيليَّة.
تفسير التَّعريف:
1-الأحكام: جمع حُكمٍ، وهو: إثباتُ شيءٍ لشيءٍ.
2-الشَّرعيَّة: المستفادة من الشَّريعةِ، فتخرُج منها أحكامُ العقلِ
(1/11)
 
 
المحضة.
3-العمليَّة: المتعلقة بأفعالِ المكلَّفين، فيخرجُ منها الأحكامُ الاعتقاديَّة والسُّلوكيَّة.
4-المكتسبة: المستفادة بطريقِ النَّظرِ والاستدلالِ، فيخرُجُ من الفقهِ نوعانِ من العلمِ:
[1] علم الله تعالى أو رسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأما علمُ الله تعالى فهو وصفٌ لازمٌ له علىوجه الكمالِ، ولو عُلِّق بالاستنباط لكانَ نقصًا يُنزَّه عنه سبحانه وتعالى، وأمَّا علمُ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - فمصدرهُ الوحيُ الَّذي هو من علمِ الله تعالى.
[2] علمُ المقلَِّّد، فإنه لم يستفدْهُ بالنَّظر والاستنباطِ، إنما حملهُ عن غيرهِ.
5-الأدلَّة: جمعُ (دليلٍ) وهو لغةً: الهادي.
واصطلاحًا: ما يُستدل بالنَّظر الصَّحيح فيه على حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ على سبيل القطعِ أو الظَّنِّ.
6-التَّفصيليَّة: الجزئيَّة أو الفرعيَّة.
والأدلَّة التفصيليَّة، هي كلُّ دليلٍ يختصُّ بمسالةٍ معيَّنةٍ، كاختصاصِ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا} [الإسراء:32] بحرمةِ الزِّنا، فهذه الآية دليلٌ تفصيليُّ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ هي الزِّنا، وهو
(1/12)
 
 
غيرُ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: 34] ، فهذا دليلٌ تفصيليُّ على مسألةٍ معيَّنةٍ أخرى هي حرمَةُ أكلِ مالِ اليتيمِ.
وأصول الفقه:
هي القواعد والأدلَّة العامَّةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى الفقهِ.
من أمثلة القواعدِ:
1-الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.
2-النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.
3-العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ.
والأدلَّةُ هي مصادرُ التَّشريعِ، كـ: الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ.
الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية:
القاعدةُ الأصوليَّةُ هي: دلالةٌ يهتدي بها المجتهدُ للتَّوصُّلِ إلى استخراجِ الأحكامِ الفقهيَّة، فهي آلتُهُ الَّتي يستعملُها لاستفادَةِ تلكَ الأحكامِ، كالقواعدِ الثَّلاثِ المتقدِّمة.
أما القاعدةُ الفقهيَّةُ؛ فهيَ الجملةُ الجامعةُ من الفقهِ تندرجُ تحتهَا جزئياتٌ كثيرةٌ، بمنزلةِ النُّصوصِ الجوامعِ للمعاني، كالمُناسبةِ الَّتي تُلاحظها بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (الأمور بمقاصدها) ، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -:
(1/13)
 
 
((إنما الأعمال بالنِّيات)) أو بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (المشقَّةُ تجلِبُ التَّيسيرَ)) وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، فالقاعدة الفقهيَّةُ جملةٌ جامعةٌ لجزئيَّاتٍ كلُّهنَّ من بابها وموضوعها، بمنزلةِ المستفاد من آيةٍ جامعةٍ أو حديثٍ جامعٍ، كالمثاليين المذكورين.
ولو تأمَّلتَ اعتبار جميع التصرفات بالمقاصد فكم تُرى يندرجُ تحت ذلك من المسائل الفرعيَّةِ في العبادات والمعاملاتِ والجناياتِ والعقوباتِ، فأفعال المصلِّي والمزكي والبائع والمشتري والنَّاكح والمُطلق والسَّارق والزَّاني والقاتل والحالفِ والقاضي، إلى غير ذلك ممَّا تعتبرُ فيه النِّياتُ والإراداتُ كلُّه مندرجٌ تحت هذه الجملةِ، فلمَّا جاءتْ على الاستيعاب للأمورِ الكثيرةِ سمِّيتْ (قاعدة) ، ولما كانتْ في المسائلِ الشَّرعيَّة العمليَّة سميَّتْ (فقهيَّة) ، وهذه بخلافِ (الأصوليَّة) فإنَّها لا تندرجُ تحتها الفروعُ العمليَّة، إنما هي أداةٌ لمعرفتها من الدَّليلِ الشَّرعِّ، ومن خلالِ دراسةِ قواعدِ الأصولِ في هذا الكتابِ ستعلمُ حقيقةَ المقصودِ بقولنا (أداة) أو (آلة) .
(1/14)
 
 
مباحث الأحكام
(1/15)
 
 
1ـ معنى الحكم
"تعريفه:
هو: خطابُ الشَّارعُ المتعلِّق بأفعالِ المكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا أوْ وضعًا.
"شرح التعريف:
خطابُ الشَّارعُ: هو خِطابُ الله تعالى المُباشرُ كالوحي بالقرآنِ والسُّنة، أو المبنيُّ على خطابه المُباشر كالإجماعِ والقياسِ.
المتعلقُ بأفعالِ المكلفينَ: المراد بالأفعال ما هو آتٍ في التَّعريف، وأمَّا المكلفُ فسيأتي تعريفه في (المحكوم عليه) .
اقتضاءً: أي: طلبًا، ويندرجُ تحتهُ: مطلوبُ الفعلِ، ومطلوبُ التَّركِ، وكلٌّ من المطلوبينَ ينقسمُ إلى: لازمٍ، وغير لازمٍ.
تخييرًا: أي متساوٍ فعلُهُ وتركُهُ.
وضعًا: ما جعلهُ الشَّارعُ سببًا لشيءٍ، كدُلوكِ الشَّمس لوجوبِ الصلاةِ، أو شرطًا لشيءٍ، كالوضوءِ لصحَّةِ الصَّلاةِ، أو مانعًا من شيءٍ، كالقتل مانعًا من الإرثِ، أو حكمُ الشَّارع بصحَّةِ شيءٍ أو فسادِه أو بُطلانهِ، أو شدَّتِهِ أو خِفَّتهِ.
(1/17)
 
 
2ـ أقسام الحكم
الحكم التكليفي
"تعريفه:
هو ما اقتضى طلبَ فعلٍ من المكلفِ، أو طلبَ كفٍّ، أوخيِّرَ فيه بين الفعلِ والتَّركِ.
وسمِّي (تكليفيًّا) لأنه يقعُ بامتثالهِ كلفةٌ.
وتسميتهُ (تكليفيًّا) جرى على التَّغليبِ، وإلاَّ فإن ما خيَّر فيه الشَّارع ليس فيه تكليفٌ في الحقيقة.
أقسامه:
يُلاحظُ من التَّعريف أن الحكم التَّكليفي يمكنُ أن يندر تحتهُ خمسةُ أقسامٍ، هي:
1- الواجب
*تعريفه:
لغةً: السَّاقطُ والواقعُ، يقالُ: (وجبَ الحائطُ) إذا سقطَ، ومنه قوله تعالى في النُّسكِ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: ذبِحتْ فسقطتْ ووقعتْ إلى الأرضِ.
وفيه معنى الثبوتِ واللُّزومِ، فإنَّ ما يسقطُ يستقرُّ بسقوطهِ ويلزمُ
(1/18)
 
 
الوضعَ الَّذي يسقطُ عليه، ومن ثمَّ قيلَ: (وجبَ البيعُ) أيْ: ثبتَ واستقرَّ ولزِمَ، وهذا أصلُ معنى الواجبِ في الاصطلاحِ.
واصطلاحًا: هو ما طلبَ الشَّارعُ فعله على وجهِ اللُّزومِ، ورتَّب على امتثالهِ المدحَ والثَّوابَ، وعلى تركهِ مع القُدْرةِ الذَّم والعقابِ.
صيغته:
الصِّيغُ الدَّالة على إفادةِ الوجوبِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنةِ كثيرةٌ أهمُّها:
1-صيغة الأمرِ بلفظِ الإنشاءِ، بفعلِ الأمرِ (افْعَلْ) كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ، أو المضارعُ المجزومِ بلامِ الأمرِ كقوله تعالى: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] ، أو اسمِ فعلِ الأمر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، أو المصدر النَّائب عن فعلِ الأمرِ، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] .
وسيأتي في مبحث (الأمر) في (قواعد الاستنباط) بيانُ دلالة هذه الصِّيغة على الوُجوبِ.
2-صيغةُ (أمرَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] ، وقوله: {إِنَّ
(1/19)
 
 
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا آمركمْ بخمسٍ الله أمرني بهنَّ: السَّمعِ والطَّاعةِ، والجهادِ، والهجرةِ، والجماعةِ)) ، (جزءٌ من حديثٍ صحيحٍ أخرجه التِّرمذِيُّ وغيرهُ) .
3-صيغة (كتبَ) و (كُتِبَ) ، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسنُوا القِتلَةَ، وإذا ذبحتُم فأحسنُوا الذِّبح، وليُحِدَّ أحدُكمْ شفْرَتَهُ فليُرِحْ ذبِيحتَهُ)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ شدَّاد بنِ أوسٍ] .
4-صيغةُ (فرضَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: أوجبنا العمل بها.
وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثَ معاذً إلى اليمنِ قال: ((إنكَ تقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُن أوَّل ما تدعوهمْ إليهِ عبادَةُ الله عزَّوجلَّ، فإذا عرفُوا الله فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهمْ خمسَ صلواتٍ في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرْهُم أنَّ الله قد فرض عيهم زكاةً تُؤخذُ من أغنيائهم فترَدُّ على فُقرائهِم، فإن أطاعُوا بها فخذْ منهمْ وتوقَّ كرائمَ أموالهِم)) [متفق عليه] .
5-صيغة (لهُ عليك فِعلُ كذا) كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
(1/20)
 
 
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ الرَّجل على امرأته: ((ولكم عليهنَّ أن لا يوطئنَ فُرشَكُمْ أحدًا تكرهُونهُ، فإنْ فعلنَ ذلكَ فاضْرِبُوهنَّ ضربًا غير مُبرِّحٍ)) [أخرجه مسلمٌ من حديث جابربن عبدِالله] ، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] .
6ـ صيغةُ الخبر الَّتي فيها تنزيل المطلوب منزلةَ التَّامِّ الحاصل تأكيدًا للأمر به، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] .
7ـ ما ورد فيه ترتيبُ المؤاخذة على تركِ الامتثالِ، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لا يرحمُ لا يُرحمُ)) [متفقٌ عليه من حديث جريرِ بن عبد الله وأبي هريرة] .
8ـ وصفُ تركِ الامتثالِ بالمخالفةِ، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((شرُّ الطَّعام طعامُ الوليمةِ، يُدعى لها الأغنياءُ ويُتركُ الفقراءُ، ومن تركَ الدَّعوةَ فقد عصَى الله ورسولَهُ)) [متفق عليه] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] .
9ـ ما رُتِّب على تركه عدمُ الاعتدادِ بالعملِ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ)) [متفقٌ عليه من حديث عُبادة بنِ
(1/21)
 
