خبر الواحد وحجيته

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: خبر الواحد وحجيته
المؤلف: أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي
عدد الأجزاء: 1
 
المقدمة
الحمد لله الكريم المنان. المتفضل على عباده بعظيم الالآء والإحسان. جلت نعمه عن العدّ والإحصاء فكان من أعظمها أن هدى المؤمنين إلى الإيمان به، وخصّ الأمّة الإسلامية بعلم الإسناد، فكان من علمائها الجهابذة الحفاظ والنقاد الذين ذبوّا عن السنة المطهرة منذ فجر الإسلام، بالتآليف التي حفظتها من الزيادة والنقصان. فحفظها الله بهم مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.
أحمده سبحانه أجل الحمد وأعظمه على نعمه المتوالية والتي من أجلّها نعمة الإيمان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننجو بها من سخطه وننال بها رضاه. وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله إلى النّاس كافة أنزل عليه القرآن، وأمره بتبيينه للناس في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 فبينه أتم بيان، فكمل بذلك دستور الأمة الإسلامية، الذي اختاره الله لأن يكون الدستور الخالد إلى يوم القيامة. وأمره بتبليغ ما أرسل به إلى الناس كافة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
__________
1 سورة الحجر آية: 9
2 سورة النحل آية: 44
(1/7)
 
 
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 فبلّغ كما أمره الله بنفسه وبرسله أتمّ بلاغ، وأقام على الناس بذلك الحجة في الجمع العظيم واليوم العظيم والمكان العظيم، وأمرهم أن يبلغوا عنه بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" 2 صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فكانوا سادة الدنيا، وأئمة الهدى، ونقلة وحيه إلى من بعدهم.
وبعد: فلعل من توفيق الله لي أن هيأ لي أسباب إتمام الدراسة بعد أن انقطعت للتدريس سنين. فكان أن طلب مني تقديم موضوع رسالة الماجستير، فوقع اختياري على خبر الواحد وحجيته، فرأيته مناسباً. ذلك أني طالما سمعت بعض العلماء أثناء دراستي، وخارجها يمنع الاحتجاج به في العقائد، ويعيب على من يحتج به في إثباتها بدعوى أنه لا يفيد إلا الظن، وأن العقائد لا تثبت إلا بما يفيد القطع. مما جعلني أفكر طويلاً في هذا القول، وأسأل عن خبر الواحد ما هو؟
فأجاب بأن المراد بخبر الواحد هنا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ليست متواترة.
__________
1 سورة المائدة آية: 67
2 صحيح البخاري: 1/ 26-27، في كتاب العلم باب رب مبلغ أوعى من سامع من حديث أبي بكرة، وأخرجه أيضاً في ج 206/2 في كتاب الحج باب الخطبة أيام منى.
(1/8)
 
 
ويعود السؤال مرة أخرى: كم نسبة خبر الواحد في السنة؟
فأجاب مرة أخرى بأن السنة المتواترة في نظر الأصوليين، يعز وجودها، إذ منهم من يرى عدها على الأصابع.
ثم أعود فأسأل مرة أخرى هل هناك أحاديث خاصة بالعقائد دون الأحكام، أم أن الحديث الواحد قد يتضمن عقيدة وحكماً معاً؟ وإذا كان يتضمنهما معاً، فما حكم العمل به؟
فأجاب بأنه كثيراً ما يتضمن الحديث الواحد حكماً وعقيدة، وأنه حينئذ يعمل بالحديث فيما تضمنه من أحكام دون عقائد. فأعود للسؤال، وأقول لماذا فرق بين مدلولات الحديث الواحد في العمل بها، حيث يعمل ببعضها دون بعض؟
فيقال: إن العمل بخبر الواحد في الأحكام ثابت بدليل قطعي. أما العقائد فلا تثبت إلا بما يفيد القطع، وخبر الواحد إنما يفيد الظن. فرأيت صلاحية الموضوع للبحث، ودعتني الرغبة في الوقوف على أقوال العلماء، والإطلاع على أدلتهم، وأسباب خلافهم، ومعرفة أيهم أسعد بالدليل على خوض غمار البحث رجاء أن أكون ممن يخدم السنة المطهرة، والأمة المحمدية.
والبحث وإن كان في السنة، إلا أنني بحثته من الناحية الأصولية فقط، لأن السنة هي: المصدر الثاني بعد كتاب الله لإثبات الأحكام الشرعية.
(1/9)
 
 
وقد أخذت طريقة في البحث رأيت أنها توصل إلى الغاية التي أردت. وهي: أنني أستعرض آراء العلماء وأدلتهم، وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات عن تلك الاعتراضات مع مناقشتها وترجيح ما ظهر لي رجحانه بالدليل كل ما رأيت ذلك مناسباً، وربما تركت الترجيح في موضع لاتحاده مع الذي بعده تقليلاً للتكرار الممل.
ورأيت أن الدليل الذي يحسم النزاع إنما هو الكتاب، أو السنة، أو الإجماع القطعي. على أنني أحياناً أذكر رأي كل طرف، ثم أتبعه برأي الطرف الآخر، ثم أذكر دليل كل من الطرفين وما ورد عليه من اعتراضات وإجابات مرتبة بعد ذلك. وأحياناً أتبع الدليل بالاعتراضات الواردة عليه والإجابة عنها، دفعاً للسآمة عن القارئ مما قد يصيبه من إتباع طريقة واحدة.
وهنا ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن الموضوع مشتبك العناصر والأدلة، لأن كل دليل يستدل به لأي عنصر من عناصره يكاد يكون هو عين دليل العنصر الآخر مما اضطرني إلى التكرار، ولم أكن بدعاً في ذلك، بل إنما أنا متبع، وواقع الموضوع يفرض ذلك.
ثم إن الموضوع وإن كان قد قيل لي: إنه قد كتب فيه غير أنني ما عثرت على غير المراجع المعتمدة التي أحلت عليها في محالها.
وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد وبابين وخاتمة.
(1/10)
 
 
أما التمهيد فهو يشتمل على ما يأتي:
1- حقيقة الخبر عند العلماء، وأقسامه.
وقد بينت فيه تعريف الخبر لغة واصطلاحاً عند العلماء، والأنواع التي ينحصر فيها من حيث الصدق والكذب، ورأي الجاحظ في ثبوت الواسطة وأقسامه التي علم صدقها، أو علم كذبها، والتي لم يعلم صدقها ولا كذبها.
2- السنة لغة وشرعاً.
وقد عرفتها لغة وشرعاً، وأشرت إلى الفرق بين اصطلاحات العلماء في تعريفها.
3- أقسامها باعتبار ذاتها، بينت فيه أن من العلماء من قسمها إلى: قول وفعل، ولم ير التقرير قسماً لدخوله في الفعل، وأن البعض الآخر رأى أنه قسم ثالث.
4- منزلتها من القرآن، ذكرت فيه أنواعها معه من حيث الاتفاق والبيان، والاستقلال بتشريع ما لم يتعرض له نفياً أو إثباتاً، وخلاف العلماء في ذلك.
5- تقسيم الخبر إلى: متواتر وآحاد.
ذكرت فيه أن من العلماء من رأى القسمة ثنائية: متواتر، وآحاد، ومنهم من زاد قسماً ثالثاً هو المشهور، وأنه جعله واسطة بين المتواتر والآحاد.
(1/11)
 
 
الباب الأول: فيما يفيده خبر الواحد، وفيه ثلاثة فصول:
الأول: في أن خبر الواحد العدل، إنما يفيد الظن فقط.
وقد ذكرت فيه أدلة القائلين بذلك وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات.
الثاني: في إفادته العلم.
وقد استعرضت فيه آراء وأدلة القائلين بذلك وما ورد عليها من اعتراضات أيضاً.
الثالث: في إفادته العلم إذا احتف بالقرائن.
وسلكت فيه نفسه الطريقة السابقة.
ثم ختمت الباب بذكر ثمرة الخلاف.
الباب الثاني: في حكم العمل به، وفيه سبعة فصول:
الأول: في وجوب العمل به.
الثاني: في ذكر أدلة منكري العمل بخبر الآحاد، والرد عليها.
الثالث: في العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية.
الرابع: حكم قبول خبر الواحد العدل في الحدود.
وقد استعرضت فيها أدلة كل طرف وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات.
(1/12)
 
 
الخامس: خبر الواحد وعمل أهل المدينة.
تعرضت فيه لبيان عمل أهل المدينة وأقسام ذلك العمل، وبينت محل الاتفاق والاختلاف.
السادس: خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
السابع: إذا خالف الراوي مرويه.
بينت أدلة وآراء العلماء في كل من الفصلين الأخيرين، وفي الثاني أنه الدليل المخالف من حيث الإجمال والظهور والنص.
خاتمة في نتائج البحث:
ضمنتها بعض ما توصلت إليه من نتائج.
هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، فأرجو من الله أن أكون قد وفقت فيما أردت، وأن يجعله وسيلة إلى مرضاته إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
(1/13)
 
