جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول رسالة ماجستير

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول
المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)
عدد الأجزاء: 2
المقدمة
أحمد الله تعالى حمداً أستفتح به أبواب الدخول إلى دراسة علم الأصول، وأستمنح أسباب الحصول لتحقيق كتاب " شرح تنقيح الفصول "، وأستوضح به منهاج الوصول إلى مستصفى الحاصل ومنتخبِ المحصول، ومنتقى التحصيل ولبابِ المنخول، واستنجح به مقاصد بِرِّه الوَصولِ إلى منتهى السُّول وغاية المأمول، وأستوهب منه توفيقاً يكتب به الرضا والقبول، وأستصحب منه تسديداً يصون عن الخطأ والذهول في سلوك سبيلَيْ المنقول والمعقول.
وأُصلِّي وأُسلِّم على نبيه ورسوله محمدٍ أكرمِ نبيٍّ وأشرفِ رسول، المبعوثِ بأرفع دليلٍ وأنفعِ مدلول، المخصوصِ حكمُ شريعته بشمول العموم وعمومِ الشمول، المنصوص عِلْمُ نبوَّتِهِ بأقلام المعجزات وبنانِ المنقول في سطور الصدور وطروس (1)
النقول.
وعلى آله وأصحابه السَّادةِ البررة العدُوُل، الذين عليهم المِعْولُ في الهداية وإليهم العُدُول، ما حُرِّر منقولٌ وحُبِّر مقول (2) .
ورحم الله أئمتنا وعلماءنا الفحول، الذين أدركوا بالاجتهاد مناط العلة والمعلول، وأزالوا بسَبْر الأدلة قوادح الشُّبَه عن الدليل والمدلول، وأفتوا كلَّ مُسْتَفْتٍ وسؤول، ويسَّروا الوصول إلى فقه الأصول، فشكر الله لهم ما حَقَّقَ المفهومَ قلبٌ عقول، وما لَهَج بالمنطوق لسانٌ قؤول.
أما بعد:
((فأفضل ما اكتسبه الإنسان عِلمٌ يسعد به في عاجل معاشه وآجل معاده، ومن أفضل ذلك " علم أصول الفقه " لاشتماله على المعقول والمنقول، فهو جامع أشتات الفضائل، والواسطة في تحصيل لباب الرسائل، ليس هو من العلوم التي هي رواية صِرْفة لا حظَّ لشرف النفوس فيه، ولا من المعقول الصِّرْف الذي لم يَحُضَّ الشرعُ على
_________
(1) جمع طِرْس وهو الصحيفة. المصباح المنير مادة " طرس ".
(2) مقتبسة بتصرفٍ من مقدمة كتاب: همع الهوامع شرح لمع اللوامع في نظم الجوامع للعلامة نور الدين علي الأشموني (918 هـ) . مخطوط، مصورتها بجامعة أم القرى، بمركز البحث العلمي، رقم (67) ميكروفيلم.
(1/2)
 
 
معانيه، بل جمع بين الشرفين، واستولى على الطرفين، يُحْتاج فيه إلى الرواية والدراية، ويجتمع فيه معاقدُ النظر، ومسالكُ العِبَر، مَنْ جَهِلَه من الفقهاء فتحصيله أُجَاج، ومن سُلِب ضوابطُه عَدِم عند دعاويه الحِجَاج، فهو جدير بأن يُنَافس فيه، وأن يُشْتغل بأفضل الكتب في تلخيصاته ومبانيه)) (1) .
ولمَّا رأيتُ أنَّ تعلُّم مسائل الأصول معقودٌ بدراسة كتب الأوائل الفحول، تطفَّلتُ على موائدهم، واكتفيتُ بالكشف عن فرائدهم، وخِلْتُ أنَّ تحقيق كتبهم أيسرُ الدروبِ وأسهلُ الخطوبِ، وما درى المسكينُ أنَّ دون ذلك رُكوبَ الصِّعاب، والضرْبَ في وَعِر الوِهَاد والهِضَاب، حتى لقد أشفقْتُ بعد أن قُدِّر عليَّ ما يكون، أن أصِيْر فيه حَصْراً ممن لا يستطيعون مُضيّاً ولا يرجعون.
لكن بعد استحضار ما للعلم من مآثر، وتشجيعِ أهل الفضل والمفاخر، شمَّرتُ عن ساعد الجدِّ لتحقيق كتاب " شرح تنقيح الفصول " لعَلَمٍ شامخٍ من علماء الأصول، الإمامِ الهمامِ أبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن يَلِّين، الشهير بالقرافي، ذي الشرَف الوافي، والعقل الصافي، علماً بأن قِسْطي من تحقيق الكتاب هو القسم الثالث منه، ابتداءً من الباب الثالث عشر: في أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، وانتهاءً بالباب العشرين في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين، وهو آخر الكتاب (2) .
دواعي اختيار تحقيق الكتاب
لقد نَهَزَني (3) إلى اختيار كتاب شرح تنقيح الشهاب عِدَّةُ أسباب، منها:
أولاً: القيمة العلمية الرفيعة للكتاب، فإن مادته عميقة غزيرة، ومصادره أصيلة وفيرة، حوى نقولاتٍ نادرةً كثيرة، بعضها في غياهب (4) النسيان، لتعرُّض مظانِّها للفقدان: ككتاب الإفادة وكتاب الملخّص كليهما للقاضي عبد الوهاب البغدادي، وكتاب الأوسط لابن بَرْهان، وشرح البرهان للمازري، والجدل للحصكفي وغيرها (5) .
كما أن الكتاب امتاز بحسن التبويب والترتيب، والتقسيم والتنظيم، والتفنن في
_________
(1) نفائس الأصول للقرافي 1 / 89 - 90.
(2) قام أخي الفاضل / سعيد بن صالح بن عفيف بتحقيق القسم الأول من الكتاب، ابتداءً من أوله حتى نهاية الباب الثالث: في تعارض مقتضيات الألفاظ.
ثم يبدأ القسم الثاني، من الباب الرابع: في الأوامر إلى نهاية الباب الثاني عشر: في المجمل والمبيَّن، تحقيق أخي الفاضل / حسن بن إبراهيم بن خلوفة.
(3) نَهَزَه: دَفَعه. القاموس المحيط مادة " نهز ".
(4) الغَيْهب: الظلمة والغفلة. لسان العرب، مادة " غهب ".
(5) انظر: ص 134 القسم الدراسي.
(1/3)
 
 
إيراد السؤال والإشكال، والجوابِ عنه في أحسن مقال، فإن لم يُسْعِفْه الجوابُ بقي ماثلاً في انتظار حلِّ أولي الألباب. كما حشد القرافي كتابَه بالفروق بين المسائل، والتمييز بين المتشابه والمتماثل، هذا مع تَوْشِيَة (1) الكتاب بفوائد مهمة، وتحليته بزوائد جمَّة، وتوشيحه بنكتٍ جميلة، وتَدْبيجه بقواعد جليلة.
فلا جَرَم أن أضحى الكتابُ مَعِيْناً ارتوتْ منه كتبٌ عديدة، وينبوعاً نَهِل منه أصوليون نابهون مادةً فريدة، كالطوفي في شرح مختصر الروضة، والسبكي وابنه في الإبهاج في شرح المنهاج، والعلائي في كتبه، والإسنوي في منهاج السول، وابن جزي في تقريب الوصول، والزركشي في البحر المحيط وتشنيف المسامع، وحلولو المالكي في الضياء اللامع، وابن أمير الحاج في التقرير والتحبير، وابن النجار في شرح الكوكب المنير، وغيرهم جَمٌّ غفير (2) .
ثانياً: شهرة مؤلِّف الكتاب، ونبوغُهُ في علم الأصول، حتى عُدَّ أحدَ ثلاثة علماء عصره الذين انعقد الإجماع علة أفضليّتهم قاطبةً في الديار المصرية (3) .
ولمَّا مات القرافي عليه رحمة الله قال فيه ابن دقيق العيد رحمه الله: ((مات من يُرجع إليه في علم الأصول)) (4) ، ولهذا سجَّله الإمام السيوطي رحمه الله ضمن طبقة من كان بمصر من الأئمة المجتهدين (5) .
فالإمام القرافي بحقٍّ تميَّز بانفراداتٍ في مسائل أصوليةٍ بارزةٍ، وبتحريراتٍ نفيسةٍ راسخةٍ راكزةٍ، فيها جِدَّةٌ وحداثة، نبعتْ من جِهْبذٍ بَحَّاثة، تمتَّعتْ شخصيته بذكاءٍ خارق، وعبقرية فذَّة، تشهد له اختياراته ومناقشاته، وترجيحاته وتصحيحاته، ونقوده وردوده، ونظراته الثاقبة، وتقريراته الصائبة.
ولقد رأيتُني وأنا حَفيٌ بالبحث في الكتاب، كَلِفٌ بحَزْنه وسَهْله، شَغِفٌ بقراءته ودراسته أزداد قناعةً بعد قناعة ساعةً بعد ساعة ببراعة الشهاب القرافي وشموخِهِ، وتألُّقِ نجمِهِ وسطوعِهِ.
ثالثاً: الرغبة في الاطلاع على أصول فقهاء المدينة، دولةِ الإسلامِ، ومنبعِ العلم
_________
(1) التوشية: التحسين والتزيين، مصدر وَشَّ. معجم المقاييس في اللغة، مادة " وشي ".
(2) انظر: ص 148 - 153 القسم الدراسي.
(3) انظر: ص 48 القسم الدراسي.
(4) انظر: ص 48 القسم الدراسي.
(5) انظر: ص 48 القسم الدراسي.
(1/4)
 
 
النبوي، ولم تزل هذه الرغبة في ازدياد خصوصاً عند قراءتي شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية (1) لأصول الإمام مالك رحمه الله، إذْ قال: ((ثم من تدبَّر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصولَ مالك وأهلَ المدينة أصحَّ الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما. . .)) (2) .
والإمام الشهاب القرافي من المجتهدين في المذهب المالكي، النافذين إلى لُبِّه، الساعين في إرساء دعائمه وقواعده. فقد حرص في كتابه على إبراز أصول المالكية ليعلوُ شرفُهم في الأصول كما سمتْ مكانتهم في الفروع (3) . وفي سبيل ذلك رَصَد آراء المذهب وأقوالَه، وحرَّرها وقرَّرها، ونافح عنها ضدّ المُشنِّعين والشاغبين عليها، دون تعصُّبٍ أو تقليد، بل بوعيٍ رشيد، ومسلكٍ حميد، وإنصافٍ أكيد.
لهذه الأسباب وغيرها اشتدّ عزمي، وتأكَّد تصميمي على تحقيق الكتاب ودراسته مع قلَّة البضاعة، وقصور الباع في الصناعة.
المجهودات السابقة في إخراج الكتاب
لقد تمَّ طبع الكتاب - قديماً وحديثاً - عِدَّة طبعات، منها:
1 - طبعة المطبعة الخيرية بمصر سنة 1306 هـ، وبهامشها شرح ابن قاسم العبادي على ورقات إمام الحرمين.
2 - طبعة المطبعة التونسية بتونس سنة 1328 هـ / 1910 م، وبهامشها التوضيح شرح التنقيح لأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن اليزليطني الشهير بـ" حلولو ".
3 - طبعة مطبعة النهضة بتونس سنة 1340 هـ / 1921 م الجزء الأول منه، على هامش حاشية الشيخ محمد جعيط المسمَّاة بـ: منهج التحقيق والتوضيح لحلِّ غوامض التنقيح.
ثم طبع الجزء الثاني منه سنة 1345 هـ / 1926 م.
_________
(1) هو أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني الدمشقي الحنبلي. كان محيطاً بالعلوم والفنون النقلية والعقلية، نصر السنة وقمع البدعة وجاهد وامتحن، من مؤلفاته: مجموع الفتاوى (ط) ، منهاج السنة النبوية (ط) ، درء تعارض العقل والنقل (ط) انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2 / 387.
(2) مجموع الفتاوى 20 / 328.
(3) انظر: ص 83، 134 القسم الدراسي.
(1/5)
 
