روضة الناظر وجنة المناظر 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل
المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ)
عدد الأجزاء: 2
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فمن فضل الله -تعالى- على عباده: أنه -سبحانه- بعد أن استخلفهم على هذه البسيطة لم يتركهم يخططون منهاج حياتهم، لأن العقل البشري مهما أوتي من الفطنة والذكاء يعتريه القصور، وتنتابه الشوائب، ولا يعلم الغيب، وتختلف مدارك الناس حول المصلحة الحقيقية التي ينشدونها، ولذلك: يحسّن بعض الناس ما هو عند غيرهم قبيحًا وبالعكس، بل قد يحسن الإنسان اليوم ما كان في نظره بالأمس قبيحًا ويقبح ما كان عنده قبل ذلك حسنًا.
(1/5)
 
 
ومن هنا تولى الله -سبحانه- عباده من أول الأمر بالعناية والتوجيه، وبيان المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه. جاء ذلك واضحًا في قصة أبي البشر، بعد أن أهبطه الله -تعالى- إلى الأرض هو وزوجه "حواء" يقول الله -تعالى-: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1.
وتتابعت الشرائع بعد ذلك توضح منهج الله -تعالى- لكل أمة حسب ظروفها ومقتضيات أحوالها، عن طريق رسول منها، بلغتها التي تتخاطب بها {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2.
ولما شاء الله -تعالى- أن يختم هذه السلسلة المباركة من الأنبياء والمرسلين، اختار أفضل خلقه، وأكمل رسله، فحمّله الرسالة الخاتمة التي جمعت كل ما تحتاج إليه البشرية في حياتها الدنيوية، وما تعدّ له في حياتها الآخرة، فكانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء. قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 3.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في
__________
1 سورة طه الآيات 123-127.
2 سورة إبراهيم الآية 4.
3 سورة الصافات الآية: 37.
(1/6)
 
 
النبيين موضع تلك اللبنة" 1.
ومقتضى كون شريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتمة المطاف، ومتضمنه لمنهج الله -تعالى- في صورته الأخيرة، مقتضى ذلك:
أ- حفظ أصول هذا الدين من التحريف والتبديل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
ب- جعل معجزته الأساسية في كتاب يخاطب العقل، ويحقق مقتضيات الفطرة والصفات الإنسانية الثابتة، ليكون مستمر الإعجاز والتأثير إلى يوم القيامة، على عكس ما كان من معجزات السابقين، حيث كانت محصورة في المحسوسات، باعتبارها مؤقتة بوقت معين، ولأناس معينين.
أما شريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكانت، ولا تزال إلى كل البشر، وعلى جميع المستويات، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ج- جمعه بين ما هو ثابت لا يتغير، وبين ما هو متغير حسب ظروف الناس وأحوالهم، ولذلك كانت الأحكام الشرعية شاملة للقطعي الذي لا مجال فيه للاجتهاد والرأي، لأن المصلحة في ثباته، كما شملت ما يسمى بالظني الذي فيه سعة ومجال للبحث والنظر، وهي ما تسمى بالأمور الاجتهادية، تمشيًا مع طبيعة الحياة وتغير ظروف الناس، حتى تكون الشريعة متسعة لكل ما يجدّ للناس من وقائع، فيجد فيها المسلم حاجته، ولا يحتاج -بعد ذلك- إلى شيء من التشريعات الوضعية التي يظهر نقصها من حين لآخر.
__________
1 رواه البخاري ومسلم عن جابر وأبي هريرة، ومسلم عن أبي سعيد الخدري، والترمذي عن جابر وأبي بن كعب، وأحمد عن الأربعة "الفتح الكبير 3/ 134".
2 سورة الحجر الآية: 9.
(1/7)
 
 
وبذلك تواكب الشريعة الإسلامية حركة الحياة في نموّها وازدهارها، من خلال وضع القواعد والضوابط التي تحقق مصالح العباد في العاجل والآجل.
ولذلك: كان من أهم الخصائص التي تميزت بها هذه الشريعة: أن أحكامها وتشريعاتها المختلفة قائمة على الحجة والدليل، ورد الأمور المتنازع فيها إلى الوحي الإلهي، المتمثل في القرآن والسنة، وما يلحق بهما عن طريق الاجتهاد من العلماء المؤهلين لذلك.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1.
فالرد إلى الله -تعالى- هو الرجوع إلى القرآن الكريم، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون بالرجوع إليه -صلى الله عليه وسلم- في حياته وإلى سنّته بعد مماته كذا قال عمرو بن ميمون2.
وقال -تعالى- {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ......} 3.
والمراد بأولي الأمر -في هذه الآية- هم العلماء.
قال الشوكاني في تفسير قوله تعالي: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بتدبرهم وصحة عقولهم4.
ومعنى ذلك: أن العلماء المجتهدين هم الذين يستطيعون أن يفتوا
__________
1 سورة النساء الآية: 59.
2 انظر: تفسير الطبري "5/ 151" والقرطبي "5/ 261".
3 سورة النساء من الآية: 83.
4 فتح القدير "1/ 552".
(1/8)
 
 
في الوقائع التي ليس فيها نص معين، على ضوء قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، وروحها السمحة، وعلى أساس دلالات الألفاظ اللغوية، باعتبار أن القرآن الكريم نزل من عند الله -تعالى- بلسان عربي مبين، وكذلك السنة النبوية، فهي كلام أفصح العرب على الإطلاق، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وبذلك يظهر دور أصول الفقه في تطبيق هذه الخاصية، خاصية قيام الشريعة الإسلامية على الدليل والبرهان، فهو الذي يبين مصادر التشريع الإسلامي، ويذكر حجتها، ومراتبها في الاستدلال، وكيفية استخراج الأحكام من هذه المصادر، كما يبين صفات الشخص الذي يستطيع أن يستبط الأحكام من هذه المصادر، وهو المجتهد.
ولذلك عرّفه البيضاوي بقوله: "أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"1 والمستفيد هنا: المجتهد الذي يستفيد حكم الله -تعالى- من الدليل.
وهذا يقتضي أن يكون المتصدي للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية على درجة علمية تؤهله لذلك، وهي التي يعبر عنها علماء الأصول بشروط الاجتهاد.
وهذه الأهلية كانت موجودة لدى الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا أفقه الناس لروح الإسلام، وأعلمهم بمقاصده ومراميه، فقد تربوا في الحضرة النبوية، وعاشوا نزول الآيات وأسبابها، وورود الأحاديث النبوية، مع سلامة الفطرة ونور البصيرة، وجودة الفهم، وتمكن من اللغة، حيث كانت سليقة وسجية طبعوا عليها منذ نعومة أظفارهم.
__________
1 انظر: شرح البدخشي على المنهاج "1/ 13-14" طبعة صبيح.
(1/9)
 
 
وقد علّمهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كيف يواجهون الأمور التي لم يرد فيها نص، وذلك بالاجتهاد وتبادل الرأي بين أهل العلم والصلاح.
روى سعيد بن المسيب عن علي -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض لك فيه سنّة؟
فقال -صلى الله عليه وسلم- "اجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد" 1.
وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- ما وجههم إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل شئونهم.
روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر: هل كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه سنّة؟ فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم، خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا ... فلم أجد في ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟
فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم، قضى بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول عند ذلك: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.
فإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به"2.
وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وكتابه إلى
__________
1 روى الطبراني مثله في الأوسط، انطر مجمع الزوائد "1/ 178".
2 إعلام الموقعين "1/ 84".
(1/10)
 
 
شريح القاضي مشهور ومعروف.
قال الشعبي: "قال عمر بن الخطاب: ما في كتاب الله وقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -صلى الله عليه وسلم- فما قضى به أئمة العدل، وما لم يقض به أئمة العدل فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد رأيك، وأن شئت تؤامرني، ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك"1.
وفي بعض رواياته: " ... إذا جاءك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ رسول الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم به أحد، فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخره، ولا أرى التأخير إلا خيرًا لك"2.
وقد نقل عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وقائع كثيرة تدل على تطبيقهم لهذا المنهج، وأن القواعد الأصولية التي يذكرها علماء الأصول -بعد التدوين- كانت موجودة لدى الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم- وإن لم تعرف بهذه التسمية، لأنه ما دام هناك فقه، فلا بد وأن تصحبه قواعد وأصول يتفرع عنها هذا الفقه:
أ- روى مالك في الموطأ: كتاب الأشربة "أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي بن ابي طالب: نرى أن تجلده ثمانينن جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد القذف، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين"3.
__________
1 أخرجه وكيع في أخبار القضاة "2/ 189".
2 المصدر السابق.
3 أخرجه البخاري "8/ 185" مع الفتح، ومسلم "2/ 56" وأحمد في المسند "2/ 49" والشافعي في مسنده "6/ 9".
(1/11)
 
 
فهو بهذا ينهج الحكم بالمآل، أو بسد الذرائع، وكلاهما من قواعد الأصول.
ب- روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، مهما كانت المدة بعد الوفاة قليلة أو كثيرة، أخذًا بقول الله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ... } 1. ويرى أن هذه الآية ناسخة لآية سورة البقرة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا....} 2. ويستدل على ذلك بقوله: "ومن شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله تعالى: {.... أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... } 3.
ويقصد بسورة النساء القصرى: سورة الطلاق، فإنها تزلت بعد سورة البقرة.
ج- قتل الجماعة بالواحد:
فقد روي أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنًا له من غيرها غلامًا يقال له "أصيل" فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلًا، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه، فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام: الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه، ثم
__________
1 سورة الطلاق من الآية: 4.
2 سورة البقرة من الآية: 234.
3 أخرجه عنه البخاري: كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأبو داود: كتاب الطلاق، باب في عدة الحامل، والنسائي: كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وكذلك ابن ماجه.
(1/12)
 
 
أما زيد بن ثابت: فيشبه الجد بساق الشجرة وأصلها، والأب بغصن منها، والإخوة بخوطين1 تفرعا عن ذلك الغصن، وأحد الخوطين إلى الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة، ألا ترى أنه إذا قطع أحدهما امتص الآخر ما كان يمتص المقطوع، ولا يرجع إلى الساق2.
هـ- تأبيد المرأة التي تتزوج في العدة:
فمن المسائل التي قضى فيها الصحابة -رضي الله عنهم- بالاجتهاد والرأي: ما إذا تزوجت المرأة وهي في العدة، ماذا حكمها؟
روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي، لما تزوجها في العدة، من زوج ثان وقال: "أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرّق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطبًا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدًا"3.
وذهب علي -رضي الله عنه- إلى أن للزوج الثاني نكاحها بعد انقضاء عدتها من الرجلين.
قال الشافعي: "أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أن رجلا طلق امرأته فاعتدت منه، حتى إذا بقي شيء من عدتها نكحها
__________
1 الخوط -بالضم-: الغصن الناعم لسنة، أو كل قضيب. القاموس المحيط.
2 أخرج مثله ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله "2/ 131" والبيهقي في السنن الكبرى "6/ 247".
3 رواه مالك في الموطأ: كتاب النكاح -باب جامع ما لا يجوز من النكاح، كما أخرجه الشافعي في كتاب النكاح- الباب الخامس في العدة، وعبد الرزاق في المصنف: كتاب الطلاق، باب نكاحها في عدتها.
(1/14)
 