 
تمهيد
...
تعريف الخبر لغة:
الخبر لغة: النبأ، وجمع الخبر أخبار، وجمع الجمع أخابير.
وأما قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 1 فمعناه: يوم تزلزل تخبر بما عمل عليها.
والخَبَار أرض رخوة تتعتع فيها الدواب، قال الشاعر:
تتعتع في الخبار إذا علاه ... ويعثر في الطريق المستقيم
وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار"2.
قال الشوكاني: "الخبر مشتق من الخبار كسحاب، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه، وهو نوع مخصوص من القول، وقِسم من الكلام اللساني، وقد يستعمل في غير القول، كقول الشاعر:
تخبرك العينان ما القلب كاتم
وقول المعرى:
نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أن الشعوب إلى صدع
ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي، لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول"3.
__________
1 سورة الزلزلة آية: 4
2 لسان العرب لابن منظور أبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم 4/227-228، بيروت للطباعة والنشر، سنة 1374هـ –1955م.
3 إرشاد الفحول للشوكاني محمّد بن علي ص: 42، الطبعة الأولى 1356هـ – 1937م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، وأولاده بمصر.
(1/17)
 
 
الخبر في الاصطلاح عند العلماء
اختلف العلماء في حد الخبر، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحد، والبعض الآخر إلى أنه يحد، والقائلون بحده اختلفوا في تعريفه، حيث عرفته كل طائفة بما لم تعرّفه به الطائفة الأخرى. وها أنا أذكر أهمّ ذلك فيما يلي:
الخبر عند القائلين بأنه لا يحد:
قالوا: لا يحد لعسره، ويحتمل أن يكون لوضوحه، لأن توضيح الواضحات من المشكلات1.
أو لأنه ضروري. واستدل لذلك من وجهن:
الأول: أن كل أحد يعلم أنه موجود، وهذا خبر خاص، وإذا كان الخبر المقيد ضرورياً، فالخبر المطلق الذي هو جزؤه أولى بأن يكون ضرورياَ.
واعترض على هذا بأمرين:
أحدهما: أن الاستدلال على كونه ضرورياً ينافي كونه ضرورياً، لأن الضروري لا يقبل الاستدلال2.
__________
1 المختصر لابن الحاجب أبي عمر عثمان بن عمر مع شروحه2/45، وحاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع للشيح حسن العطار:2/137.
2 المختصر لابن الحاجب: 2/45.
(1/18)
 
 
الآخر: أنه وإن سلم أن مثل هذه الأخبار الخاصة معلومة بالضرورة، فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هوخبركذلك، لأن الخبر المطلق أعم من الخبر الخاص، فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص، لكان الأعم منحصراً في الأخص، وهو محال1.
الثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر، ولولا العلم بذلك ضرورة لما كان كذلك.
وأجيب عنه بأن العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر، وبيان ما يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر، أما قبل ذلك فهو غير مسلم2.
وإذا سلم أن العلم بمعناه غير ضروري، فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم الخبر إنما يعرف بالحد والنظر، وإن اختلفوا فيه3.
__________
1 نفس المصدر 2/45 فما بعدها، الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي: 2/4 فما بعدها.
2 الإحكام للآمدي: 2/4-5، المختصر مع شرحه وحواشيه: 2/46.
3 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6.
(1/19)
 
 
حد الخبر عند الأصوليين
قالت المعتزلة: إن الخبر هو: " الكلام الذي يدخله الصدق والكذب " واعترض على تعريفهم هذا من أربعة أوجه:
الأول: أنه يرد عليه خبر الله تعالى، لأنه لا يتصور فيه دخول الكذب. وأجاب عنه القاضي عبد الجبار1 بأن المراد دخوله لغة، بحيث لو قيل فيه صدق أو كذب لم يخطأ لغة، وكل خبر كذلك، وإن امتنع صدق البعض أو كذبه.
ورد هذا الجواب بأن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فهما لا يعرفان إلا بالخبر فتعريف الخبر بهما دور.
الثاني: أن ما قالوه منقوض بقول القائل محمد صلى الله عليه وسلم، ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب، إذ لو
__________
1 هو: القاضي عبد الجبار بن أحمد بن خليل الهمذاني، إمام في وقته، الأصولي المتكلم، صاحب التصانيف الكثيرة في أصول الفقه العمد الذي شرحه تلميذه أبو الحسن البصري المعتزلي المعروف بالعمدة في أصول الفقه، وله المغني والتفسير الكبير، وغيرها، اختلف في وفاته فقيل: 415، وقيل: 416هـ. انظر: القاضي عبد الجبار للدكتور عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيورت.
(1/20)
 
 
قيل: إنه صدق لكان مسيلمة صادقاً، ولو قيل: إنه كذب لكان محمد صلى الله عليه وسلم كاذباً1.
وأجاب أبو هشام2 "بأن هذا الخبر جار مجري خبرين: أحدهما خبر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر بصدق مسيلمة، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا الكذب، فكذلك ههنا، وإنما الذي يوصف بالصدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر. وليس بحق فإنه إنما ينزل منزلة الخبر من حيث إنه أفاد حكماً لشخصين، وهو غير مانع من وصفه بالصدق والكذب، بدليل الكذب في قول القائل: كل موجود حادث، وإن كان يفيد حكماً واحداً لأشخاص متعددة"3.
الثالث: أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب، يؤدي إلى الدور لما تقدم أن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر
__________
1 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6 فما بعدها، المختصر مع شرحه العضد له: 2/47، وإرشاد الفحول ص: 42 فما بعدها.
2 هو: عبد السلام بن محمّد بن خالد بن حمدان بن أبان مولى عثمان كنيته أبو هاشم، ولقبه الجبائي، متكلم فيلسوفي، معتزلي، وله آراء في الأصول خاصة به كقوله: "إن الأمر لا يوجب الأجزاء" له مؤلّفات منها: الجامع الكبير، وكتاب الاجتهاد، توفي سنة: 321هـ ببغداد. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/173.
3 الإحكام للآمدي: 2/7.
(1/21)
 
 
المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فلا يعرفان إلا بالخبر، فتعريف الخبر بهما دور.
وأجاب القاضي عنه "بأن الخبر معلوم لنا، وما ذكرناه لم نقصد به تعرِيف الخبر، بل فصله وتمييزه عن غيره، فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا يكون دوراً".
ورد بأن تمييز الخبر عن غيره إنما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب. فتمييز الصدق والكذب بالخبر يوجب توقف كل واحد من الأمرين في تمييزه عن غيره على الآخر، وهو عين الدور. ولذا قال ابن الحاجب ولا جواب عنه1.
الرابع: أن الصدق والكذب متقابلان، والواو للجمع، فيلزم الصدق والكذب معاً، وذلك محال، فيلزم أن لا يوجد خبر.
وأجيب عنه "بأن المحدود إنما هو جنس الخبر، وهو قابل لدخول الصدق والكذب فيه، كاجتماع السواد والبياض في جنس اللون.
ورد بأن الحد وإن كان لجنس المحدود، فلابد وأن يكون الحد موجوداً في كل واحد من آحاد الأخبار، وإلا لزم وصف الخبر دون حد الخبر، وهو ممتنع"2.
__________
1 نفس المصدر 2/6 فما بعدها، والمختصر مع العضد 2/47.
2 الإحكام للآمدي 2/6 فما بعدها، والمختصر مع شرحه 2/45 فما بعدها.
(1/22)
 
 
وقال أبو الحسين1 البصري:" الأولى أن نحده بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً"2.
وقيده بنفسه احترازاً عن الأمر المقتضى لوجوب الفعل لا بنفسه، بل بواسطة ما اقتضاه من طلب الفعل.
ورد بأنه منتقض بالنسب التقييدية فيما لو قيل: حيوان ناطق، فإنه أفاد بنفسه إثبات النطق للحيوان، مع أنه ليس بخبر.
فإن قال: إن هذا ليس بكلام، وأنه قيد الحد بالكلام.
أجيب بأن ما ادعاه لا يصح، لأن حد الكلام هو: "ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة من غير اعتبار قيد آخر، وحد الكلام بهذا الاعتبار متحقق في هذا، فكان من أصله كلاماً"3.
وعرفه القرافي4بأنه هو: "المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته"، وقيده بقوله: لذاته احترازاً من تعذر الصدق والكذب لأجل المخبر عنه،
__________
1 هو: محمّد بن عليّ بن الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، له تصانيف كثيرة منها: كتاب المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة: 436هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 1/137.
2 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري 2/544.
3 انظر: الإحكام للآمدي 2/9، مع تصرف.
4 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس شهاب الدين الصنهاجي، القرافي، له تصانيف منها: الذخيرة، وشرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، والفروق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/86، والإعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية.
(1/23)
 