 
الصَّامت] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاحَ إلاَّ بوليٍّ)) [حديث صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّننِ وغيرهُمْ] .
"مسائل:
1ـ الفعل النَّبويُّ إذا جاء تفسيرًا لواجبٍ مجملٍ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا كما رأيتمُوني أصلِّي)) [أخرجه البخاريُّ من حديث مالك بن الحُويرِثِ] ، وقد صلَّى بفعلهِ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لِتأخُذُوا مناسِككُمْ)) [أخرجه مسلمٌ من حديث جابر بن عبد الله] ، وقد حجَّ بفعلهِ، هلْ يكونُ ذلكَ الفعلُ واجبًا؟
التَّحقيقُ الَّذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ أنَّ البيانَ بالفعلِ واقعٌ على ما هوَ واجبٌ كالرُّكوعِ والسُّجودِ في الصَّلاةِ، وعلى ما هو مندُوبٌ كرفعِ اليدينِ وصفِّ القدمينِ ووضعِ اليُمنى على اليسرَى، فمجرَّدُ الفعلِ النَّبويِّ لم يُحل المندوبَ منها واجبًا، وذلك لوْ صحَّ فإنَّهُ يعني أنَّ المندوباتِ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - انقلبتْ واجباتٍ بفعلهِ في حقِّ أمَّتهِ، وهذا معنى لا يُتصورُ، فالتكليفُ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - مقطوعٌ بأنهُ آكدٌ منهُ فبي حقِّ أمَّتِهِ.
فلا يصلُحُ إذًا إطلاقُ أنَّ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانًا لواجبٍ فكلُّ أجزاءِ ذلك الفعلِ واجبةٌ على أمَّتهِ، وإنما يُستفادُ وجوبُها من غير ذاتِ الفعلِ، وتبقى مشروعيَّةُ المتابعةِ للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - واجبةً في الواجبِ، ومندوبةً في المندوبِ.
(1/22)
 
 
2ـ (الفَرْضُ) هوَ (الواجبُ) عند جمهورِ الفُقهاءِ، فيقولونَ: (صومُ رمضانَ واجبٌ) كما يقولونَ: (فرضٌ) ، ويقولونَ: (زكاةُ الفِطرِ فرضٌ) كما يقولونَ: (واجبةٌ) .
وخالفهم في ذلكَ الحنفيَّةُ ـ وهو رِوايةٌ عن الإمامِ أحمد ـ ففرَّقوا بينَ (الفرضِ) و (الواجبِ) لا من جهَّة التَّعريفِ المتقدِّم، وإنما من جهةِ طريقِ ورودِ الدَّليل الدَّال على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهم ما وردَ الدَّليل الدَّالِّ على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهُم ما وردَ بدليلٍ قطعيِّ الورودِ كالقرآن والحديثِ المتواترِ فهو فرضٌ، وما وردَ بدليلٍ ظنِّيِّ الوُرودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ فهو واجبٌ، وعليه فـ (الواجبُ) أدنَى في الحتميَّةِ عندهُم من (الفرضِ) بهذهِ الحيثيَّةِ.
ومذهبُ الجمهورِ أصحُّ وأرجَحُ، لرُجحانِ وجوبِ العملِ بحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ، كما سيأتي بيانُهُ في الكلامِ على (دليلِ السُّنَّة) في أدلَّةِ الأحكامِ، لكن يُستفادُ من هذا مُراعاةُ طريقةِ الحنفيَّةِ عندَ النَّظرِ في كتُبِهِم في الفُروعِ.
3ـ مسألةُ (ما لا يتِمُّ الوَاجبُ إلاَّ بهِ فهوَ واجِبٌ) :
ما يتوقَّفُ عليه الإتيانُ بالواجبِ، وهوَ مقدِّمتُهُ الَّتي ينبنِي عليها تحصلُهُ، يرجعُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
[1] ما لا يدخُلُ تحتَ قُدرةِ العبدِ.
(1/23)
 
 
مثلُ: زوالِ الشًّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، فهذهِ مقدِّمةٌ لا تَتِمُّ صلاةُ الظُّهرِ إلاَّ بها لكنَّها ليستْ تحتَ قُدرَةِ المُكلَّفِ.
فهذا القِسمُ لا يندرجُ تحتَ المسألةِ المذكورةِ.
[2] ما يدخُلُ تحتَ قُدرةِ المكلَّفِ لكنَّهُ غيرُ مأمورٍ بتحصِيلِهِ.
مثلُ: بُلوغِ النِّصابِ لوجوبِ الزَّكاةِ، والاستطاعَةِ لوُجوبِ الحجِّ، فإنَّه تحتَ قُدرتِه أن يجمعَ النِّصابَ، وأن يكتسِب لِيُحقِّق الاستِطاعةَ للحجِّ، لكنَّ ذلكَ لا يجبُ عليهِ.
فهذا لا يدخلُ أيضًا تحتَ المسألةِ المذكورَةِ.
[3] ما يدخُل أيضًا تحتَ قُدرَةِ المكلَّفِ وهو مأمورٌ بتحصِيلِهِ.
مثلُ: الطَّهارةِ للصَّلاَةِ، والسَّعيِ للجُمُعَةِ، فهذا يجبُ عليهِ الإتيانُ بهِ، وهو المقصودُ بالقاعدَةِ.
ومن هذا التقسيمِ يُلاحظُ أنَّ هذهِ المسألةِ ليستْ قاعدَةً لإثباتِ وُجوبِ ما لم يرِدْ بِوُجوبهِ دليلٌ، إنما هي مسألةٌ قُسِّمتْ عليهَا مقدِّماتُ الوَاجبِ، أمَّا أن يُقالَ: تثبُتُ بها واجباتٌ لا دليلَ عليها إلاَّ هذه الجُملةِ فهذا ما لا وجودَ لهُ على التَّحقيقِ، وسيأتِي في (قواعِدِ الاستنباطِ) في مبحثِ (إشارَةِ النَّصِّ) ما يُبيِّنُ أنَّ مقدِّماتِ الواجبِ واجبةٌ بنفسِ دليلِ ذلكَ الواجبِ.
4ـ لم يرِدِ استعمالُ لفظِ (واجب) في نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ
(1/24)
 
 
بمعناهُ الاصطلاحِيِّ، ولذا أخطأَ من استدلَّ بظاهرِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((غُسلُ يومِ الجُمُعةِ واجبٌ على كلِّ مُحتلِمٍ)) [متَّفقٌ عليه من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ] على فرضِ غُسلِ الجُمُعةِ بناءً على معنَى (الواجبِ) في الاصطلاحِ، وقدْ ثبتتْ الأدلَّةُ مفسِّرَةً لهذا الحُكمِ أنَّ الغُسْلَ يومَ الجُمُعةِ ليس بفرضٍ، إنَّما هو سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، فكان تأويلُ لفظةِ (واجبٍ) في هذا الحديثِ على ما ذكرهُ بعضُ أهلِ العلمِ: للتَّوكيدِ في النَّدْبِ، وهوَ بِمنزلَةِ قولِ الرَّجلِ: (حقُّكَ عليَّ واجبٌ) .
"أقسامه:
للواجبِ أقسامٌ باعتبارَاتٍ متعدِّدَةٍ، هي:
1ـ باعتبارِ وقتِ أدائهِ، قسمانِ:
[1] واجبٌ مُطلقٌ أو مُوسَّع، وهوَ ما طلبَ الشَّارِعُ فعلَهُ من غيرِ تقيِيدٍ لأدائِه بزَمَنٍ مُعيَّنٍ.
مثلُ: قضاء ما أفطرَهُ الإنسانُ بعُذرٍ من رمضانَ، فإنَّ الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فهي فُسحةٌ بعدَ رمضانَ في أيِّ وقتٍ شاءَ من عامِهِ، لا يلزمُهُ التَّعجيلُ ولا يأثَمُ بالتَّأخيرِ، وإن كانت المُسارعَةُ أبرأ للذِّمةِ خشيةَ أي يُحالَ بينهُ وبين القضاءِ، وكذا الصَّلواتُ الخمسُ فيما بينَ الوَقتينِ.
[2] واجبٌ مقيَّدٌ أو مُضيَّقٌ، وهو ما طلبَ الشَّارعُ فعلَهُ مقيَّدًا
(1/25)
 
 
بزمنٍ معيَّنٍ.
مثلُ: صومِ رمضانَ لمنْ شهِدَ الشَّهرَ ولا عُذْرَ لهُ بتأخيرِ الصَّومِ، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 285] .
وهذا لا تبرأُ الذِّمةُ إلاَّ بأدائهِ في وقتِهِ المحدَّد.
2ـ باعتبارِ تقديره وحدِّه، قسمانِ:
[1] واجبٌ مقدَّرٌ (محدَّد) ، وهو ما عيَّن الشَّارِعُ له حدًّا محدُودًا، فيلزَمُ الوقوفَ عندَهُ.
مثلُ: أنصبَةِ الزَّكاةِ ومقدَارِ الواجبِ فيها.
وحكمُ هذا النَّوعِ أنهُ يلزمُ المكلَّفَ، ولا تبرأُ ذمَّتُهُ له حدًّا.
مثلُ: مقدارِ النَّفقةِ الواجبةِ على الزَّوجِ لزوجتِه، التَّعاوُن على البِرِّ والتَّقوى، الإحسانِ إلى النَّاسِ، فإنهُ ليس لهذهِ الواجباتِ تقديراتٌ شرعيَّةٌ، وإنَّما يعودُ تقديرُها إلى الظَّرفِ وإدراكِ المكلَّفِ، أو إلى العُرفِ أو قضاءِ القاضي كما في المسألةِ الأولى.
3ـ باعتبارِ تعيينهِ بذاتِهِ أو عدم تعيينِهِ، قسمانِ:
[1] واجبٌ معيَّنٌ، وهو ما تحتَّم على المكلَّفِ أن يوقعَه بعينِه من
(1/26)
 
 
غير أن يكون له فيه اختيارٌ آخر.
مثلُ: صيامِ شهرِ رمضانَ، فإنَّ المكلَّفَ ليس مخيَّرًا بين الصِّيامِ والفِطر، بلْ تعيَّنَ عليه الصِّيامُ وليس ثمَّةَ بديلٌ عنه ما كانتْ له قدرَةٌ عليه.
[2] واجبٌ غيرُ معيَّن، وهو ما تحتَّم على المكلَّفِ أن يوقِعه، لكنْ باختيارِ موسَّعٍ بين أصنافٍ من الأفعالِ يتحقَّقُ الواجبُ بفعلِ أحدِهَا.
مثلُ: كفَّارةِ اليمينِ، فإنَّها واجبةٌ، لكنَّها تتحقَّقُ بواحدٍ من ثلاثةِ أشياءَ: إطعامُ عشرةِ مساكينَ، أو كِسوتُهُمْ، أو عتقُ رقبةٍ، أيَّ ذلكَ فعلتَ أسقطَ عنكَ الوجوبَ، فهوَ غيرُ معيَّنٍ في أحدِهَا.
4ـ باعتبارِ المُطالبِ بهِ، قسمان:
[1] واجبٌ عينيٌّ، أو: (فرضُ عينٍ) ، وهو ما توجَّه فيه الطَّلبُ الَّلازمُ إلى كلِّ مكلَّفٍ، فلا يُسقطُ قيامُ البعضِ به المؤاخذَةَ عن الباقينَ.
مثلُ: الصَّلواتِ الخمسِ، وحجِّ البيتِ، وصلةِ الأرحامِ.
[2] واجبٌ كِفائِيٌّ، أو (فرضُ كِفايَةٍ) ، وهو ما طلبَ الشَّارِعُ حصولَه من جماعةِ المكلَّفينَ، بِحيثُ لوْ قامَ بعضُهُم برِئتْ ذِمَّةُ سائرِهِمْ.
مثلُ: الجهادِ في سبيلِ اللهِ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وتحصيلِ الأسبابِ لحفظِ الضَّروراتِ الخمسِ: الدِّينِ، والنَّفسِ،
(1/27)
 