 
4 - طبعة مطبعة النهضة بتونس سنة 1341 هـ / 1922 م، على هامش حاشية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور المسمَّاة: حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح.
5 - طبعة مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، ودار الفكر بمصر، الطبعة الأولى سنة 1393 هـ / 1973 م، بتحقيق / طه عبد الرؤوف سعد. وكتب عليها: طبعة جديدة مضبوطة منقَّحة.
6 - طبعة المكتبة الأزهرية للتراث بمصر. الطبعة الثانية سنة 1414 هـ / 1993 م بتحقيق / طه عبد الرؤوف سعد. وكتب عليها: طبعة جديدة مضبوطة منقَّحة.
7 - طبعة دار الفكر بلبنان. الطبعة الأولى سنة 1418 هـ / 1997 م،
باعتناء / مكتب البحوث والدراسات في دار الفكر. كُتب عليها: طبعة جديدة منقَّحة مصحّحة.
هذه الإصدارات من طبعات الكتاب مشكورة مأجورة إن شاء الله تعالى، ولو لم يكن لها من الفضل سوى بزوغِ الكتاب ليرى النور، ويروج بين أيدي القُرَّاء لكفى.
وهو بِسَبْقٍ حَائزٌ تَفْضيلا مُسْتوجِبٌ ثَنَائِيَ الجميلا (1)
ومع اعترافي لهذه الطبعات بالفَضَل إلا أنَّها تشترك جميعاً في عروِّها عن القواعد العلمية المنهجية في التحقيق، تخلو من توثيق النقول، والتعليق على مسائل الأصول، مع ما اشتملتْ عليه من السقط والتحريف، والأغلاط الطباعية، مما جعلها تَفْقِد قيمتَها العلمية، ويُحتِّم إعادة تحقيقِه وتصحيحِه وفق المنهج العلمي المتبَّعِ في الرسائل الجامعية.
ولقد كانت النسخُ الأربعُ الأوائلُ - مع كونها عزيزة المنال، نادرة الشيوع - أحسنَ حالاً أو أهونَ سوءاً من النسخ الثلاثِ الأواخرِ، مع أن الأواخر رُقمتْ بأنها: مضبوطةٌ منقَّحةٌ مصحَّحةٌ، وحقيقة الحال أنَّها كانت مجرد دعوى، ينقضها التشويهُ والتحريفُ حتى غدا الكتابُ عديمَ الجدوى.
قال محقِّق طبعة الكليات الأزهرية والمكتبة الأزهرية: ((وكان حصولي على أصلٍ
_________
(1) قاله ابن مالك في مقدمة ألفيته في النحو، والضمير يعود على ابن معطي وله ألفية أيضاً. انظر: شرح ابن عقيل 1 / 37.
(1/6)
 
 
أطبع عليه الكتاب من أشق الأمور، حتى تفضل الشيخ حنفي عبد الجليل آدم من تشاد حفظه الله، فأهداني نسخةً جزاه الله خيراً. . . إلخ)) (1) فالمحقق - جزاه الله خيراً - لم يُفصِح عن هذا الأصل الذي اعتمده في التحقيق، ولم يبيِّن مصدره الأصلي المعتمد، بل لم يُرْفق صوراً له مع الكتاب المطبوع، فضْلاً عن كونه اعتمد على نسخةٍ واحدةٍ فقط مع كونها مبهمةً. ولقد بحثتُ عن شيءٍ يدلُّني على أصله الذي اعتمده، وأخذتُ أقارن بين نسخ المخطوطات التسعِ المتوفرةِ لديَّ وكتابِهِ المحقَّقِ المصحَّحِ!! فترجَّح لي أن صنيعه كان بمثابة التلفيق، وبمعزلٍ عن التصحيح والتحقيق.
وسأسلِّط الضوء على الطبعتين حديثتي السنِّ، الأولى: طبعة المكتبة الأزهرية للتراث، سنة 1414 هـ بتحقيق / طه عبد الرؤوف سعد. والثانية: طبعة دار الفكر ببيروت، باعتناء / مكتب البحوث والدراسات، سنة 1418 هـ، وهما المتداولتان في الأسواق، علماً بأن الثانية مطابقةٌ للأولى في أغلب أخطائها، جاريةٌ وفق سَنَنِها، بل أمعنتْ في الرداءة حينما خلطتْ المتن بالشرح دون التمييز بينهما بخطٍّ أو تسويدٍ أو كلمةِ " الشرح " أو ما شابه ذلك. كما أنَّ الأولى أفحش من الثانية في الأخطاء.
ويمكن إجمال الملاحظات عليهما فيما يلي:
أ - كثرة الأغلاط الطباعيِّة، والتحريفات والتصحيفات.
ب - وجود أسقاطٍ لكلماتٍ وعباراتٍ أخلَّت بمعنى عبارة الكتاب.
جـ - إقحام كلماتٍ وعباراتٍ خلتْ منها جميع النسخ الخطية التسعة.
د - التغيير في كلماتٍ لم ترد فيما وقفتُ عليه من المخطوطات، وهو تصرف
غير سائغ.
هـ - عدم التمييز بين عبارة المتن وعبارة الشرح من الناحية الطباعية في
بعض المواطن بالنسبة لطبعة المكتبة الأزهرية، وفي جميع الكتاب بالنسبة
لطبعة دار الفكر.
 
ولنضرب أمثلة على ذلك، كما في الجدول التالي:
_________
(1) شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ، مقدمة لكتاب في الصفحة المرقمة بالحرف ن.
(1/7)
 
 
النص ... الملاحظة والتصويب ... ط. المكتبة الأزهرية ... ط. دار الفكر ... القسم التحقيقي
(كما جاء في الطبعتين)
ص ... سطر ... ص ... سطر ... ص ... سطر
1 ... فالناسخ مزيل للدوام في اعتقادنا لا في نفس الأمر ... في جميع النسخ الخطية " من " بدل من " في " ... 303 ... 2 ... 237 ... 15 ... 48 ... 6
2 ... قول موسى عليه السلام: تمكنوا بالسبت أبداً ... الصواب: تمسكوا ... 304 ... 20 ... 238 ... 23 ... 55 ... 7
3 ... في تأخير البيان عن وقت الحاجة ... الصواب: الخطاب ... 304 ... 26 ... 238 ... 28 ... 55 ... 13
4 ... قرِّبوا إليَّ كل يوم خروفين. . وهم لا يفعلون ذلك ... زيادة ليست في كل النسخ ... 305 ... 13 ... 239 ... 13 ... 58 ... 2
5 ... بصورٍ: إحداها. . ثانيتها. . ثالثتها. . رابعتها. . ... في كل النسخ: ثانيها ثالثها. . رابعها ... 305 ... 15 ... 239 ... 15 ... 58 ... 5
6 ... أن أرثها نَسْله ... الصواب: أورثها ... 305
7 ... في صورة المنقول عنه ... الصواب: عنهم ... 307
8 ... والبداء هو إحدى الطرق التي استدلت بها اليهود ... الصواب: أحد. . ... 310 ... 11، 12 ... 243 ... 8 ... 79 ... 4
به. .
9 ... وإذا جوَّزنا الإجماع السكوتي وكثير ممن اعتبر ... خطأ نحوي، الصواب: فكثير ... 332 ... 10 ... 260 ... 14 ... 148 ... 4
10 ... ومن الأصحاب من قال: إجماعهم حجة إن كان في عملٍ لا في نقلٍ نقلوه ... إجماعهم مطلقاً حجة وإن كان في عمل عملوه أو في نقل. . ... 334 ... 7 ... 262 ... 5 ... 154 ... 5
11 ... فكان ذلك دليل على. . ... خطأ نحوي، الصواب: دليلاً ... 334 ... 14 ... 262 ... 12 ... 155 ... 5
12 ... والخبر عن خلافاً الضرورة ... خطأ نحوي، الصواب: على خلاف ... 338 ... 13 ... 265 ... 15 ... 189 ... 7
13 ... فجعله كاذباً إذا حدَّث بكل ما سمع ... زيادة " كل " ليست في كل النسخ ... 347 ... 16 ... 272 ... 6 ... 192 ... 9
(1/8)
 
 
14 ... كما تقول: زيد فقيه. . . . لوجود الفرق ... زيادة سطرين ليست في كل النسخ ... 351 ... 6، 7 ... 274 ... 20 ... 201 ... 2
15 ... فقبلها مالك وأشهب. . . ... الصواب: فمنعها، كما في أكثر النسخ ... 378 ... 15 ... 294 ... 14 ... 285 ... 2
16 ... والقياس في الشريعة: مساواة الفرع للأصل ... الذي في النسخ: مسوٍّ مساوٍ، تسوية ... 384 ... 17 ... 299 ... 6 ... 303 ... 9
17 ... فإن عُلِم المتأخر نَسَخ المتقدم والأرجح إلى الترجيح ... الصواب: وإلاَّ رُجِعَ ... 421 ... 11 ... 329 ... 19 ... 413 ... 11
18 ... يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علَّته أو لأنه يعود على أصله بالتخصص ... الصواب: أو ... 425 ... 13 ... 332 ... 28 ... 427 ... 3
لا يعود. .
19 ... فإنه حيٌّ يستحقها ... الصواب: حيٌّ ... 427 ... 1 ... 334 ... 6، 7 ... 431 ... 3
لا يستحقها
20 ... لا يجوز عنده أن يقلد عاميٌّ عامّياً في رؤية الهلال ... الصواب: إلاَّ في رؤية الهلال ... 434 ... 5 ... 340 ... 16 ... 452 ... 5
21 ... فإن شمولها يمنع من التمسك بها ... الصواب: لم يمنع من التمسك بها ... 447 ... 11 ... 352 ... 1 ... 500 ... 2
22 ... انتفاء الطهارة الكبرى بعذر من الابتداء ... الصواب: بَعْد زمن الابتداء ... 451 ... 17 ... 355 ... 12، 13 ... 512 ... 4
 
إلى غير ذلك من الأخطاء الفادحة الكثيرة، وليس الغرض هو الحصر، وإنما مجرَّد التمثيل.
فعلى هذا إن الكتاب بطبعاته الحالية لا يُطَمْئِن النفوس إلى الاعتماد على
نصوصه، والاحتجاج بها، والعَزْو إليها. ولعلَّ هذا يضاف إلى دواعي اختيار تحقيق الكتاب.
(1/9)
 
 
خطة البحث في الرسالة
للقيام بمهمَّة تحقيق الكتاب جعلتُ الرسالة في قسمين:
(1) القسم الدراسي (2) القسم التحقيقي.
القسم الأول: قسم الدراسة
وقد نظمته في ثلاثة فصولٍ تسبقها مقدمة.
المقدمة: تناولت فيها أهمية أصول الفقه، ودواعي تحقيق الكتاب، والمجهودات السابقة في تحقيقه، وخطة البحث، والمنهج المتبع في القسم الدراسي.
الفصل الأول: عصر المؤلف.
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث.
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: الحالة العلمية.
وقد عالجت هذا الفصل باختصار؛ لأنه ليس مقصوداً بالذات بل بالتبع، ولأن من تولَّى تحقيق القسم الأول تكفَّل بإشباع الدارسة. وقد بيَّنتُ أثر هذا العصر بأحواله على شخصية القرافي.
الفصل الثاني: حياة المؤلف.
وقد تضمَّن ثمانية مباحث.
المبحث الأول: اسمه وكنيته ولقبه وشهرته وأصله.
المبحث الثاني: مولده ونشأته.
المبحث الثالث: عقيدته ومذهبه الفقهي.
المبحث الرابع: شيوخه.
المبحث الخامس: تلاميذه.
المبحث السادس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
المبحث السابع: مصنفاته.
المبحث الثامن: وفاته رحمه الله.
(1/10)
 
 
جاءت دراسة هذا الفصل سريعة في معظم مباحثها، إلاَّ أني توسَّعت قليلاً في مبحث مصنفاته؛ لأنها الآثار الباقية بعد وفاة القرافي، ورجاءً أن يقف عليها من يروم تحقيقها.
الفصل الثالث: دراسة عن كتاب " شرح تنقيح الفصول "
وقد انتظم هذا الفصل في عشرة مباحث، كالتالي:
المبحث الأول: التعريف بمتن الكتاب " تنقيح الفصول ".
المبحث الثاني: عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلفه.
المبحث الثالث: الباعث على تأليف الكتاب وزمن تأليفه.
المبحث الرابع: موضوعات الكتاب ومضامينه ونظام ترتيبه.
المبحث الخامس: موارد الكتاب ومصادره.
المبحث السادس: منهج المؤلف في الكتاب وأسلوبه.
المبحث السابع: قيمة الكتاب العلمية ومحاسنه.
المبحث الثامن: المآخذ على الكتاب.
المبحث التاسع: مقارنة الكتاب بكتب الشروح الأخرى.
المبحث العاشر: وصف نسخ الكتاب ومنهج التحقيق.
وقد توسَّعتُ في هذا الفصل كثيراً، وضربت مزيداً من الأمثلة، لأنه المقصود بالدراسة أصالةً، ورجاءً في إعطاء صورة صادقة حقيقة - قدر المستطاع - عن منهج الكتاب وأسلوبه وموارده ومضامينه وقيمته والمآخذ عليه، وما يتبع هذه الدراسة مما له تعلُّق به.
القسم الثاني: القسم التحقيقي
وقد أوردتُ فيه نصَّ الكتاب محققاً موثقاً، محرَّر الأقوال، مُدعَّم الأمثال، مخرَّج الأحاديث معزوّ الآيات، مع التعريف بالمصطلحات، وتوضيح المشكلات والمشتبهات، وبيان محزِّ الخلاف والخصومات، كلُّ ذلك بحسب الجهد والطاقة، مع اعترافي بالعجز والفاقة.
(1/11)
 