 
فلم يكن الصحابة ولا التابعون -رضي الله عنهم- في حاجة إلى معرفة القواعد والضوابط التي عرفت -فيما بعد- بأصول الفقه والاستنباط، لأنها كانت -كما قلت- مركوزة في أذهانهم وسجية لهم، فكانوا يعرفون الخاص والعام الذي أريد به العموم، والعام الذي يراد به الخصوص، والمطلق والمقيد، والمشترك والمفرد، والناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من القواعد التي تدرس في هذا العلم.
أما بعد أن طال الزمن، وفسد اللسان العربي، نتيجة لاتساع البلاد الإسلامية، واختلاط الأعاجم بالعرب، وجدّت حوادث ووقائع كثيرة، وكثر الاجتهاد والمجتهدون، واختلفت طرقهم في الاستنباط، وظهر في الأفق الاتجاهان المعروفان باتجاه أهل الحديث بالحجاز، واتجاه أهل الرأي بالعراق، وأسرف كل فريق في الطعن على الفريق الآخر، فعاب أهل الرأي على أهل الحديث الإكثار من الرواية التي هي مظنة لقلة الفهم والتدبر، كما عاب أهل الحديث على أهل الرأي بأنهم يأخدون في دينهم بالظن، ويحكمون العقل في الدين1، فلما اتسع النزاع بين المدرستين المذكورتين، أرسل الإمام عبد الر حمن بن مهدي -عالم الحديث بالمدينة المنورة المتوفى سنة "198هـ"- إلى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يطلب منه وضع قواعد يحتكم إليها، وأسس يسير عليها العلماء في اجتهادهم، وكيف يتعاملون مع الأدلة الشرعية، فأجابه الإمام الشافعي، وبعث إليه بهذه القواعد، والتي عرفت فيما بعد باسم "الرسالة".
__________
= إذا أشهد، وفي باب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وباب ما يحذر من زهرة الدنيا، كما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما.
1 تاريخ التشريع للخضري ص146.
(1/16)
 
 
وقد بين الإمام الشافعي -في هذه الرسالة- أهمية رسالة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأهمية الكتاب العزيز "القرآن الكريم" وأنه لا تنزل بأحد نازلة إلا في كتاب الله -تعالى- حكم لها، إما نصًّا وإما إلحاقًا بالنص، وأن مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبيين ما نزّل إلى الناس، ثم أتبع ذلك بباب: "كيف يكون البيان" ثم تحدث عن علاقة السنة بالقرآن، وعن حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع، كما بين حجية خبر الآحاد بصفة خاصة، ثم أتبع ذلك الكلام على الإجماع، والقياس وحجيته وشروطه، وألحق به باب الاجتهاد، ثم الاستحسان، ثم ذكر الاختلاف بين العلماء، والمذموم منه والممدوح، وأنهى رسالته بموضوع "أقوال الصحابة" رضي الله عنهم، ومدى الاستدلال بها.
فكانت هذه الرسالة بمثابة اللبنة الأولى في هذا العلم، من حيث التأليف والتدوين، وأن الإمام الشافعي صاحب السبق في ذلك.
وإن كان هناك من ينازع في ذلك، ويدّعي أن هناك من سبق الإمام الشافعي في ذلك، كالإمامين: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبي الإمام أبي حنيفة -رحمهم الله جميعًا- كما ادعت الشيعة ذلك أيضًا.
وهي مجرد دعوى لا دليل عليها، فلم يصلنا من هذه المؤلفات شيء، كما وصلتنا رسالة الإمام الشافعي.
وفي تصوّري: أن ما يدعيه هؤلاء، إنما هو من قبيل القواعد التي ترد في بعض المسائل الفقهية بطريقة عارضة، وهو أمر مسلم به؛ فإن كل إمام من الأئمة المجتهدين كانت له قواعده وأصوله التي يسير عليها، ويحتكم إليها في اجتهاده، وسبق أن قلنا: إن هذا كان موجودًا ومطبقًا في عصر الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- وفرق كبير بين تطبيق القواعد
(1/17)
 
 
والاحتكام إليها، وبين تأليف كتاب مستقل متكامل مستوعب لأبواب العلم1.
ثم تتابع العلماء بعد ذلك في التأليف وإضافة بعض الموضوعات إلى رسالة الإمام الشافعي، شأنه في ذلك شأن سائر العلوم، تبدأ قليلة، ثم تنمو وتتسع.
وقد سلك العلماء -بعد الإمام الشافعي- مسالك مختلفة:
أ- فمنهم من اتجه نحو تحرير المسائل الأصولية وتقرير القواعد تقريرًا منطقيًّا يقوم على الدليل العقلي، دون نظر إلى ما يتفرع عنها من فروع فقهية، وسمي هذا الاتجاه: باتجاه المتكلمين؛ لأنهم أشبهوا علماء الكلام في إقامة الأدلة، ودفع شبه المخالفين.
ومن أمهات الكتب المؤلفة على هذه الطريقة:
1- كتاب "العمد" للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي المتوفى سنة 415هـ.
2- كتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري: محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي المتوفى سنة 436هـ.
3- كتاب "البرهان" لإمام الحرمين: عبد الملك بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478هـ.
4 - كتاب "المستصفى" للإمام أبي حامد: محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ.
فكانت هذه الكتب الأربعة بمثابة المرجع في الأصول على هذه
__________
1 انظر: التمهيد للإسنوي ص45، 46 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو.
(1/18)
 
 
الطريقة، إلى أن قام عالمان جليلان بتلخيص ما فيها، هما: فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" في كتاب سماه "المحصول" وسيف الدين الآمدي المتوفى سنة "361هـ" في كتاب سماه "الإحكام في أصول الأحكام".
وقد عني العلماء بهذين الكتابين عناية فائقة، بالاختصار والشرح والتعليق.
وتوالت -بعد ذلك- المؤلفات على هذه الطريقة مما يطول بيانه في هذه المقدمة.
ب- وبجانب طريقة المتكلمين ظهرت طريقة أخرى تسمى طريقة الفقهاء أو الحنفية، تميزت بربط القواعد الأصولية بالفروع الفقهية، بمعنى: أنهم جعلوا الأصول تابعة للفروع، بحيث تتقرر القواعد على مقتضى الفروع الفقهية، باعتبار أن هذه القواعد إنما هي لخدمة الفروع.
ومن أهم الكتب التي وضعت على هذه الطريقة:
1- رسالة الكرخي في الأصول: تأليف أبي الحسن عبد الله بن الحسن الكرخي المتوفى سنة "340هـ".
2- أصول الفقه: لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة "370هـ".
3- كنز الوصول إلى معرفة الأصول: تأليف الإمام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد البزدوي المتوفى سنة "482هـ".
4- أصول السرخسي: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي المتوفى سنة "483هـ".
5- منار الأنوار: لأبي البركات: عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى
(1/19)
 
 
سنة "710هـ". وعليه عدة شروح نفيسة، واختصره كثير من العلماء.
ج- طريقة الجمع بين المتكلمين والفقهاء:
وفي القرن السابع الهجري بدأت تظهر طريقة ثالثة تجمع بين المنهجين المتقدمين: منهج المتكلمين، ومنهج الفقهاء، بحيث تذكر القاعدة الأصولية وتقيم الأدلة عليها، وتقارن بين ما قاله المتكلمون وما قاله الفقهاء، مع المناقشة والترجيح، ثم تذكر بعض الفروع المخرجة عليها.
ومن أشهر الكتب التي ألفت على هذا المنهج:
1- كتاب "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام" لمظفر الدين: أحمد بن علي الساعاتي الحنفي المتوفى سنة "694هـ".
2- كتاب "التنقيح" للقاضي صدر الشريعة: عبيد الله بن مسعود البخاري الحنفي المتوفى سنة "747هـ".
وقد وضع عليه شرحًا سماه "التوضيح شرح التنقيح".
3 - "جمع الجوامع" لتاج الدين: عبد الوهاب بن على السبكي المتوفى سنة "771هـ". وعليه عدة شروح وحواش عظيمة.
4- "التحرير" تأليف: كمال الدين: محمد بن عبد الواحد، المشهور بابن الهمام الفقيه الحنفي المتوفى سنة "861هـ".
شرحه تلميذه: محمد بن محمد أمير حاج الحلبي المتوفى سنة "879هـ" في كتاب سماه "التقرير والتحبير" وعليه شرح آخر يسمى "تيسير التحرير" للشيخ محمد أمين المعروف بأمير بادشاه.
5- "مسلم الثبوت" لمحب الدين بن عبد الشكور البهاري الفقيه الحنفي المتوفى "1119هـ" وعليه شرح نفيس للعلامة: عبد العلي
(1/20)
 
 
21
محمد بن نظام الدين الأنصاري يسمى: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت".
وهكذا بدأ المتأخرون ينسجون على منوال ما سلكه المتقدمون1.
د- اتجاه تخريج الفروع على الأصول:
وبجانب الاتجاهات المتقدمة، ظهر اتجاه رابع يسمى اتجاه "تخريج الفروع على الأصول" بحيث يذكر القاعدة الأصولية، وآراء العلماء فيها، دون الخوض في أدلة كل مذهب، ثم يفرع عليها بعض الفروع الفقهية، إما على مذهب معين، وإما مع المقارنة بين مذهبين مختلفين، كالحنفية والشافعية -مثلا- أو الشافعية والمالكية والحنابلة وهكذا.
ومن الكتب التي ألفت في هذا الاتجاه:
1- "تخريج الفروع على الأصول" للإمام شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفى سنة "656هـ".
يذكر القاعدة الأصولية، ثم يتبعها بتطبيقات فقهية على مذهب الحنفية والشافعية.
2- "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" للإمام الشريف أبي عبد الله محمد التلمساني المالكي المتوفى سنة "771هـ".
سلك فيه مؤلفه نفس المسلك السابق، إلا أنه يقارن بين المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والشافعي.
3- "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإمام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن القرشي الإسنوي الشافعي المتوفى سنة "772هـ".
ويعتبر من أهم الكتب التي ألفت على هذا المنهج، حيث استوعب
__________
1 انظر: مقدمة ابن خلدون ص325 طبعة دار المصحف بالقاهرة.
(1/21)
 