 
والمالِ، والعِرضِ، والعقلِ، كالتَّفرُّغِ للعُلومِ المتخصِّصَةِ في الشَّريعَةِ والحياةِ، وإدارةِ شؤونِ الحُكمِ والقضاءِ والسِّياسَةِ.
واجتمَاعُ النَّاسِ على التَّفريطِ بِهذا الواجبِ اجتِماعٌ على الإثمِ، ولا تبرأُ ذِمَمُهُمْ حتَّى يوجدَ فيهِمْ من يُحقِّقُ الكفايَةَ لسائِرِ المسلمينَ بتحصيلِ ذلكَ الواجِبِ.
2ـ المندوب
"تعريفه:
لغةً: يُقالُ: (ندَبَ القومَ إلى الأمرِ) أيْ: دعاهُمْ وحثَّهُم إليهِ، فالنَّدْبُ: الدَّعوةُ إلى الشَّيءِ والحثُّ عليهِ، و (المندُوبُ) المدْعوُّ إليهِ.
واصطلاحًا: ما طلبَ الشَّارعُ فعلُهُ من غير إلزامٍ، ورتَّب على امتثالهِ المدحَ والثَّوابَ، وليسَ على تركِهِ الذَّمُّ والعقابُ.
"صيغته:
1ـ كلُّ صيغَةِ أمرٍ قامَ بُرهانٌ على عدَمِ الإلزامِ بها، لأنَّهُ كما تقدَّم في (الواجبِ) أنَّ صيغَةَ (افْعَلْ) دالَّةٌ على الوجوبِ بأصلِ وضعِهَا على أصحِّ المذاهبِ وأقواهَا دليلاً، فإذا قامَ بُرهانٌ على إرادَةِ مجرَّدِ النَّدبِ صُرِفتْ دلالَةُ تلكَ الصِّيغَةِ إلى النَّدْبِ.
(1/28)
 
 
مثلُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، فقولُهُ: {فَاكْتُبُوهُ} صيغةُ أمرٍ أصلُ دلالتِها على الوجوبِ، لكنَّ الحُكمَ معقولُ المعنى يتعلَّقُ بحُقوقِ الخلقِ، فإذا وجدُوا استغناءً عن الكتابةِ بالثِّقةِ والتَّراضِي فهي حقوقُهم وهُم أصحابُها، وما يقعُ من الضَّرَرِ فهم يحتمِلوهُ، فلِذا قال من بعْدُ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، فكان الأمرُ بالكتابةِ على سبيلِ النَّدبِ والحثِّ والإرشادِ لمصلحتِهِمْ.
2ـ كلُّ صيغةٍ خبريَّةٍ تضمَّنتِ الحثَّ وليسَتْ مؤوَّلةً بالأمرِ، كصِيغِ التَّرغيبِ بأذكارٍ أو تطوُّعاتٍ مخصوصةٍ، كأنْ يجيءَ: (مَن قالَ كذا فلهُ كذَا وكذا) ، أو: (مَن صلَّى كذا فلهُ كذا) .
3ـ كلُّ فِعلٍ نبويٍّ قُصِدَ به التَّشريعُ على ما سيأتِي بيانُهُ في (دليلِ السُّنَّةِ) ، كصلاةِ الرَّواتبِ، وصيامِ التَّطوُّعِ.
* ألقابه:
يُسمَّى (المَنْدُوبُ) :
1ـ السُّنَّة. 2ـ النَّافلَةَ. 3ـ المُسْتَحَبَّ.
4ـ التَّطوُّعَ. 5ـ الفضيلةَ.
ومن العُلماءِ من يقولُ: يُسمَّى (مندُوبًا) إذا كانتْ مصلَحتُهُ أُخرويَّة، و (إرشادًا) إذا كانتْ مصلَحَتُهُ دُنيَويَّة.
(1/29)
 
 
"درجاته:
ليسَتِ المندُوباتُ على درجَةٍ واحدَةٍ من جهةِ النَّدبِ إليهَا، بلْ متفاوتَةٌ باعتباراتٍ:
1ـ سُنَّة مُؤكَّدة:
وهي ما داوَمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على امتثَالِهِ، وربَّما معَ اقترَانِه بالحثِّ عليهِ قولاً، مثلُ: صلاة ركعتَي التَّطوعِ قبل صلاَةِ الصُّبحِ، فقدْ صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنهَا قالتْ: ((ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في شيءٍ من النَّوافِلِ أسرعَ منه إلى الرَّكعتينِ قبلَ الفجرِ)) [متَّفقٌ عليه، واللَّفظُ لمسلمٍ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ركْعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها)) [رواهُ مسلم]
2ـ سُنَّةٌ غيرُ مؤكَّدةٍ:
وهي ما كان من السُّنَن ممَّا لم يُواظِبْ عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كصيامِ التَّطوُّع، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُ حتَّى يُقالَ لا يُفطِرُ، ويُفطرُ حتَّى يقالَ لا يصومُ، وكصلاةِ أربعِ ركعاتٍ قبلَ العصرِ، فقدْ حثَّ عليها - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ مواظبةٍ على فعلِهَا.
ويندرجُ تحتَ هذا البابِ جميعُ ما حثَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه بالقولِ من التَّطوُّعاتِ، ولم يُنقلُ عنه المُواظبَةُ عليه بالفِعلِ، كقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((تَابِعُوا بين الحجِّ والعُمرَةِ، فإنَّهُمَا ينفيَانِ الفقْرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ
(1/30)
 
 
الحديدِ والذَّهبِ والفِضَّةِ، وليسَ للحجَّةِ المبرورَةِ ثوابٌ إلاَّ الجنَّة)) [حديث صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] ، وحثَّ على العُمرَةِ في رمضانَ، ومعَ ذلكَ فما اعتمرَ - صلى الله عليه وسلم - في حياتِهِ إلاَّ أربعَ عُمر، وحجَّ حجَّةً واحدَةً.
3ـ فضيلةٌ وأدَبٌ:
وتُسمَّى كذلكَ بـ (سُنَّةِ الزَّوائد) ، و (سنَّة العادَةِ) ، وهي الأفعالُ النَّبويَّةُ في غيرِ أمرِ التَّعبُّدِ، كصفةِ أكلِهِ وشُربِهِ ونوْمِهِ ولِبَاسِهِ ومَشْيِهِ ورُكوبِهِ، ونحوَ ذلكَ، فإنَّ الاقتداءَ بالنًَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها فضيلَةٌ، فذلكَ من بابِ التَّشبُّه بهِ، وهو ممدُوحٌ، ما لمْ يُعارضْ مصلحةً أرجَح.
وهذا بابٌ جرى فيه الحالُ النَّبويُّ على مُقتضى الطَّبع البَشرِيِّ، أو على مجارَاةِ العُرفِ الَّذي لم يُخالفُ الدِّين، فما كان منه بمقتضى الطَّبعِ فالسُّنَّةُ فيه أن يُجاريَ الإنسانُ طبعَ نفسِهِ ما دامَ لا يُخالفُ الشَّريعة، وبذلك يحقِّقُ الاقتداءَ بأتمِّ من تحقيقهِ له لو تكلَّف وتصنَّع بخلافِ طبعِهِ ليُوافقَ المِشْيَةَ النَّبويَّة أو القِعدَة النَّبويَّة، وإن كان جاريًا على موافقِةِ العُرفِ كلُبسِ الإزارِ والقميصِ الطَّويلِ، فإنَّ السُّنَّةَ الَّتي ينبغي المتابعةُ فيها هي أن يُجاريَ المُسلمُ عرفَ بيئتِهِ وزمانِهِ في ذلك ما دامَ لم يُخالفْ شرعًا في نوعِ لباسِهِم وهيئتهِم، ويكونُ قَدْ خالفَ
(1/31)
 
 
الاقتداءَ بمخالفةِ العرفِ، لأنَّ الكونَ في المجتمعِ والنَّاسِ على سبيل الموافقةِ لا المخالفَةِ مقصودٌ لئلاَّ يقعَ التَّميُّزُ ومن ثمَّ الارتفاعُ على الخلقِ والتَّزكيةُ للذَّواتِ، وإنَّما يدعُ المسلمُ من العُرفِ ما خالفَ الشَّرعَ في أمرٍ أو نهيٍ.
وبعدَ هذا فيبقى من (سنن العادةِ) ما لا ينتدرجُ تحتَ طبعٍِ ولا عُرفٍ، ممَّا لا يخلو في أكثرِ الأحيانِ من معانٍ شرعيَّة ٍ أو صحيَّةٍ أو غير ذلك، يجدُهَا المتأمِّلُ لوْ أمعنّ النَّظرَ، وهذا كصِفَةِ جلُوسهِ - صلى الله عليه وسلم - للأكلِ، فإنَّه قال: ((لا آكُلُ متَّكئًا)) ، وفيه معنى شرعيٌّ دينيٌّ ومعنى صحِّيٌّ، فالمعنى الشَّرعيٌّ الدِّينيُّ بيَّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ في حديثٍ آخر: ((آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ)) ، [حديثٌ حسنٌ رواهُ ابنُ سعدٍ وأحمدُ في ((الزُّهدِ)) وغيرهما] ، وهذا معنى تواضعٍ وانكِسارٍ، وأمَّا المعنى الصحِيُّ فإنَّ الاتِّكاءَ فُسِّرَ بالتَّربُّعِ، كما فُسِّر بالجُلوسِ معتمدًا على شيءٍ، وعلى أيِّ التَّفسيرِينِ فهيَ هيئةُ تمكُّنٍ تدفَعُ إلى الإقبالِ على الطَّعامِ بنِهمةٍ مع استعدادِ البطنِ للامتلاءِ، فقد استرخَتِ المفاصلُ وارتفعتِ القيودُ، بخلافِ جِلسَةِ العبدِ المُقلقةِ الَّتي صورتُها صورةُ جلسَةِ العَجلانِ الَّذي ينتظرُ متَى يفرُغُ من طعامِه، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدَميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أكلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإنْ كانَ لا محَالَةَ فثُلُثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنَفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] .
(1/32)
 