 
منهج البحث في الرسالة
أرجأتُ الكلام عن منهج تحقيق الكتاب إلى المبحث العاشر من الفصل الثالث (1) ؛ وذلك لأني رأيت بأن موقعه اللائق به هناك لأمرين:
الأول: بعد توصيف ما حُزْتُه من النسخ الخطية مع عرض نماذج منها، صار من المناسب إتباع ذلك بمنهج التحقيق، والقواعد المنهجية المتبعة؛ لشدَّة اتصال المنهج بوصف النسخ.
الثاني: ليكون آخر ما يعلق بذهن القاريء من موضوعات الدراسة منهج التحقيق وهو أول ما يدخل به مباشرة عند قراءة نص الكتاب، وبهذا يكون مستصحباً هذا المنهج ومستحضراً له في أثناء تقليب صفحات الكتاب.
أما المنهج الذي اتبعته في القسم الدراسي فإني:
- عزوت الآيات إلى سورها.
- تركتُ تخريج الأحاديث إذا كانت مذكورةً في القسم التحقيقي، وخرَّجت
ما لم يرد فيه.
- ترجمت للأعلام الذين جاء ذكرهم في القسم الدراسي، مع الإحالة على موطن الترجمة لمن تُرجم له في القسم التحقيقي.
- شرحت الألفاظ الغريبة التي تبدو كذلك من وجهة نظري.
- عرفت بالمصطلحات والمدن والطوائف التي رأيت الحاجة داعيةً إلى ذلك.
- صنعت فهارس للقسم الدراسي.
هذا، ولقد حاولت في التحقيق الاقتصار على لفظٍ موجز ومعنىً مكتنز، حتى أجعل المكتوب بمقياس المطلوب تمشياً مع المرغوب، لكنَّه أملٌ حال دونه سوء التقدير وسقم التفكير. وأحبُّ أن أعلن بصوتٍ يبلغ الغاية، بأنني لم ولن أبلغ في تحقيق الكتاب النهاية، بل إذا حسَّنتُ الظنَّ قلتُ: خطوةٌ في البداية، فلا أشكُّ أن العمل في هذه الرسالة في حاجةٍ إلى التنقيح والتهذيب، والتصحيح والتشذيب، وهكذا شأن المرء فيما يكتبه، لا يكتب شيئاً في يومه إلا ويرى فيه خللاً في غده، وهذا من أعظم العبر على استيلاء النقص على جملة البشر.
_________
(1) انظر: ص 276 القسم الدراسي.
(1/12)
 
 
فإذا كان هذا شأن المرء مع ما يكتبه وشأنهُ التقصير، فما بال ناقده والناقدُ بصير، فليتلطَّف الناظرُ فيه مع غضِّ النظر، وليُوسِع العُذْرَ إن اللبيب من عَذَر. ولستُ أُزْجيه للناس بشرط البراءة من العيب، فإن الإنسان محلُّ النقصان بلا ريب، ويأبى الله العصمة لكتابٍ غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
 
سامحْ أخاك إذا خَلَطْ ... منه الإِصَابةَ بالغَلَطْ
وتَجَافَ عن تَعْنِيفِهِ ... إنْ زاغ يوماً أو قَسَطْ
واعْلَمْ بأنَّك إن طَلَبْـ ... ـتَ مُهذَّباً رُمْتَ الشَّطَطْ
ولو انْتَقَدْتَ بني الزَّمَا ... نِ وَجَدْتَ أكْثَرَهُمْ سَقَط
مَنْ ذَا الذي ما سَاءَ قَطْ ... ومَنْ له الحُسْنَى فَقَطْ
غيرَ نبيِّنا الذي ... عليه جبريلُ هَبَط (1)
 
وفي نهاية المطاف أودُّ البَوْح بكلماتٍ طالما اكتظَّ بها صدري وفاءً وعرفاناً:
? أولى هذه الكلمات دعوات ضارعات إلى ربِّ البريات أن يجعل عملي هذا امتداداً لغراس والديَّ اللَّذَين ما فَتِئَا صابرَيْن داعِيَيْن الله أن يكتب التوفيق للباحث وبحثه.
? ثاني هذه الكلمات دعوات وفيَّات من عالم الأسرار والخفيَّات أن يوفِّق فضيلة شيخي وأستاذي الدكتور / حمزة الفعر المشرف على الرسالة إلى كلِّ ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأن يبارك له في أعماله وأحواله، وأولاده وأمواله، ومآبه ومآله، إنه تعالى قريب مجيب الدعاء، وإن أنس فلن أنس إجزاء شكري وتقديري لفضيلة شيخي وأستاذي الدكتور / مختار بابا آدو الذي تولَّى الإشراف على هذه الرسالة في بداياتها ثم اعتذر لظروفه الصحية أسأل الله تعالى أن يعافيه ويشافيه وأن يمتعه بالصحة والسلامة ويحسن لنا وله الختام. إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.
? ثم دعوات صالحات مخلصات من إله الجمادات والكائنات لكل من قاسمني معاناة هذا البحث، ولكلِّ من كان له عليَّ فضل ومساعدة، فكم كانت لهم من فضائلَ بالغةٍ وأيادٍ سابغةٍ، وهم خَلْقٌ كثير، لا يضرُّهم أن جهلتموهم، فالله يعلمهم، والله يرحمهم، ويزجل لهم العطايا والهبات، فلهم منه عز وجل طوبى وحسنُ مآب.
_________
(1) الأبيات من مجزوء الكامل للحريري ما عدا البيت الأخير. انظر: شرح مقامات الحريري للشريسي
2 / 213.
(1/13)
 
 
ربِّ هبْ لي حُكْماً وألحقني بالصالحين، واجعلْ لي لسان صِدْقٍ في الآخرين، واجعلني من ورثة جنَّةِ النعيم. ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتَك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/14)
 
 
الفصل الأول
عصر المؤلف
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
(1/15)
 
 
التمهيد:
مما لا يسع أحداً إنكارهُ الأثر الكبير للوضع السياسي والفكري والاجتماعي ونحو ذلك على حياة الأفراد العلمية، فالإنسان مدنيٌّ بطبعه (1) ، يتفاعل مع محيطه، فيتأثر به، ويؤثر فيه.
وإن ما يطرأ على الساحة السياسية من أحداث لابد أن يظهر أثره في سير علماء العصر، كما أن التغيرات الفكرية، والحياة الاجتماعية لا يَقِلُّ تأثيرهما على هذه الشخصيات عن الحياة السياسية.
إن البحث في شخصية الإمام شهاب الدين القرافي يستدعي دراسة أحوال عصره وبيئته التي عاش فيها، لذا كان من المناسب إلقاء بعض الضوء على عصره، ولو بعجالة سريعة، بعيدة عن استطرادات المؤرِّخين التي ليست موضعها هنا.
_________
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون، تحقيق د. على عبد الواحد وافي 1 / 337
(1/16)
 
 
المبحث الأول
الحالة السياسية
...
عاش القرافي المولود سنة 626هـ باكورة حياته - بما يزيد عن العشرين عاماً - في ظل الدولة الأيوبية (1) (564 - 648هـ) ، ثم عاش بقية حياته في عهد الدولة المملوكية (2) .
وقد اكتنف الدولتين أحداثٌ متلاحقة، وحروبٌ متعاقبة، واضطراباتٌ متفرقة. لكن يمكن أن يتركَّز الحديث عن أهم ما سجَّله التاريخ في هذه الحقبة الزمنية وفق المحاور التالية:
1 - الحروب الصليبية الشرسة:
لقد خاض سلاطين الأيوبيين والمماليك جهاداً باسلاً ضد الإفْرَنْج (3) الذين كانوا يدأبون ليل نهار على غزو بلاد المسلمين، ومحو آثار الإسلام، ونشر عقيدتهم الصليبية.
ولقد امتدتْ جذور هذه الحروب الصليبية قبل ولادة القرافي بزمن كبير، فقد بدأت حملتهم الأولى عام 492هـ، حيث توجهوا إلى بيت المقدس، واستولوا عليه، وقتلوا ما يزيد عن ستين ألف مسلم (4) . واستمرت الحروب سِجَالاً بينهم وبين المسلمين، وقصدوا الديار المصرية، فتمكنوا منها عام 564هـ (5) .
_________
(1) الأيوبية: مؤسسها صلاح الدين الأيوبي سنة 564هـ امتد سلطانها على مصر والشام واليمن وغيرها، تعاقب على ملكها ثمانية سلاطين آخرهم توران شاه، قامت دولة المماليك على أنقاضها عام 648هـ. انظر: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى الخطيب ص 60
(2) المملوكية: أسسها المعز لدين الله أيبك الصالحي سنة 648هـ. والمماليك هم صنف من العبيد أصلهم أتراك وجراكسة استقدمهم الأيوبيين للخدمة العسكرية، ثم برز منهم أقوياء، قامت دولتهم على أنقاض الأيوبية. وهم نوعان المماليك البحرية حكموا ما بين (648 - 792هـ) . ومماليك بُرْجِية حكموا ما بين (792-924هـ) . انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر ص 21 - 74
(3) الإفْرَنج: ويقال: الإفْرَنْجَة، والفَرَنْج، وهي كلمة فرنسية، هم سكان أوروبا ماعدا الأروام والأتراك. انظر: القاموس المحيط ص201، المنجد في اللغة مادة"إفرنج"
(4) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12 / 257
(5) انظر: البداية والنهاية 12 / 255
(1/17)
 
 
ثم هيأ الله للأمة قائداً مظفَّراً هو " صلاح الدين الأيوبي " (1) الذي دحرهم، وتتبَّع فُلُولهم، ودكَّ جحافلهم، وحرَّرَ بيت المقدس من نَيْر احتلالهم سنة 583هـ (2) . وبعد صراعات داخلية بين أبناء صلاح الدين وإخوته حول الحكم ونحوه، انتهز الصليبيون هذه الفرصة فانقضُّوا مرة أخرى على بلاد المسلمين (3) .
وفي عام 646هـ جهَّز الصليبيون حملة عظيمة كان القصد منها الاستيلاء على القاهرة، فلما علم بها الملك الصالح نجم الدين أيوب (4) - وهو على فراش الموت - أمر بقتالهم. واستولى الصليبيون على دِمْياط (5) ، ومات الملك الصالح، فأخفت زوجته خبر وفاته لئلا يَفُتَّ ذلك في عَضُد الجنود. ثم تولى من بعده ابنه توران شاه (6) سنة 647هـ، فقاتل الإفرنج حتى هزمهم هزيمة ساحقة، غير أنه قُتِل سنة 648هـ، وبموته انْقَضَتْ دولة بني أيوب في مصر (7) .
ولما تسلم المماليك الحكم في مصر والشام كان ما يزال احتلال الصليبيين قائماً لبعض ديار الإسلام، فأَنْهك قواهم السلطان الظاهر بِيْبَرْس (8) الذي حكم من سنة
_________
(1) هو يوسف بن أيوب بن شاذي الكردي أبو المظفر، الملقب بالملك المظفر الناصر صلاح الدين الأيوبي. كان عادلاً وحازماً مجاهداً، قائد معركة حطين، أسَّس الدولة الأيوبية سنة 564هـ بمصر والشام. توفي سنة 589هـ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 7 / 139، سير أعلام النبلاء للذهبي 21 / 278
(2) انظر: البداية والنهاية 12 / 320
(3) انظر: البداية والنهاية 12 / 277
(4) هو نجم الدين أيوب بن الكامل ناصر الدين محمد بن العادل سيف الدين أبي بكر الأيوبي، ولد بالقاهرة سنة 603هـ، وملك مصر سنة 637هـ، وبنى المدارس، واشترى المماليك. توفي سنة 647هـ.
انظر: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي 2 / 34
(5) دِمْياط: مدينة عريقة بمصر تقع عند ملتقى النيل بالبحر الأبيض المتوسط. وهي عاصمة محافظة دمياط الآن. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 2 / 472، المنجد في الأعلام، ص246.
(6) هو الملك توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين، قَرَّب مماليكه، وأبْعَد مماليك أبيه، فنفرتْ منه قلوبهم، وقتلوه سنة 648هـ. وكانت مملكته شهرين. انظر: حسن المحاضرة 2 / 35
(7) انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي 1 / 332 - 360
(8) هو الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بِيْبَرْس الصالحي المملوكي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب. تولى الحكم بعد قَتْل الملك سيف الدين قُطْز، كان عالي الهمة شديد البأس. توفي سنة 676هـ. انظر: وفيات الأعيان 4 / 155.
(1/18)
 