 
كخبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وخبر مجموع الأمة، أو ما علم صدقه بالضرورة.
قال: "لكن جميع هذه الأخبارات بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن المخبر به، والمخبر عنه، تقبلهما من حيث هي أخبار"1.
واعترض عليه من وجهين:
الأول: أن تعريف الخبر بالتصديق والتكذيب، يستلزم الدور، لتوقف التصديق والتكذيب على معرفة الصدق والكذب، المتوقف على معرفة الخبر، وقد تقدم ما فيه من الدور2.
الثاني: أنما ذكره من قبول تلك الأخبار للتصديق والتكذيب من حيث هي أخبار مقتضاه أن خبر الله تعالى من حيث هو خبر يقبل الكذب لذاته، وهذا ليس بصحيح، لأن خبر الله تعالى لا يقبل الكذب بحال3.
__________
1 انظر: الفروق للقرافي 1/18-19، والمختصر مع شرح العضد له 2/48، وإرشاد الفحول ص: 43.
2 الإحكام للآمدي 2/9.
3 انظر: حاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لأبي القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط 1/19.
(1/24)
 
 
قال الآمدي1 "والمختار فيه أن يقال: الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"2.
فقيده باللفظ، لأنه كالجنس للخبر وعده من أقسام الكلام، ويمكن أن يحترز به عن الخبر المجازي، وبالدال، احترازاً عن اللفظ المهمل، وبالوضع احترازاً عن اللفظ الدال على جهة الملازمة، وبقوله: على نسبة عن أسماء الأعلام، وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة، وبمعلوم إلى معلوم، حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم، وبقوله: سلباً وإيجاباً، حتى يعم مثل نحو "زيد في الدار، ليس في الدار"، وبقوله: يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام احترازاً عن اللفظ الدال على النسب التقييدية، وبقوله: مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها، احترازاً عن صيغة الخبر المراد بها غير الخبر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
__________
1 هو: عليّ بن أبي عليّ بن سالم التغلبي، الملقب بسيف الدين الآمدي المكنى بأبي الحسن، الفقيه الأصولي، ولد سنة: 551هـ، له مؤلّفات منها: الإحكام في أصول الأحكام، ومنتهى السول، وغيرهما. توفي سنة: 631هـ بدمشق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57-58.
2 الإحكام للآمدي 2/9.
(1/25)
 
 
أَوْلادَهُنَّ} 1 وقوله جل شأنه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} 2 ونحو ذلك، حيث إنه لم يقصد به الدلالة على النسبة ولا سلبها3.
__________
1 سورة البقرة آية: 233.
2 سورة البقرة آية: 228.
3 انظر: تفاصيله في الإحكام للآمدي 2/9-10، مع تصرف واختصار.
(1/26)
 
 
تعريف الخبر عند علماء البلاغة:
الخبر هو: الكلام الذي له نسبة1 تامة2 خارجية، تطابق ذلك الكلام في الخارج، بأن يكونا ثبوتيين، أو سلبيين، أولا يطابقه، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية، والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس. ويكون تاما بحيث يحسن السكوت عليه.
فإن لم يكن له نسبة في الخارج تطابقه، فهو الإنشاء3. والذي أراه والله تعالى أعلم- أن هذا التعريف سالم من الاعتراضات، اللهم إلا أن يقال: إن الكلام غير مقيد باللفظ، وهو وإن كان حقيقياً في اللفظ إلا أنه يطلق على غيره مجاراً، وهذا الاعتراض وارد لو لم يصرح التفتازاني في التفريق بين الخبر والإنشاء بما يدفعه، وهو قوله: "إن الكلام إما أن يكون له نسبة بحيث تحصل من اللفظ… " إلخ4. فأنت تراه صرح هنا
__________
1 لأن النسب ثلاثة: كلامية، ذهنية، وخارجية، فلو قلت: زيد قائم فثبوت القيام لزيد يقال له: نسبة كلامية باعتبار فهمه من الكلام، وذهنية باعتبار ارتسامه في الذهن وحضوره فيه، ونسبة خارجية باعتبار حصوله في نفس الأمر اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164.
2 احترازاً عن الناقصة كالتقييدية، والتوصيفية، نحو غلام زيد، والحيوان الناطق، فلا يشتمل عليها الكلام، ولا يدل عليها، اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164.
3 انظر: تفاصيله في شرح التلخيص 1/163-166.
4 نفس المصدر 1/167.
(1/27)
 
 
بأن الكلام مقيد باللفظ، مع أنه لو لم يذكر هذا، لكان الاعتراض مدفوعاً بأن الأصل الحقيقة، إذ لا يعدل عنها إلا بدليل.
(1/28)
 
 
تعريف الخبر عند النحويين
عرف النحويون الخبر بأنه هو الجزء الذي تحصل الفائدة به مع المبتدأ غير الوصف، فخرج فاعل الفعل، لأنه ليس مع المبتدأ، وخرج فاعل الوصف الذي يسد مسد الخبر. وقد عرفه ابن مالك في ألفيته وبين أنواعه بقوله:
والخبر الجزء المتم الفائدة ... كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة
ومفرداً يأتي ويأتي جملة ... حاوية معنى الذي سيقت له
وأورد ابن عقيل على ابن مالك في تعريفه هذا الفاعل من نحو قام زيد، فإنه يصدق على زيد أنه الجزء المتمم للفائدة، وليس بخبر1.
وأجيب عنه بأن دلالة المقام والتمثيل بقوله: "كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة" يدلان على اعتبار كون الجزء المتمم للفائدة مع المبتدأ وغير الوصف2.
وهذا التعريف كما ترى لا ينطبق على تعريف الخبر عند الأصوليين والبلاغيين، وذلك لأنه خاص بالنحويين، ولذا فهو شامل عندهم لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء. وأقرب من هذا التعريف إلى التعريفات السابقة تعريف موفق الدين بن يعيش حيث قال: "واعلم أن
__________
1 انظر: تفاصيله في ضياء السالك إلى أوضح المسالك لمحمّد عبد العزيز النجار1/180، وشرح ابن عقيل لألفية ابن مالك 1/201-202.
2 منهج السالك إلى ألفية ابن مالك للأشموني 1/90-91.
(1/29)
 
 
خبر المبتدأ هو الجزء المستفاد الذي يستفيده السامع، ويصير مع المبتدأ كلاماً تاماً والذي يدل على ذلك أنه به يقع التصديق والتكذيب، ألا ترى أنك لو قلت: عبد الله منطلق، فالصدق والكذب إنما وقعا في انطلاق عبد الله، لا في عبد الله، لأن الفائدة في انطلاقه، وإنما ذكر عبد الله وهو معروف عند السامع، ليسند إليه الخبر الذي هو الانطلاق"1.
غير أنه يرد عليه ما أسلفت من أن الخبر عندهم شامل لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء.
__________
1 شرح المفصل لموفق الدين يعيش بن علي بن يعيش 1/87.
(1/30)
 
 
الخبر عند المحدثين
يرى بعض المحدثين أن الخبر مرادف للحديث مراعاة لمدلول اللفظ اللغوي في اللفظين، فيطلقان على المرفوع1 والموقوف والمقطوع2 فيشمل ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والتابعي.
ويدل لذلك قول الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: "الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث"3.
ويفرق البعض الآخر بينهما بأن "الحديث ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره"، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وماشاكلها الإخباري، ولمن يشتغل بالسنة النبوية المحدث.
وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس"4.
هل لاختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر؟
__________
1 المرفوع هو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، سواء كان بإسناد متصل أم لا. والموقوف هو: ما انتهى إلى الصحابي. والمقطوع هو: ما انتهى إلى التابعي. انظر: شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 30 وتدريب الراوي للسيوطي 1/183-194.
2 تدريب الراوي للسيوطي 1/42.
3 شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 3.
4 نفس المصدر ص: 3.
(1/31)
 
 
لم يترتب على اختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر، وغاية ما هناك أن الأصوليين أرادوا الدقة في الحد فصعبوه بما أورده بعضهم على بعض من استشكالات، وبما أجاب به البعض الآخر عن تلك الاستشكالات كما هو واضح مما نقلته عنهم.
أما غيرهم فكان طابع تعريفه البساطة والوضوح، ولذا لم يورد عليه مثل ما أورد على الأصوليين من الاستشكالات.
(1/32)
 