 
المندُوبُ تكليف اختياري لمصلحة المكلف:
إنَّ الله عزَّوجلَّ جعلَ في المستحبَّات رحمةً للعبادِ تصلُ بهِمْ إلى المقاماتِ العليَّةِ، ففي الحديثِ القُدسِيِّ: ((ولا يزالُ عبْدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّهُ)) ، كما جعل فيها عوضًا لهم عمَّا يقعُ من تقصيرٍ في الفرائضِ فتجبُرُ نقصَهَا، كما صحَّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ أوَّل ما يُحاسبُ النَّاسُ به يومَ القيامَةِ من أعمالِهِمُ الصَّلاةُ، قال: يقولُ ربُّنا جلَّ وعزَّ لملائكتهِ وهوَ أعلمُ: انظُرُوا في صلاةِ عبدِي أتمَّها أم نقصَهَا، فإن كانتْ تامَّةً كُتِبتْ لهُ تَامَّةً، وإن كانتْ انتقصَ منها شيئًا قال: انظرُوا، هلْ لعبْدِي من تطوُّعٍ؟ فإنْ كانَ لهُ تطوُّعٌ قالَ: أتمُّوا لعبدِي فريضتَهُ من تطوُّعِهِ، ثمَّ تُؤخذُ الأعمالُ على ذَاكُمْ)) [أخرجه أصحابُ السُّنن] .
ولو أيقنَ العبدُ أنَّهُ أتمَّ الفرائضَ وما انتقصَ منهاَ شيئًا كانتْ نافلتُهُ زيادةً في درجتهِ، وإن تركَ التَّطوُّعاتِ حينئذٍ فليسَ عليهِ من مأثمٍ، دليلُ ذلكَ ما أخرجهُ الشَّيخانِ من حديثِ طلحةَ بنِ عُبيدِالله رضي الله عنهُ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرَّأسِ يُسمعُ دويُّ صوتِهِ ولا يُفقَهُ ما يقولُ، حتَّى دنَا، فإذا هُوَ يسألُ عن الإسلامِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمسُ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ)) فقال: هلْ عليَّ غيرهَا؟ قالَ: ((لا، إلاَّ أن تطوَّعَ)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وصيامُ رمضَانَ)) قال: هلْ عليَّ غيرُهُ؟ قال: ((لاَ، إلاَّ أن تطوَّعَ)) قال:
(1/33)
 
 
وذكر له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكاةَ، قال: هلْ عليَّ غيرُها؟ قال: ((لا، إلاَّ أن تطوَّعَ)) ، قال: فأدبرَ الرَّجلُ وهو يقولُ: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلحَ إنْ صدَقَ)) .
ولكنَّ الصِّدقَ في ذلك أمرٌ مظنونٌ، والعبدُ يعملُ العملَ لا يضمنُ إتقانَهُ من كلِّ وجوهِهِ، لذلكَ يبقى محتاجًا إلى التَّطوعِ، ولا يحسنُ به أن يتركهُ طولَ عمُرِهِ معتمدًا على أدائهِ الفرائضَ، فإنَّ خير الهديِ هديُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان المثلُ الأعلى في المحافظةِ على كثرةِ التَّطوعَاتِ.
*مسألة:
ذهبَ الحنفيَّةُ والمالكيةُ إلى أنَّ من شرعَ في التَّطوعِ فإنَّهُ يصيرُ عليهِ واجبًا بِمجرَّدِ الشُّرُوعِ، فليسَ له إبطالُهُ ولا الخُرُوجُ منهُ، فإنْ خرجَ منهُ لزمَهُ القضاءُ عند الحنفيَّةِ، وعند المالكيَّةِ: يلزمُهُ القضاءُ إذا خرجَ منهُ بغيرِ عذْرٍ، ولا يلزمُهُ إذَا خرجَ منهُ بعذْرٍ.
واستدلُّوا بعمُومِ قولهِ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .
ومذهبُ الشَّافعيِّ وأحمدَ وسفيانَ الثَّورِيِّ: هو تطوُّعٌ قبلَ الشُّروعِ فيهِ وبعدَهُ، وليسَ عليهِ قضاءٌ لو تركهُ، إنما الأمرُ له إن شاءَ قضَى وإنْ شاءَ تركَ، وهذه الآيةُ ليستْ في ذلكَ، إنَّما هي في إبطالِ الحسناتِ
(1/34)
 
 
بفعلِ السَّيِّئاتِ، أو بالرِّياءِ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الصَّائمُ المتطوِّعُ أميرُ نفسِهِ، إن شاءَ صامَ وإن شاءَ أفطرَ)) [أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ من حديث أمِّ هانيءٍ، ولهُ شاهدٌ من حديثِ عائشةَ] .
3ـ الحرام
* تعريفه:
لُغةً: المنعُ، و (المُحرَّمُ) الممنوعُ منه، وهوَ ضدُّ الحلالِ.
واصطلاحًا: ما طلَبَ الشَّارِعُ الكفَّ عنه على وجهِ الحَتْمِ والإلزامِ، ويثابُ تاركُهُ امتثالاً، ويُعاقبُ فاعلُهُ اختيارًا.
ومن أسمَائِهِ: المحظُورُ.
"صيغته:
يُستفادُ (التَّحريمِ) الصَّريحِ، كقولهِ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دَمُهُ، ومالُهُ، وعرضُهُ)) [حديث صحيحٌ رواهُ مسلمٌ] .
2ـ نفيُ الحلِّ، كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لايحلُّ لمسلمٍ أن
(1/35)
 
 
يهجُرَ أخَاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ)) [متفقٌ عليه] .
3ـ صيغة النَّهي، وهي أنوعٌ تعودُ جملتُهَا إلى:
[1] لفظِ (النَّهي) الصَّريحِ، كقوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لعليٍّ رضي الله عنه وقد وهبهُ خادمًا: ((لا تضْرِبْهُ، فإنِّي نُهيتُ عن ضربِ أهلِ الصَّلاةِ، وإنِّي رأيتهُ يُصلِّي منذُ أقبلنَا)) [رواه البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) 163 بسندٍ حسنٍ] .
ويلحقُ بهذا قولُ الصَّحابيِّ: ((نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا)) .
[2] صيغة (زَجرَ) ، كحديثِ أبي الزُّبيرِ قال: سألتُ جابرًا (يعني ابنَ عبد الله) عن ثَمَنِ الكلبِ والسِّنَّورِ؟ قالَ: زَجرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ [أخرجه مسلمٌ] .
[3] صيغةِ الأمر بالانتهاءِ، كقوله تعالى للنَّصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي الشَّيطانُ أحدَكُم فيقولُ: من خلقَ كَذا، من خلقَ كذا، حتى يقولَ: من خلقَ ربُّكَ؟ فإذا بلغهُ فليستَعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ)) [متفق عليه عن أبي هريرة] .
[4] صيغة الفِعلِ المضارعِ المقترنِ بـ (لا) النَّاهيّةِ، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لايَبِع بعضُكُم على بيعِ بعضٍ)) [متَّفقٌ عليه عن ابن عمرَ] .
(1/36)
 
 
[5] صيغةِ (لا ينبغي) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحريرِ: ((لا ينبغي هذا للمتَّقينَ)) [متفق عليه من حديثِ عُقبةَ بنِ عامرٍ] .
[6] صيغةِ الأمرِ بالتَّركِ بغيرِ صيغةِ النَّهيِ الصَّريحةِ، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبُوا السَّبع المُوبقَاتِ)) قالوا: يا رسول الله، وماهنَّ؟ قال: ((الشِّركُ بالله، والسِّحرُ، والتَّولِّي يوم الزَّحفِ، وقذْفُ المُحصناتِ المُؤمناتِ الغافلاتِ)) [متفق عليه عن أبي هريرة] ، وحديث عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: طلَّقتُ امرأتي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائضٌ، فذكر ذلك عُمرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((مُرهُ فليُراجِعْهَا، ثمَّ ليَدَعْهَا حتَّى تطْهُرَ، ثم تحيضُ حيضةً أُخرى، فإذا طهُرتْ فليُطلِّقها قبلَ أن يُجامِعَهَا، أو يُمسِكْهَا، فإنَّها العدَّةُ الَّتي أمرَ اللهُ أن يُطلِّقَ لها النِّساءُ)) [رواه مسلمٌ] .
4ـ ما رُتِّب على فعلهِ عُقُوبةٌ أو وعيدٌ دُنيويٌّ أو أخْرَوِيٌّ فهوَ دليلٌ على تحريمهِ، فمِنْ صُورِهِ:
[1] عُقُوبةُ الحدُودِ، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
(1/37)
 
 
أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]
[2] التَّهديد بالعقابِ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278ـ 279] ، وقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60ـ 62] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهِم الجُمُعاتِ أو ليختِمَنَّ الله على قُلوبِهِمْ ثمَّ ليكونَنَّ من الغافلينَ)) [رواه مسلمٌ وغيرهُ عن ابن عُمر وأبي هريرة] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرفُ بهِ يومَ القيامَةِ)) [متفقٌ عليه] ، فهذه فضيحةٌ يومَ العرضِ.
[3] ترتيبُ اللَّعنةِ على الفعلِ، وهي نوعٌ من العُقوبَةِ، وفيه نصوصٌ كثيرةٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ.
5ـ وصف الفِعلِ بأنهُ من الذُّنوبِ، ومنه وصفُه بأنَّه كبيرةٌ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منْ ذنبٍ أجدرُ أن يُعجِّل الله تعالى لصاحبِهِ العقُوبةَ في الدُّنيا
(1/38)
 
 
مع ما يُدخرُ لهُ في الآخرةِ مثلُ البغي، وقطيعةِ الرَّحمِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أبوداودَ وغيرُهُ عن أبي بكرة] ، وعن أنسٍ رضي الله عنهُ قال: سُئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائرِ؟ قال: ((الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النَّفسِ، وشهادَةُ الزُّورِ)) [متَّفقٌ عليهِ] .
6ـ وصفُ الفعلِ بالعُدوانِ، أو الظُّلم، أو الإساءَةِ، أو الفسقِ، أو نحوَ ذلكَ، كحديثِ عبد الله بن عمرِو رضي الله عنهما قال: جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يسألهُ عن الوضُوءِ، فأرَاهُ الوضُوء ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ قال: ((هكذَا الوُضوءُ، فمن زادَ على هذا فقدْ أساءَ وتعدَّى وظلمَ)) [حديث حسنٌ، أخرجهُ النَّسائيُّ وغيرُهُ] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] .
7ـ تشبيهُ الفاعلِ بالبهائمِ أو الشَّياطين أو الكفرةَ أو الخاسرين أو نحوِهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسَ لنَا مثلُ السَّوءِ، الَّذي يعودُ في هِبتِهِ كالكلبِ يرجعُ في قيئِهِ)) [متفق عليه من حديث ابن عباس] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما يلبسُ الحريرَ في الدُّنيا من لا خلاقَ لهُ في الآخرةِ)) [متفقٌ عليه من حديث عُمر بن الخطَّابِ] .
8ـ تسميةُ الفعلِ باسمِ شيءٍ آخر محرَّمٍ معلومِ الحُرمة، كوصفِ
(1/39)
 