 
658هـ إلى 676هـ، ثم جاء من بعده السلطان المنصور قَلاَوُوْن (1) الذي حكم ما بين (678 - 689هـ) ، وجاهد في أثناء حكمه، وانتزع ما بأيدي الصليبيين من الحصون والمدن (2) .
2- الزحف المغولي الهمجي:
في مستهل القرن السابع الهجري أغار التتار (3) الهمجيين على الأقاليم الإسلامية ابتداءً من المشرق الإسلامي حتى الشام، فأحاطوا بالمدن، الواحدة تلو الأخرى، مثل: بخارى، وخرسان، وأذربيجان، وبعض مدن فارس سنة 618هـ، فعمَّت المصائب، وعظم القتل والتخريب والسلب والنهب، وحرَّقوا المساجد والمدارس والمنازل (4) .
وفي عام 656هـ هاجم هولاكو التتري (5) بجيشه الجرَّار مدينة بغداد، واستولى عليها، وقَتَل الخليفة العباسي آنذاك المستعصم بالله (6) وهو آخر خلفاء بني العباس، وبلغ عدد القتلى في هذه الواقعة المفجعة مليوناً وثمانمائة ألف (7) .
وزحف هولاكو إلى الشام، فأسقط مدنها، وعاث فيها فساداً، وانحاشَتْ عساكر المسلمين إلى مصر هرباً، ثم استجمعوا قواهم، وانتظمت أحوالهم، وخرجوا بقيادة الملك المظفر سيف الدين قُطْز (8) ، وهزم التتار هزيمة نكراء عام 658هـ، وكانت أول هزيمة مُنِيَ بها التتار منذ خروجهم من بلادهم، وتفرقوا بعد ذلك في الأرجاء (9) .
_________
(1) هو الملك المنصور قَلاَوُوْن بن عبد الله الصالحي المملوكي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان حسن الصورة مهيباً شجاعاً. حكم مدة (12) سنة. توفي سنة 689هـ. انظر: البداية والنهاية 13 / 336
(2) انظر: الخطط المقريزية 2 / 238
(3) التَّتَار: هم قوم يسكنون مَنْغُوليا في أواسط آسيا، يتكونون من عدة قبائل، اشتهرت بالقوة والعنف. أول ملوكهم جنكيز خان. انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 5 / 65
(4) انظر: المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 3 / 122، البداية والنهاية 13 / 82، 94
(5) هو هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان، أعظم ملوك التتار مهابة وخبرة بالحروب، كان ملكاً جباراً فاجراً لا يدين بدين، توفي سنة 664هـ. انظر: البداية والنهاية 13 / 245
(6) هو عبد الله بن المستنصر بالله العباسي. ولد عام 609هـ، وتولى الخلافة سنة 640هـ، كان كريماً حسن الديانة، لكن ليس له تيقُّظ تام ولا حزم، توفي سنة 656هـ. انظر: شذرات الذهب 5 / 270، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 537.
(7) انظر: البداية والنهاية 13 / 201
(8) هو الملك المظفر قُطْز بن عبد الله التركي المملوكي، كان بطلاً شجاعاً، سحق التتار في موقعة "عين جالوت"، كانت مدة ملكه نحو سنة، قتل مظلوماً سنة 658هـ. انظر: حسن المحاضرة 2 / 38
(9) انظر: خطط الشام لمحمد كرد علي 2 / 104 - 109
(1/19)
 
 
3- الاضطراب السياسي في المغرب والأندلس:
بعد انهيار صَرْح الخلافة الأموية في الأندلس، قامت دولة الطوائف المفككة، هذا الأمر مهَّد للعدو المتربص بافتراس قلاع مدن هذه الدولة، وسقطت قرطبة سنة 636هـ (1) ، وتلتها المدن الأخرى، ولم يبق سوى غرناطة وأعمالها إلى منتصف القرن السابع الهجري.
أما بلاد المغرب فقد آل أمر الحكم فيها إلى زعماء دولة الموحِّدين (2)
وفي أوائل القرن السابع استولى أبوزكريا الحَفْصي (3) على تونس، وأنشأ دولته الحفصيَّة، وظلت دولة الموحدين في باقي المغرب والأندلس. ولمَّا اتسع نطاق دولته وافقه ملوك شرق الأندلس وغربيّها بالبيعة (4) . وبعد وفاته آل الأمر لبنيه من بعده.
 
أثر الحالة السياسية على حياة القرافي:
يمكن تلمُّس تأثر القرافي بأحداث عصره فيما يلى:
(1) عايش القرافي أطماع الصليبيين في بلاد المسلمين، فكان لابد أن يتصدى المسلمون لهم بالسيف والسنان، وبالقلم والبنان. ولم تسجل لنا كتب التاريخ مشاركةً ميدانية للقرافي في الحروب والمعارك، بَيْد أنه أبلى بلاءً حسناً في تزييف عقائد اليهود والنصارى من خلال كتابه النفيس " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " (5) فلقد فَنَّد في هذا الكتاب شبهات اليهود والنصارى وأبطل معتقداتهم.
كما يمكننا أن نلمح من خلال كتابه دعوة المسلمين للجهاد والقتال، لما تفرضه طبيعة المرحلة التي كان يعيشها، فهو يخصم النصارى بأنهم تمرَّدوا على دعوة الإنجيل
_________
(1) انظر: تاريخ ابن خلدون 4/336 وما بعدها
(2) الموحِّدون: سلالة مغربية أسَّسها محمد بن تومَرْت على قواعد شيعية، تمكنت من إقامة دولة عربية إسلامية في المغرب على أنقاض دولة المرابطين، مؤسسها: عبد المؤمن بن علي بن مخلوف، حكمت ما بين (524 - 629هـ) . انظر: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص 413
(3) هو أبو زكريا يحي بن عبد الواحد بن أبي حفص، ولد عام 598هـ، أول ملوك الدولة الحفصية. توفي سنة 647هـ. انظر: الوافي بالوفيات 4/ 593.
(4) انظر: تاريخ ابن خلدون 6/ 600 ومابعدها.
(5) انظر التعريف به ص (49) من القسم الدراسي.
(1/20)
 
 
الناطق بالمسالمة والمذلَّة، ومحبة الأعداء، ومباركة اللاَّعِنِين، والصلاة على من يطرد أتباع المسيح (1) ، ثم هم بعد هذا يستبيحون القتل والتخريب ومحرمات الإنجيل، فهم أشد الناس كفراً بالله وملائكته وأحكامه. بينما نحن المسلمين أُمرنا بالقتال والجهاد، وجعله تعالى من أعظم القربات، وأسباب السعادات (2) ، فما بالنا لا نقاتل أعداء الله أياً كان جنسهم، وقتالهم عندنا واجب مقدَّس بنص الآيات المحكمات من كتاب الله تعالى.
(2) إن سقوط الخلافة العباسية في بغداد، وإقامة خلافة عباسية جديدة (صوريّة) في القاهرة، هذا الأمر جعل مصر محطَّ أنظار العلماء، وبؤرة استقطابٍ لهم، ولا شك بأن هذا له الأثر الكبير على حياة القرافي العلمية. زِدْ على ذلك أن الشيخين البارزين والعلمين الشهيرين: العز بن عبد السلام (3) ، وابن الحاجب (4) قد تركا الشام إلى مصر عام 639هـ، وذلك بسبب إنكارهما الشديد على حاكم دمشق تعاونَهُ مع الإفرنج وبذْلَه لهم بعض ديار المسلمين (5) .
وما خروجهما إلا صَدَىً للحالة السياسية السائدة في ذلك العصر، وقد استفاد القرافي من علميهما أيما استفادة.
_________
(1) انظر: إنجيل متى، الإصحاح: 5 الفقرات: 43 - 45، 48
(2) انظر: الأجوبة الفاخرة للقرافي ص (118) .
(3) انظر: ترجمته في القسم التحقيقي ص 449.
(4) ستأتي ترجمته ضمن شيوخ القرافي ص 38 من القسم الدراسي.
(5) انظر: البداية والنهاية 13 / 236.
(1/21)
 
 
المبحث الثاني
الحالة الاجتماعية
عاش القرافي في بيئةٍ يتألف سكانها من قوميات متبانية، وأجناس متفاوته، فيهم:
العرب والأكراد والأتراك والرومان والأقباط وغيرهم، كما ضمَّ المجتمع بين جانبيه طوائف ومللاً شتى، من سنة وشيعة ونصارى ويهود وصوفية ... إلخ.
وكان لدين الإسلام فضلٌ كبير في إذابة هذه العرقيات، وصهرها في بوتقة الأمة الإسلامية الواحدة.
وكانت الحياة الاجتماعية تتغير أنماطها تبعاً لنهج الحكم وسياسة الحاكم، هذا الاختلاف انعكس أثره في حياة الناس.
- الحالة الاجتماعية في حياة الملك الصالح نجم الدين الأيوبي (637 - 647هـ)
كان العدل فيها مبسوطاً بين الرعية، وقد عين نُوَّاباً بدار العدل؛ لإزالة المظالم، والنظر في شئون الرعية، وكان يعمل ليلاً نهاراً على درء الخطر الخارجي؛ لتبقى أوضاع بلاده مستقرة آمنة (1) .
وكان قد اشترى عدداً كبيراً من الأتراك (المماليك) ، وصاروا معظم عسكره، ورجحهم على الأكراد، وأمَّر منهم، وجعلهم بطانته المحيطين به (2) . وكانت توجد في عهده مفاسد ومنكرات أنكرها العز بن عبد السلام عليه مع كونه مهاباً جباراً لا يستطيع أحد أن يتكلم بين يديه (3) .
- الحالة الاجتماعية في حياة السلطان الظاهر بيبرس المملوكي (658 - 676هـ)
كان الرجل في غاية الاهتمام بأمر المسلمين، له مقصد صالح في نصرة الإسلام ومحبة العلماء. فتح فتوحات كثيرة كانت تحت أيدي الإفرنج، وبنى المساجد والمدارس ودور
_________
(1) انظر: وفيات الأعيان 5 / 85، والسلوك للمقريزي 2 / 306، 340
(2) انظر: سير أعلام النبلاء 23 / 191
(3) انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 211، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي 6 / 333
(1/22)
 
 
الأوقاف، وحاسب بشدة من ينتهك حرمات الله كشرب الخمر واقتراف الزنا. وشدَّد على النصارى والرافضة، ولم تكن لهم صولة ولا جولة، والبلاد في عهده كانت محميَّة من الخطر الخارجي، مما جعل الأوضاع تستقر والناس ينعمون بالأمن (1) .
? ومن حسنات الدولتين الأيوبية والمملوكية: محاربة المذهب الشيعي الذي عشَّش وفرَّخ في مصر مدة طويلة أيام الحكم الفاطمي (العبيدي) (2) . وسعت الدولتان إلى سحق آثار المذهب الشيعي، ومنعهم من الخطابة والتدريس، بل ردَّ الظاهر بيبرس شهادتهم، ولما ثاروا عليه واجههم بحزم وصَلَبهم (3) .
ولكن من المآخذ على الدولتين: انتشار التصوف في عهديهما، وتعظيم مشايخ الصوفية، وبناء الرُّبط والزوايا لهم (4) .
وأما العلماء في هذا العصر فقد كانوا على فريقين:
- فريق آثر ما عند الله، فأخذ يصدع بالحق، وينصح الحكام، ويحذرهم من البعد عن شرع الله كالعز بن عبد السلام، وابن الحاجب وغيرهما.
- والفريق الآخر غلب عليهم الطمع، والمكانة عند السلطان، فوافقوهم، وأجروا لهم الفتاوى حسب الأهواء، وهؤلاء لم يكن لهم وزن عند الناس.
 