 
هل الخبر منحصر في الصدق والكذب؟
اختلف الناس في الخبر هل هو منحصر في الصدق والكذب؟ أم أنه غير منحصر فيهما؟ بل منه ما ليس بصدق ولا كذب، وهو واسطة. تم إن القائلين بأنه منحصر في الصدق والكذب، اختلفوا في تفسير الصدق والكذب.
فقالت طائفة: صدق الخبر مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر سواء كان ذلك الاعتقاد صواباً أم خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر، فقول القائل السماء تحتنا معتقداً ذلك، صدق، وكذلك قوله: السماء فوقنا غير معتقد لذلك، كذب.
واستدلوا لذلك بأمرين:
الأول: أن من أخبر عن أمر يعتقده، ثم ظهر خلافه، لا يقاله في حقه إنه كاذب، ولكن يقال: أخطأ، بدليل ما روي عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أنها قالت فيمن هذا شأنه: "ما كذب، ولكنه أخطأ ووهم." ورد بأن المنفى هنا تعمد الكذب، بدليل تكذيب الكافر الكتابي إذا قال: الإسلام باطل، وتصديقه إذا قال: الإسلام حق.
الثاني: قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
(1/33)
 
 
1 فإن الله تعالى كذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} وإن كان مطابقاً للواقع، لعدم مطابقته لاعتقادهم.
وأجيب عما استدلوا به بما يأتي:
1 بأن المعنى: نشهد شهادة واطأت قلوبنا فيها ألسنتنا، فالتكذيب راجع إلى الشهادة باعتبار تضمنها خبراً كاذباً، لكونها لم تكن عن اعتقاد، بدليل تأكيد الجملة في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} بإن، واللام، وكونها اسمية.
2 أو أن المعنى لكاذبون في تسمية هذا الإخبار شهادة، لأن الشهادة هي الإخبار بما يطابق الاعتقاد، فإن خلا عن الاعتقاد لم يكن شهادة.
3 أو أن المراد: لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه2.
وقال الجمهور: صدق الخبر مطابقة حكمه للواقع، وهو الخارج الذي يكون مطابقاً لنسبة الخبر، وكذبه عدم مطابقته للنسبة التي تكون في الخارج، وهذا هو المشهور، وعليه التعويل.
__________
1 سورة المنافقون آية: 1.
2 انظر تفاصيله في: شروح التلخيص 1/174-181، مطبعة البابي الحلبي وشركاه بمصر.
(1/34)
 
 
وأنكر الجاحظ1 انحصار الخبر في الصدق والكذب، وأثبت الواسطة، وزعم أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع اعتقاد المطابقة، وكذبه عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق، وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، وهي أربعة:
المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، ليس بصدق ولا كذب. بدليل قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} 2
وجه الاستدلال بالآية: أن الكفار عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة، حصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بالبعث على ما يدل عليه تعالى: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3 في الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، وليس إخباره حالة الجنة كذباً، لأنهم جعلوه قسيم الافتراء، ولا صدقاً لأنهم اعتقدوا عدم صدقه، فمرادهم
__________
1 هو: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، الأديب المعتزلي، وإليه تنسب فرقة الجاحظية منهم، له تصانيف كثيرة منها: كتاب الحيوان، والبيان والتبيين وأدب الجاحظ وغيرها. ولد بالبصرة سنة: 162هـ، وفلج في آخر عمره. توفي بالبصرة سنة: 255هـ انظر: الأعلام للزركلي 5/239
2 سورة سبأ آية: 8.
3 سورة سبأ آية: 7.
(1/35)
 
 
بكونه أخبر حالة الجنة غير الصدق، وغير الكذب، ليكون ذلك بزعمهم بعض الخبر، فثبتت الواسطة1.
ورد بأن معنى: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم لم يفتر، فعبر عن عدم الافتراء بالجنة، لأن المجنون لا افتراء له، لأن الكذب ما كان عن عمد، والمجنون لا عمد له، فالثاني ليس قسيماً للكذب، بل لما هو أخص منه، أعني الافتراء. وإن سلم فقد لا يكون خبراً، فيكون هذا حصراً للكذب بزعمهم في نوعيه: الكذب عن عمد، والكذب لا عن عمد2.
وأيضا ً"أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة، لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبراً، والمجنون ليس له قصد صحيح، فصار كالنائم، والساهي إذا صدرت منه صيغة الخبر، فإنه لا يكون خبراً، وحيث لم يقصدوا صدقه، لم يبق إلا أن يكون كاذباً، أو لا
__________
1 انظر تفاصيله في شروح التلخيص 1/182-188، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي السيد محمود 22/110، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه للمرة الثانية إدارة الطباعة المنيرية لمحمّد منير الدمشقي. مصر. والمختصر لابن الحاجب 2/50، وحاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/139 فما بعدها، وحاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/113 فما بعدها، مطبعة إحياء العلوم العربية لعيسى البابي الحلبي.
2 انظر: شروح التلخيص 1/189-190، وروح المعاني 22/110، وإرشاد الفحول ص: 14، والمختصر لابن الحاجب2/50.
(1/36)
 
 
يكون ما أتى به خبراً، وإن كانت صورته صورة الخبر. أما أن يكون خبراً، وليس صادقاً فيه ولا كاذباً فلا"1.
ووافق الراغب الجاحظ في إثبات الواسطة، وإن زاد عليه اصطلاحاً لم يذهب إليه الجاحظ، وإليك ذلك فيما ذكره البناني قال: "حاصل مذهبه أن ما طابق الواقع مع اعتقاد المطابقة يسمى صدقاً، ومالم يطابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة يسمى كذبا، ويخص هذين بالصدق، والكذب التامين وما طابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة، أو طابق الاعتقاد دون الواقع، فيسمى كل منهما صدقاً وكذباً، من جهتين:
فالأول: صدق من جهة مطابقة الواقع، كذب من جهة عدم المطابقة للاعتقاد.
والثاني: صدق من جهة مطابقة الاعتقاد، كذب من جهة عدم مطابقة الواقع، ويسمى الصدق والكذب المشتمل عليهما هذان القسمان بالصدق والكذب غير التامين، لما علم أنه صدق من جهة دون جهة، كذب من جهة دون جهة، فهذه أربعة أقسام، وبقي قسمان وهما: مطابقة الواقع وعدمها مع عدم اعتقاد شيء، وهذان واسطة عنده لا يوصفان بصدق ولا كذب"2.
__________
1 الإحكام للآمدي 2/11.
2 حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/112-113، وانظر: حاشية العطار على شرح المحلى2/140.
(1/37)
 
 
وحيث إن الراغب موافق للجاحظ في الدليل، ففي ما تقدم من الرد على ما استدل به الجاحظ كفاية.
(1/38)
 
 
الخلاف في تعريف الخبر لفظي:
والخلاف في هذه المسألة لفظي، وذلك لأن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب، فقول القائل: زيد قائم، معناه عند أهل اللسان العربي حصول القيام منه وصدوره منه في الزمن الماضي، ولم ينقل عن أحد من أئمة اللغة خلاف ذلك.
"ولقد أحسن من قال: إن مدلول الخبر هو الصدق، إنما الكذب احتمال عقلي، ألا يرى أنه إذا قيل لك من أين علمت أن زيداً قائم؟ تقول له: سمعته من فلان"1.
واحتمال الخبر للصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم، لا من جهة الوضع اللغوي، لأن المتكلم قد يستعمله صدقاً على وفق الوضع، وقد يستعمله كذباً على خلافه.
ومن هنا كان الخبر لا يخرج عن كونه صدقاً، أو كذباً، للإجماع على أن اليهودي إذا قال: الإسلام حق حكمنا بصدقه، وإذا قال: خلافه حكمنا بكذبه.
فالخبر لا يعرى البتة عن الصدق والكذب، فما ثبت صدقه لا يصح كذبه بعد، وما ثبت كذبه، لا يصح صدقه بعد، لاستحالة ارتفاع الواقع2.
__________
1 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع 2/142.
2 انظر تفاصيله في الفروق للقرافي1/24، وحاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط قاسم بن عبد الله1/19، وحاشية السعد على شرح العضد للمختصر2/51، وإرشاد الفحول ص: 44.
(1/39)
 
 
أقسام الخبر:باعتبار ما علم صدقه، وما علم كذبه، وما لا يعلم صدقه ولا كذبه
الأول: ما علم صدقه، وهو نوعان: متفق عليه، ومختلف فيه.
المتفق عليه وهو:
1- ما علم صدقه بالضرورة، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، أو الاستدلال، نحو: العالم حادث.
2- خبر الله تعالى، لأن الصدق صفة كمال، والكمال واجب له تعالى، والكذب صفة نقص، وهو محال عليه سبحانه.
3- خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يخبر به عن الله لدلالة المعجزة على صدقه.
4- خبر كل الأمة، لأنها لا تجتمع على ضلالة، لثبوت عصمتها.
5- كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الأمة.
6- الخبر المتواتر، وسيأتي الكلام عليه.
(1/40)
 