 
الفعلِ بأنَّه زِنا أو سرِقة أو شركٌ، أو غير ذلك، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتب على ابنِ آدمَ حظَّهُ من الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا محالَةَ، فزِنا العينِ النَّظرُ، وزِنَا اللِّسانِ المنطقُ)) الحديث [متفقٌ عليه عن أبي هريرةَ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسوَأُ النَّاسِ سرِقةً الَّذي يسرقُ صلاتَهُ)) قالُوا: يا رسول الله، وكيف يسرقُ صلاتَهُ؟ قالَ: ((لا يُتمُّ رُكُوعهَا ولا سُجُودَهَا)) [حديث صحيحٌ، رواه الدَّارمِيُّ وأحمدُ وغيرهما] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((منْ حلفَ بغيرِالله فقَدْ أشركَ)) [حديثٌ صحيحٌ رواه أبوداود والتِّرمذِيُّ وغيرُهما] .
"أقسامه:
التَّحريمُ لم يأتِ في شريعةِ الإسلامِ إلاَّ لشيءٍ كانتْ مفسدَتُهُ خالصَةً أو غالبةً، وجميعُ المحرَّماتِ لا تخلو من أن تكونَ على واحدٍ من الوَصْفينِ، وهذه قاعدَةٌ عظيمةٌ في الفقهِ لإدراكِ ما يمكنُ أن يلحقَ بالحرَامِ بحسبِ رُجْحانِ جانبِ المفسدةِ، أو فُقدانِ المصلحَةِ.
والمفسدَةُ في المحرَّمِ تكونُ في ذاتِ الشَّيءِ المحرَّمِ، أو يكونُ المحرَّمُ سببًا فيها، وعليه فالمحرَّماتُ قسمانِ:
1ـ محرَّمٌ لذاتِهِ:
مثلُ: الشِّركِ، والزِّنا، والسَّرقَةِ، وأكلِ الخِنزيرِ، فهذه حُرِّمت لِذواتِها، ومفاسدُها خالصَةٌ أو راجحَةٌ، ويترتَّبُ على فعلِهَا: الإثمُ
(1/40)
 
 
والعِقابُ، وبُطلانُ كونِهَا أسبابًا شرعيَّةً لثبوتِ شيءٍ من الأحكامِ، فالزِّنَا مثلاً لا يثبتُ بهِ النَّسبُ ولا يأخذُ أحكامَ الزَّواجِ الصَّحيحِ، والسَّرقةُ لا تثبتُ المكليَّة للمالِ المسروقِ، وهكذا.
2ـ محرَّمٌ لغيرهِ:
هو مباحٌ في الأصلِ أو مشروعٌ لخُلوِّهِ من المفسدَةِ أو رُجحانِ مصلحتهِ، لكنَّه في ظرفِ معيَّنٍ كان سببًا لمفسدةٍ راجحَةٍ، فتعتريهِ الحُرمَةُ في تلكَ الحالِ.
مثلُ: البيعِ والشِّراءِ، فإنَّهُ مباحٌ مشروعٌ، إلاَّ أنهُ يحرُمُ عند سماعِ النِّداءِ الأوَّلِ للجُمُعةِ، لما يقعُ بمزوالتِهِ حينئذٍ من تفويتِ الجُمُعةِ، والرَّجلُ يخطبُ امرأةً أجنبيَّةً ليتزوَّجها حلالٌ مباحٌ، لكنَّهُ يحرُم إذا علمَ أنَّ مسلمًا غيره قد تقدَّمَ لِخِطبتها حتَّى ينصرِفَ عنها أو تنصرِف عنه، وإنَّما كانتْ الحرمَةُ العارضَة لما يُسبِّبُ ذلك من العدَاوةِ بين المسلمينَ بسببِ ما يقعُ من الإيذاءِ، ومثلهُ أن يبيع على بيعِ أخيهِ، والصَّلاةُ مشروعةٌ في كلِّ وقتٍ إلاَّ في ساعاتٍ منعت الشَّريعَةُ من الصَّلاةِ فيها دفعًا لمشابهةِ الكُفَّار حيثُ يسجدونَ للشَّمسِ عندَ طُلوعهَا وغُروبهَا.
ولوْ أوقعَ المسلمُ الفعلَ من هذه الأفعالِ في وقتِ تحريمِهَا، فهلْ يصحُّ منه الفعلُ مع الإثمِ، أو يفسدُ الفعلُ مع الإثمِ؟ بينَ الفُقهاءِ خلافٌ، وسيأتي في (مبحث النَّهي) .
(1/41)
 
 
"تنبيه:
فرَّق الحنفيَّةُ في المطلوبِ الكفُّ عنه على وجه الإلزامِ بين ما ثبتَ بدليلٍ قطعيِّ الورود كالقرلآن والسُّنةِ المتواترَةِ، فسمَّوا ما ثبت به (الحرام) ، وما ثبتَ بدليلٍ ظنِّيِّ الورودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ، فسمَّوه: (المكروهُ تحريمًا) ، وهذا شبيهُ ما تقدَّم لهُم في التَّفريقِ بينَ (الفرضِ) و (الواجبِ) ، وجمهُورُ العلماءِ على عدمِ التَّفريقِ، وهو الصَّوابُ.
4ـ المكروه
"تعريفه:
لُغةً: مادَّتُهُ (كره) وهو أصلٌ يدلُّ على خلافِ الرِّضا والمحبَّةِ، فـ (المكروهُ) ضدُّ المحبوبِ.
واصطلاحًا: ما طلبَ الشَّارعُ من المكلَّفِ تركَهُ لا على وجهِ الحتْمِ والإلزامِ، ويثابُ تاركُه امتثالاً، ولا يعاقبُ فاعلُهُ.
وقد استُعملَ لفظُ (المكروهُ) في لسانِ الشَّرعِ بِهذا المعنى، وكذلك بمعناهُ اللُّغويِّ الَّذي هو ضدُّ المحبوبِ، فربَّما وُصفَ بهِ (الحرامُ) ، كما في قوله تعالى بعد ذكرِ بعضِ المناهي في سورةِ الإسراءِ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] ، وجميعها محرَّمٌ، والمعنى فيه أنَّ تلكَ المحرَّماتِ غيرُ محبوبةٍ ولا مرضيَّةٍ، بلْ مُبغضةٌ
(1/42)
 
 
مكروهَةٌ، لكن هذا الاستعمالُ لا يُشكلُ على المعنى الاصطلاحيِّ لـ (المكروه) على أنَّه نوعٌ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ غيرُ (الحرام) .
"صيغته:
تُعرفُ الكراهةُ في الأحكامِ الشَّرعيَّة باستعمالاتٍ تدلُّ عليها، ترجعُ إلى ثلاثةِ أنواعٍ:
1ـ لفظِ (الكراهةِ) كما في حديث المغيرةِ بن شُعبةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله حرَّم عليكُم عقوقَ الأمَّهاتِ، وأودَ البناتِ، ومنعَ وهاتِ، وكرِه لكُم قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإضاعَةَ المالِ)) [متفقٌ عليه] ، وفيه تفريقٌ بيِّنٌ بينَ (الحرامِ) و (المكروه) .
ومنها: حديثُ المهاجرِ بنِ قُنفُذٍ رضي الله عنه: أنَّهُ أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يبُولُ، فسلَّمَ عليه فلم يرُدَّ عليهِ حتَّى توضَّأ، ثمَّ اعتذَرَ إليه فقال: ((إنِّي كرهتُ أن أذْكُرالله عزَّوجلَّ إلاَّ طُهرٍ (أو قال: على طهارةٍ)) ) [حديثٌ صحيحٌ رواه أبوداودَ وغيرُهُ] ، مع ما ثبتَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ يذْكُرُ الله على كلِّ أحيانِهِ [رواه مسلمٌ عن عائشة] .
2ـ صيغةِ النَّهيِ الَّتي قام بُرهانٌ على صرفهَا عن التَّحريمِ، كحديث عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: في شرْطةِ مِحجَمٍ، أو شربَةِ عسلٍ، أو كيَّةٍ بنارٍ، وأنا
(1/43)
 
 
أنهى عن الكيِّ)) [رواه البخاريُّ] ، فهذا النَّهيُ للكراهَةِ لا للتَّحريمِ، وممَّا دلَّ عليه: حديثُ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ((إنْ كانَ في شيءٍ من أدويتِكُم خيرٌ ففي شربةِ عسلٍ، أو شرطَةِ مِحجمٍ، أولَذْعَةٍ من نارٍ، وما أحِبُّ أن أكتوِي)) [متفقٌ عليه] ، فهذا إذنٌ لهُم في التَّداوي بالثَّلاثِ المذكُورَاتِ، معَ كراهَةِ الكيِّ.
ومن ذلكَ حديثُ عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يومَ خيبرَ عن أكلِ الثُّومِ [رواه البخاريب] ، وهذا النَّهيُ ليسَ للتَّحريمِ بأدلَّةٍ عديدةٍ منها:
حديثُ أبي أيُّوبَ الأنصارِيِّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بِطعامٍ أكل منهُ وبعثَ بفضْلِه إليَّ، وإنَّه بعثَ إليَّ يومًا بفضْلةٍ لم يأكلُ منها؛ لأنَّ فيها ثومًا، فسألتُه: أحرَامٌ هُوَ؟ قال: ((لاَ، ولكنِّي أكرَهُهُ من أجلِ ريحِهِ)) قال فإنِّي أكرهُ ما كرِهتَ، وفي روايةٍ: وكانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى [رواه مسلم] ، والمقصودُ أنَّه كان يأتيهِ الملكُ.
3ـ التُّروكِ النَّبويَّة الَّتي قُصدَ بها التَّشريعُ لا الَّتي جرتْ بمقتضى الطَّبع البشرِيِّ، وهذا يُقابلُ ما يفيدُه الفعلُ النَّبويُّ من الاستحبابِ، فكذلك يُفيدُ التَّركُ الكراهةَ.
ومن أمثلة ما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تركَهُ عمدًا بقصدِ التَّشريعِ لا بمقتضى
(1/44)
 
 
طبعهِ: تركُهُ مُصافحة النِّساءِ في البيعةِ، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: ما مسَّت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدَ امرَأةٍ قطُّ، غيرَ أنَّه بايعهُنَّ بالكلامِ [متفقٌ عليه] ، وقال: - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أُميمةَ بنتِ رُقيقَةَ: ((إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، إنما قولي لمئةِ امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدَةٍ)) [حديثٌ صحيحٌ، رواه مالكٌ وغيرُهُ] ، فهذا تركٌ مقصودٌ للمصافحة، مع أنَّها كانتْ من سُنَّة البيعةِ، وما كان ليدَعَ مستحبًّا، ولا مباحًا يستوي فيه الفعلُ والتَّركُ والمرأةُ تمدُّ إليهِ يدَهَا وهوَ يكفُّ يدَهُ كما جاءَ في بعضِ رِواياتِ هذه القصَّةِ، والتَّركُ المجرَّدُ لا يرقى بنفسهِ إلى أن يكونَ المتروكُ حرامًا، إلاَّ أن يدلَّ على التَّحريمِ دلبيلٌ مستقلٌّ غيرُ التَّركِ، ولم يأتِ في هذه المسألةِ ما يدلُّ على تحريمِ مجرَّدِ المصافحةِ للنِّساءِ إلاَّ أن تكونَ بشهوةٍ، فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((وزِنَا اليدِ اللَّمسُ)) ، والزِّنا لا يقعُ بغير شهوةٍ، والمصافحةُ تقعُ بشهوةٍ وبغيرِ شهوةٍ، فمجرَّدها مكروهٌ، وبالشَّهوةِ حرامٌ.
"مسائل:
1ـ لفظ (الكراهةِ) في استعمالِ العلماءِ جارٍ على معنى الكراهةِ المذكورِ ههنا، سِوى الحنفيَّة فإنَّهُم يقولونَ: كراهةُ تحريمٍ، وكراهَةُ تنزيهٍ، والنَّوعُ الأوَّلُ في تقسيمِهِم هذا من قِسمِ (الحرامِ) كما تقدَّمَ التَّنبيهُ عليهِ، والثَّاني من قسمِ (المكروه) الاصطلاحيِّ.
(1/45)
 