أثر الحالة الاجتماعية على حياة القرافي:
هذه الأجواء الاجتماعية كان لها أثر على شخصية القرافي، ويمكن تلمُّس هذه الآثار فيما يلي:
(1) نظراً لتعايش المجتمع الإسلامي مع أهل الذمة، وحمايةً لأبناء المسلمين من الانزلاق وراء شبهات اليهود والنصارى انبرى القرافي لتأليف كتابه " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة "، وقد سبق الكلام عن هذا في الأثر السياسي على القرافي (5) .
_________
(1) انظر: البداية والنهاية 13 / 260، النجوم الزاهرة 7/94، عصر سلاطين المماليك لمحمود رزق سليم 1/27
(2) الفاطمية: دولة شيعية كان أوّل ظهورها في تونس سنة 297هـ على يد عبيد الله المهدي، ولهذا تعتبر امتداداً للدولة العبيدية. كانت تنازع الدولة العباسية، امتدَّ نفوذها حتى شملت مصر والحجاز والشام واليمن. تعاقب عليها (14) خليفة. انتهت دولتهم سنة 567هـ. انظر: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص317، 335.
(3) انظر: الخطط المقريزية 4 / 161
(4) انظر: الخطط المقريزية (2 / 414 - 436) لترى أعدادها والاهتمام بها.
(5) انظر: ص 20 من القسم الدراسي.
(1/23)
 
 
(2) ملازمة القرافي لشيخه العز بن عبد السلام ربما أكسبته نُفرةً من السلاطين، مع أن القرافي كانت لديه قدرة عجيبة على صنع التماثيل والمراصد الفلكية (1) التي كان السلاطين مولعين بها، ومع ذلك لم يكن له ذِكْرٌ على بلاطهم، ولم يتولَّ لهم شيئاً من مناصبهم.
(3) كان القرافي يلهج بأشعار، ويتمثل بها كثيراً مما يدل على تأثره بالحالة السائدة في عصره. فهويقول:
وإذا جَلَسْتَ إلى الرِّجِالِ وأشْرَقَتْ في جَوِّ باطِنِكَ العُلومُ الشُّرَّدُ
فاحْذَرْ مُناظرةَ الحَسْودِ فإنَّما تَغْتاظُ أنتَ ويستفيد ويَحْرَدُ (2)
يمكننا أن نستخلص من هذين البيتين بأن عادة سيئة كانت منتشرة بين العلماء مما حدا بالقرافي أن يقول ما قال.
وكان يُردَّد:
عَتَبْتُ على الدنيا لِتَقْديمِ جَاهِلٍ ... وتأخيرِ ذِيْ عِلْمٍ فقالتْ: خُذِ العُذْرا
بَنُو الجَهْل أبنائي وكلُّ فضيلةٍ فأبناؤها أبناءُ ضَرَّتي الأُخْرى (3)
فهذان البيتان يدلاَّن على مدى سخط القرافي على تولَّي بعض الحكام سلطة البلاد والحكم بين العباد، وتقديم العلماء غير المؤهَّلين أو الجديرين إلى مناصب الإفتاء والقضاء. والله أعلم.
(4) ينبغي ألاَّ ننسى أن كثرة التآليف من الإمام القرافي التي نالت إعجاب العلماء، لعله إفرازٌ لما نَعِمتْ به البلاد من أَمْن واستقرار، وتشجيع للعلم وأهله في بعض الحِقَب الزمنية. ولهذا شَهِد بعض علماء عصره بأن القرافي حرَّر أحد عشر عِلْماً في ثمانية أشهر، أو قال: ثمانية علومٍ في أحد عشر شهراً (4) .
_________
(1) سيأتي الحديث عن هذا ص (45) من القسم الدراسي.
(2) لم أهتد إلى قائله، لكنه موجود في: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي
ص 130, ويَحْرَد: يَغْضب ويغتاظ فيتحرَّش بالذي غَاظَه ويَهِمُّ به. المعجم الوسيط مادة " حرد ".
(3) انظره منسوباً إلى محيي الدين، المعروف بحافي رأسه في: الديباج المذهب ص 130
(4) انظر: الديباج المذهب ص 129
(1/24)
 
 
المبحث الثالث
الحالة العلمية
تَزْدان الحياة العلمية في أيِّ عصرٍ وتزدهر بمقدار كثرة المدارس المنتشرة، والخِزَانات العامرة بالكتب الوفيرة، وبزيادة الحوافز المبذولة لطالبي العلم والراغبين فيه.
... والحالة العلمية لم تُحَاكِ الحالةَ السياسية المضطربة، بل ظلَّتْ ناميةً مزدهرةً، فبعد أن كانت بغداد ـ عاصمة الخلافة العباسية ـ مَحَطَّ العلماء من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ إلا أن إمامتها للعلماء انحسرت بعد سقوطها على أيدي التتار.
... وأخذت دمشق والقاهرة تتنازعان الرئاسة العلمية، وصارتا موئل العلماء، غير أن كفَّة مصر رجحت حين تكاثر وفود العلماء إليها نتيجةً لتعرض الشام إلى الغزو الصليبي والتتري.
وكان من أسباب النهضة العلمية في مصر أيضاً أن الدولة الفاطمية (العبيدية) سعتْ حثيثاً إلى بناء المدارس، وتعليم المذهب الرافضي وفَرْضِه على الناس، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي من بعدهم، فأنشأ المدارس السُّنِّية، وسعى إلى اجتثاث جذور المذهب الباطني الذي زرعته الدولة الفاطمية (العبيدية) ، وهكذا تتابع الملوك من بعده، ولاقى العلماء كل تشجيعٍ وإكرامٍ، وهكذا كان الأمر في عهد الدولة المملوكية.
ويلاحظ هنا أن بعض الكاتبين في تاريخ التشريع الإسلامي يصفون هذه الفترة الزمنية، والطور التاريخي بأنها فترة الجمود والتقليد، والهرم والشيخوخة (1) .
وفي تقديري إن هذا الحكم فيه مجافاة للواقع، وبُعْد عن الإنصاف، فلم يَخْلُ زمان من مجدِّدين يُحْيُون ما اندرس من علوم الشريعة، ويستنهضون همم الناس نحوها، وإن صَحَّتْ هذه المقولة في علم الفقه فلا تصحُّ في علم أصول الفقه، قال الشيخ محمد أبو زهرة (2) : ((هذا العلم الذي غرس غرسه الإمام الشافعي رحمه الله لم يَضْعف من بعده،
_________
(1) انظر: على سبيل المثال: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ / محمد الخضري ص 248، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي 2/ 189.
(2) هو محمد بن أبو زهرة، من علماء الشريعة، وعضو المجلس الأعلى للبحوث العلمية، ووكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة. له أربعون مؤلَّفاً، منها: أصول الفقه (ط) ، تاريخ الجدل في الإسلام (ط) ، وكتب أخرى عن الأئمة الأعلام. ت 1394 هـ. انظر الأعلام للزركلي 6 / 25، أصول الفقه تاريخه ورجاله لشيخنا الدكتور / شعبان محمد إسماعيل ص 647.
(1/25)
 
 
حتى في عصور التقليد التي أَغْلقتْ فيها باب الاجتهاد، بل نما وترعرع. . . وكأن الفقهاء إذْ قيَّدوا أنفسهم في الفروع، قد اطلقوا لها الحرية في الأصول ... )) (1) .
وقد نبغ في هذا العصر - السابع الهجري - أساطين من العلماء، الذين
طَبَّقتْ شهرتهم الآفاق، وأَثرَوا بتصانيفهم الفريدة المكتبات، حتى غَدَتْ مَفْزعاً
لنَاهِليِ علوم الشريعة وغيرها، فمنهم: الإمام فخر الدين الرازي (2) ، وموفق الدين
ابن قُدَامة المقدسي (3) ، وسيف الدين الآمدي (4) ، وتقي الدين أبو عمرو
ابن الصَّلاح (5) ، وأبو عمرو ابن الحاجب المالكي، والحافظ المنذري (6) ، والعز بن عبد السلام، وابن مالك النحوي الأندلسي (7) ، والإمام النووي (8) والقاضي البيضاوي (9) ،
_________
(1) انظر: كتابه: " الشافعي " عهده آراؤه وفقهه ص 309.
(2) انظر ترجمته في: القسم التحقيقي ص 4.
(3) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، موفق الدين الدمشقي الحنبلي، كان إماماً في علوم كثيرة خاصةً الفقه والأصول والخلاف، وله كتاب: المغني في الفقه (ط) وروضة الناظر في أصول الفقه (ط) وغيرهما. توفي سنة 620هـ، انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 133
(4) انظر ترجمته في: القسم التحقيقي ص 21.
(5) هو عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرَزُوري الشافعي، المفتي والمفسر والأصولي واللغوي، وله آراء أصولية مبثوثة في مؤلفاته، منها: فتاوى ومسائل ابن الصلاح (ط) ، والمفتي والمستفتي (ط) ، مقدمته الشهيرة في مصطلح علوم الحديث (ط) . توفي سنة 643هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 326
(6) ستأتي ترجمته ضمن شيوخ المصنف ص 39 من القسم الدراسي.
(7) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني، إمام زمانه في العربية، كان عالماً بالقراءات. له مؤلفات شهيرة منها: التسهيل وشرحه (ط) ، الخلاصة وهي المشهورة بألفية ابن مالك في النحو (ط) . توفي سنة 672هـ. انظر: بغية الوعاة للسيوطي 1 / 130
(8) هو الحافظ محي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف النووي، الفقيه الشافعي والمحدث، صاحب التصانيف النافعة، مثل: شرح صحيح مسلم (ط) ، المجموع شرح المهذب (ط) رياض الصالحين (ط) . انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5 / 165
(9) هو عبد الله بن عمر بن محمد، المعروف بالقاضي البيضاوي، كان إماماً عابداً فقيهاً أصولياً مفسراً متكلماً، له قدم راسخة في التأليف، منها: منهاج الوصول (ط) ، أنوار التنزيل (ط) . توفي سنة 685هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 157
(1/26)
 
 
ابن دقيق العيد (1) ، وغيرهم كثير.
ومن مؤيدات نهضة الحالة العلمية في هذا العصر: أن حركة التأليف والتدريس كانت نشطة، ووقع التنافس في بناء دور المدارس العلمية، ولعل من المفيد أن نعرِّج على أهم المدارس التي كان للقرافي اتصالٌ بها، فمنها:
1- المدرسة الصَّاحِبية:
سميت بذلك نسبة لمنشئها الصاحب بن شُكْر (2) سنة 618هـ، جعلها وقْفاً على المالكية، وأجرى عليهم الأرزاق، وضم إليها مئات الكتب (3) . وقد نهل منها القرافي وغيره. قال عنها في كتابه " نفائس الفصول " (1/499) ((وهذه الفصول وجدتها في كتاب في الخزانة الصاحبية ... أسبع الله ظلالها)) .
2- المدرسة القَمْحِية:
شيدها صلاح الدين الأيوبي سنة 566هـ، وسميت بهذا لما كان يقسم على مدرسيها وطلابها من القمح الموقوف عليها.
وهي بجوار الجامع العتيق (جامع عمرو بن العاص) بمصر، وقد تولى القرافي التدريس بها حقبةً من الزمن (4) .
3- المدرسة الصالحية:
تنسب إلى مؤسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 641هـ. وقد تبوأت هذه المدرسة مكانة عالية في مصر، فقد كانت تُدرَّس فيها المذاهب الأربعة، واختير لها أفضل المشايخ، من بينهم الشهاب القرافي الذي تولَّى التدريس بها سنة 663هـ، ثم عزل، ثم أعيد، ثم ظلَّ يدرس فيها حتى مات رحمه الله (5) .
_________
(1) هو تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب المنفلوطي المالكي الشافعي، الشهير بابن دقيق العيد، حقق المذهبين، ولي قضاء الديار المصرية والتدريس، وله كتب نافعة مثل: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
(ط) . توفي عام 702هـ. انظر: الديباج المذهب ص 411، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 6 / 2
(2) هو صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن الحسين الدميري، الشهر بالصاحب بن شكر، ولد سنة 540هـ وتفقه على مذهب مالك، استوزره الملك العادل الأيوبي. توفي سنة 622هـ. انظر: فوات الوفيات 2/193
(3) انظر: الخطط المقريزية 2 / 371، المنهل الصافي 1 / 277
(4) انظر: الخطط المقريزية 2 / 364، النجوم الزاهرة 5 / 385
(5) انظر الخطط المقريزية 2 / 374، المنهل الصافي 1 / 216، الدارس في تاريخ المدارس لعبد القادر النعيمي 1/316
(1/27)
 
 
4- المدرسة الطَّيْبَرْسِيَّة:
تقع بالقرب من الجامع الأزهر، تُنْسب إلى مؤسسها علاء الدين طَيْبَرس الخَازنْداري (1) وهيأها للدارسين سنة 680هـ، وتضم المدرسة قسماً للشافعية، وآخر للمالكية. وكان القرافي أول من درس فيها من المالكية (2) .
... وهناك مدارس أخرى كثيرة في حياة القرافي، لكن لم يذكر التاريخ لنا أنه باشر الدرس أو التدريس فيها. من هذه المدارس: المدرسة الظاهرية، والفارقانية، والسيوفية، والفائزية، والمنصورية، ومدرسة العادل، ومدرسة ابن رشيق. . إلخ (3)
... وبجانب هذه المدارس توجد الجوامع، كجامع عمرو بن العاص، وقد درَّس فيه القرافي، وأخذ عنه خلقٌ كثير (4) .
_________
(1) هو علاء الدين طَيْبَرس بن عبد الله الوزير، صهر الملك الظاهر، كان من أكابر الأمراء ومن أهل الحل والعقد، وكان دَيِّناً كثير الصدقات. توفي سنة 689هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 338
(2) انظر: الخطط المقريزية 2 / 383، الانتصار لواسطة عقد الأمصار 1 / 97، الوافي بالوفيات 6 / 233
(3) انظرها في: الخطط المقريزية 2 / 363 - 384، مساجد القاهرة ومدارسها لأحمد فكري 2 / 49 - 76
(4) انظر: الخطط المقريزية 2 / 383، الوافي بالوفيات 6 / 233
(1/28)
 
