شرح التلويح على التوضيح 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: شرح التلويح على التوضيح
المؤلف: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (المتوفى: 793هـ)
عدد الأجزاء: 2
 
أَوْ اخْتَلَفَا فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَهْرُ الْمِثْلِ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بُطْلَانُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَعَدَمِ الْحُضُورِ فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَكَذَا فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي جِنْسٍ فِي الْمَهْرِ لَكِنَّ الْمُوَاضَعَةَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَلْفُ دَاخِلٌ فِي الْمُسَمَّى وَهُوَ الْأَلْفَانِ أَمَّا فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي الْجِنْسِ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمَّا بَطَلَ الْمُسَمَّى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُسَمَّى وَعِنْدَهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا كَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ عَمْدٍ سَوَاءٌ هَزَلَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ فَفِي الْإِعْرَاضِ يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْمَالُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ فَاللَّازِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بُطْلَانُ الْمُسَمَّى عَمَلًا بِالْهَزْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْمَهْرُ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَلَمَّا بَطَلَ الْمُسَمَّى لَزِمَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ الْمُسَمَّى قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا اللَّازِمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا مِنْ تَرْجِيحِ الْمُوَاضَعَةِ بِالسَّبْقِ وَالْعَادَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْمُسَمَّى لِرُجْحَانِ الْمُوَاضَعَةِ، وَعَدَمِ ثُبُوتِ الْمَالِ بِالْهَزْلِ، وَلَا الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، فَيَلْزَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(قَوْلُهُ: وَمِنْهُ) أَيْ: مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مَا يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِدُونِ الذِّكْرِ كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفٌ أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ فَفِي صُورَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى أَنَّ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَجِبُ الْمَالُ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِتَرْجِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمَرْأَةِ شَرْطٌ لِلْيَمِينِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّكِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَتْ: قَبِلْت فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُ الْمَالُ، وَعِنْدَهُ إنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ بَطَلَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَجَازَتْ أَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ لَازِمٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ فَمَسْأَلَةُ الْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرُ لِلْهَزْلِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت
(2/378)
 
 
وَكَذَا فِي الِاخْتِلَافِ وَعَدَمِ الْحُضُورِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِتَرْجِيحِ الْإِيجَابِ) أَيْ: تَرْجِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْخِيَارِ) فَإِنَّهُ إذَا شُرِطَ فِي الْخُلْعِ الْخِيَارُ لَهَا فَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ (وَكَذَا فِي الْبِنَاءِ عِنْدَهُمَا عَلَى أَنَّ الْمَالَ يَلْزَمُ تَبَعًا) اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ فِي الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ عَمْدٍ يَجِبُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَالْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَجِبُ الْمَالُ ضِمْنًا لَا قَصْدًا فَلَا يُؤَثِّرُ الْهَزْلُ فِي وُجُوبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْهَزْلُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّصَرُّفِ كَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِهِ إلَّا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَالِ حَتَّى لَمْ يَثْبُتْ بِالْهَزْلِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فِي ضِمْنِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِيهِ، وَالشُّرُوطُ اتِّبَاعٌ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا، وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا، وَالتَّبَعِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا تُنَافِي كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالذِّكْرِ، فَإِنْ قُلْت الْمَالُ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا تَبَعٌ، وَقَدْ أَثَّرَ الْهَزْلُ فِيهِ. قُلْت تَبَعِيَّتُهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَتْ فِي حَقِّ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِلُّ، وَالتَّنَاسُلُ لَا الْمَالُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَصَالَةَ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ بِدُونِ الذِّكْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى مَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهَا.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ) أَيْ: طَلَبُ الشُّفْعَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ مُوَاثَبَةٍ، بِأَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَهَا حَتَّى تَبْطُلَ بِالتَّأْخِيرِ أَوْ طَلَبَ تَقْرِيرٍ بِأَنْ يَنْتَهِضَ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَيُشْهِدَ، وَيَقُولَ: إنِّي طَلَبْت الشُّفْعَةَ، وَأَطْلُبُهَا الْآنَ أَوْ طَلَبَ خُصُومَةٍ بِأَنْ يَقُومَ بِالْأَخْذِ، وَالتَّمَلُّكِ فَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ قَبْلَ الْمُوَاثَبَةِ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ، وَبَعْدَهُ يُبْطِلُ التَّسْلِيمَ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ لِكَوْنِهِ اسْتِبْقَاءَ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا بِالْحُكْمِ وَكُلٌّ مِنْ الْخِيَارِ وَالْهَزْلِ يَمْنَعُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، فَيَبْطُلُ بِهِ التَّسْلِيمُ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا الْإِبْرَاءُ) أَيْ: إبْرَاءُ الْغَرِيمِ أَوْ الْكَفِيلِ يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْإِخْبَارَاتُ فَيُبْطِلُهَا الْهَزْلُ) سَوَاءٌ كَانَتْ إخْبَارًا عَمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ إخْبَارًا شَرْعًا وَلُغَةً كَمَا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِأَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا أَوْ بِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ بِكَذَا أَوْ لُغَةً فَقَطْ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِأَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ كَذَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ أَيْ: تَحَقَّقَ الْحُكْمُ الَّذِي صَارَ الْخَبَرُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِعْلَامًا بِثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالْهَزْلُ يُنَافِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَكَمَا أَنَّهُ
(2/379)
 