 
القواعد الأصولية، إلا أنه قصر التخريج على مذهب الشافعية فقط.
4- "القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية" للإمام: أبي الحسن علاء الدين: علي بن عباس البعلي الحنبلي، المعروف بابن اللحام المتوفى في سنة "803هـ".
سار فيه مؤلفه على نفس المنهج، غير أنه أبرز رأي علماء الحنابلة بشكل أوضح، وإن كان يذكر آراء بعض المذاهب الأخرى.
هـ- اتجاه بناء القواعد الأصولية على مقاصد الشريعة:
وبجانب الاتجاهات المتقدمة ظهر اتجاه مخالف للاتجاهات السابقة، سلكه الإمام الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المتوفى سنة "790هـ" ألف الشاطبي كتابه المشهور المسمى "الموافقات" وكان في بداية الأمر قد سماه "عنوان التعريف بأسرار التكليف" ثم عدل عن هذه التسمية لأمر ما.
سلك الشاطبي في كتابه هذا مسلكًا جديدًا لم يسبق إليه، بحيث يذكر القواعد الأصولية تحت أبواب معينة تتضمن مقاصد الشريعة الإسلامية ومراميها المختلفة، والتي تتضمن حفظ الضروريات، والحاجيات والتحسينيات.
وتوالت -بعد ذلك- المؤلفات على الاتجاهات المختلفة، منها: المطول، ومنها المختصر، ومنها المتوسط، لكنها -في الجملة- لا تختلف كثيرًا عما أصّله المتقدمون، إلا في طريقة العرض، أو تقديم موضع على آخر، كما هو الشأن في التأليف.
وبعد هذه المقدمة عن نشأة هذا العلم وتطوّره، نذكر لمحة سريعة عن مؤلف كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر" وعن منهجه في الكتاب، والعمل الذي نقوم به.
(1/22)
 
 
التعريف بالإمام ابن قدامة
تمهيد:
الإمام ابن قدامة علم من أعلام الفكر الإسلامي، وله من الآثار العلمية ما يشهد بفضله ومكانته العلمية، الأمر الذي جعل العلماء يكتبون عن حياته من نواحيها المختلفة، حتى سجلت فيه بعض الرسائل العلمية1.
فأرى أن الكتابة عن حياته هنا من فضول القول.
وسوف أكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى تاريخ حياته، تمهيدًا للحديث عن منهجه في كتابه: "روضة الناظر وجنة المناظر".
__________
1 راجع في ترجمته: معجم البلدان "2/ 113-114" مرآة الزمان "8/ 627-630" ذيل الروضتين ص139، والعبر "5/ 79"، دول الإسلام "2/ 93" فوات الوفيات "1/ 443-434"، البداية والنهاية "13/ 99-101"، الذيل لابن رجب "2/ 133-149"، شذرات الذهب "5/ 88-92"، سير أعلام النبلاء "22/ 165-173"، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد الجزء الأول، مقدمة روضة الناظر وجنة المناظر للدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة جـ1 ص7-28، مقدمة "المغني" لابن قدامة بقلم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو جـ1 ص5-56.
(1/23)
 
 
1- اسمه ونسبه ونشأته:
هو: أبو محمد، موفق الدين: عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المقدسي، ثم الدمشقي الصالحي.
فأسرته -رحمه الله تعالى- أسرة عريقة، يتصل نسبها إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
ولد -رحمه الله- في شهر شعبان من عام 541هـ الموافق 1146م في إحدى قرى نابلس، ثم رحل -بعد ذلك- إلى "دمشق" فحفظ القرآن، وتلقى العلوم على علمائها، وحفظ بعض المتون، ومنها: "مختصر الخرقي" للإمام: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة "334هـ" وهو مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وهو الذي شرحه ابن قدامة -فيما بعد- وسماه "المغني".
وفي عام 561هـ رحل ابن قدامة إلى "بغداد" وأخذ العلم عن علمائها، وبعد فترة عاد إلى دمشق، ثم إلى "بغداد" مرة ثانية، ثم إلى "مكة المكرمة" فسمع من علمائها وأفاد منهم كثيرًا في جوار البيت الحرام.
وهكذا كانت حياته الأولى، حل وارتحال، في سبيل طلب العلم، حتى وصل إلى المكانة المرموقة بين العلماء.
قال عنه أبو شامة " ... كان إمام عصره في علم العربية والنحو واللغة، ولم أتمكن من الإكثار من مجالسته والتعلم منه؛ لكثرة الزحام عليه"1.
__________
1 الذيل على الروضتين ص141.
(1/24)
 
 
شيوخه:
إن كثرة رحلاته وتنقله بين دمشق، وبغداد، ومكة، جعل شيوخه كثيرين، والحديث عنهم يطول، وليس هذا مجاله، وسوف نكتفي بذكر بعضهم.
أولًا- شيوخه في دمشق:
1- والده -رحمه الله تعالى- أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة "558هـ".
2- أبو المعالي: عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي الدمشقي المتوفى سنة "576هـ".
3- أبو المكارم: عبد الواحد بن محمد بن المسلّم بن هلال الأزدي الدمشقي المتوفى سنة "565هـ".
ثانيًا- شيوخه في بغداد:
1- أحمد بن صالح بن شافع الجيلي البغدادي المتوفى سنة "565هـ".
2- أحمد بن المقرب بن الحسين البغدادي الكرخي المتوفى سنة "563هـ".
ثالثًا- من شيوخه من مكة:
المبارك بن علي البغدادي الحنبلي، المحدث الفقيه، إمام الحنابلة بالحرم الشريف، المتوفى سنة "575هـ"1.
__________
1 انظر في شيوخه: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 133 وما بعدها" سير أعلام النبلاء "22/ 166 وما بعدها".
(1/25)
 
 
تلاميذه:
وكما كان شيوخ "ابن قدامة" كثيرين، فإن تلاميذه كانوا -أيضًا- كثيرين.
فإذا كانت التلمذة -بالمعني العام- تثبت لكل من تلقى عنه وأفاد منه مباشرة، أو عن طريق مؤلفاته، فإن كان الأجيال المتأخرة عنه تعتبر من تلاميذه، ونحن منهم.
وسوف نقتصر على بعض المشهورين من تلاميذه الذين تلقوا عنه مباشرة. فمنهم:
1- تقي الدين أبو العباس: أحمد بن محمد بن عبد الغني المقدسي الصالحي، شيخ الحنابلة في عصره، المتوفى سنة "643هـ".
2- أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المتوفى سنة "665هـ".
3- أبو بكر: محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، قاضي القضاة المعروف بابن العماد المتوفى سنة "676هـ".
4- أبو الفرج: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة "682هـ".
عقيدته:
كان -رحمه الله تعالى- سلفي العقيدة، يسير على منهج أهل السنة والجماعة، ويكره الخوض في طرق المتكلمين؛ لأنها لا توصل إلى يقين، ويحمل صفات الباري -سبحانه وتعالى- على ظاهرها، كما جاءت في الكتاب والسنة، دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، فيثبت ما أثبته الله -تعالى- على وجه لا يعلمه إلا هو سبحانه، عملًا بقوله
(1/26)
 
 
تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
يدل على ذلك ما ذكره -رحمه الله تعالى- في كتبه في مواضع مختلفة:
فمن ذلك ما جاء في كلامه على قضية المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، يقول -رحمه الله- بعد أن أورد آراء العلماء في المراد من المتشابه: "والصحيح: أن المتشابه: ما ورد في صفات الله -سبحانه- مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4 {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5 {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6 ونحوه.
فهذا اتفق السلف -رحمهم الله- على الإقرار به، وإمراره على وجهه، وترك تأويله؛ فإن الله -سبحانه- ذم المتبعين لتأويله وقرنهم -في الذم- بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ7.
يضاف إلى ذلك مؤلفاته في العقيدة، والتي منها:
1- "ذم التأويل" وهي رسالة مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بمطبعة كروستان بمصر عام 1329هـ.
__________
1 سورة الشورى من الآية: 11.
2 سورة طه الآية: 5.
3 سورة المائدة من الآية: 64.
4 سورة "ص" من الآية: 75.
5 سورة الرحمن من الآية: 27.
6 سورة القمر من الآية: 14.
7 انظر: روضة الناظر "1/ 279-280" ط. مكتبة الرشد، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
(1/27)
 
 
2- "لمعة الاعتقاد" وهي رسالة في عقيدة أهل السنة، والجماعة، نسبها إليه "بروكلمان" في تاريخ الأدب العربي1.
3- "رسالة في مسألة العلو" نسبها إليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة2، وإسماعيل باشا في هدية العارفين3.
مذهبه الفقهي:
أما مذهبه الفقهي: فمعروف أنه من أئمة فقهاء الحنابلة، ومؤلفاته المتعددة في فقه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- شاهدة على ذلك، ومنها: "المغني" و"المقنع" و"الكافي".
وإذا كان كتابه "المغني" في الأصل موضوعًا على مذهب الإمام أحمد، فإن العلماء -وبالأخص في الأزهر- يعتبرونه مصدرًا مهمًّا من مصادر الفقه المقارن، ويضعونه بجانب كتاب "المجموع" للإمام النووي، و"بداية المجتهد" لابن رشد.
مكانته وثناء العلماء عليه:
أما مكانة "ابن قدامة" فحدّث ولا حرج، فقد شهد له علماء عصره، ومن بعدهم بالفضل والعلم والأخلاق الكريمة، ولا غرو، فهو شريف النسب، حيث يتصل نسبه إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- كما تقدم.
قال عنه تلميذه أبو شامة:
"كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعَلَمًا من أعلام الدين، في العلم
__________
1 جـ1 ص368.
2 الذيل "2/ 139".
3 جـ1 ص460.
(1/28)
 
 
والعمل، صنف كتبًا حسانًا في الفقه، وغيره، عارفًا بمعاني الآثار والأخبار"1.
وقال عنه الصفدي:
".... كان أوحد زمانه، إمامًا في علم الفقه، والأصول، والخلاف، والفرائض، والنحو، والحساب، والنجوم السيارة والمنازل"2.
وقال عنه ابن الجوزي:
"كان إمامًا في فنون، ولم يكن في زمانه بعد أخيه "أبي عمر" أزهد منه، وكان معرضًا عن الدنيا وأهلها، هينًا لينًا متواضعًا، حسن الأخلاق، جوادًا سخيًّا، ومن رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النور يخرج من وجهه"3.
وهذه شهادة تلميذ من تلاميذه الذين عاصروه وعاشروه عن قرب، وهي شهادة عدل فلا يطعن فيها كونه واحدًا من تلاميذه.
وفاته:
وبعد حياة حافلة بالبذل والعطاء ونشر العلم، تدريسًا وتأليفًا، توفي -رحمه الله تعالى- في يوم السبت غرة شوال عام 620هـ الموافق 1223م.
رحمه الله -تعالى- رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.
__________
1 انظر: الذيل ص140.
2 الوافي بالوفيات "17/ 37".
3 مرآة الزمان "8/ 628".
(1/29)
 