 
الفصل الثاني
حياة المؤلف
(1/29)
 
 
المبحث الأول
اسمه وكنيته ولقبه وشهرته وأصله
* اسمه: ... أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّيْن
* كنيته: ... أبو العباس.
* لقبه: ... شهاب الدين.
* شهرته: ... القرافي.
*وسبب هذه النسبة: ما ذكره بنفسه في كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم (1 / 549) في الباب الثالث عشر حيث قال:
((
وهذا الباب يكون العموم فيه مستفاداً من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي هي أصل تلك الأسماء لأشخاص معينة من الآدميين، كتميم وهاشم. أو لماءٍ من المياه كغسَّان، أو لامرأةٍ كالقرافة، فإنها اسم لجدَّة القبيلة المسماة القرافة، نزلت هذه القبيلة بصِقْع من أصقاع مصر لما اختَطَّها عمرو بن العاص ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فعُرِف ذلك الصقع بالقرافة، وهو الكائن بين مصر وبركة الأشراف، والمسمى: بالقرافة الكبيرة. وأما سَفْح المقطَّم فمَدْفن، وسُمِّيَ بالقرافة للمجاورة تبعاً، ولذلك قيل له: القرافة الصغيرة)) .
ويؤكد القرافي أن شهرته بالقرافي لا تعود لكونه من سلالة هذه القبيلة، بل لسكناه بتلك البقعة حيث يقول: ((واشتهاري بالقرافي ليس لأجل أني من سلالة هذه القبيلة، بل للسكن بالبقعة الخاصة، فاتفق الاشتهار بذلك)) (1) .
* أصله: صرح القرافي بأصله في كتابه السالف الذكر إذْ قال: ((وإنما أنا من صُنْهَاجَة الكائنة في قُطْر مراكش بأرض المغرب)) . وصُنْهَاجة: بضم الصاد وفتحها بطن من البربر (2) ، وقيل: إنها قبيلة من حِمْير، وحمير من عرب اليمن (3) .
_________
(1) وانظر أقوالاً أخرى في سبب نسبته إلى القرافي في: الوافي بالوفيات 6 / 233، الديباج المذهب ص 129.
(2) انظر: نهاية الأرب في أنساب العرب للقلقشندي ص 317.
(3) انظر: الأنساب للسمعاني 3 / 590.
(1/30)
 
 
المبحث الثاني
مولده ونشأته
* تاريخ ولادته:
كانت ولادته ونشأته بمصر سنة 626هـ، كما صرح بذلك بنفسه في كتابه
" العقد المنظوم " (1 / 550) ، إذْ قال: ((ونشأتي ومولدي بمصر سنة ست وعشرين وستمائة)) (1) .
* مكان ولادته:
ولد في قرية " بُوش " من صعيد مصر الأسفل غربي النيل (2) ، وتعرف أيضاً
بـ" بَهْفَشَيْم " (3) من أعمال البَهَنْسَا، ولذلك عُرِف بالبَهْفَشِيمي البَهَنْسي (4) .
* نشأته:
لم تُنْبئنا كتب التاريخ شيئاً ذا بالٍ مما يتعلَّق بنشأة الشهاب القرافي، غير أنه ينحدر من أصولٍ مغربية من قبيلة صنهاجة. ولعلَّ نزوح أسرته إلى أرض مصر كان في عهد والده أو قبل ذلك بقليل. ومما يؤكد حداثة هذا النزوح ثبات حفظ القرافي لكثير من أسماء القبائل المغربية، مما يدل على قرب عهد أسرته بها (5) . كما أن والده كُني بأبي العُلَى، ونُعِت بالشيخ الأجلّ (6) ، مما يشير إلى أن والد القرافي رحل إلى مصر رحلة علمية حتى اكتسب هذا الإجلال والتعظيم.
_________
(1) وهكذا توارد النقل عنه في: كشف الظنون 2 / 1153، هدية العارفين 1 / 90.
(2) انظر: معجم البلدان للحموي 1 / 508، الوافي بالوفيات 6/233.
(3) هكذا في: الوافي بالوفيات 6 / 233، بينما في: المنهل الصافي 1 / 215 " بَهَبْشِيْم ".
(4) انظر: الديباج المذهب ص 128، حسن المحاضرة 1 / 316.
(5) منها: صنهاجة، وهنتاتة، وزناتة، ودكالة، وغمارة، ومغراوة، وهيجانة، وهشكورة، وكدميولة، وبرغواطة، وهزميزة، ولمطة، وهرعة، ورباح. . . وغيرها كثير. انظر: العقد المنظوم للقرافي 1 / 551.
(6) جاء في مقدمة كتاب ترتيب الفروق واختصارها لتلميذ القرافي أبي عبد الله محمد البقوري 1 / 19 ((وبعد: فإني لما وقفتُ على الفروق التي لشيخنا الأجل، الإمام الأفضل، العالم العَلَم المشارك شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ الأجل المرحوم أبي العُلَى إدريس القرافي. . .)) .
(1/31)
 
 
وكانت مصر معقل العلم وموئل العلماء، حتى قال ابن خلدون (1) : ((ونحن لهذا العهد، نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر)) (2) .
وكانت القاهرة تعجُّ بالمساجد والمدارس ودور العلم، وبهذا تهيأت للشهاب القرافي منذ نعومة أظفاره فرصة تلقي العلم. فقد ذكرت بعض كتب التراجم بأن القرافي كان طالباً بالمدرسة الصاحبية، وكان يُعطى له من ريع وَقْفها، وفي مرةٍ لم يكن حاضراً، فلم يُعْرف اسمه، فكتب الشخص المسؤول عن حصر الغياب ونحوه اسمه بأنه " القرافي "؛ لأنه كان يأتي من تلك الجهة (3) . فهذا يعني أنه كان طالباً في هذه المدرسة، وكانت تجري عليه أرزاقها.
ومما يُسجَّل في طَوْر النشأة العلمية للقرافي شدة ملازمته لشيخه الجليل العز بن
عبد السلام منذ وطئت قدماه أرض مصر عام 639 هـ، وكان القرافي وقتذاك في الثالثة عشرة من عمره، فقد لازمه حتى توفي شيخه رحمه الله عام 660 هـ.
_________
(1) هو: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، فيلسوف مؤرخ، عالم بالاجتماع، فقيه مالكي، رحل إلى عدة بلدان تولَّى القضاء في مصر وتوفي بها، من مؤلفاته: العبر وديوان المبتدأ والخبر. . . (تاريخ ابن خلدون) (ط) ، رسالة في المنطق، ملخص المحصول للرازي، وغيرها. ت 808 هـ. انظر: الابتهاج ص 17، الضوء اللامع 4 / 145.
(2) مقدمة ابن خلدون 3 / 1025.
(3) انظر: الوافي بالوفيات 6 / 233، المنهل الصافي 1 / 215، تاريخ الإسلام للذهبي ص 176.
(1/32)
 
 
المبحث الثالث
عقيدته ومذهبه الفقهي
 
أولاً: عقيدة القرافي:
من الآثار العلمية والفكرية السائدة في عصر القرافي على شخصيته اعتقاده في مسائل أصول الدين بعقيدة الأشاعرة (1) .
فإن انتشار هذا المذهب في ديار مصر بصورة واسعة تمَّ عندما كانت تحت سلطنة السلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقد كان صلاح الدين يحفظ هذه العقيدة في صباه، وهكذا كان قاضيه. فلذلك عقدوا الخناصر، وشَدُّوا البَنَان على المذهب الأشعري، وحَمَلوا في أيام دولتهم كافَّةَ الناس على التزامه. فتمادى الحال على ذلك جميعَ أيام الملوك من بني أيوب (2) .
ولقد أسهم القرافي - كغيره من العلماء - ببعض مصنفاته في شرح المذهب الأشعري الذي يعتقده ويؤمن به، فهو يشرح كتاب: " الأربعين في أصول الدين (3) " للفخر الرازي الذي هو من أكابر علماء الأشاعرة، ومن المنظِّرين لهذه العقيدة.
إن أشعرية القرافي تبدو واضحةً للعَيَان عند الاطلاع على كثير من كتبه، فمؤلفاته تنبيء بأنه أشعريٌ خالص متمسِّك بها، ويُسمِّي أهل مذهبه بأهل الحق (4) ، وبأهل السنة (5) .
ومن النصوص الصريحة في انتحال القرافي مذهب الأشاعرة ما يلي:
(1) قال في كتابه: نفائس الأصول (1/419) ((. . . وليس كما قال، لأنَّا
- أيها الأشاعرة - نجوِّز تكليف مالا يطاق. .)) .
_________
(1) انظر التعريف بها ص (28) من القسم التحقيقي.
(2) انظر: الخطط المقريزية 4/184 وما بعدها.
(3) انظر: مؤلفات القرافي في العقيدة ضمن مصنفاته ص (50) من القسم الدراسي.
(4) انظر على سبيل المثال: كتابه الاستغناء في أحكام الاستثناء ص 420، 612، شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 48، 72.
(5) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 138.
(1/33)
 
 
(2) وقال في كتابه: شرح تنقيح الفصول ص (145) ((. . . لم يقل بالكلام النفسي إلا نحن، ولذلك تُصُوِّر - على مذهبنا - تعلُّقه بالأزل. . .)) .
(3) وقال في كتابه: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة ص (65) ((. . . ولذلك عَدَلْتُ عن بيان سماع موسى عليه السلام لكلام الله تعالى، وهو قائم بذاته بغير حَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وهو مبسوط في كتبنا الكلامية، وقد ذكرته مستوعباً في: شرح الأربعين للإمام فخر الدين، فمن أراده نظره هناك)) .
(
4) وقال في كتابه: الذخيرة (13/244) - بعد أن أورد مَقُولَة الشافعي:
((لو وَجَدْتُ المتكلمين لضربتهم بالجريد)) - قال: ((قال لي بعض الشافعية - وهو مُتَعيِّن فيهم يومئذٍ - هذا يدل على أن مذهب الشافعي تحريم الاشتغال بأصول الدين. قلتُ له: ليس كذلك، فإن المتكلمين اليوم في عُرْفِنا إنما هم الأشعري وأصحابه، ولم يُدْرِكوا الشافعي ولا تلك الطبقة الأولى، وإنما كان في زمان الشافعي عَمْرو بن عُبيد وغيره من المعتزلة المبتدعة أهل الضلالة، ولو وجدناهم نحن ضربناهم بالسيف فضلاً عن الجريد، فكلامه (أي الشافعي) ذَمٌّ لأولئك لا لأصحابنا. وأما أصحابنا القائمون بحجة الله، والناصرون لدين الله، فينبغي أن يُعظَّموا ولا يُهْتَضَموا؛ لأنهم القائمون بفرض كفايةٍ عن الأمة. . .)) .
ومع كون القرافي على مذهب الأشاعرة إلا أن ذلك لم يَحْمِله على التعصب وبَطَر الحق، فقد كان يتخلَّى عن مذهب قومه، ويُنْصف خصمه إذا كانوا على الحق.
يدلُّ على ذلك: اختياره ما يخالف مذهب الأشاعرة والجمهور في مسألة تحريم الشارع واحداً لا بعينه، واختيار أنه لا يمكن تحريم واحدٍ لا بعينه، وقال: ((والحق في هذا ما نسبه (أي الآمدي) للمعتزلة لا ما نسبه لأصحابنا)) (1) .
وما دام الحديث هنا عن عقيدة القرافي فمن إحقاق الحق أن نُشِيد بموقفه الباسل، وجهاده النبيل، النابع من إيمانه الراسخ بدين الإسلام عقيدةً وشريعةً ضِدَّ شبهات اليهود والنصارى ومفترياتهم. فلقد انْبَرَى لهم القرافي - وقد كانوا كُثُراً في عصره - يزيَّف معتقداتهم الباطلة، ويُفَنِّد طعونهم المسمومة في الإسلام وأهله. وفي هذا الصدد
_________
(1) انظر: نفائس الأصول 1/271 - 274، الفروق 2/8.
(1/34)
 