 
وأما المختلف فيه، فمنه:
خبر من أخبر بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقيل عدم إنكاره دليل صدقه، وقد عده الغزالي1 من المعلوم صدقه، فقال: "كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لأنه لو كان كذباً لما سكت عنه. ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين"2.
ونفى الآمدي صحته، لأنه من الجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له، بل ذاهل عنه، وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة، فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول! وإن غلب على الظن فهمه، وكان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه، فيحتمل أن يكون قد بينه له، أو علم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه، فلم ير في الإنكار عليه فائدة، ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر.
__________
1 هو: محمّد بن محمّد بن محمّد أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل الأصولي الفيلسوفي المتصوف، كان أبوه يغزل الصوف ويبيعه، له مصنافات كثيرة منها: المستصفى في علم الأصول والمنخول فيه أيضاً، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وإحياء علوم الدين وغيرها، ولد سنة: 450هـ. وتوفي سنة: 505هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، ومقدمة المنخول لمحمّد حسن هيتو ص: 19 فما بعدها. الطبعة الأولى.
2 المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141، طبعة جديدة بالأوفست الحلبي، عن الأولى، الأميرية سنة: 1322هـ.
(1/41)
 
 
وإن كان في أمر دنيوي، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم لكونه كاذباً فيما أخبر به، أو أنه امتنع عن الإنكار لمانع، أو لعلمه أنه لا فائدة في إنكاره، وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً، وإن دل عليه ظناً1.
وأجاب عنه الجلال المحلى بقوله: "وأجيب في الديني بأن سبق البيان أو تأخيره لا يبيح السكوت عند وقوع المنكر لما فيه من أفهام تغيير الحكم في الأول، وتأخير البيان عن وقت الحاجة في الثاني.
وفي الدنيوي بأنه إذا كان كاذباً، ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمه الله به عصمة له عن أن يقر أحداً على كذب كما أعلمه بكذب المنافقين في قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 2من حيث تضمنه أن قلوبهم وافقت ألسنتهم في ذلك. وإن كان دينياً. أما إذا وجد حامل على الكذب والتقرير كما إذا كان المخبر ممن يعاند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينفع فيه الإنكار، فلا يدل السكوت على الصدق قولاً واحداً"3.
ومنه خبر من أخبر بحضرة جمع عظيم عن أمر محس وسكتوا عن تكذيبه، والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وعدم السكوت لو كان كذباً.
__________
1 انظر: تفاصيله في: الإحكام للآمدي 2/39.
2 سورة المنافقون آية: 1
3 المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/156.
(1/42)
 
 
فذهب قوم إلى أن ذلك دليل على صدقه قطعاً. وقد عده الغزالي من المقطوع بصدقه حيث قال: "كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذباً، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليه بحيث ينكتم لو تواطؤا ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات، وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت"1.
وقيل: إنه يفيد الصدق ظناً لجواز أن لا يكون لهم إطلاع على ما أخبر به، ولأن العادة لا تحيل سكوت الواحد أو الاثنين عن تكذيبه، ولاحتمال أن مانعاً منعهم من تكذيبه، ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً2.
الثاني: ما علم كذبه وهو:
الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس المشاهد أو أخبار التواتر.
__________
1 المستفصى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141.
2 الإحكام للآمدي 2/40 مع تصرف.
(1/43)
 
 
الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب.
الرابع: ما سكت الجمع الكثير عن نقله، والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلد قتل في السوق على ملأ من الناس، ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه، إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته1.
وخالفت الشيعة فقالت: إن عدم تواتر الخبر لا يدل على كذبه، لأن العقل يجوّز صدقه. وقد قالوا: بصدق ما رووه في إمامة علي رضي الله عنه من نحو: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، وما كان مثله مما استدلوا به على خلافته من الأحاديث التي لم تصح عند أهل السنة، ولم تسلم للشيعة، مشبهين لها بما لم يتواتر من آحاد المعجزات، كحنين الجذع2 وتسليم الحجر، وتسبيح الحصى، وغيرها مما
__________
1 انظر تصانيفه في: الإحكام للآمدي2/12، فما بعدها، والمستصفى مع فواتح الرحموت1/142، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 355-356.
2 حديث حنين الجذع رواه البخاري ع ابن عمر باب علامات النبوة4/237. وحديث تسليم الحجر رواه مسلم عن جابر بن سمرة باب فضل نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم 7/58-59. وحديث تسبيح الحصى رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي ذر. انظر: مجمع الزوائد منبع الفوائد للهيثمي 8/298-299.
(1/44)
 
 
لم ينقل بطريق التواتر مع توفر الدواعي على نقلها متواترة، ولم يكن ذلك دليلاً على كذبها.
وأجيب بأن آحاد المعجزات كانت متواترة ثم استغني عن استمرار تواترها بتواتر القرآن المستمر إلى الأبد، بخلاف ما استدلوا به في إمامة علي، فإنه لا يعرفه أهل الحديث فضلاً عن غيرهم، ولوكان حقاً لما خفى على أهل بيعة السقيفة من الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا أبا بكر، كما بايعه علي رضي الله عنه1.
الثالث: ما لم يعلم صدقه ولا كذبه، وهو ثلاثة أقسام:
الأول: ما ترجح احتمال صدقه كخبر العدل.
الثاني: ما ترجح احتمال كذبه كخبر الفاسق.
__________
1 انظر تفاصيله في: شرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/147، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي6/192 فما بعدها، وحاشية البناني على المحلى2/118-119.
(1/45)
 
 
الثالث: أن يتساوى الأمران كخبر مجهول الحال1.
__________
1 انظر: نهاية السول للأسنوي، شرح منهاج الوصول للبيضاوي مع البدخشي2/230 فما بعدها. مطبعة محمّد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر، والإحكام للآمدي2/12-13، وإرشاد الفحول ص: 46.
(1/46)
 
 
السنة لغة وشرعاً
السنة لغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو قبيحة.
قال خالد الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وقال لبيد في معلقته:
من معشر سنت أمم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها1
وقد تكرر إطلاق السنة في القرآن بمعنى الطريقة والسيرة، كقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 2 وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3 وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا
__________
1 انظر: لسان العرب لابن منظور13/225، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي الإمام أبي الفضل السيد محمّد مرتضى9/244، ومختار الشعر الجاهلي2/399، وشرحه وحققه وضبطه محمّد سيد كيلاني. الطبعة الأولى سنة: 1379هـ – 1959م. وأصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17. دار الفكر. الطبعة الثانية سنة: 1391هـ – 1971م.
2 سورة آل عمران آية: 137.
3 سورة النساء آية: 26.
(1/47)
 
 
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} 1 وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} 2والآيات في مثل ذلك كثيرة.
وورد في الحديث لفظ السنة وما تصرف منها، ومنه بمعنى الطريقة والسيرة حديث جرير بن عبد الله: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"3.
وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "4.
ونقل الزبيدي عن الأزهري أن السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذا قيل فلان من أهل السنة، معناه من أهل الطريقة المحمودة
__________
1 سورة الأنفال آية: 38.
2 سورة الكهف آية: 55.
3 صحيح مسلم مع النووي16/226، المطبعة المصرية ومكتبتها بسوق الأوقاف.
4 صحيح مسلم مع النووي16/219-220.
(1/48)
 
 
المستقيمة1. وعزاه الشوكاني للخطابي قال: قال: "أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقوله: "من سن سنة سيئة""2.
والذي تؤيده النصوص هو ما ذهب إليه الجمهور من إطلاقها على الطريقة: محمودة كانت أم غير محمودة. فما استدل به الخطابي من قيدها في الحديث بالسيئة لا دليل فيه، لورودها مقيدة بالحسنة في نفس حديث جرير بن عبد الله "من سن في الإسلام سنة حسنة "الحديث3.
وكذلك ما تقدم من شواهد اللغة، والآيات القرآنية. فالإطلاق فيما تقدم يدل على صحة ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والسنة بالضم الوجه لصقالته وملاسته، كما تطلق على الصورة، قال ذو الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة4 ... ملساء ليمس بها خالد ولا ندب
وأنشد ثعلب:
__________
1 تاج العروس للزبيدي9/244.
2 إرشاد الفحول مع شرح الورقات ص: 33.
3 صحيح مسلم مع النووي16/226.
4 القرف بالكسر القشر. انظر: القاموس المحيط لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزابادي 3/190، ط الثانية سنة: 1371هـ – 1952م- مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر.
(1/49)
 
 
بيضاء في المرآة سنتها
في البيت تحت مواضع اللمس
أو السنة الوجه والجبينان، وكله من الصقالة والإسالة1.
__________
1 تاج العروس للزبيدي9/244.
(1/50)
 