 
مؤلفاته:
مؤلفات "ابن قدامة" كثيرة ومتعددة الاتجاهات، منها ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما يتعلق بالقرآن والسنة، ومنها ما يتعلق بالفقه وأصوله، ومنها ما يتعلق بالآداب وفضائل الصحابة -رضي الله عنهم- ومنها ما يتعلق بالتاريخ والأنساب، إلى غير ذلك من الفنون التي برز فيها "ابن قدامة" وألّف فيها الموسوعات والرسائل، التي أفاد منها طلاب العلم في شتى المعارف المختلفة.
وهذه هي المؤلفات التي وقفت عليها، والتي أوردها فضيلة الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- في دراسته الضافية عن "ابن قدامة وآثاره الأصولية".
أولًا- في العقيدة:
1- الاعتقاد.
2- ذم التأويل.
3- رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار.
4- لمعة الاعتقاد، وهي رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة.
5- رسالة في مسألة العلو.
6- مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكتاب.
7- كتاب القدر.
ثانيًا- في أصول الفقه:
لم أجد -فيما اطلعت عليه- أن له في الأصول سوى "روضة الناظر وجنة المناظر" والذي سوف نتحدث عن منهج المصنف فيه إن شاء الله تعالى.
(1/30)
 
 
ثالثًا- في الفقه:
أما مؤلفات "ابن قدامة" في الفقه، فكثيرة جدًّا، منها ما وقفنا عليه:
1- المغني في شرح مختصر الخرقي.
2 - المقنع.
3 - الكافي.
4 - عمدة الأحكام.
5 - مختصر الهداية لأبي الخطاب.
6 - رسالة في المذاهب الأربعة.
7 - فقه الإمام.
8 - فتاوى ومسائل منثورة.
9 - مقدمة في الفرائض.
10- مناسك الحج.
رابعًا- في الكتاب والسنّة:
1- البرهان في مسألة القرآن.
2- قنعة الأريب في الغريب.
3- مختصر علل الحديث؛ لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال المتوفى سنة "311هـ".
4- مختصر في غريب الحديث.
5- جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن.
خامسًا- في الفضائل والأخلاق:
1- فضائل الصحابة.
2- فضائل العشرة المبشرين بالجنة.
3- فضائل عاشوراء.
(1/31)
 
 
4- كتاب التوابين.
5- كتاب الرقة والبكاء.
6- كتاب الزهد.
7- ذم الوسواس.
8- كتاب المتحابين في الله.
سادسًا- في التاريخ والأنساب:
1- الاستبصار في نسب الأنصار.
2- التبيين في نسب القرشيين.
3- مشيخة شيوخه.
4- مشيخة أخرى.
هذا بالإضافة إلى رسائل أخرى في موضوعات متفرقة1.
__________
1 يراجع في مؤلفاته: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، سير أعلام النبلاء، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، فوات الوفيات لابن شاكر، الوافي بالوفيات للصفدي، مرآة الزمان لابن الجوزي، معجم البلدان لياقوت الحموي، شذرات الذهب لابن العماد، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد، مقدمة روضة الناظر، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
(1/32)
 
 
منهج ابن قدامة:
في كتابه: روضة الناظر وجنة المناظر
1- من المعروف أن "ابن قدامة" حنبلي المذهب، والحنابلة -بصفة عامة- يسيرون على منهج المتكلمين الذي يعنون بتأسيس القواعد وإقامة الأدلة عليها.
والمؤلف سلك نفس المسلك، فيذكر مذاهب العلماء في المسألة مقرونة بأدلتها، ثم يذكر ما يراه راجحًا، مؤيدًا بالبرهان والدليل، ثم يناقش أدلة المخالفين ويبين وجه الخطأ فيما قالوه.
وقد بين -رحمه الله تعالى- منهجه هذا في مقدمة كتابه فقال:
"أما بعد: فهذا كتاب نذكر فيه أصول الفقه، والاختلاف فيه، ودليل كل قول، على وجه الاختصار، والاقتصار من كل قول على المختار، ونبين من ذلك ما نرتضيه، ونجيب على من خالفنا فيه".
فهو بذلك يريد أن يجعل كتابه في "أصول الفقه المقارن" كما فعل ذلك في كتابه "المغني" في الفقه، فهو موضوع أساسًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- لكنه أضاف إليه أقوال بعض المذاهب الأخرى، مقرونة -أحيانا- بأدلتها، ثم يناقش هذه الأدلة ويبين الراجح في النهاية بقوله: "ولنا".
ولذلك يعتبره العلماء من أهم المراجع في الفقه المقارن.
(1/33)
 
 
2- والمؤلف سلك في كتابه "الروضة" مسلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى من علم الأصول" في الجملة، حتى إنه تبعه في إضافة المقدمة المنطقية إلى كتابه، والتي كانت مثار انتقاد له من بعض العلماء، حتى قيل: إنه حذفها فيما بعد من بعض النسخ.
كما تبعه في ترتيب أدلة الأحكام، فجعلها على هذا النحو: كتاب الله -تعالى-، ثم سنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الإجماع، ثم دليل العقل المبقي على النفي الأصلي، ثم في الأدلة المختلف فيها، وأخر القياس وجعله في باب: ما يقتبس من الألفاظ، مخالفًا ما عليه جمهور العلماء من المذاهب الأربعة، حيث يجعلون القياس من الأدلة الأربعة المتفق عليها: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس.
جاء في شرح الكوكب المنير1: "أدلة الفقه المتفق عليها -على ما في بعضها من خلاف ضعيف جدًّا- أربعة:
الأول: الكتاب، وهو القرآن، وهو الأصل.
والثاني: السنة..... وهي مخبرة عن حكم الله تعالى.
والثالث: الإجماع..... وهو مستند إلى الكتاب والسنّة.
والرابع: القياس على الصحيح، وعليه جماهير العلماء.
وقال أبو المعالي وجمع: ليس القياس من الأصول، وتعلقوا بأنه لا يفيد إلا الظن.
قال في شرح التحرير: والحق هو الأول، والثاني ضعيف جدًّا، فإن القياس قد يفيد القطع -كما سيأتي- وإن قلنا: لا يفيد إلا الظن فخبر الواحد ونحوه لا يفيد الظن.
__________
1 الجزء الثاني ص5، 6.
(1/34)
 
 
وهو: أي القياس مستنبط من الثلاثة: التي هي الكتاب والسنة والإجماع".
و"ابن قدامة" وإن كان قد سار على منهج "الغزالي" إلا أنه قد خالفه في بعض المسائل، وفي ترتيب الفصول، وتقديم بعض المباحث وتأخير البعض، كما أنه امتاز عن "المستصفي" بإبراز آراء علماء الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى المتوفى سنة "458هـ"، وأبي حامد: الحسن بن حامد بن علي البغدادي المتوفى "403هـ" والتميمي: عبد العزيز بن الحارث بن أسد المتوفى سنة "371هـ"، وعبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، المعروف بغلام الخلال المتوفى سنة "363هـ"، وعلي بن عقيل بن محمد "ابن عقيل الحنبلي" المتوفى سنة "513هـ"، ومحفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الحنبلي المتوفى سنة "510هـ" وغيرهم من علماء المذهب، فضلًا عن النقل عن إمامهم جميعًا: الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
3- ولما كان الغرض من الكتاب الاختصار والاقتصار على ما هو الراجح -غالبًا- كما جاء في مقدمة الكتاب، فإن المصنف كثيرًا ما يحيل على المسائل المتقدمة التي تشبه المسألة التي يعالجها، ومن أمثلة ذلك:
قوله في باب النهي: "اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر، تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي، وعلى العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير"1 كما أنه -أحيانًا- يضطر إلى إضافة بعض الأشياء في نهاية المسألة، حتى لا تخفى على القارئ بسب الاختصار الذي يختصره من كلام الغزالي.
ففي مسألة الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها
__________
انظر: الروضة "2/ 652" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
(1/35)
 
 
ينقل كلام الإمام الغزالي -باختصار شديد- ثم يقول في ختام المسألة:
" ... العقل لا دخل له في الحظر والإباحة..... وإنما تثبت الأحكام بالسمع.
وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1 وبقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} 2 وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ....} 3 وبقوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... } 4 ونحو ذلك.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "..... وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" "5".
4- كما أن منهجه: أن يوضح حقيقة الخلاف والآراء المنسوبة إلى المذاهب، فقد ينقل الغزالي عن الحنابلة رأيًا معينًا، بينما يكون في المسألة روايات أخرى لم يذكرها، فيوضح ابن قدامة ذلك، ويبين الرواية الراجحة والمرجوحة، ومن أمثلة ذلك: ما جاء في "مسألة الفرض والواجب" وهل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟
يقول الغزالي: "فإن قيل: هل من فرق بين الواجب والفرض؟ قلنا:
__________
1 سورة البقرة من الآية: 29.
2 سورة الأعراف من الآية: 33.
3 سورة الأنعام من الآية: 151.
4 سورة الانعام من الآية: 145.
5 رواه الترمذي في سننه "1726" وابن ماجه "3367" والحاكم في المستدرك "4/ 115" والبيهقي "9/ 320" عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" والمراد بالفراء: حمار الوحش، أو الذي يلبس، وسيأتي الكلام على سند الحديث وما فيه في مسألة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع.
(1/36)
 
 
لا فرق -عندنا- بينهما، بل هما من الألفاظ المترادفة، كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- اصطلحوا على تخصيص اسم "الفرض" بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم "الواجب" بما لا يدرك إلا ظنًا"1.
أما ابن قدامة فيقول: "والفرض هو الواجب -على إحدى الروايتين- لاستواء حدهما، وهو قول الشافعي.
والثانية: الفرض آكد...."2.
فابن قدامة أظهر أن في مذهب الحنابلة روايتين، وقوى الرواية التي توافق مذهب الحنفية من كون الفرض آكد من الواجب، ودلل على ذلك من نصوص علماء اللغة، ثم توصل في النهاية إلى أن الخلاف مبني على الاصطلاح، وهو أمر لا مشاحة فيه.
ولذلك قال في نهاية المسألة: "ولا خلاف في انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعنى".
5- كذلك من منهجه: أنه -غالبًا- ما يبدأ المسألة بذكر المذهب الذي يراه راجحًا، ثم يتبعه برأي المخالفين وأدلتهم، ثم يناقشها، ثم يختم ببيان الأدلة التي تؤيد ما يرجحه، وغالبًا ما ينوع الأدلة التي يوردها مستندًا إلى كلام أهل اللغة، ثم إلى القرآن والسنّة والإجماع والقياس، إن وجد ذلك، وهو في ذلك كله لا يستهين بالرأي المخالف، حتى ولو كان ضعيفًا أو ظاهر البطلان، ولذلك ينقل عن المعتزلة، وأهل الظاهرة، والشيعة، حتى اليهود عنهم، كما جاء في باب النسخ.
وهذا -في الواقع- منهج علمي سليم، يقوم على الحجة والبرهان،
__________
1 المستصفى "1/ 212-213" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.
2 الروضة "1/ 151-152" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
(1/37)
 