 
ألف كتابه الرائع: " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " (1) في الرد على اليهود والنصارى. فرَحْمةُ الله عليه رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ثانياً: مذهبه الفقهي:
... لا يساور أحداً الشكُّ بأن الشهاب القرافي مالكيُّ المذهب، بل زعيم المالكية في عصره بإجماع من تَرْجَم له. وإليك عَرْضَ الدلائل القاطعة بمالِكِيَّتِهِ:
(1) قال في أول كتابه الذخيرة (1/34 - 36) ((أما بعد: فإن الفقه عماد الحق، ونظام الخلق، ووسيلة السعادة الأبدية، ولباب الرسالة المحمدية، مَنْ تحلَّى بلباسه فقد ساد، ومن بالغ في ضبط معالمه فقد شاد. ومن أجَلِّه تحقيقاً، وأقْربِه إلى الحق طريقاً: مذهبُ إمام دار الهجرة النبوية، واختياراتُ آرائه المرضيَّة. لأمور - ثم ساقها
وقال -: ولمَّا وهبني الله من فضله أن جعلني من حَمَلة طلبته، الكاتبين في صحيفته، تعينَّ علَيَّ القيامُ بحقه بحسب الإمكان، واستفراغ الجهد في مكافأة الإحسان. . . ثم قال: وقد آثرْتُ أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقاً وغرباً، حتى لا يفوت أحداً من الناس مطلب، ولا يعوزه أرب. . .)) .
- وقال أيضاً في الذخيرة (1/39) ((وبنيت مذهب مالك رحمه الله في أصول الفقه ليظهر عُلوُّ شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع. . .)) .
(2) وقع من القرافي في مواطن كثيرة من كتبه أنه إذا أراد حكاية قولٍ من علماء المالكية ولا سيما الباقلاني أن يُعقَّب بقوله: " مناَّ " (2) أو " من أصحابنا " (3) ، كما أنه إذا أراد الاستدلال لرأي المالكية عَبَّر بقوله: " لنا " (4) أي: معشر المالكية، وهكذا.
(
3) نصَّ القرافي بنفسه على اعتزائه إلى المذهب المالكي في مقدمات بعض كتبه، منها: كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء ص (85) ، قال: ((يقول العبد الفقير إلى مغفرة ربه أحمد بن إدريس المالكي عفا الله عنه. . .)) وتكررت نفس العبارة بحروفها تقريباً في مقدمة كتابه: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام. . . ص (30) .
_________
(1) انظره ضمن مؤلفاته ص 49.
(2) انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 4، 42، 223.
(3) انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 5، 55، 341.
(4) انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 24، 32، 499.
(1/35)
 
 
وفي مقدمة كتابه: الأمنية في إدراك النية ص (3) قال: ((أما بعد: فيقول الشيخ الفقيه الإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي. . .)) ولا شك بأن عبارات الثناء التي سبقت اسمه ليست من عنده، بل من زيادة النسَّاخ.
(4) أجمع كل من ترجم له بأنه ينتسب إلى المذهب المالكي، ولهذا جاءت ترجمته في كتب طبقات المالكية (1) دون طبقات المذاهب الأخرى.
هذه الدلائل كافية تماماً لإثبات مذهبه الفقهي، فلا حاجة لجلب النصوص والاستدلال على ما هو مشهور ثابت بالإجماع.
وبالرغم من كونه على المذهب المالكي لم يجْرِمنَّه شنآن قوم على ألاَّ يعدل مع المخالفين لمذهبه بل لم يظلّ متعصباً لمالكيته على حساب الحق الذي يدين به.
بل إنك تلمس في هذا الرجل المنصف محاربته السافرة للجامدين المتعصِّبين ولو كانوا من ذوي قرباه في المذهب. فعندما تعرَّض لما نقله عن " المدونة " من أن القائل لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو أنت خَلِيَّة، أو وهبتك لأهلك، أنها تطلق منه بالثلاث، ولا تنفعه النية أنه أراد أقلّ من الثلاث (2) ناقش هذه المسألة ولم يرضها، وقال:
((
فهذه الأحكام حينئذٍ بلا مستندٍ، والفتيا بغير مستند باطلةٌ إجماعاً، وحرامٌ على قائلها ومعتقدها - ثم قال - لكن أكثر الأصحاب وأهل العصر لا يساعدون على هذا وينكرونه. وأعتقد أن ما هم عليه خلاف إجماع الأئمة، وهذا الكلام واضحٌ لمن تأمَّله بعقل سليمٍ، وحُسْن نظرٍ سالمٍ من تعصبات المذاهب التي لا تليق بأخلاق المتقين لله
تعالى)) (3) .
ولهذا لا غرو أن حرص القرافي رحمه الله في موسوعته الفقهية " الذخيرة " على بيان مذاهب الفقهاء عامةً والأئمة الثلاثة خاصةً بجانب مذهب الإمام مالك رحمه الله.
_________
(1) كالديباج المذهب ص 128 - 130، شجرة النور الزكية 1/188 - 189، الفكر السامي للحجوي
2 / 273.
(2) انظر: المدونة 5 / 393، 397، وانظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 222 وما بعدها.
(3) انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص 225.
(1/36)
 
 
قال في مقدمة الذخيرة (1/35) ((وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة، ومآخذهم في كثير من المسائل؛ تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع، فإن الحق ليس محصوراً في جهةٍ، فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب
الأقوى ... )) .
ومن الدلائل المشيرة إلى إنصافِهِ وتجرُّدِهِ للحق ما يلي:
(1) جاء في الفروق (1/12) قوله ((وهنا سؤالان مشكلان على المالكية. . .)) . وفي موضع آخر من الفروق (3 / 171) قال: ((وهذا موضع مشكل على
أصحابنا)) .
(2) بعد مناقشته لمسألة بيع الطعام قبل قبضه قال في الفروق (1/193)
((فبقيت المسألة مشكلة علينا، ويظهر أن الصواب مع الشافعي)) .
(3) قال في كتابه: الاستغناء في أحكام الاستثناء ص (620) ((ولا ينبغي أن ينازعهم (يقصد الشافعية) أصحابنا في هذا؛ فإنه على القواعد)) .
وأخيراً الإمام القرافي رغم وصوله منزلةً علميةً رفيعةً نجده لا يتردد في الاعتراف بعجزه عن ضبط مسألةٍ ما، وهذا في الحقيقة من كمال تواضعه وتجرده، فمثلاً:
لمَّا تأمَّل تعريفه للرخصة في " تنقيح الفصول " قال: ((والذي تقرر عليه حالي في شرح المحصول، وها هنا، أني عاجز عن ضبط الرخصة بحدٍّ جامعٍ مانعٍ، أما جزئيات الرخصة من غير تحديدٍ فلا عُسْر فيه، إنما الصعوبة في الحدِّ على ذلك الوجه)) (1) .
وهكذا إذا أخطأ القرافي وتبيَّن له وجه الصواب، لا يستنكف أن يرجع
عن خطائه. قال في شرح تنقيح الفصول ص (43) ((وقولي في الكتاب (يعني المتن) : الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه. صوابه: اللفظة المستعملة أو اللفظ
المستعمل. . .)) .
رحمة الله على الإمام القرافي، وعلى علماء الأمة أجمعين. آمين.
_________
(1) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 87، نفائس الأصول 1 / 331 - 336.
(1/37)
 
 
المبحث الرابع
شيوخه
ربما كان من المتعذِّر حصر المشايخ الذين أخذ عنهم القرافي، فقد قيَّض الله له علماء أجلاء، وسأذكر أبرزهم، فمنهم:
1- أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمرو بن أبي بكر بن يونس المالكي المعروف بابن الحاجب (1) .
كان وقَّاد الذهن، متقناً لمذهب مالك، بارعاً في الأصول والفقه والعربية. صنَّف مختصرات طبَّقتْ شهرتها الآفاق منها: المختصر الفقهي: جامع الأمهات (ط) ، والمختصر الأصولي: منتهي السول ومختصره (ط) ، الكافية في النحو (ط) ، والشافية في الصرف (ط) توفي سنة 646هـ.
ذكر القرافي شيخه ابن الحاجب في كتابه الفروق (1 / 64) فقال:
((وقد وقع هذا البيت لشيخنا الإمام الصدر العالم، جمال الفضلاء، رئيس زمانه في العلوم، أو سيِّد وقته في التحصيل والفهوم: جمال الدين الشيخ أبي عمرو بأرض الشام، وأفتى فيه وتفنن، وأبدع فيه ونوَّع رحمه الله وقدَّس روحه الكريمة. . .)) .
2- شمس الدين عبد الحميد بن عَمَوَيْه بن يونس الخُسْرَوْشَاهي الشافعي (2) .
كان فقيهاً أصولياً متكلماً محققاً بارعاً في المعقولات، قرأ على الإمام الرازي، وأكثر من الأخذ عنه. صنَّف: مختصر المهذب للشيرازي، مختصر المقالات لابن سينا، توفي
سنة 652هـ.
ذكره القرافي في " شرح تنقيح الفصول " ص (33) (المطبوع) عند الكلام عن تحرير الفرق بين عَلَم الجنس وعَلَم الشخص واسم الجنس، فقال: ((وكان الخسروشاهي يقرره، ولم أسمعه من أحدٍ إلا منه، وكان يقول: ما في البلاد المصرية من يعرفه. . .)) (3) .
وكذلك ذكر في نفائس الأصول (2 / 704) بأنه قرأ المحصول وضبطه عليه.
_________
(1) انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 3 / 248، الديباج المذهب ص 189
(2) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى 5 / 60
(3) وانظر: نفائس الأصول 2 / 601.
(1/38)
 
 
3 - أبو محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المُنْذِري (1) .
ولد بمصر عام 581هـ وطلب الحديث، فرحل من أجله إلى مكة والمدينة ودمشق وبيت المقدس، حتى صار أحد الحفاظ المشهورين، وتولى مشيخة دار الحديث
الكاملية، وبقي فيها حتى توفي عام 656هـ.
من مصنفاته: الترغيب والترهيب (ط) ، مختصر صحيح مسلم (ط) .
أخذ عنه خلق كثير منهم: العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وقد أشار إليه القرافي في كتابه " الفروق " (2 / 191) .
4- عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم السُّلَمي الشافعي (2)
الملقَّب بسلطان العلماء، توفي سنة 660هـ.
أخذ القرافي عنه كثيراً، وكان شديد الإعجاب به، فها هو يقول عنه في
" الفروق " (2 / 157) ((ولم أر أحداً حرَّره هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وقدَّس روحه، فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولها، وكان يُفْتح عليه بأشياء لا توجد لغيره رحمه الله تعالى. . .)) .
وقال في موضع آخر من كتابه " الفروق " (4 / 251) ((لقد حضرت يوماً عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان من أعيان العلماء، وأولي الجِدِّ في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصةً وعامةً، والثبات على الكتاب والسنة، غير مُكْترثٍ بالملوك فضلاً عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم. . .)) .
5- شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن شرف الدين المقدسي الحنبلي (3)
ولد بدمشق، ثم رحل إلى بغداد وتفقه فيها، واستقر بمصر، ودرس في المدرسة الصالحية، وتولى القضاء فيها، وكان يُعْتبر شيخ الحنابلة في مصر، توفي سنة 676 هـ ودفن بالقرافة الصغرى.
_________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى 5 / 108، سير أعلام النبلاء 23 / 319.
(2) انظر: ترجمته في القسم التحقيقي ص 449.
(3) انظر: شذرات الذهب 5 / 353.
(1/39)
 
 
أخذ القرافي عنه كما جاء في " الديباج المذهب " ص (128) ، وسمع عليه
كتابه: وصول ثواب القرآن.
6- شمس الدين محمد بن عمران بن موسى المعروف بالشريف الكَرْكِي (1)
ولد بفاس، ثم قدم مصر، وكان صاحب علوم كثيرة، وكان شيخاً للمالكية والشافعية بالديار المصرية والشامية، قدم من المغرب بمذهب مالك، وصحب العز بن
عبد السلام وأخذ عنه الفقه الشافعي، توفي سنة 688هـ.
قال القرافي عنه: ((إنه تفرد بمعرفته ثلاثين عِلْماً وحده، وشارك الناس في
علومهم)) (2) .
_________
(1) انظر ترجمته في: الديباج المذهب ص 416، بغية الوعاة 1 / 202.
(2) انظر: الديباج المذهب ص 416.
(1/40)
 