 
السنة شرعاً:
إذا أطلق لفظ السنة في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، أو دعا إليه قولا كان أو فعلا، ولذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث، غير أنه اختلف في معنى السنة باختلاف اصطلاح العلماء، لاختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فهي عند المحدثين غيرها عند الأصوليين والفقهاء.
فالسنة عند المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أوتقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة ... كالتحنث في غار حراء أو بعدها. وهي بهذا المعنى ترادف الحديث عند بعضهم.
والسنة عند علماء أصول الفقه: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح لأن يكون دليلاً لحكم شرعي.
والسنة عند الفقهاء: كل ما ثبت من أحكام الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بفرض ولا واجب، وهي بهذا المعنى تقابل الواجب وغيره من أحكام الشرع الخمسة.
وقد عرفها فقهاء المالكية بأنها ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر، وأظهره في جماعة، وقد يسمي بعضهم ما أكد منها بالواجب. قال صاحب مراقي السعود:
وسنة ما أحمد قد واظبا ... عليه والظهور فيه وجبا
(1/51)
 
 
وبعضهم سمى الذي قد أكدا ... منها بواجب فخذ ما قيدا
يعنى أن السنة هي: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهره في جماعة. وبعض أصحاب مالك يسمي السنة المؤكدة بواجب، وعليه درج ابن أبي زيد في الرسالة حيث يقول:"سنة أو واجبة"1.
فكان لاختلاف أغراض العلماء أثر في الاختلاف في اصطلاحاتهم. فأعم تلك الاصطلاحات اصطلاح المحدثين الذين قصدوا بالسنة كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية سواء أثبت ذلك حكما أم لا.
وأخص منه اصطلاح الأصوليين، والفقهاء، لأن الأصوليين بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنه يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاعتنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام الشرعية وتقررها. والفقهاء إنما بحثوا عنها من حيث إنها لا تخرج عن حكم شرعي، فهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا وحرمة وإباحة وغيرها.
__________
1 انظر تفاصيل تعريف السنة عند المالكية في ما ذكر صاحب المراقي في فتح الودود شرح مراقي السعود لمحمّد يحيى الولاتي ص: 95، الطبعة الأولى المطبعة المولوية بفاس سنة: 1321هـ.
(1/52)
 
 
وقد تطلق عند العلماء على ما عمل به الصحابة -رضوان الله عليهم- سواء كان ذلك في القرآن أم الحديث، أم باجتهاد منهم كجمع المصحف، وتدوين الدواوين، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ويقابل ذلك البدعة1.
ويدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث العرباض بن سارية: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 2.
__________
1 انظر تفاصيله في السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص: 47 فما بعدها، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة: 1396هـ – 1976هـ، وأصول الحديث وعلومه ومصطلحه للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17 فما بعدها.
2 أبو داود 2/506، الطبعة الأولى سنة: 1371هـ، والترمذي مع تحفة الأحوذي7/439 فما بعدها، وقال حسن صحيح.
(1/53)
 
 
أقسام السنة باعتبار ذاتها
اختلف العلماء في تقسيم السنة:
فذهب علماء المالكية إلى أنها تنقسم إلى: قول، وفعل، ولم يروا التقرير قسماً لدخوله عندهم في الفعل، قال صاحب مراقي السعود:
والقول والفعل وفي الفعل انحصر ... تقريره كذى الحديث والخبر
يعني أن تقريره لأحد على فعل رآه يفعله ولم ينكر عليه داخل في الأفعال دخول انحصار بحيث لا يخرج منه عنها شيء1.
وقال الأسنوي في تعريف السنة وبيان أقسامها: "وتطلق على ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز، وهذا هو المراد هنا، ولما كان التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار، والكف فعل ... استغنى المصنف عنه به أي عن التقرير بالفعل"2.
وذهب الجمهور إلى انقسامها إلى قول، وفعل، وتقرير3.
__________
1 انظر: فتح الودود شرح مراقي السعودي للولاتي ص: 203-204، وشرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/128.
2 نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/196.
3 الإحكام للآمدي1/155، أصول الفقه لمحمّد أبي النور زهير3/108، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، القاهرة، والتلويح على التوضيح2/2، يطلب من مطبعة ومكتبة محمّد عليّ صبيح. الأزهر، دار المعهد الجديد للطباعة.
(1/54)
 
 
أمثلة أقسام السنة:
مثال القول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، مما يتعلق بتشريع الأحكام كحديث عمر بن الخطاب: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى ... " الحديث1.
وحديث علي: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " 2، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار "3، وأبي هريرة " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "4.
مثال الفعل: ما نقله الصحابة رضي الله عنهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون العبادات وغيرها، كأداء الصلوات، ومناسك الحج، وآداب الصيام وقضائه صلى الله عليه وسلم "باليمين والشاهد "5.
__________
1 صحيح البخاري1/4، مكتبة الجمهورية العربية لعبد الفتاح عبد الحميد مراد، مطبعة محمّد عليّ صبيح، مصر، وصحيح مسلم5/48، دار الطباعة القاهرة سنة: 1332هـ.
2 الموطّأ مع تنوير الحوالك2/210، وأخرجه الترمذي وأحمد والطبراني، قال الهيثمي: "رجالههما ثقات" وحسنه النووي في الأذكار وصحّحه ابن عبد البر، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/13.
3 الموطأ مع تنوير الحوالك2/122، الطبعة الأخيرة، سنة: 1370هـ – 1951م، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
4 الترمذي انظر: تحفة الأحوذي1/225، مطبعة المدني، القاهرة، الناشر محمّد عبد المحسن الكتبي ومالك في الموطأ1/35.
5 أبو داود 2/277، ومسلم مع شرح النووي له 12/4 عن ابن عباس وأم سلمة.
(1/55)
 
 
ومثال التقرير: ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر من بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوت منه وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسان وتأييد.
فيعتبر ما صدر عنهم بهذه المثابة صادراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه: أنه خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء فعرضت الصلاة، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد: " لك الأجر مرتين "1.
ومنه أيضاً: إقراره لاجتهاد الصحابة في صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ففهم بعضهم هذا النهي على حقيقته، فلم يصل إلا في بني قريظة بعد المغرب، وقال: "لا نصلي حتى نأتيها"وفهم البعض أن المقصود الحث على
__________
1 أبو داود 1/82، وسبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 1/97-98، وأخرجه أبو داود 1/82.
(1/56)
 
 
الإسراع، فصلاها في وقتها. وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل الفريقان، فأقرهما ولم ينكر على أحدهما1.
__________
1 الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر، انظر: الفتح 7/408، وانظر تفاصيل ذلك كله في أصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 19 فما بعدها، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي 47 فما بعدها.
(1/57)
 
 
تمهيد منزلة السنة من القرآن
مقدمة:
اختار الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فختم به الرسالات السماوية وأرسله إلى الناس كافة، وأنزل عليه القرآن العظيم {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 1
فالقرآن الكريم هو أساس الشريعة الإسلامية، ففيه التوحيد والأحكام، والآداب، والترغيب والترهيب والقصص، وهو كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل الأمين، المتواتر لفظه جملة وتفصيلا، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف.
ولما كان القرآن الكريم دستور المسلمين وأساس قواعد الأحكام الشرعية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله، إذ لا يمكن أن يفهم القرآن على حقيقته، وأن يعلم مراد الله من كثير من آيات الأحكام إلا من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن ليبينه للناس.
وذلك البيان: إما بوحي من الله تعالى، وإما باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ. وعلى هذا فمرد السنة إلى الوحي.
__________
1 سورة البقرة آية: 185.
(1/58)
 
 
فالقرآن الكريم هو الوحي المتلو المتعبد بتلاوته، والسنة وحي غير متلو ولا متعبد بتلاوتها.
قال ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن.
والثاني: وحي مروى منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا، قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 ووجدناه قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني، كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق3. فالقرآن والسنة مصدران للتشريع متلازمان، لا يمكن لأي مسلم طالب علم أو مجتهد الاستغناء بأحدهما عن الآخر.
__________
1 سورة النجم آيتان: 3-4.
2 سورة النحل آية: 44.
3 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم1-4/87.
(1/59)
 
 
قال الألوسي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1، قال: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم "2.
وقال ابن حجر: "النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولى الأمر مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما: القرآن، والسنة، فكأن التقرير أطيعوا الله فيما نص عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصّه عليكم من السنة. أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحيِ الذي ليس بقرآن"3.
__________
1 سورة النساء آية: 59.
2 روح المعاني للألوسي 5/65.
3 فتح الباري 13/111، رقم كتبه وأبوابه وأحاديث…محمّد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية ومكتبتها.
(1/60)
 