 
حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ولا ينخدع بما يزينه المخالفون لمنهج الإسلام، والطعن على أحكامه بأساليب مختلفة.
قيمة الكتاب العلمية ومزاياه:
أ- مما لا شك فيه أن كتاب "روضة الناظر" من أهم الكتب التي ألفت في علم الأصول -بصفة عامة- وفي مذهب الحنابلة -بصفة خاصة- فما من بحث أو كتاب في علم الأصول -من الكتاب المتأخرة عن "ابن قدامة"- إلا وتجده واحدًا من مصادره التي يعتمد عليها ومن أمثلة ذلك:
1- فقد جعله الإمام القرافي المتوفى سنة "684هـ" من مصادره في شرحه لكتاب "المحصول" للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" والمسمى "نفائس الأصول".
2- كما نص الإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة "794هـ" في مقدمة كتابه "البحر المحيط" على أن كتاب "روضة الناظر" من المؤلفات التي اعتمد عليها في كتابه.
3- كذلك الإمام: محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي المتوفى سنة "972هـ" جعله واحدًا من أهم الكتب التي رجع إليها ونقل منها.
وغير هؤلاء كثير ممن يطول الكلام عنهم.
ب- كذلك من المزايا التي تميز بها الإمام ابن قدامة: أنه ليس مجرد ناقل، وإنما له فكره المستقل، ورأيه المستنير الذي لا يرى حجية المسألة تابعة لرأي شخص معين، مهما كانت منزلته، وإنما يعتمد في أقواله وترجيحاته على الدليل الذي لم يتطرق إليه أي احتمال.
__________
1 طبع مؤخرًا ونشر في المكتبة التجارية بمكة المكرمة.
(1/38)
 
 
ولذلك نراه يشتد في مناقشته للإمام الغزالي، ويصف رأيه بأنه خارج عن الإجماع، أو الكتاب في مسألة: إصابة كل مجتهد، أو أن المجتهد يخطئ ويصيب.
قال -رحمه الله تعالى-:
"وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي، وفرض الكلام في مسألتين:
أحدهما: مسألة فيها نص فينظر: فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد في طلبه، فهو مخطئ آثم لتقصيره، وإن لم يكن مقدورًا عليه، لبعد المسافة، وتأخير المبالغة، فليس بحكم في حقه...." إلى أن قال: "وزعم أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف من كل منصف"1.
ويقصد بذلك الإمام الغزالي.
والذي يدل على ذلك ما جاء في المستصفى: ".... والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطّئ المخالف فيه: أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله -تعالى-"2 ثم فرض المسألة في طرفين، كما قال ابن قدامة.
وهذا يدل على أن للرجل رأيًا مستقلًّا، وليس مجرد ناقل.
جـ- ومما يدل على أهمية الكتاب العلمية: اهتمام العلماء بشرحه والتعليق عليه، أو اختصاره، فضلا عن كونه الكتاب الأساس في أغلب المؤسسات التعليمية.
__________
1 روضة الناظر مع شرحه نزهة الخاطر العاطر "2/ 415".
2 المستصفى "2/ 363" المطبعة الأميرية بمصر.
(1/39)
 
 
ويدل على ذلك ما يلي:
1- الإمام نجم الدين: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي المتوفى سنة "716هـ" اختصر كتاب "روضة الناظر" في كتاب سماه "البلبل في أصول الفقه" طبع بمطبعة النور بالرياض عام 1383هـ.
ثم قام بشرح هذا المختصر شرحًا وافيًا، أضاف إليه أمورًا كثيرة من اجتهاداته، ومن أقول العلماء الآخرين، مما جعل لهذا الشرح أهمية بالغة.
وقد حقق هذا الشرح معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي -يحفظه الله- ونشر بمكتبة مؤسسة الرسالة.
2- قام بشرح الكتاب والتعليق عليه الشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران الدمشقي المتوفى سنة "1346هـ-1920م" وسماه "نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر".
وهو ليس شرحًا بالمعنى المعروف، لكنها تعليقات على بعض المسائل التي يصعب فهمها على المبتدئ في علم الأصول، وأغلبها منقول حرفيًّا من شرح الطوفي آنف الذكر.
وقد نبه -رحمه الله تعالى- على ذلك في أول الكتاب فقال: ".... وأخذت بكتابة تعليقات عليه، تقرب ما نأى من المطالب، وتفتح باب تلك الروضة لكل طالب، وتُهديه من ثمراتها، بلا ثمن، وتحرير مسائله تحرير ممارس مؤتمن، مع ترك الواضح منه، وصرف الهمة إلى ما أشكل"1.
3- وقد سلك مسلك "ابن بدران" في التعليق على ما أشكل من
__________
انظر: نزهة الخاطر العاطر "1/ 10" طبعة المعارف بالرياض.
(1/40)
 
 
الكتاب الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي المتوفى سنة "1393هـ".
والظاهر أنه -رحمه الله تعالى- كان يتولى تدريس مادة "أصول الفقه" لطلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إبّان افتتاحها عام 1380هـ وكان الكتاب المقرر هو "روضة الناظر" وأن الطلاب وجدوا صعوبة في فهمه، فوضع هذه التعليقات، وطبعت مستقلة بعنوان "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر للعلامة ابن قدامة رحمه الله".
4- قدم فيه الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- دراسة علمية نال بها درجة "الدكتوراه" من كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، بعنوان "ابن قدامة وآثاره الأصولية" في قسمين:
القسم الأول: خصصه للحديث عن حياة ابن قدامة ونشأته ومراحل تعلّمه، ونسبه الذي أوصله إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- ثم تحدث باستفاضة عن آثار هذا الرجل في المذهب الحنبلي بعامة، وفي أصول الفقه ومنهجه فيه بخاصة.
أما القسم الثاني: فقد خصصه لتحقيق كتاب "روضة الناظر" والتعليق عليه.
وهو عمل جليل أظهر مكانة هذا العالم وأهمية كتاب الروضة، الأمر الذي جعل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تقوم بطبع الكتاب وتوزيعه على طلبة العلم، فجزى الله القائمين عليها خيرًا، وجعل ذلك في صفحات أعمالهم الصالحة.
5- كما حقق الكتاب وقدم له بدراسة وافية فضيلة الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن
(1/41)
 
 
سعود الإسلامية بالرياض -يحفظه الله- ونشرته مكتبة الرشد بالرياض.
والمطالع في هذه الطبعة يلمس الجهد المشكور الذي بذله المحقق في تصحيح النص ومقابلته على النسخ المخطوطة والمطبوعة للكتاب، مع تخريج شواهد الكتاب على أحدث طرق التحقيق، فجزاه الله عن هذا العمل خير الجزاء، ونفع بعلمه وعمله بقدر إخلاصه لله تعالى.
فهذه الأعمال المختلفة، وتلكم الجهود المتكررة حول كتاب "الروضة" خير شاهد على دعوانا: من أن لهذا الكتاب أهمية خاصة، ومكانة مرموقة بين أهل العلم، عبر العصور المختلفة.
وفي تصوري أن هذه العناية بهذا الكتاب بصفة خاصة، دون غيره من الكتب ترجع إلى إخلاص هذا الرجل في عمله، وأنه ما أراد به إلا وجه الله -تعالى- ورضاه.
ولذلك هيأ الله -تعالى- من يقوم بخدمة الكتاب ونشره بين أبناء العلم.
ما يؤخذ على الكتاب:
العمل البشري -دائمًا- يعتريه القصور، ويرد عليه الخطأ والنسيان وما من عمل يعمله الإنسان، ثم ينظر فيه -بعد ذلك- إلا ويجد نفسه قد قصّر في بعض الأمور، كما قال العماد الأصفهاني:
"إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يوم إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
وكتاب "الروضة" وإن كان يعتبر موسوعة علمية في أصول الفقه،
(1/42)
 
 
خاصة في ذكر آراء علماء المذاهب المختلفة، والمقارنة بينها، والاستدلال لكل مذهب، وبيان الراجح منها بالدليل، وإبراز مذهب الحنابلة على وجه الخصوص، إلا أنه يؤخذ عليه ما يلي:
1- أحيانًا يعنون للشئ ولا يذكره، مثل ما جاء في الحكم وأقسامه.
عنون له بقوله: "حقيقة الحكم وأقسامه..... ثم قال: أقسام أحكام التكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور ... ".
فلم يذكر شيئًا عن تعريف الحكم لغة واصطلاحًا، ولا عن تقسيمه إلى حكم تكليفي وحكم وضعي إلى آخر ما هو معروف في هذا المجال.
كما أنه عبر بقوله "واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور" وهو خلاف ما عليه المحققون من العلماء، من أن خطاب التكليف هو: الإيجاب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة.
أما الواجب والمندوب، إلى آخره، فهو فعل المكلف الذي تعلق به الإيجاب أو الندب أو الكراهة أو الحرمة.
والوجوب: هو أثر الخطاب الشرعي، وهو الصفة التي تثبت للفعل.
فهناك فرق بين التعبيرات الثلاثة: الإيجاب، والواجب، والوجوب1.
كما أنه أهمل بعض تقسيمات الواجب، فلم يذكر شيئًا عن الواجب العيني والواجب الكفائي، وما يتعلق بهما من أحكام.
__________
1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243" فواتح الرحموت "1/ 128" تيسير التحرير "2/ 148".
(1/43)
 
 
2- أحيانًا لا يصرح بالمذهب ولا بالقائلين به، وإنما كان يكتفي بعبارة:
"فإن قيل" فيستفاد منها المذهب والقائلون به.
وكثيرًا ما يورد هذه العبارة عند ذكر أدلة المخالفين، الأمر الذي يجعل طالب العلم، أو الباحث يرجع إلى أصل الكتاب، وهو "المستصفى" لمعرفة المقصود بهذه العبارة، أو إلى بعض المراجع الأخرى.
والأمثلة على ذلك لا تخفى على من طالع الكتاب.
3- غالبًا ما تكون عبارة الكتاب غامضة تحتاج إلى شرح وتوضيح.
ومن أسباب هذا الغموض: أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يختصر عبارة "المستصفى" فيحذف عبارة يتوقف عليها فهم المعنى، فيحصل الغموض.
ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في المرتبة الخامسة من مراتب رواية الحديث بالنسبة للصحابة -رضي الله عنهم- وهي: "أن يقول: "كنا نفعل، أو كانوا يفعلون كذا.... ثم قال: مثل قول ابن عمر -رضي الله عنه- كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان، فيبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره".
وأصل الرواية -كما في المستصفى-: "كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول: خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعمر وعثمان ... إلى آخره".
وقال في مثال آخر -في نفس المسألة-: "وقال: -أي: عبد الله بن عمر- كنا نخابر أربعين سنة" وهي في الأصل: كنا نخابر على عهد
(1/44)
 