 
المبحث الخامس
تلاميذه
لقد أصبح القرافي عَلَماً بارزاً من الأعلام المشار إليهم بالبنان، وقد أفاد منه كثيرٌ من الطلبة والمشتغلين عليه، وقد عُهِد إليه بالتدريس في بعض مدارس مصر الشهيرة، وبجامع عمرو بن العاص. ولا شك أن خلقاً كثيراً قد أخذوا عن الإمام القرافي، فمِنْ أبرز تلاميذه:
1 - عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف العَلاَمي الشافعي، المشهور بابن بنت الأعز (1)
كان فقهياً نحوياً ديِّنياً فصيحاً، وكان من أحسن القضاة سيرة، ولي خطابة الأزهر، والتدريس بالمدرسة الشريفية. قرأ على القرافي الأصول وتعليقة القرافي على المنتخب التي صنعها لأجله. توفي سنة 665هـ.
2 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد البَقُّوري (2)
أخذ عن الإمام القرافي وغيره، واختصر كتابه " الفروق " وهَذَّبه ورتَّبه وسماه:
" ترتيب الفروق واختصارها " (ط) . توفي سنة 707هـ.
3 - صدر الدين أبو زكريا يحيى بن علي بن تمام السُّبْكي (3) .
برع في الفقه والأصول، وقرأ الأصول على الإمام القرافي، وسمع الحديث من غيره، تولي قضاء بعض البلاد المصرية، ثم درَّس بالمدرسة السيفية بالقاهرة حتى وفاته سنة 725هـ.
4 - شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الولي بن جبارة المِرْدَاوي المقدسي الحنبلي (4)
كان أصولياً مقرئاً نحوياً فقيهاً بمذاهب الحنابلة زاهداً ديِّناً، انتهت إليه مشيخة بيت المقدس. قرأ الأصول على القرافي، ألَّف شرحاً كبيراً للشاطبية وغيره. توفي ببيت المقدس سنة 728هـ.
_________
(1) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 8 / 172، فوات الوفيات 2 / 279.
(2) انظر: الديباج المذهب ص 410، شجرة النور الزكية 1 / 211.
(3) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 10 / 391.
(4) انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 1 / 122، شذرات الذهب 3 / 87.
(1/41)
 
 
5 - زين الدين أبو محمد عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي (1)
كان رجلاً صالحاً زاهداً ذاكراً، ولي قضاء بعض البلاد المصرية، وكان من أعيان نوَّاب ابن دقيق العيد.
قرأ الأصول على الشهاب القرافي، وحدَّث بالقاهرة والمحلَّة ومكة والمدينة. توفي سنة 735هـ.
6- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد القَفْصي (2) .
نزل بتونس، ثم رحل إلى الاسكندرية، ثم القاهرة، ولقي القرافي بها، ولازمه وانتفع به، وأجازه الإمام القرافي بالإمامة والأصول والفقه، كان فقيهاً فاضلاً متفنناً في العلوم، حج سنة 680هـ، وعاد إلى المغرب بعلمٍ جَمٍّ، ولي قضاء قَفْصة ثم عزل. توفي سنة 736هـ. من تآليفه: تحفة اللبيب في اختصار كتاب ابن الخطيب، تحفة الواصل في شرح الحاصل، المذهب في ضبط قواعد المذهب، وغيرها.
7 - محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن عدلان الكِنَاني الشافعي (3) .
كان إماماً يُضرب به المثل في الفقه، عارفاً بالأصلين والنحو والقراءات، ذكياً نظاراً فصيحاً سليم الصدر، كثير المروءة، درَّس بأماكن كثيرة، أخذ الأصول عن الإمام القرافي. توفي سنة 749 هـ.
_________
(1) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 10 / 89، الدرر الكامنة لابن حجر 3 / 197.
(2) انظر: الديباج المذهب ص 417، شجرة النور الزكية 1 / 207.
(3) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 9 / 97، شذرات الذهب 3 / 164.
(1/42)
 
 
المبحث السادس
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
* مكانته العلمية:
مما لا ريب فيه أن القرافي تبوأ منزلة عالية، واعتبر من أكابر علماء عصره، قد شهد له بذلك معاصروه، ومن تلوه ممن قرأوا كتبه.
لقد أظهرت مصنفاته العديدة المتنوعة سمّو مكانته، وعلّو درجته في كثير من ميادين العلوم والفنون التي خاضها ودرسها.
فهو المتكلم الضليع، والمنطيق البارع، له دراية فائقة بعلم العقائد والتوحيد، وهو منافح صِنْديد عن عقيدة الإسلام وشريعته ضد شبهات اليهود والنصارى وأهل الزيغ والضلال (1) .
وهو المفسِّر المتمكِّن، له أقوال مبثوثة في مصنفاته (2) ،
ونقل عنه بعض المفسرين في تفاسيرهم (3) .
وهو لغويٌ كبير، أحاط بكثير من دقائق اللغة، وسبر غورها، وفهم سِرَّها. وتحريراتهُ ومصنفاتهُ تشهد له بذلك (4) .
وهو فقيهٌ متبحِّر، ومدقِّق متفرد، حسبك بموسوعته الفقهية الزاخرة " الذخيرة " فهي من أشهر كتب الفقه المالكي بل الفقه الإسلامي عامَّةً، وناهيك بكتابه الفذ
" الفروق " الذي يعتبر من أعظم مبتكراته الفريدة في علم القواعد الفقهية.
وهو أصوليٌ نظَّار نحرير، عقليته الأصولية بارعة قوية، ويكفيك برهاناً على إبداعاته الأصولية تصدِّيه لشرح أجلِّ كتب الأصول وهو " المحصول " للرازي. فقد أودع القرافي دُرَره ونفائسه في كتابه الموسوعي " نفائس الأصول في شرح المحصول ".
_________
(1) انظر: ما ألفه من كتب في علم العقائد وأصول الدين ضمن مؤلفاته: ص 49 - 50.
(2) أشار الصفدي في: الوافي بالوفيات (6 / 234) بأن للقرافي مصنَّفاً في تفسير الآية (8) من سورة
 
الأنبياء. وكتابه: " الاستغناء في أحكام الاستثناء " حافل بالعديد من تفسيراته للآيات. انظر: ص 240، 310، 401، 458، 517، 638.
(3) انظر على سبيل المثال: تفسير ابن جزي الكلبي المسمى: التسهيل لعلوم التنزيل 1 / 305، روح المعاني للألوسي 13 / 322.
(4) انظر: مصنفاته في اللغة ضمن مؤلفاته: ص 57، 58.
(1/43)
 
 
وبجانب إمامة القرافي في العلوم النقلية والعقلية الشرعية، كانت له معرفة ثاقبة ببعض العلوم التجريبية، ومشاركاته في هذا المضمار تُعْلن عن تبحُّره وتفنُّنه.
فله اطلاع واسع بالطب، فها هو يقول في " نفائس الأصول " (6 / 2602) بأن الترياق (1) نافع إلا إذا استعمله الممتلئ، أو صغير السن، أو أُخذ منه مقدار كبير، فإنه يقتل. وقال في النفائس (1 / 459) عن " ماء الهِنْدِباء " (2) : إنها تفتح سَدَد الكبد. وقال عن الَبَقْلة الحمقاء (3) المسماة بالرِّجْلة بأن عادة الأطباء يصفون بَزْرَها لتسكين العطش (4) .
وقد استعمل الحساب والجبر والمقابلة في باب " الفرائض " من كتابه
" الذخيرة " (5) وهو أمر لم يُسْبق إليه من قَبْلُ في كتب المالكيين. كما له تصنيف في الرياضيات (6) .
وتحدث عن علم الفلك والمواقيت حديث العالم الخبير، فبيَّن ما يشتمل عليه من العروض والأطوال والقطب والكوكب والشمس والرياح، وذلك عند الكلام على تحديد القبلة للمصلِّي في كتابه: " الذخيرة " (7) .
_________
(1) التِرْياق: ما يستعمل لدفع السُم من الأدوية والمعاجين، قيل: مأخوذ من ريق الحيات. انظر لسان العرب، المصباح المنير كلاهما مادة " ترق ".
(2) الهِنْدباء: نبات بري معمّر، زهوره زرقاء، سماه بعضهم: صديق الكبد، يصنع منه شراب، وهو فاتح للشهية، ومفرِّغ للصفراء، ومنقٍّ للدم وغير ذلك. انظر معجم الأعشاب والنباتات الطبية د. حسان قُبيْسي ص 326.
(3) البقلة الحمقاء: هي نبتة عشبية لَحمْية من فصيلة " الرجْلياَت " تسمى في لبنان: فرفحين، وتسمى: فَرفْخ، وتسمى في مصر والحجاز: رِجْلة. سميت بالحمقاء؛ لأنها تنبت في مسيل الماء فإذا جاء السيل ذهب بها. إذا خلط بزرها بالخل فإنه يصبر على العطش طويلاً، ولهذا يستصحبها المسافرون معهم. انظر: قاموس الغذاء والتداوي بالنبات لأحمد قدامة ص 80.
(4) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 8، وانظر ما قاله عن " السَّكَنْجَبِين " وأنه نافع للصفراء
ص (13) من المرجع السابق.
(5) انظر: الذخيرة 1 / 39، 13 / 91.
(6) وهو: ((المناظر في الرياضيات)) . انظره ضمن مؤلفاته: ص 59.
(7) انظر: الذخيرة 2 / 13، 125، وللقرافي كتاب " اليواقيت في علم المواقيت " انظر: ص 56 القسم الدراسي.
(1/44)
 
 
كما له معرفة بعلم الفيزياء يدلُّ عليها تفسيره للصوت وكيفية خروجه، فهو يقرِّر: بأن الصوت عبارة عن هواء خارج عبر مَجَارٍ هندسية دقيقة ذات تجويفات مُحْكمة، وليس شرطاً أن يصدر هذا الصوت عن حيٍّ، بل قد يصدر عن جماد (1) .
وفي الضوء أسهم بكتاب فريد مفيد فيه، وهو: " الاستبصار فيما تدركه
الأبصار " شرح فيه صفة الإبصار وانعكاس الصور، وتشريع العين، وخداع البصر (2) .
... كما كان للقرافي مهارة صناعية عجيبة، وقدرة اختراعية بديعة (3) ، فقد ابتكر صناعة آلات وتماثيل على هيئة إنسان أو حيوان، قال في " نفائس الأصول "
(
1 / 441) : ((وكذلك بلغني أن الملك الكامل (4) وُضِع له شَمْعدان (5) ، كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضتْ عشر ساعات، طَلَع شخص على أعلى الشمعدان، وقال: صبَّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع. وعَمِلْتُ أنا هذا الشمعدان، وزِدْتُ فيه أن الشمعة يتغيَّر لونها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمْرة الشديدة، في كلِّ ساعةٍ لهما لون، فيُعْرف التنبيه في كل ساعةٍ، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويُغْلق بابٌ ويُفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وأصبعه في أذنه يشير إلى الأذان، غير أني عجزْتُ عن صنعة الكلام. وصنعْتُ صورة حيوانٍ يمشي ويلتفت يميناً وشمالاً، ويُصفِّر، ولا يتكلم)) (6) .
_________
(1) انظر: باب اللغات في كتابه: نفائس الأصول 1 / 440 - 441
(2) انظره ضمن مؤلفاته: ص 59.
(3) انظر مقالاً طريفاً عنوانه: " علماء فنانون: الإمام القرافي " للأستاذ / عبد المجيد وافي، في مجلة الوعي الإسلامي - وزارة أوقاف الكويت عدد (40) السنة الرابعة، عام 1388 هـ، ص 54 - 59.
(4) هو أبو المعالي الملك الكامل محمد بن الملك العادل محمد بن أيوب من سلاطين الدولة الأيوبية ولد سنة 576هـ كان عارفاً بالأدب، وسمع الحديث ورواه، حكم سنة 615هـ حتى وفاته سنة 635هـ. انظر الوافي بالوفيات 1 / 193.
(5) الشَّمْعدان: هو عمود طويل له مراكز يوضع عليها الشمع للإنارة. انظر: المعجم الوسيط مادة " شمع ".
(6) معلوم من الشريعة حرمة صنعة التماثيل، ولكن لسنا ندري كيفية هذه التماثيل وهيئاتها، والظن بالقرافي امتناعه عن صناعة المُحرَّم. ويظهر لي أن صناعته هذه كانت في الصبا قبل بلوغه السنة التاسعة من عمره؛ لأن وفاة الملك كانت سنة 635هـ، وولادة القرافي كانت سنة 626هـ. فانظر - يالبيب - بماذا كان يشتغل أشبال المسلمين بالأمس وقارنه بترهات شبابنا اليوم!!
(1/45)
 
 
فلا عجب بعد هذا كله أن دعا القرافي إلى تعلم العلوم المساعدة للشريعة من حساب وهندسة وفلك وطب وفيزياء وكيمياء وغيرها. فها هو يقول في كتابه
" الفروق " (4 / 11) : ((وكم يخفي على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العليَّة ألا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم.
ولم أرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْباً ... كنَقْصِ القَادِرين على التَّمَامِ)) (1)
* ثناء العلماء عليه:
... بعد الاطلاع على مكانته العلمية السامقة ومنزلته الرفيعة الشاهقة، ماذا عسى أهل العلم أن يقولوا فيه؟
... إليك بعض ما قيل فيه رحمه الله تعالى (2) :
... الإمام، العالم، الفقيه، الأصولي، العلامة الفهامة، وحيد دهره، وفريد عصره، نسيج وحده، وثمر سعده، شيخ الشيوخ، وعمدة أهل التحقيق والرسوخ، ذو العقل الوافي، والذهن الصافي، الشهاب القرافي.
الإمام ال