 
2ـ ويقعُ في كلامِ الشَّافعيِّ وأحمدَ وبعضِ أهلِ الحديثِ استعمالُ لفظِ (الكراهة) بمعنى التَّحريم وبمعنى الكراهةِ الاصطلاحيّضةِ، فلاحِظْ ذلكَ.
3ـ يُلاحظُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيءٍ، وثبتَ أنَّه فعلهُ، فإنَّ فعلهُ يدلُّ على الجوازِ، ولا يُقال: صُرفَ النَّهي عن التَّحريمِ إلى الكراهةِ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعلُ المكروهَ.
5ـ المباح
"تعريفه:
لُغَةً: مادَّتهُ ((بوح)) وتدلُّ على سعةِ الشَّيءِ، ومنه قيلَ: (باحَةُ الدَّارِ) ، ومنهُ جاءتْ (إباحَةُ الشَّيءِ) ، وذلك لكونِه مُوسعًا فيه غيرَ مُضيَّقٍ.
واصطلاحًا: ما خيَّر الشَّارعُ المكلَّف بين فعلهِ وتركهِ، ولا يلحقُهُ مدحٌ شرعيٌّ ولا ذمٌّ بفعلهِ أو تركِهِ، إلاَّ أن يقترنَ فعلُه أو تركُه بنيَّةٍ صالحةٍ فيُثابُ على نيَّتِهِ.
وهوَ: الحلالُ.
"صيغته:
تُعرفُ الإباحةُ بطرُقٍ، تعودُ جملتُها إلى أربعٍ:
(1/46)
 
 
1ـ الصِّيعةُ الصَّريحةُ في الحلِّ، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ حينَ سألوهُ عنهُ: ((هُوالطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُهُ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن] .
2ـ رفعُ الحرجِ أو الإثمِ أو الجُناحِ أو ما في معنى ذلك، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائكم} [النور: 61] ، وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] ، وعن أبي المِنهالِ عبد الرَّحمن بن مُطعمٍ قال: سألتُ البراءَ بن عازبٍ وزيدَ بن أرقمَ عن الصَّرفِ؟ فقالاَ: كُنَّا تاجرَيْنِ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّرفِ؟ فقالَ: ((إن كانَ يدًا بيدٍ فلا بأسَ، وإن كانَ نساءً فلا يصْلُحُ)) [رواه البُخاريُّ] .
3ـ صيغةُ الأمرِ الواردَةِ بعدَ الحظْرِ لِما كان مُباحًا في الأصلِ، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] ، فهذا أمرٌ جاءَ بعدَ حظْرِ البيعِ عند سماعِ نِداءِ الجُمُعةِ وإيجابِ السَّعيِ إليها، فلمَّا انتهى العرضُ من ذلكَ عادَ الأمرُ إلى الإباحةِ السَّابقةِ بصيغةِ طلبٍ أُريد بها رفعُ الجُناحِ العارضِ لأجلِ
(1/47)
 
 
الجُمُعةِ.
ومنها: صيغة الأمرِ الواردةِ لإفادةِ نسخِ الحظْرِ والعودَةِ بحكْمِ الشَّيءِ إلى الإباحَةِ كما لو لم يرِدِ الحظَرُ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نَهيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبورِ فزُرُورها، ونهيتُكُمْ عن لُحومِ الأضاحِي فوقَ ثلاثٍ فأمسِكُوا ما بدَا لكُم، ونهيتُكمْ عن النَّبيذِ إلاَّ في سقَاءٍ فاشربُوا في الأسقيةِ كُلِّها ولا تشْرَبُوا مُسكِرًا)) [رواه مسلمٌ] ، فهذه أوامرُ جاءتْ لإزالةِ الحظْرِ الَّذي وردَ لسببٍ، وقد كانتِ الأشياءُ المذكورَةُ قبلَ الحظْرِ مباحَةً، فعادتْ بهذا الأمرِ إلى ما كانتْ عليهِ.
4ـ استصحابُ الإباحةِ الأصليَّةِ، وهذا الَّذي يُقالُ فيه: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ) ، فكلُّ شيءٍ مباحٌ ما لم يرِدْ دليلٌ ينقلهُ من تلكَ الإباحةِ إلى غيرهَا من الأحكامِ التَّكليفيَّة، فلا يُدَّعى وجوبٌ أو استحبابٌ أو تحريمٌ أو كراهَةٌ إلاَّ بدليلٍ ناقلٍ إليها من الإباحةِ.
وهذا أصلٌ استُفيدَ من نصوصٍ صريحةٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو مناسبٌ للمعقولِ الصَّريح، فإنَّ من أعظمِ مقاصدِ التَّشريعِ: رفع الحرجِ، والإباحةُ تخييرٌ، ورفعُ الحرج ثابتٌ بها، بخلافِ ما هوَ مطلوبُ الفعلِ أو التَّركِ، فإنَّ المكلَّف محتاجٌ إلى تكلُّفِ القيامِ به ممَّا تحصلُ له به المشقَّةُ، والأشياءُ لا حصرَ لها، فإنْ عُلِّقتْ بغيرِ الإباحَةِ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ لزمَ منها تكليفٌ غيرُ مُتناهٍ، وهذا لا يتناسبُ
(1/48)
 
 
معَ قُدرةِ المكلَّفٍِ، ومعَ الرَّحمةِ بهِ.
والله امتنَّ على عبادهِ بالإباحةِ للأشياءِ فسخَّر لهُم ما في السَّماواتِ والأرضِ نعمةً منه ورحمةً، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] ، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] .
وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في الفقهِ، فإنَّ الأصلَ في كلِّ شيءٍ الحلُّ حتَّى يوجدَ من الشَّرعِ دليلٌ يُخرجُه من الحلِّ، وأنَّ ما يخرجُ من الحلِّ إلى حُرمَةٍ أو كراهةٍ مفصَّلٌ في الكتابِ والسُّنَّة، وهو محصورٌ معدودٌ يُمكنُ أن تُستقصى أفرَادُه، ألم تقرأْ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} …. [الأنعام: 145] ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ....} [الأعراف: 33] ، وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ؟ وحتى الَّذي يجري المنعُ منه عن طريقِ القياسِ فإنَّه لا يحوِّلُ الأصلَ إلى أن يُقالَ: (الأصلُ في الأشياءِ الحُرمَةُ) ، فلو وصَلَ القياسُ بأصحابِهِ إلى هذا المعنى المعكوس لكانَ ذلكَ دليلاً بنفسهِ على فسادِ قياسِهِمْ.
(1/49)
 
 
"انتقال الشيء عن حكم الإباحة:
ليستْ أصنافُ المباحاتِ قابلةً للحصرِ، لكنْ لمَّا كانتِ الإباحَةُ فيها استواءُ طرَفَي الفِعلِ والتَّركِ جازَ أن تيملَ إلى أحدِ الطَّرفينِ باعتبارِ عارضٍ، فالقاعدة أن يُقال: يبقى حُكمُ الإباحةِ للشيءِ ثابتًا ما لمْ يترجَّحْ فيهِ جانبُ المفسدَةِ أو جانبُ المصلحةِ، فإذا ترجَّحَ أحدُ الجانبينِ فإنَّ المفسدَةَ الرَّاجحَةَ تُحيلُ المُباحَ مكروهًا أو محرَّمًا، والمصلحة الرَّاجحة تُحيلهُ مندوبًا أو واجبًا، فالشَّيءُ يكتسبُ حكمًا تكليفيًّا جديدًا باعتبارِ عارضٍ أخرجهُ عنِ الإباحَةِ.
أمثلة:
1ـ الأكلُ والشُّربُ مباحانِ من جميعِ الطَّيِّباتِ، لكنَّ الإسراف فيهما إلى حدِّ التُّخمةِ مكروهٌ، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدميٌّ وِعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبهُ، فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثلثٌ لشرابِهِ، وثلثٌ لنفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُه] .
2ـ اللَّهوُ واللَّعبُ مباحانِ في غاير محرَّمٍ معلومِ الحُرمةِ، فإذا سبَّبا تفويتَ فريضةٍ كإخراجِ الصَّلاةِ عن وقتها، أو جرَّا إلى محرَّمٍ كالتَّعدِّي على الغيرِ أو مواقعةِ فاحشةٍ، انتقلا إلى التَّحريمِ.
(1/50)
 
 
3ـ النَّومُ مباحٌ، فإذا كان للتَّقوِّي على طاعة الله أو كسبِ الرِّزقِ صارَ مُستحبًّا.
4ـ الصَّومُ في السَّفرِ مباحٌ، فقد قال أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه: كُنَّا نُسافرُ مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَعِبِ الصَّائمُ على المفطرِ، ولا المفطِرُ على الصَّائمِ.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ حمزة بن عمرٍو الأسلميِّ قال للنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّوم، فقال: ((إن شئتَ فصُمْ وإن شئتَ فأفْطِرْ)) [متفقٌ عليهما] ، لكنَّ الفطرَ يكونُ واجبًا إذا أضرَّ الصَّومُ بالمسافرِ.
فعن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ عامَ الفتحِ إلى مكَّةَ في رمضانَ، فصامَ حتَّى بلغَ كُراعَ الغميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دعا بقدَحٍ من ماءٍ (وفي روايةٍ: فقيلَ لهُ: إنَّ النَّاسَ قد شقَّ عليهُمُ الصِّيامُ، وإنمَا ينظرونَ فيما فعلتَ، فدَعَا بقدحٍ من ماءٍ بعدَ العصرِ) فرفعهُ حتَّى نظر النَّاسُ إليه ثمَّ شرِبَ، فقيلَ لهُ بعد ذلكَ: إنَّ بعضَ النَّاسِ قد صامَ، فقالَ: ((أُولئكَ العُصاةُ، أولئكَ العُصاةُ)) [أخرجهُ مسلمٌ بالرِّوايتينِ] ، ولا يسمَّى عاصيًا من فعلَ مُباحًا.
* * *
(1/51)
 
 
الحكم الوضعي
"تعريفه:
هو ما يقتضي جعلَ شيءٍ سببًا لشيءٍ آخرَ، أو شرطًا، أو مانعًا منه.
وسُمِّي (وضعيًّا) لأنه موضوعٌ من قِبلِ الشَّارعِ، فهوَ الَّذي قرَّرَ مثلاً: أنَّ السَّرقةَ سببٌ لقطعِ اليَدِ، والوضوءَ شرطٌ لصحَّةِ الصَّلاةِ، وقتلَ الوارثِ مورِّثه مانعٌ من الميراثِ، من غيرِ أن يتعلَّقَ بطلبٍ من المكلَّفِ.
ومنهُ تُلاحظُ الفرقَ بينَ (الحكم التَّكليفيِّ) و (الوضعيِّ) بكونِ الأوَّلِ داخلاً تحتَ قُدرَةِ المكلَّفِ، وأمَّا الثَّاني فليس مبنيًّا على قُدرةِ المكلَّفِ أو عدمِ قُدرتِه، إنما هو قرارُ الشَّريعةِ في اعتبارِ الأشياءِ أو عدمِ اعتبارِهَا.
"أقسامه:
من خلالِ تعريفِ الحكمِ الوضعيِّ يُلاحظُ أنَّ البحثَ فيه يعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:
السَّبب، والشَّرطِ، والمانعِ، ووجودُ كلٍّ منها أو تخلُّفُه (عدَمُ وجودِهِ) يتفرَّعُ عنه صحّضةُ العملِ أو فسادُهُ، كما يتفرَّعُ ما وضعَتْهُ الشَّريعةُ من الاعتباراتِ التَّابعةِ لقُدرةِ المكَلَّفِ على الامتثالِ إلى: عزيمةٍ، ورُخصةٍ.
(1/52)
 