 
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعده أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج.... الحديث".
ب- في مسألة: إفادة الخبر المتواتر العلم وإن لم يدل عليه دليل آخر، كما هو رأي جمهور العلماء.... حكى رأي "السمنية" في أنهم خالفوا في ذلك وحصروا العلم في الحواس الخمس ... ثم رد عليهم بقوله: "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد، وبلدة تسمى مكة".
والأصل في المستصفى "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها".
ومحل الشاهد هنا في عبارة "وإن لم يدخلها" ومعناه: أن العلم بوجود هذه البلدة لم يتوقف على الحواس عن المشاهدة مثلًا، وإلا لكان موافقا للسمنية في حصر العلم على الحواس، فابن قدامة حذف عبارة "وإن لم يدخلها" ووضع مكانها "وبلدة تسمى مكة" فكرر المثال، وحذف محل الشاهد، ومثل ذلك كثير.
4- أحيانًا يتساهل في نسبة الآراء إلى المذاهب المختلفة، فيقول: يرى الحنفية كذا، بينما هو رأي البعض منهم، أو لا يمثل المذهب.
ومن أمثلة ذلك: ما نقله عن الحنفية في مسألة: تكليف الكفار بفروع الإسلام فقال: "واختلفت الرواية: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟
فروي أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها، مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله، وهذا قول أكثر أصحاب الرأي".
وهذا القول مخالف لما في كتب الحنفية أنفسهم، حيث حكموا
(1/45)
 
 
على هذا الرأي بالشذوذ، وأن الصحيح عندهم أنهم غير مكلفين مطلقا1.
وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى حيث قال: "مسألة: ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلًا حالة الأمر.
بل يتوجه الأمر بالمشروط والشرط، ويكون مأمورًا بتقديم الشرط.
فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الإيمان بالمرسل.
وذهب أهل الرأي إلى إنكار ذلك"2.
5- أحيانًا يورد في المسألة عدة آراء، ويستدل لها، ويترك أهم الآراء فيها فلا يشير إليه.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة دلالة الأمر المطلق، هل يقتضي التكرار أو لا؟
حكى الآراء المختلفة، واستدل لما رآه راجحًا، وأغفل أهم الآراء، وهو: أنه يدل على مجرد تحصيل الماهية، من غير نظر إلى المرة أو التكرار، وهو الرأي الذي رجحه المحققون من علماء الأصول.
6- عدم تحريره لمحل النزاع فكثيرًا ما يطلق القول في المسألة، ويحكم عليها حكمًا عامًّا، مع أنه قد يكون هناك محال اتفاق ومحال خلاف وهذا قد يوقع القارئ في خطأ، وبالأخص المبتدئ.
__________
1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243"، فواتح الرحموت "1/ 128".
2 انظر: المستصفى "1/ 304" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.
(1/46)
 
 
7- وأخيرًا -كما هي عادة أغلب المؤلفين القدامي- لا يذكر عنوانًا لأي مسألة، بل يقول: فصل..... ثم يبدأ مباشرة في نقل الآراء في الموضوع، وهكذا....، بل أحيانًا يجعل المسألة الواحدة في فصلين، فيجعل رأي بعض العلماء فصلا، والبعض الأخر فصلًا مستقلا، الأمر الذي يوهم أنه موضوع مستقل.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة التعبد بخبر الواحد عقلًا، قال: "فصل: وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، والعمل به عمل بالشك، وإقدام على الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل ... " إلى آخر الأدلة التي أوردها لهذا المذهب، ثم بعد أن ناقشها قال: "فصل: وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد؛ لأمور ثلاثة....".
فمع أن الكلام لا يزال موصولًا بموضوع التعبد بخبر الواحد عقلًا، إلا أنه فصل بين الآراء كما هو واضح.
وأقول:
ومع ذلك كله، فإن قيمة الكتاب العلمية لا ينكرها إلا جاهل أو معاند، وهذه الملحوظات التي أشرت إليها، أغلبها راجع إلى اختلاف المنهج بين المتقدمين والمتأخرين.
فالذي سلكه ابن قدامة لا يعتبر غريبًا ولا شاذًّا بمقتضى العصر الذي عاش فيه وكتب له، فهذه كانت طريقتهم التي ألفوها ودرجوا عليها.
وللعصور المتأخرة طريقتهم ومنهجهم الذي يسلكونه، فلا خلاف في المعنى، وإن اختلفت الطرق والسبل التي توصل إليه.
(1/47)
 
 
عملي في الكتاب:
بعد أن شرفت بالعمل في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وتعظيمًا، وأسند إلى تدريس مادة "أصول الفقه" من كتاب "الروضة" لمست مدى الصعوبة التي يواجهها الطلاب في فهم الكتاب، بسبب الملاحظات التي أشرت إليها آنفًا.
فكنت أقرأ عبارة الكتاب أكثر من مرة، وأراجعها على "المستصفى" وأسجل الفوارق التي بينهما -إن وجدت- أو أضيف عبارة يكون تمام المعنى متوقفًا عليها، وقبل ذلك أحرر محل النزاع، ثم أدخل المحاضرة وأقول لأبنائي الطلبة: درس اليوم في الموضوع الفلاني، والذي يحتوي على العناصر الآتية.... ثم أشرحها شرحًا وافيًا، ثم أقول لهم: تعالوا نستخرج ذلك من الكتاب، فكان البعض منهم يستغرب ذلك في أول الأمر، ويقول: أين تحرير محل النزاع في الكتاب، ولم يذكره المصنف، فأقول لهم: إن المصنف قد ذكره، لكن بطريق الإشارة، وليس بصريح العبارة.
ومن أمثلة ذلك قوله في باب الأوامر: "الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين".
فقوله: "الأمر المطلق" فيه إشارة إلى أن الأمر المقيد بمرة واحدة، أو مرات لا يدخل تحت موضوع المسألة، فهذا تحرير لمحل النزاع وإن لم يصرح به.
ولما وجدتني أسجل في كل مسألة بعض الملاحظات، أو أضطر إلى توضيح عبارة الكتاب بأسلوب مبسط، استخرت الله -تعالى- في أن يتم ذلك على الكتاب كله -إن شاء الله تعالى- وتمثل ذلك في:
1- توضيح ما هو غامض من عبارات الكتاب، إما توضيح كلمة
(1/48)
 
 
بكلمة، إن كانت لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، وإما تلخيص لمجمل كلام المصنف في فصل كامل، أو أدلة لمذهب، بحيث أشير إلى بدايات الأدلة للمذهب الفلاني، وإلى بداية الرد على المذهب المخالف وهكذا، بحيث إذا تعذر على الطالب فهم ما يريده المصنف، وجد في الهامش ما يبين له المراد بأسلوب مبسط.
2- إضافة الموضوعات التي يتركها المصنف، وهي من لب الموضوع المتحدث عنه، كتعريف الحكم وبيان أقسامه، والفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وتقسيم الواجب إلى عيني وكفائي وما أشبه ذلك.
3- تصحيح النص -على قدر الإمكان- ومراجعته على "المستصفى" فإذا وجدت عبارة حذفها المصنف، والمقام يحتاج إليها أضفتها بين معقوفين وأشرت إلى ذلك في الهامش.
وأحيانًا أصحح العبارة من كتب أخرى، كالعدة لأبي يعلى، والتمهيد لأبي الخطاب، وغيرهما، إلا أن ذلك يكون في الهامش.
5- خرجت شواهد الكتاب المختلفة، من عزو الآيات القرآنية إلى سورها، وتخريج الأحاديث النبوية والآثار المختلفة، مع الحكم عليها، والتعريف بالأعلام والفرق، ونسبة الأبيات الشعرية إلى قائليها، وإذا كانت هناك مسائل تحتاج إلى زيادة شرح وبسط، أحلت القارئ إلى المصادر التي يمكن الاستفادة منها.
5- ولما كان..... لا يضع عناوين لموضوعات الكتاب، فإني قد وضعت عناوين لجزئيات المسائل، وذلك لسائر الفصول، إعانة للطالب والباحث على استخراج ما يريده بأيسر الطرق.
(1/49)
 
 
وحتى يتضح أن هذه العناوين ليست من عمل المؤلف، وضعتها بين معقوفين، كما هو المتبع في قواعد التأليف والتحقيق.
وقد اعتمدت في نسخ الكتاب على النسخة التي عليها تعليقات الشيخ عبد القادر بن مصطفى بدران، وإذا كان هناك خطأ صححته من نسختي: الدكتور عبد العزيز بن عثمان السعيد، والدكتور عبد الكريم النملة -يحفظهما الله-، أو من المستصفى، وأشرت إلى ذلك في الهامش.
وأسأل الله -تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به على قدر إخلاصي فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم.
شعبان بن محمد إسماعيل
مكة المكرمة، المحرم 1416هـ.
(1/50)
 
 
مقدمة المجلد الأول
مدخل
...
روضة الناظر وجنة المناظر
بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علمًا وفهمًا
الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، الحكيم الخبير، الذي جلّ عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والوزير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
وصلى الله على رسوله محمد البشير النذير، السراج المنير، المخصوص بالمقام المحمود2، والحوض المورود3، في اليوم العبوس القمطرير4، وعلى آله وأصحابه الأطهار النجباء الأخيار، وأهل
__________
1 سورة الشورى من الآية: 11.
2 المقام المحمود: هو الذي يحمده فيه الخلائق لتعجيل الحساب من هول الموقف يوم المحشر العظيم، حيث يشفع -صلى الله عليه وسلم- للخلق بعد أن يتأخر عنها أولو العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- حتى تنتهي إليه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أنا لها". انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص200 وما بعدها، النسخة التي صححها وعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
3 الحوض المورود: هو الحوض الذي أكرم الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ترد عليه الخلائق بعد الحساب، وهو المراد بالكوثر في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} على رأي بعض المفسرين، فضلًا عن ثبوته بالأحاديث الصحيحة.
4 اليوم العبوس: أي الشديد، والقمطرير: أي الشديد العبوس، أو الشديد العسر، =
(1/51)
 
 
بيته الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وخصهم بالتطهير، وعلى التابعين لهم بإحسان، والمقتدين بهم في كل زمان.
أما بعد1.
فهذا الكتاب نذكر فيه "أصول الفقه" والاختلاف فيه، ودليل كل قول على المختار، ونبيّن من ذلك ما نرتضيه، ونجيب [على] من خالفنا فيه.
بدأنا بمقدمة لطيفة في أوله، ثم أتبعناها ثمانية أبواب:
الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه.
الثاني: في تفصيل الأصول، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب.
الثالث: في بيان الأصول المختلف فيها.
الرابع: في تقاسيم الكلام والأسماء.
الخامس: في الأمر والنهي، والعموم، والاستثناء، والشرط، وما يقتبس من الألفاظ، من إشارتها وإيمائها.
السادس: في "القياس" الذي هو فرع للأصول.
__________
= نسأل الله -تعالى- اللطف في هذا الموقف وما بعده.
1 عبارة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، خاصة بعد حمد الله تعالى وغيره مما يبتدأ به كالبسملة، ولا تقع مبتدأة، ولا بد من مجيء الفاء بعدها؛ لأن "أما" لا عمل لها، فتفصل الكلام بعضه عن بعض، فتأتي الفاء لتصله. ومعنى العبارة: مهما يكن من شيء. وأول من قالها: "قس بن ساعدة" وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بها في خطبه. انظر: "الأوائل لأبي هلال العسكري ص53، فتح الرحمن للشيخ زكريا الأنصاري ص8".
(1/52)
 