 
رتبة السنة من القرآن:
رتبة السنة من القرآن التأخر عنه في الاعتبار، لأن القرآن مقطوع به جملة وتفصيلاً، أما السنة فإنما يقطع بها في الجملة لا على التفصيل، ولأن القرآن هو الأصل، والسنة له بمثابة الفرع، لأنها تبينه وتوضحه، فالأصل مقدم على الفرع، والمبين متقدم على المبين، ويدل لذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه، ولفظه: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي" 1.
ومما كتبه عمر رضي الله عنه إلى شريح " إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك بما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم… إلخ ".
وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره". وقد بين المراد من هذا في رواية أخرى أنه قال: "انظر
__________
1 أبو داود 2/272، ورواه الترمذي في باب الأحكام، والبخاري في التاريخ الكبير، والإمام أحمد في مسنده، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقال الحافظ في التلخيص: "قال الدارقطني في العلل: رواه شعبة عن أبي عون هكذا وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه والمرسل أصح" وأخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وقال:"إن أهل العلم تلقوه بالقبول" انظر: تحفة الطالب للإمام ابن كثير ص: 151 فما بعدها، تحقيق عبد الغني بن حميد الكبيسي.
(1/61)
 
 
ما تبين لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وروي مثل هذا عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ".
(1/62)
 
 
أوجه السنة مع القرآن
لا خلاف بين العلماء في أن السنة مع القرآن لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون موافقة للقرآن من كل وجه، كما في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاَ"1.
فهو موافق لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3 الآية، ولقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4.
الثانية: أن تكون مبينة لأحكام القرآن من تقييد مطلق، أو تفصيل مجمل، أو تخصيص عام، كالأحاديث التي فصلت أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعاملات، التي وردت مجملة في القرآن.
__________
1 صحيح البخاري 1/10.
2 سورة البقرة آية: 83.
3 سورة البقرة آية: 183.
4 سورة آل عمران آية: 97.
(1/63)
 
 
وهذا النوع هو أغلب ما في السنة، وأكثرها وروداً1.
وها أنا أذكر أمثلة لبيان السنة لمجمل القرآن، وتقييدها لمطلقه، وتخصيصها لعامه فيما يلي:
1- مثال تبيين السنة لمجمل الكتاب كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2 فإن هذا اللفظ لم يتضمن بيان أوقات الصلاة، وأفعالها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وفعله لغيره بعد أن بينه له جبريل عليه السلام. وكذلك قوله جل شأنه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وصفة المواشي التي تجب فيها الزكاة، وغيرها من الأموال التي تجب فيها الزكاة شيئاً فشيئاً، كما بين الحج.
__________
1 انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي ص: 379، فما بعدها مع تصرف.
2 سورة البقرة آية: 83.
3 سورة البقرة آية: 83.
(1/64)
 
 
هل الفعل يكون بياناً؟
اختلف العلماء في الفعل هل يكون بياناً أولا؟ فالأكثرون على أنه يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة.
قال الآمدي: "مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة، ويدل على ذلك النقل والعقل. أما النقل فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصلاة والحج بفعله، حيث قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم" 1.
وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً، والإتيان بأفعال الصلاة والحج، لكونها مشاهدة أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك.
وإذا كان القول بياناً، مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فبكون الفعل بياناً أولى"2.
__________
1 لفظه عند مسلم عن جابر بن عبد الله: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" انظر: صحيح باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر4/79. وحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث في باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة1/155. وفي كتاب الدب باب رحمة الناس بالبهائم7/77، وفي كتاب أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدق8/232.
2 انظر: الإحكام للآمدي3/24، مؤسسة الحلبي وشركاه.
(1/65)
 
 
2- مثال تقييد السنة لمطلق الكتاب كما في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 1 فاليد تصدق من الأصابع إلى المنكب، ووردت هنا مطلقة، فقيدتها السنة بما جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقالت: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، أما أنا فتمعكت2 فصليت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي لا: "كان يكفيك هكذا " فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه" 3 فالحديث كما ترى قيد لفظ اليد بالكفين مع أن اليد تصدق مطلقاً على أكثر من ذلك.
__________
1 سورة المائدة آية: 6.
2 أي: تحككت وتقلبت اهـ من هدي الساري مقدمة فتح الباري ص: 189. قام بإخراجه وتصحيح تجاربه محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية ومكتبتها.
3 أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه أنظره مع فتح الباري1/443، رقم أبوابه وأحاديثه محمّد عبد الباقي، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة سنة: 1380هـ، وجامع أحكام القرآن لأبي عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي5/239، مصورة عن دار الكتاب. الناشر دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة سنة 1387هـ – 1967م، والمغني لابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمّد المتوفى سنة: 620هـ 1/224، تصحيح د/ محمّد خليل هراس. مطبعة الإمام. مصر، والنووي شرح صحيح مسلم 4/61.
(1/66)
 
 
كما قيدت السنة القطع في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 الآية بالقطع من منتهى الكف دون المرفق.
3- أ- مثال تخصيص السنة لعام القرآن كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 الآية.
فلفظ السارق عام، وهو قاض بقطع كل سارق سواء كان المسروق نصاباً، أم أقل، وسواء كان من حرز أم من غير حرز، إلا أن السنة خصصت ذلك بمن سرق نصاباً محرزاً.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن 3 " ثمنه ثلاثة دراهم. وفي لفظ بعضهم " قيمته ثلاثة دراهم "4.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً "5 وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" 6.
__________
1 سورة المائدة آية: 38.
2 سورة المائدة آية: 38.
3 المجن: الترس.
4 صحيح البخاري 8/200، وصحيح مسلم 5/113، ونيل الأوطار للشوكاني 7/131.
5 صحيح البخاري 8/199، وصحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131.
6 صحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131.
(1/67)
 
 
فدلت الأحاديث على اعتبار النصاب، وبمدلولها قال العلماء لما روى رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع في ثمر ولا كثر "1.
ومحل عدم القطع في الثمر مالم يجذ ويحرز، فإن أحرز وبلغ النصاب ففيه القطع لما في رواية الترمذي وغيره إلا ما آواه الجرين2 والحديث أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان من طريق مالك3.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ". وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه، والنسائي وأبو داود والترمذي مختصراً في باب الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، وحسنه4.
__________
1 الموطأ 2/839، ونيل الأوطار 7/134، والكثر: الجمار وهو شحم النخل. القاموس 1/408، 2/129.
2 موضع الثمر الذي يجفف فيه اهـ مختار الصحاح للإمام محمّد بن أبي بكر الزاري ص: 101، ربته محمود خاطر بك. الناشر دار الفكر. سنة: 1392هـ – 1972م.
3 انظر تفاصيل ذلك والكلام في الحديث في الزرقاني على الموطأ 5/119، تحقيق إبراهيم عطوه عوض مطبعة الحلبي مصر، الطبعة الأولى، سنة: 1382هـ – 1962م، والحديث أخرجه مالك في الموطأ.
4 انظر: تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفوري 5/10 مع تصرف.
(1/68)
 
 
ب - ومنه قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1
قال الألوسي: "أشار إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفراداً واجتماعاً "2.
غير أن هذا العموم خصص بما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها "3.
وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " لا يجمع بين المرأة، وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" 4.
قال ابن حجر: "قال الشافعي: "تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف، بينهم في ذلك".
وقال الترمذي بعد تخريجه: "العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً، في أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها…" وكذلك نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي.
__________
1 سورة النساء آية: 24.
2 روح المعاني للألوسي 5/4.
3 البخاري مع فتح الباري 9/160.
4 نفس المصدر 9/160.
(1/69)
 
 
واستثنى ابن حزم عثمان البتي، وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة. واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة. واستثنى القرطبي الخوارج.
قال الحافظ: قال النووي: "احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.
ج- ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 2 فإن عموم الآية يدلى على أن كل أب خلف أولاداً ذكوراً وإناثاً، أن الذكر منهم يرث مع أخته من تركة الأب نصيب أنثيين، ومحل ذلك ما لم يقم مانع من الإرث كالرق واختلاف الدين، والقتل، أو كون الموروث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخصيص عموم الآية بمنع الإرث في حق أولئك. فمن ذلك: ما جاء عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "3.
__________
1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/162. والآية من سورة النساء آية: 24.
2 سورة النساء آية: 11.
3 صحيح البخاري 8/194، والموطأ 2/519، ونيل الأوطار 6/82.
(1/70)
 