 
فهذه خمسةُ أقسامٍ: السَّببُ، الشَّرطُ، المانعُ، الصِّحَّةُ والبُطلانِ (أو الفَساد) ، الرُّخصةُ والعزيمةُ، وهذا بيانُهَا:
1ـ السَّببُ
"تعريفه:
لُغَةً: كُلُّ شيءٍ يُتوصلُ بهِ إلى غيرِهِ.
واصطلاحًا: الأمرُ الَّذي جعلَ الشَّرعُ وجودَهُ علامةً على وجودِ الحُكمِ، وعدَمَهُ علامةً على عدَمِ الحُكمِ.
فإذا كانَ السَّببُ معقولَ المعنى يُدرِكُ العقلُ مناسبَتَهُ للحُكمِ سُمِّي ب (العلَّة) كما يُسمَّى (السَّببُ) ، مثلُ: الإسكَارِ علَّةٌ لتحريمِ الخمْرِ.
وإذا كانَ السَّببُ غيرَ معقولَ المعنى، بأنْ خفِيَ علَى العقلِ أنْ يُدركَ مُناسبَتَهُ للحُكمِ، فيُقتصرُ على تسميتهِ (سببًا) ولا يُسمَّى (علَّةً) ، مثلُ: دخولِ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ.
فائدةُ هذا التَّفصيلِ:
ما سُمِّي (علَّةً) صحَّ فيه القياسُ، وما لمْ يُسمَّ (علَّةً) امتنعَ فيهِ القياسُ.
ومِمَّا يُساعدُ على معرفةِ كونِ الشَّيءِ سببًا: إضافَةُ الحُكمِ إليهِ، تقولُ مثلاً: (صلاَةُ المغربِ، وصومُ الشَّهرِ، وحدُّ الشُّربِ، وكفَّارةُ اليمينِ) ،
(1/53)
 
 
فالمغربُ والشَّهرُ والشُّربُ واليمينُ أسبابٌ لما أُضيفَتْ إليه من الأحكامِ.
"تقسيمه:
ينقسمُ (السَّببُ) باعتبارِ من سبَّبه إلى قسمينِ:
1ـ ما جعلتْهُ الشَّريعةُ سببًا ابتداءً من غيرِ أن يكونَ للمكلَّفِ فعلٌ فيه.
من أمثلتهِ:
[1] زوالُ الشَّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] .
[2] دُخولُ الشَّهر لوُجوبِ صومِ رمضانَ، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
[3] الاضطِرارُ لجوازِ أكلِ الميتَةِ، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
[4] المرضُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
2ـ ما سببُهُ المكلَّفُ فرتَّبَتِ الشَّريعة الآثارَ على وجودِهِ.
من أمثلتِهِ:
(1/54)
 
 
[1] السَّفرُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى في الآية المتقدمة: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} .
[2] الزِّنَا لإقامةِ الحدِّ، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
[3] الرِّدَّة لإباحةِ دَمِ المرتدِّ، قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينَهُ فاقْتُلوهُ)) [أخرجه البُخاريُّ] .
[4] الإهداءُ لمِلكِ المُهدَى إليهِ للهديَّة، والبيعُ لِملكِ المشتري للسِّلعةِ، والتَّصدُّقُ لملكِ المُتصدَّقُ عليه للصَّدقَةِ، فهذهِ وشِبهُهَا أسبابٌ لنقلِ ملكيَّةِ الشَّيءِ لمن صارتْ إليهِ، ويكونُ بها حُرَّ التَّصرُّفِ فيها.
3ـ الشَّرط
"تعريفه:
لُغَةً: العلامَةُ
واصطلاحًا: ماتوقَّفَ وجودُ الشَّيءِ على وجودِهِ، وليسَ هوَ جزْءًا من ذاتِ ذلكَ الشَّيءِ، بلْ هوَ خارجٌ عنهُ، كما لا يلزمُ من جودِهِ وُجودُ ما كانَ شرْطًا فيهِ.
(1/55)
 
 
من أمثلتِهِ:
[1] الوُضوءُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لايقبلُ الله صلاةً بغيرِ طُهورٍ)) [أخرجهُ مسلمٌ وغيرُهُ عن ابن عمرَ] .
فصحَّةُ الصَّلاةِ موقوفةٌ على وجودِ شرطِ الوُضوءِ، وليسَ الوُضوءُ جزءًا من نفسِ الصَّلاةِ، كما لا يلزمُ من وُجودِ وجودُ الصَّلاةِ.
[2] إذنُ وليِّ الزَّوجةِ شرْطٌ لصحّضةِ عقدِ النِّكاحِ عندَ جُمهورِ العلماءِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاحَ إلاَّ بِولِيٍّ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهم] .
"الفرق بين الشَّرط والرّكن
يشتركُ (الشَّرطُ) و (الُّركن) في أنَّ كُلاًّ منهما يتوقَّفُ عليهِ وجودُ الشَّيءِ، فالوضُوءُ شرطٌ للصَّلاةِ، والرُّكوعُ رُكنٌ فيها، ولا بُدَّ من وجودِ كلٍّ منهمَا لصحَّةِ الصَّلاةِ، لكنْ يُلاحظُ الفرقُ بينهمَا في أنَّ:
الشَّرطَ خارجٌ عن نفسِ الصَّلاةِ ليس جُزءًا منها.
والرُّكنَ جزءٌ من نفسِ الصَّلاةِ
(1/56)
 
 
"أقسامه:
ينقسمُ الشَّرطُ باعتبارِ مُشترِطِهِ إلى قسمينِ:
1ـ شرطٌ شَرْعِيٌّ
وهوَ الَّذي جعلتْهُ الشَّريعةُ شرطًا، كَحَولِ الحوْلِ علَى المالِ الَّذي بلغَ النِّصابَ لإيجابِ الزَّكاةِ فيهِ.
2ـ شرطٌ جَعْلِيٌّ:
وهو الَّذي يضعُهُ النَّاسُ باختيارِهم في تصرُّفَاتِهمْ ومُعاملاَتِهِمْ لا في عبادَاتِهم، كَالشُّرُوطِ الَّتِي يصطلحونَ عليها في عُقُودِهِمْ.
والفُقهاءُ مختلفُونَ في هذا النَّوعِ من الشُّروطِ في صحَّتهَا أو فسادِهَا، وما تدلُّ عليهِ الأدلَّةُ فيه التَّفصيلُ، وذلكَ بتقسيمِهِ إلى قِسمينِ:
[1] شرْطٌ صحيحٌ: وتُعرفُ صحَّتُهُ بأنْ لا يكونَ ورَدَ في الشَّرعِ ما يُبطِلُهُ، مثالُهُ: اشْترَاطُ البائعِ منفعةً معيَّنةً على المشتري في عقْدِ البَيعِ لا تُنافي مقصودَ البَيعِ، فقدْ صحَّ عن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنهما أنَّهُ كان يسيرُ على جملٍ لهُ قَدْ أعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فضرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يسيرُ مِثْلَهُ، ثمَّ قالَ: ((بِعْنِيهِ بِأوقيَّةٍ) فبِعتُهُ، فاسْتَثْنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلِي، فلمَّا قَدِمْنَا أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثمَّ انصرَفْتُ، فأرسَل على أثرِي قالَ: ((مَا كُنتُ لآخُذَ جمَلَكَ، فَخُذْ جمَلكَ ذلكَ فهُوَ مَالُكَ)) [متَّفقٌ
(1/57)
 
 
عليه] . وما رُوي من النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ فلا يصحُّ من جهةِ الإسنادِ، وكذلك كلُّ شرطٍ عُرفيٍّ في أيِّ عقدٍ ليس معارضًا لدليل في الشَّرعِ فهو شرطٌ صحيحٌ.
والدَّليل على صحَّةِ الشُّروطِ في الأصلِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، وقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحقُّ الشُّروطِ أن توفُو بها ما استحللْتُم بهِ الفُروجَ)) [متفقٌ عليه عن عقبة بن عامرٍ] .
[2] شرطٌ باطلٌ: ويعرفُ بُطلانه بوُرود ما يُبطِلهُ في الشَّرعِ، ومثالهُ: حديثُ عائشة رضي الله عنها قالتْ: جاءتْني بريرةُ فقالتْ: كاتبتُ أهلي على تسعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني، فقالت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم ويكونَ ولاؤكِ لي فعلتُ، فذهبتْ بريرةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءتْ من عندِهِم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقالتْ: إنِّي عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلاَّ أن يكونَ الولاءُ لهم فسمعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتْ عائشةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((خُذيها واشترطِي لهمُ الولاءَ، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ، ففعلتْ عائشةُن ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فحمدَالله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما بالُ رِجالٍ يشترطُونَ شروطًا ليستْ في كتابِ الله؟ ما كانَ من شرْطٍ ليس في
(1/58)
 
 
كتابِ الله فهوَ باطلٌ وإن كانَ مائَة شرْطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرْطُ الله أوثقُ، وإنما الولاءُ لمنْ أعتقَ)) [مُتَّفقٌ عليه] .
والمقصودُ من كونِ الشَّرطِ في كتابِ الله أو ليس فيهِ أن يكونَ مشروعًا لا ممنوعًا، وهو التَّقسيمِ المذكُورِ.
على هذا مذهبُ الحنابلةِ وطائفةٍ غيرهِم من الفُقهاءِ، والدَّليلُ فيه أبينُ، وهو المناسبُ لاعتبارِ المصالحِ والمفاسِدِ.
ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يُؤثِّرُعلى العقدِ، وستأتي المسألَةُ قريبًا.
3ـ المانع
"تعريفه:
لُغةً: من (المنع) وهوَ أن تحولَ بين الشَّخصينِ وبينَ الشَّيءِ فتجعلَ بينهما (مانعًا) .
واصطلاحًا: ما رتَّب الشَّرعُ على وجودِهِ العدَمَ.
(1/59)
 