 
السابع: في حكم "المجتهد" الذي يستثمر الحكم من هذه الأدلة، و"المقلد".
الثامن: في ترجيحات الأدلة المتعارضة.
ونسأل الله -تعالى- أن يعيننا فيما نبتغيه، ويوفقنا في جميع الأحوال لما يرضيه، ويجعل عملنا صالحًا، ويجعله لوجهه خالصًا، بمنّه ورحمته.
[معنى الفقه والأصول]
واعلم أنك لا تعلم معنى "أصول الفقه" قبل معرفة معنى "الفقه".
والفقه في أصل الوضع1: الفهم. قال الله تعالى: -إخبارًا عن موسى عليه السلام-: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} 2.
__________
1 المراد بالوضع: ما وضعه أهل اللغة، إذ عادة الأصوليين والفقهاء أنهم إذا أرادوا بيان لفظ بينوه من جهة اللغة والشرع، فيذكرون المعنى اللغوي أولًا، ثم يذكرون المعنى الشرعي، ويوضحون هل الشرع وضع لحقائقه الشرعية أسماء بإزائها وضعًا استقلاليًّا جديدًا خارجًا عن وضع أهل اللغة، أو أنه أبقى الموضوعات اللغوية على حالها، وزاد فيها شرعًا شروطًا وأفعالًا أخر؟
مثاله: أنه سمى الصلاة الشرعية صلاة، لاشتمالها على الصلاة اللغوية وهي الدعاء، لكن اشترط لها في الشرع شروطها الستة، وأركانها الثلاثة عشر، وكذلك سمي الصوم الشرعي صومًا لاشتماله على الصوم اللغوي، وهو الإمساك وزاد النية، وقدّر وقته "انظر: شرح مختصر الروضة 1/ 129".
2 سورة طه الآيتان: 27، 28.
والذي قاله المصنف في معنى "الفقه" لغة هو الراجح، وهناك من قال: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، أو هو: فهم الأشياء الدقيقة، لكن الذي تؤيده الآيات القرآنية المتعددة ونصوص علماء اللغة هو الرأي الأول. انظر: "لسان العرب 13/ 522، الحدود للباجي ص36".
(1/53)
 
 
وفي عرف الفقهاء: العلم بأحكام الأفعال الشرعية، كالحل والحرمة، والصحة والفساد ونحوها1.
فلا يطلق اسم "الفقيه" على متكلم، ولا محدّث، ولا مفسر، ولا نحوي2.
وأصول الفقه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل3 فإن الخلاف يشتمل على أدلة الفقه، لكن من حيث التفصيل،
__________
1 كان الفقه في الصدر الأول يطلق على كل ما يفهم من الكتاب والسنة وما يلحق بهما، ولذلك كانوا يعرفونه بأنه "معرفة النفس ما لها وما عليها" وهو ما يفهم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".
وبعد تمايز العلوم أصبح الفقه يطلق على الأحكام الشرعية العملية.
والتعريف الذي ذكره المصنف للفقه هو تعريف ابن الحاجب في مختصره، إلا أن المصنف كعادته -غالبًا- لم يكمل التعريف الذي نقله عن ابن الحاجب، ولذلك استدرك عليه الطوفي فعرفه بقوله: ".... العلم بالأحكام الشرعية، الفرعية، عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال" انظر: "بيان المختصر 1/ 18، شرح مختصر الطوفي 1/ 333".
2 هذا ما يسميه العلماء: إخراج المحترزات.
3 ما ذكره المصنف من تعريف "أصول الفقه" من أنه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة. هو أحد التعريفات الاصطلاحية، وهناك تعريفات أخرى نذكرها بعد ذكر المعنى اللغوي لكلمة "أصول".
فالأصول: جمع أصل. والأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، أو هو: ما يستند إليه الشيء، أو هو المحتاج إليه، أو هو: ما يتفرع عليه غيره.
وفي اصطلاح الأصوليين: يطلق على الدليل، وعلى الراجح، وعلى القاعدة، المستمرة كما يطلق على المقيس عليه.
أما معناه الاصطلاحي بعد أن صار علَمًا على هذا الفن، فإن العلماء مختلفون في تعريفه بناء على اختلافهم في موضوع "أصول الفقه" هل هو الأدلة -كما قال ابن قدامة-، أو هو الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة، أو =
(1/54)
 
 
كدلالة حديث خاص على مسألة "النكاح بلا ولي"1.
والأصول لا يتعرض فيها لآحاد المسائل، إلا على طريق ضرب المثال، كقولنا: الأمر يقتضي الوجوب ونحوه.
فبهذا يخالف أصول الفقه فروعه2.
ونظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية، والمقصود: اقتباس الأحكام من الأدلة.
__________
= هو الأدلة والأحكام، أو هو الأدلة والترجيح والاجتهاد. فمن قال برأي من هذه الآراء عرّف الأصول بتعريف يشتمل على ما يرى، والذي نراه راجحًا من هذه الآراء هو ما ذهب إليه الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه من أن أصول الفقه عبارة عن الأدلة، والكيفية التي تستخرج بها الأحكام من الأدلة، والمجتهد الذي يستطيع إخراج الأحكام، من الأدلة وهو ما عبر عنه البيضاوي بقوله: "أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد". وعلى ذلك تكون الأحكام الشرعية هي الثمرة والنتيجة لعلم الأصول، ولذلك جعلها البيضاوي من المقدمات.
1 حديث "لا نكاح إلا بولي" أخرجه أبو داود: كتاب النكاح، باب في الولي حديث "2085"، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء: لا نكاح إلا بولي، حديث "1101"، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي حديث "1881"، والإمام أحمد في المسند "4/ 394، 411، 418" كما رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري.
قال الحاكم: "فقد استدللنا بالروايات الصحيحة وبأقاويل أئمة هذا العلم على صحة حديث أبي موسى بما فيه غنية لمن تأمله" انظر: تلخيص الحبير "3/ 162"، نصب الراية "3/ 183، 190".
2 مراده بذلك: أن الأصولي يبحث في الأدلة بطريق الإجمال، كما في: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، والفقيه يبحث في الأدلة الشرعية من حيث التفصيل، وهو ما يسمى بالدليل التفصيلي، فيقول -مثلا-: الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا =
(1/55)
 
 
المقدمة1:
اعلم أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان؛ وذلك لأن إدراك العلوم على ضربين:
إدراك الذوات المفردة، كعلمك بمعنى العالَم، والحادث، والقديم.
والثاني: إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض، نفيًا وإثباتًا.
فإنك تعلم أولًا معنى: العالَم، والحادث، والقديم، مفردة، ثم تنسب مفردًا إلى مفرد، فتنسب الحادث إلى العالم بالإثبات، فتقول: العالم حادث، وتنسب القديم إليه بالنفي، فتقول: العالم ليس بقديم.
والضرب الأول: يستحيل التصديق والتكذيب فيه، إذ لا يتطرق إلا
__________
الصَّلاةَ} فهذا أمر، والأمر المطلق يدل على الوجوب، ما لم يصرفه عن ذلك قرينة من القرائن، فتكون الصلاة واجبة، فالفقيه يرجع إلى نصوص القرآن والسنة في ضوء القواعد والأسس التي يضعها الأصوليون.
1 هذه هي المقدمة المنطقية التي وعد بها المصنف في بداية الكتاب، وعلم المنطق يسميه بعض العلماء: فن الميزان، وتارة بفن النظر، وبكتاب الجدل.
ومعنى الإدراك: الإحاطة بماهية الشيء، بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، بمعنى إدراك حقائق الأشياء مجردة عن الأحكام، وهو ما يسمى بالتصور، لأخذه من الصورة، لحصول صورة الشيء في الذهن.
أما الضرب الثاني: وهو النسبة بين المفردات، فيسمى تصديقًا؛ لأن فيه حكمًا يصدق فيه أو يكذب.
فالتصديق يتضمن ثلاثة تصورات: تصور المحكوم عليه، والمحكوم به، ثم تصور نسبة أحدهما للآخر. والحكم يعتبر تصورًا رابعًا، انظر "إيضاح المبهم للدمنهوري ص6، شرح الكوكب المنير جـ1 ص58، 59".
(1/56)
 
 
إلى خبر وأقل ما يتركب منه الخبر مفردان.
والضرب الثاني: يتطرق إليه التصديق والتكذيب.
وقد سمى قوم الضرب الأول تصوّرًا، والثاني تصديقًا وسمى آخرون الأول. معرفة، والثاني علمًا.
وسمى النحويون الأول: مفردًا والثاني جملة.
وينبغي أن يعرف البسيط قبل مركبه1، فإن من لا يعرف المفرد كيف يعرف المركب، ومن لا يعرف معنى "العالَم" و"الحادث" كيف يعرف أن "العالم حادث"؟
ومعرفة المفردات قسمان:
أوّلي: وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب، كالموجود، والشيء.
ومطلوب: وهو الذي يدل اسمه على أمر جُملي غير مفصّل.
والثاني: قسمان أيضًا:
أولي: كالضروريات.
ومطلوب: كالنظريات2.
__________
1 يقصد بالبسيط: المفرد، وهو التصور، وبالمركب: التصديق.
2 خلاصة هذه التقسيمات: أن كلًّا من التصور والتصديق ضروري ونظري:
فالنظري: ما احتاج للتأمل والنظر، والضروري: ما لا يحتاج إلى ذلك. فمثال التصور الضروري: إدراك معنى: البياض، والحرارة، والصوت. ومثال التصور النظري: إدراك معنى: العقل، والجوهر الفرد، والجاذبية. ومثال التصديق الضروري: إدراك وقوع النسبة في قولنا: "الواحد نصف الاثنين" =
(1/57)
 
 
فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص1 إلا بالحد.
والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان.
فلذلك قلنا: مدارك العقول تنحصر فيهما.
__________
= و"النار محرقة" ومثال التصديق النظري: إدراك وقوع النسبة في قولنا: "الواحد نصف سدس الإثني عشر". انظر "إيضاح المبهم ص6".
1 القنص: الصيد جاء في القاموس المحيط فصل القاف، باب الصاد: "..... وقنصه يقنصه صاده" فهو هنا مجاز عما يصاد من المعاني، لأنه يحتاج إلى بحث ونظر، سواء أكان من التصورات أم من التصديقات.
2 المصنف -كعادته غالبًا- يبدأ بالتقسيم، ثم يذكر التعريف آخر الفصل، كما فعل هنا، فقد ذكر تعريف الحد بعد هذه التقسيمات وهو مسلك فيه نظر. =
(1/58)
 