 
ومنه: عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس لقاتل ميراث" 1.
ومنه: حديث أبي بكر: "لا نورث ما تركناه صدقة" 2، فإن هذا الحديث أخرج الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم من عموم الميراث الذي دلت عليه الآية لغة كما لا يخفى. إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يتسع لها المجال هنا. وقد رأى البعض أن السنة مقدمة على الكتاب.
قال يحيى بن أبي كثير: "السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة"3 لأن الكتاب قد يكون فيه ما يحتمل أمرين، فتأتي السنة فتعين أحدهما، فيعمل به دون الآخر. وقد يكون ظاهره الأمر، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. وهذا يدل على تقديم السنة.
__________
1 نيل الأوطار 6/84، وقال رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه، فيض القدير 5/380 5 عن رجل ح.
2 صحيح البخاري 8/185-186، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نورث ما تركناه صدقة"، الزرقاني على الموطأ 5/482-483.
3 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 47، تقديم محمّد الحافظ التيجاني، ومراجعة عبد الحليم محمّد عبد الحليم وغيره، الطبعة الأولى مطعبة السعادة، الناشر: دار الكتب الحديثة.
(1/71)
 
 
وأجيب عنه بأن ليس المراد إطراح الكتاب وتقديم السنة، وإنما المراد بقضائها عليه كونها بياناً وشرحاً له، فلا يتوقف مع إجماله واحتماله إذا بنيت السنة المقصود منه، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1.
فالآية كما ترى صريحة في أن السنة بيان للقرآن، فهي تباين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه. فهذا هو وجه تقديمها عليه، وهو المنقول عن السلف"2.
روى الخطيب البغدادي: "أن عمران بن حصين كان جالساً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بين الصفا والمروة سبعاً؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن"3.
__________
1 سورة النحل آية: 44.
2 انظر تفاصيله في: الموافقات للشاطبي 4/8-9.
3 الكفاية للخطيب البغدادي ص: 48.
(1/72)
 
 
المرتبة الثالثة:
"ما دل على حكم سكت عنه القرآن، فلم يثبته، ولم ينفه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة، ورجم الزاني المحصن، وتغريب الزاني البكر، وإرث الجدة، وغير ذلك"1.
ولا خلاف بين العلماء في المرتبتين الأوليين، وإنما الخلاف في الثالثة التي أثبتت أحكاماً لم يتعرض لها القرآن نفياً أو إثباتاً. قال الشافعي -رحمه الله-: " وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان:
أحدهما: نص كتاب، فاتبعه رسول الله كما أنزل الله.
والآخر: جملة، بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله."
قال: "فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين: والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله ما نص الكتاب.
__________
1 انظر السنة ومكانتها في: التشريع الإسلامي للسباعي ص: 380.
(1/73)
 
 
والآخر: مما أنزل فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله فيه فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب. كما كانت سنته لتبين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2. فما أحل وحرم، فإنما بيّن فيه عن الله، كما بين الصلاة.
ومنهم من قال: جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقى في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقى في روعه عن الله، فكان ما ألقى في روعه سنته3.
__________
1 سورة النساء آية: 29.
2 سورة البقرة آية: 275.
3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 52-53. تحقيق محمّد سيد كيلاني الطبعة الأولى سنة: 1388هـ – 1969م. مصطفى البابي الحلبي. مصر.
(1/74)
 
 
فاختلف العلماء في المرتبة الثالثة من حيث إثباتها لأحكام لم يتعرض لها القرآن، لا من حيث وجودها.
فذهب الجمهور إلى أن السنة أثبتت أحكاماً لم ترد في القرآن. وذهب جماعة ومنهم الشاطبي1 إلى أنه ليس في السنة أمر إلا وله أصل في القرآن.
قال ابن القيم2 بعد أن ذكر انقسام السنة إلى ثلاثة أقسام، وبين كل قسم قال: "فما كان منها زائداً على أصل القرآن، فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً لها على الكتاب، بل امتثالا لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم، لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به،
__________
1 هو: إبراهيم بن موسى، أبو إسحاق، الإمام المحقق الناظر الأصولي المفسر الفقيه. له مؤلّفات جليلة منها: كتاب الموافقات في أصول الفقه. توفي سنة: 790هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/204-205.
2 ابن القيم هو: العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الحنبلي، الفقيه المفسر، الأصولي، النحوي، المتكلم الشهير بابن القيم الجوزية. تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. مصنفاته كثيرة منها: زاد المعاد، وأعلام الموقعين، والصواعق المرسلة وغيرها. ولد سنة: 691هـ وتوفي سنة: 751هـ. انظر: مختصر مقدمة الصواعق المرسلة لزكريا علي يوسف. مطبعة الإمام، مصر.
(1/75)
 
 
وأنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1.
وكيف يمكن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثاً زائداً على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة"2.
أدلة القائلين بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن:
قال الشاطبي: "السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوِله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو
__________
1 سورة النساء آية: 80.
2 أعلام الموقعين لابن القيم 2/314-315، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، يطلب من دار الكتب الحديثة، مطبعة السعادة. مصر. 1389هـ – 1969م.
3 سورة النحل آية: 44.
(1/76)
 
 
تفصيلية، وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هوكلية الشريعة وينبوع لها، فهو دليل على ذلك، لأن الله تعالى قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3.وهو يريد إنزال القرآن. فالسنة إذن في الأمر بيان لما فيه. وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك"4.
أدلة القائلين بإثبات السنة لأحكام لم يتعرض لها القرآن:
1- أن الله تعالى قرن الإيمان به بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} 5 وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
__________
1 سورة القلم آية: 4.
2 سورة الأنعام آية: 38.
3 سورة المائدة آية: 3.
4 الموافقات للشاطبي 4/12-13.
5 سورة النساء آية: 171.
(1/77)
 
 
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2.
قال الشافعي: "فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله، ثم برسوله"3.
والإيمان به صلى الله عليه وسلم، يقتضي تصديقه واتباعه في كل ما جاء به، سواء كان قرآناً، أم سنة، وسواء كانت مثبتة لحكم لم يتعرض له القرآن، أم تعرض له، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّّ وَحْيٌ يُوحَى} 4.
2- وجوب طاعة الرسول: دلت نصوص القرNن على وجوب اتباعه وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5.
__________
1 سورة النور آية: 171.
2 سورة الأعراف آية: 158.
3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 43.
4 سورة النجم آية: 3، 4.
5 سورة النساء آية: 59.
(1/78)
 
 
"والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته"1.
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} 2.
قال الشاطبي: "وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله، فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه لا كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3 فاختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن"4.
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 6. وقال: {إِنَّ
__________
1 الموافقات للشاطبي 4/14، والسنة ومكانتها ص: 429، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/229، دار الفكر. بيروت.
2 سورة المائدة آية: 92.
3 سورة النور آية: 63.
4 الموافقات للشاطبي 4/14.
5 سورة النساء آية: 80.
6 سورة الحشر آية: 7.
(1/79)
 
 
الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 1.
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2.
فهذه الآيات وغيرها من أدلة القرآن، تدل على لزوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل ما أمر به، ونهى عنه، ولو كان زائداً على ما في القرآن.
3- وردت أحاديث كثيرة دلت على ذم ترك السنة، والاكتفاء بالقرآن، ولو كان ما في السنة في القرآن لما كان الاكتفاء به تركاً لها.
- منها ما أخرجه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته3يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من
__________
1 سورة الفتح آية: 10.
2 سورة النساء آية: 65.
3 الأريكة: السرير المزين. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود2/505.
(1/80)
 
 
حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا، لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا أكل كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغتي عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم1بمثل قراه" 2.
- ومنها ما أخرجه أيضاً عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 3.
- ومنها: ما أخرجه الخطيب البغدادي عن المقدام بن معد يكرب الكندي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء فذكر الحمر الإنسية، ثم قال: " يوشك رجل متكيء على أريكته يحدث بالحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا حلالا أحللناه، وما وجدنا حراماً حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله عز وجل" 4.
__________
1 من الأعقاب. وهو المجازاة بالصنيع. أي: يأخذ منهم بدل ما فاته من قراه. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود 2/505.
2 أبو داود 2/505.
3 أبو داود 2/505.
4 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 39، أبو داود 2/505، والموافقات 4/15.
(1/81)
 
 
4- "أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر…"1.
أجاب القائلون بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن، عن أدلة الفريق الآخر بما يأتي:
أما عن الدليل الأول:
فقالوا: إن السنة بيان وشرح للقرآن، قال الشاطبي: "لأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب، فلا بد أن تكون بياناً لما في الكتاب احتمال له ولغيره، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر. فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه، فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق، وإذا لم يلزم ذلك، لم يكن في الاَيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب"2.
__________
1 الموافقات للشاطبي 4/16.
2 نفس المصدر 4/19.
(1/82)
 
 
وأيضاً قالوا: إن زيادة الأحكام في السنة إنما هي زيادة الشرح على المشروح، وإلا لم يكن شرحاً، وهذا ليس بزيادة في الواقع. وعلى هذا المعنى ينزل الدليل الثاني1.
وأجابوا عن الدليل الثالث بما يتلخص في أن الكتاب دل على وجوب العمل بالسنة، لأنها