 
"هو قسمان:
1ـ مانعٌ للحُكمِ:
والمعنى: أن يقعَ فعلٌ من المكلَّف يستوجبُ حُكمًا شرعيًّا بأن وُجدَ في ذلكَ الفعلِ تحقُّقُ الأسبابِ الموجِبةِ لذلكَ الحُكمِ، فوضعَت الشَّريعَةُ (مانعًا) دونَ تنفيذِ ذلك الحُكْم.
مثالهُ: قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُقتلُ والدٌ بولَدِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ لغيره أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ] ، فهذا (مانعٌ) عند جمهورِ العلماءِ من إقامةِ القِصاص على الوالدِ إذا قتلَ ابنَه عمدًا، فمعَ استيفاءِ الوالدِ لشُروطِ القِصاصِ فقدْ جعلتِ الشَّريعَةُ أبوَّته مانعةً من القصاصِ.
2ـ مانعٌ لسبب:
والمعنى: أن تكونَ الشَّريعةُ قرَّرت حكمًا تكليفيًّا بناءً على وجودِ سببٍ اقتضى وجودُهُ وجودَ ذلك الحُكمِ، لكنْ عرضَ دُون إعمالِ ذلك السَّببِ (مانِعٌ) أسقطَ السَّببَ والحُكمَ.
مثالُهُ: مكلَّفٌ ملكَ نصابَ الزَّكاةِ وحالَ الحولُ عليهِ عندَهُ، لكنَّه جمع ذلكَ المالَ لدينٍ عليهِ، فظاهرُ الأمرِ وجوبُ تنفيذ حكمِ إخراجِ الزَّكاةِ لوجودِ السَّببِ المقتضي لذلكَ وهو ملكُ النِّصابِ، لكنْ عرض لذلكَ السَّببِ (مانعٌ) من الاعتبارِ فألغاهُ، وهوَ (الدَّين) ، فقد صحَّ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا صدَقة إلاَّ عن ظهرِ غِنًى)) [رواه أحمدُ وغيرهُ
(1/60)
 
 
بسندٍ صحيحٍ من حديثَ أبي هريرةَ] ، والله عزَّ وجلَّ جعل في أصنافِ الزَّكاةِ الغارمينَ، وصاحبُ الدَّينِ غارمٌ، فاستقامَ أن لا تجبَ عليهِ الزَّكاةُ وإن وُجدَ سببُ الوجوبِ وهو بلوغُ النِّصابِ، لأنهُ إنَّما يجمعُ لأجلِ الدَّينِ.
4ـ الصحة والبطلان
"المقصود بهما:
أفعال المكلَّفين إذا استوفتْ شروطَها وانتفتْ موانِعُها ووقعتْ على أسبابهَا فقد حكمَ الشَّرعُ بأنَّها (صحيحةٌ) ، وإذا اختلَّ ذلك أو بعضُهُ فقد حكم َ الشَّرعُ بأنَّها (باطلةٌ) .
و (الصَّحيحُ) ما ترتَّبتْ عليه آثارُهُ الشَّرعيةُ، من: براءةِ الذِّمةِ وسُقوطِ المطالبةِ في العباداتِ، ونفاذِ العقدِ في العقُودِ والتَّصرُّفاتِ فلاَ يُطالبُ المكلَّفُ بإيقاعِ نفسِ العبادةِ مرَّةً أخرى ما دامَتْ قدْ حقَّقتْ وصفَ الصِّحَّةِ، كما أنَّ عقدَ البيعِ مثلاً حوَّل مِلكيَّةَ المبيعِ من البائعِ إلى المشتري بغيرِ ريبَةٍ ما كانَ العقدُ قدْ حقَّقَ وصفَ الصِّحَّة.
, (الباطِلُ) ما لا تترتَّبُ عليهِ الآثارُ الشَّرعيَّة، فلا تبرأُ الذِّمةُ لمن صلَّى بغيرِ طُهورٍ مختارًا، ولا يصحُّ طلاقُ من أُكرِهَ على الطَّلاقِ، لوجودِ مانع من صحَّةِ هذا التَّصرُّفِ.
(1/61)
 
 
لا فرقَ بين الباطل والفاسد:
جمهورُالعلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ) .
والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا:
1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ.
2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولدُبهمَا.
وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ.
5ـ العزيمة والرخصة
"تعريفهما:
العزيمةُ لغَةً: الإرادَةُ المؤكَّدة، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
(1/62)
 
 
عَزْمًا} [طه: 115] أيْ: قصدُ مؤكَّدٌ في فعلِ ما أُمِرَ به.
وشرعًا: اسمٌ لما هوَ الأصلُ في المشروعاتِ غيرُ متعلِّقٍ بالعوارضِ.
مثالهَا: الصَّلاةُ في أوقاتهَا هي الأصلُ، فهي العزيمةُ، وإتمامُ الصَّلاةِ هو الأصلُ فيها، فهو العزيمةُ، وحرمَةُ الميتةِ هي الأصل، فهي العزيمة.
والرُّخصةُ لغةً: اليُسرُ والسُّهولَةُ.
وشرعًا: اسمٌ لِما شُرعَ متعلِّقًا بالعوارضِ خارجًا في وصفِهِ عن أصلهِ بالعُذْرِ.
مثالُها: جمعُ الصَّلاتينِ للعُذرِ كالسَّفرِ والمطرِ، وقصرُ الصَّلاةِ للمسافرِ، وإباحَةُ الميتةِ للمُضطَرِّ، أحكامٌ خارجَةٌ عن الأصلِ الَّذي هو العزيمَةُ، والمؤثِّرُ فيها العُذْرُ.
فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ.
وعليه فالرُّخصةُ باقيةٌ ببقاءِ العُذرِ، متفيةٌ بانتفائِهِ.
أسباب الرخص:
الأسبابُ الَّتي ترجعُ إليها جميعُ الرُّخصِ الشَّرعيَّةِ سبعةٌ، إليكَهَا
(1/63)
 
 
1ـ ضعفُ الخلقِ، سببٌ لإسقاطِ التَّكليفِ عن الصَّبيِّ والمجنونِ، وتخفيفِ التَّكليفِ في حقِّ النِّساءِ فلم تجبْ عليهنَّ جُمُعةٌ ولا جماعةٌ ولا جهادٌ.
2ـ المرضُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، والصَّلاةِ من قعُودٍ أوِ اضطِجاعٍ، وتناولِ الممنُوعِ للعلاجِ إن فقدَ سِواهُ.
3ـ السَّفرُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، وقصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، وسُقوطِ الجُمُعةِ، والزِّيادَةِ في مُدَّةِ المسحِ على الخُفَّينِ.
4ـ النِّسيانُ، سببٌ لإسقاطِ الإثمِ والمؤاخَذةِ الأخرَويَّةِ، وصحَّةِ الصَّومِ لمن أكَلَ أو شرِبَ وهوَ كذلكَ.
5ـ الجهلُ، سببٌ لإسقاطِ المُؤاخذَةِ إذا لم يقعْ بتقْصيرٍ في التَّعلُّم، كما يكونُ سببًا لرَدِّ السِّلعةِ بعدَ شِرائِهَا لعيبٍ جهِلَهُ المشترِي وقتَ التَّبايُعِ، كما يكونُ سببًا للعُذْرِ في خَطإ الاجتهادِ، لأنَّ المجتهِدَ بنى على ظنِّ العلمِ.
6ـ الإكراهُ، سببٌ لإباحةِ الوُقوعِ في المحظُوراتِ دَفْعًا للأذَى الَّذي لا يُحتَمَلُ.
7ـ عُمُومُ البلْوَى، وهوَ في الأمْرِ الَّذِي يَعْسُرُ الانفِكَاكُ عنهُ، كالنَّجاسةِ الَّتي يشقُّ الاحتِرازُ عنهَا، كمنْ بهِ سلسُ بوْلٍ، واحتمالِ يسيرِ الغَبْنِ في البُيُوع، ونحوَ ذلكَ.
(1/64)
 
 
أنواعُ الرُّخص:
الرُّخصُ الشَّرعيَّةُ تعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:
1ـ إباحَةُ المحرَّم لعُذرِ الضَّرورةِ، وإليه ترجعُ قاعدَةُ: (الضَّرُوراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ) .
مثالهَا: التَّلفُّظُ بكلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 116] ، وأكلُ الميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُربِ الخمرِ للمُضطرِّ، كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
2ـ إباحَةُ تركِ الواجبِ، وفيهِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا أمرْتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منهُ ما استَطعتُمْ)) [متفقٌ عليه من حديثِ أبي هرَيرةَ] .
مثالها: تركُ القيامِ في الصَّلاةِ للعاجزِ مع فرْضِهِ، فعنْ عمرانَ بنِ حُصينٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بي بواسيرُ، فسألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاةِ؟ فقال: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فعلى جنبٍ)) [أخرجه البُخاريُّ] .
والفِطرُ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
3ـ تصحيحُ بعضِ العُقودِ مع اختلالِ ما تصحُّبه رفعًا للحرجِ
(1/65)
 
 
وتيسيرًا على النَّاسِ.
مثالها: الإذنُ في بيعِ السَّلمِ (أو: السَّلف) ، أو عقدِ الاستِصناعِ، مع أنَّ كلاًّ منهما بيع معدومٍ ليسَ موجودًا وقتَ التَّعاقُدِ، نعمْ ذلك بشُروطٍ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((منْ أسلفَ في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، على أجلٍ معلومٍ)) [متَّفقٌ عليه عن ابنِ عبَّاسٍ] .
درجات الأخذ بالرخص:
الأخذُ بالرُّخصِ الشَّرعيَّةِ يتفاوَتُ حكمُهُ إباحَةً ونَدبًا ووجوبًا، فهو على أربعِ درجاتٍ:
1ـ التخييرُ بين الأخذِ بالرُّخصةِ وتركهَا.
مثالهُ: الفطرُ للمسافرِ عند استواءِ حالهِ بالصَّومِ والفطرِ، فإنَّ له أن يُفطرَ أو يصومَ من غيرِ بأسٍ، كما قال حمزَةُ بنُ عمرٍو الأسلميُّ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّومِ، فقالَ: ((إن شئتَ فصُمْ، وإنْ شئتَ فأفطِرْ)) [متفقٌ عليه] .
2ـ تفصيلُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: قصرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ، فإنَّها رُخصةٌ جرىالعملُ النَّبويُّ على الأخذِ بها في جميعِ الأسفارِ، حتَّى أنهُ لم يصحَّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ صلاةً قطُّ في السَّفرِ، وهذه المُداومةُ دالَةٌ على تفصيل الأخذ بالرُّخصةِ.
هذا على مذهبِ جمهورِ العلماءِ في أنَّ قصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ سُنَّةٌ،
(1/66)
 
 
خلافًا لمن ذهبَ إلى وجوبهَا.
3ـ تفضيل التَّرك للرُّخصةِ.
مثالهَا: احتمالُ الأذى في الله لمن أُكرهَ على أن يقولَ كلمَةَ الكُفرِ بلسانِهِ، فإنْ أرادَ أن يأخذَ برُخصةِ الله لهُ فلهُ ذلكَ، وإن صبرَ وَاحتملَ ولو بلغَ الأمرُ إلى قتلِهِ فذلكَ أفضلُ، وقد كَانَ هذا حالَ المُرسلينَ وكثيرٍ من أتباعهمْ.
4ـ وجوبُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: أكلُ المُضطرِّ للميتةِ دفعًا للهلكَةِ عن نفسهِ، فإنَّ تحريم الميتةِ إنَّما كان لضررهَا على النَّفسِ، فحينَ كانتْ سببًا للحياةِ أُبيحتْ، والهلاكُ أعظمُ الضَّررِ بالنَّفسِ، فيُدفعُ الضَّررُ الأكبرُ بارتكابِ الضَّررِ ال