 
فصل: "في أقسام الحد"
والحد ينقسم ثلاثة أقسام: حقيقي، ورسمي، ولفظي2.
[الحد الحقيقي، وشروطه]
فالحقيقي: هو القول الدال على ماهية الشيء.
والماهية: ما يصلح جوابًا للسؤال بصيغة "ما هو".
فإنّ صيغ السؤال التي تتعلق بأمهات المطالب أربعة:
أحدها: "هل" يطلب بها إما أصل الوجود، وإما صفته.
والثاني: "لِمَ" سؤال عن العلة، جوابه بالبرهان.
والثالث: "أيّ" يطلب بها تمييز ما عرف جملته.
(1/58)
 
 
والرابع: "ما" وجوابه بالحد.
وسائر صيغ السؤال كمتى، وأيان، وأين، يدخل في مطلب "هل"؛
__________
= والحد في اللغة: المنع، ومنه سمي البواب حدادًا، لأنه يمنع من دخول الدار، ومنه الحدود الشرعية، لأنها تمنع من العود إلى المعصية، وسمي التعريف حدًّا؛ لأنه يمنع غير أفراد المعرف من الدخول، كما يمنع أفراد المعرف من الخروج. "القاموس المحيط 1/ 296، مفرادات الراغب الأصفهاني ص108".
وفي الاصطلاح: هو الوصف المحيط بمعنى الموصوف المميز له عن غيره وله تعريفات أخرى كثيرة انظر: المستصفي 1/ 12، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب1/ 68، شرح الكوكب المنير 1/ 89 وما بعدها.
ووجه انحصار الحد في هذه الثلاثة: أن الحد إما أن يكون بحسب المعنى أو بحسب اللفظ، فإن كان بحسب اللفظ فهو الحد اللفظي.
وإن كان بحسب المعنى، فإن اشتمل على جميع الذاتيات فهو الحقيقي، وإن لم يشتمل على ذلك فهو الرسمي.
ومن العلماء من جعلها خمسة:
1- حقيقي تام، وهو: ما أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة، كقولك: ما الانسان؟ فيقال: حيوان ناطق.
2- حقيقي ناقص: وهو ما كان بالفصل القريب فقط، مثل: قولنا: ما الإنسان؟ فيقال: الناطق، أو بالفصل القريب والجنس البعيد، مثل: أن يقال: ما الإنسان؟ فيقال: جسم ناطق.
3- رسمي تام: وهو ما كان بالخاصة مع الجنس القريب، كأن يقال: ما الإنسان؟ فيقال: حيوان ضاحك.
4- رسمي ناقص: وهو ما كان بالخاصة فقط، أو مع الجنس البعيد.
5- الحد اللفظي: وهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه، كما سيأتي تمثيل المصنف له. انظر: "تحرير القواعد المنطقية ص79، شرح تنقيح الفصول ص13، شرح الكوكب المنير 1/ 92-95".
(1/59)
 
 
إذ المطلوب به صفة الوجود.
والكيفية: ما يصلح جوابًا للسؤال بكيف؟
والماهية تتركب من الصفات الذاتية.
والذاتي1: كل وصف يدخل في حقيقة الشيء دخولًا لا يتصور فهم معناه بدون فهمه، كالجسمية للفرس، واللونية للسواد، إذ من فهم "الفرس" فهم جسمًا مخصوصًا، فالجسمية داخلة في ذات الفرسية، دخولًا به قوامها في الوجود، والعقل لو قدَّر عدمها بطل وجود الفرس، ولو خرجت عن الذهن بطل فهم الفرس.
والوصف اللازم: ما لا يفارق الذات، لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه، كالظل للفرس عند طلوع الشمس، فإنه لازم غير ذاتي؛ إذ فهم حقيقة الفرس غير موقوف على فهمه، وكون الفرس مخلوقة، أو موجودة، أو طويلة، أو قصيرة، كلها لازمة لها غير ذاتية، فإنك تفهم حقيقة الشيء وإن لم تعلم وجوده.
وأما الوصف العارض: فيما ليس من ضرورته أن يلازم، بل تتصور مفارقته، إما سريعًا كحمرة الخجل، أو بطيئًا كصفرة الذهب.
والصبا، والكهولة2 والشيخوخة، أوصاف عرضية؛ إذ لا يقف فهم الحقيقة على فهمها، وتتصور مفارقتها.
__________
1 صفات الأشياء: ثلاثة: صفات ذاتية، وهي التي تعتبر جزءًا من حقيقة الشيء، وصفات لازمة للموصوف لا تنفك عنه، وتسمى "تابعًا" وصفات عارضة، تلحق الموصوف في بعض الأحيان، وتفارقه في البعض الآخر، والمصنف -رحمه الله تعالى- بدأ يعرّف بهذه الصفات الثلاثة ويفرق بينها، ويذكر أمثلة لكل واحدة على حدة.
2 اختلف العلماء في تحديد سن الكهولة على أقوال كثيرة، أصحها -من وجهة =
(1/60)
 
 
[تقسيم الأوصاف الذاتية]
ثم الأوصاف الذاتية تنقسم إلى جنس وفصل:
فالجنس: هو الذاتي المشترك بين شيئين فصاعدًا مختلفين بالحقيقة.
ثم هو منقسم إلى عام، لا أعم منه، كالجوهر1، ينقسم إلى جسم وغير جسم.
والجسم ينقسم إلى نام وغيره.
والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره.
والحيوان ينقسم إلى آدمي وغيره.
وإلى خاص، لا أخص منه، كالإنسان.
ولا عم من الجوهر إلا الموجود، وليس بذاتي2.
__________
= نظري- أنه من جاوز الثلاثين، وحدده بعض العلماء بثلاثة وثلاثين سنة. وهو ما وصف الله به عيسى عليه السلام في قوله تعالىٍ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا......} [سورة آل عمران الآية: 46] وانظر تفسير القرطبي جـ2 ص90 وما ذكره المصنف من مراحل العمر المختلفة أمثلة على الأوصاف العرضية البطيئة الزوال.
1 جوهر الشيء: ما خلقت عليه جبلته، ومن الأحجار: كل شيء يستخرج منه شيء ينتفع به، والنفيس الذي تتخذ منه الفصوص ونحوها. وعند المناطقة: ما قام بنفسه، ويقابله العَرَض، وهو ما يقوم بغيره. انظر تفصيل ذلك في التعريفات للجرجاني ص79.
2 سبق أن قلنا: إن الجوهر ما قام بنفسه، ولما قال المصنف: بأن الجوهر عام، لا أعم منه، استشعر اعتراضًا عليه مضمونه: كيف يكون كذلك، وكونه موجودًا أعم منه؟ فأجاب بقوله: "ليس بذاتي" أي: أنه يعني الأعم الذي هو ذاتي =
(1/61)
 
 
ولا أخص من الإنسان إلا الأحوال العرضية، من الطول، والقصر، والشيخوخة ونحوها.
والفصل: ما يفصله عن غيره، ويميزه به، كالإحساس في الحيوان، فإنه يشارك الأجسام في الجسمية، والإحساس يفصله عن غيره.
[شروط الحد]
فيشترط في الحد: أن يذكر الجنس والفصل معًا.
وينبغي أن يذكر الجنس القريب، ليكون أدل على الماهية، فأنك إن اقتصرت على ذكر البعيد بعدت، وإن ذكرت القريب معه كررت، فلا تقل -في حد الآدمي-: "جسم ناطق" بل حيوان ناطق، وقل -في حد الخمر- "شراب مسكر" ولا تقل "جسم مسكر".
ثم ينبغي أن يقدم ذكر الجنس على الفصل، فلا تقل -في حد الخمر-: "مسكر شراب"، بل العكس. وهذا لو ترك لشوّش النظم، ولم يخرج عن الحقيقة.
وإذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكر جميعها؛ ليحصل بيان الماهية.
وينبغي أن يفصل بالذاتيات، ليكون الحد حقيقيًّا، فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم، لكي يصير رسميًّا، وأكثر الحدود رسمية، لعسر درك الذاتيات1.
__________
= وداخل في حقيقة المحدود وماهيته، بخلاف "الموجود" فإنه خارج عن الماهية، وبذلك ينتفي الاعتراض المتوهم.
1 يقصد من ذلك: أن أكثر التعريفات أو الحدود التي تذكر في الكتب من قبيل =
(1/62)
 
 
واحترزْ من إضافة الفصل إلى الجنس، فلا تقل في حد الخمر: "مسكر الشراب" فيصير الحد لفظيًّا غير حقيقي.
وأبعد من هذا: أن تجعل مكان الجنس شيئًا كان وزال، فتقول في الرماد: "خشب محترق" فإن الرماد ليس بخشب1.
[الحد الرسمي وشروطه]
وأما الحد الرسمي: فهو اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة، بحيث يطرد وينعكس، كقوله، -في حد الخمر-: "مائع يقذف
__________
= الحد بالرسم، وهو: كما سيأتي في صلب الكتاب: اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة.
أما الحد الحقيقي -كما سبق تعريفه- فعسير جدًّا، فإن إدراك جميع الذاتيات ليس بالأمر الهين، ولذلك يلجأ كثير من العلماء إلى الحد بالرسم.
1 إلى هنا انتهى المصنف من ذكر شروط الحد الحقيقي، وهي سبعة:
الأول: الجمع بين الجنس والفصل معًا.
الثاني: أن يذكر في الحد الجنس القريب إن وجد.
الثالث: أن تذكر جميع الذاتيات مرتبة، بحيث يبدأ بالجنس ثم بالفصل.
الرابع: إذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكرها جميعها.
الخامس: أن تفصل بالذاتيات دون العرضيات، إلا إذا تعذر ذلك، فإنه يلجأ إلى اللوازم.
السادس: عدم إضافة الفصل إلى الجنس.
السابع: عدم استبدال الجنس بشيء مضى.
وهناك شروط أخرى ذكرها بعض العلماء: كأن يكون مطردًا، وأن لا يكون مشتملًا على مجاز أو اشتراك الخ. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 68، شرح تنقيح الفصول ص4، تحرير القواعد المنطقية ص78.
(1/63)
 
 
بالزبد، يستحيل إلى الحموضة، ويحفظ في الدَّن"1. تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر، بحيث لا يخرج منه خمر، ولا يدخل فيه غير خمر.
واجتهد أن يكون من اللوازم الظاهر المعروفة.
ولا يحد الشيء بأخفى منه.
ولا بمثله في الخفاء.
ولا تحد شيئًا بنفي ضده، فتقول في الزوج: "ما ليس بفرد" وفي الفرد: "ما ليس بزوج" فيدور الأمر، ولا يحصل بيان.
واجتهد في الإيجاز -ما استطعت- فإن احتجت فاط