 
الْمَالِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ عَلَى مَشِيئَتِهَا وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ فَقَبْلَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يَكُونُ كَالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْهَزْلِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ فَتُطْلَبُ الشُّفْعَةُ، وَبَعْدَهُ التَّسْلِيمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِالْخِيَارِ) حَتَّى لَوْ قَالَ: سَلَّمْت الشُّفْعَةَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَبْطُلُ التَّسْلِيمُ وَيَكُونُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ بَاقِيًا (وَكَذَا الْإِبْرَاءُ) أَيْ: يَبْطُلُ إبْرَاءُ الْغَرِيمِ هَازِلًا كَمَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ (وَأَمَّا الْإِخْبَارَاتُ فَالْهَزْلُ يُبْطِلُهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَلَا يُرَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا بَاطِلٌ فَكَذَا هَازِلًا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَالْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ، فَيَكُونُ مُرْتَدًّا بِعَيْنِ الْهَزْلِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ) أَيْ: لَيْسَ كُفْرُهُ بِسَبَبِ مَا هَزَلَ بِهِ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَعْنَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا هَازِلًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ مَعْنَاهَا بَلْ كُفْرُهُ بِعَيْنِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا كَذَلِكَ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِهِمَا هَازِلًا؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ دَلِيلُ الْكَذِبِ كَالْإِكْرَاهِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ شَيْئًا مُنْعَقِدًا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ، وَالْبُطْلَانُ بِالْإِجَازَةِ لَا يُصَيِّرُ الْكَذِبَ صِدْقًا، وَهَذَا بِخِلَافِ إنْشَاءِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ فِيهِ لِلْهَزْلِ عَلَى مَا سَبَقَ.
(قَوْلُهُ: فَيَكُونُ) أَيْ: الْهَازِلُ بِالرِّدَّةِ مُرْتَدًّا بِنَفْسِ الْهَزْلِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَهُوَ مِنْ أَمَارَاتِ تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةِ {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] الْآيَةَ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الِارْتِدَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ، وَالْهَزْلُ يُنَافِيهِ لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ.
(قَوْلُهُ: تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالِاعْتِقَادُ
 
[السَّفَهُ]
. (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا) أَيْ: مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ السَّفَهُ فَإِنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ فَلَا يَكُونُ سَمَاوِيًّا، وَعَلَى ظَاهِرِ تَفْسِيرِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ كُلُّ فَاسِقٍ سَفِيهًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْلِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الشَّرْعَ لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْخِفَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَاللُّغَوِيِّ فَإِنَّ السَّفَهَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخِفَّةُ، وَالْحَرَكَةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ، وَتَخْصِيصًا لَهُ بِمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّفَهِ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَنْعُ الْمَالِ، وَوُجُوبُ الْحَجْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّبْذِيرَ أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ) التَّبْذِيرُ هُوَ تَفْرِيقُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِسْرَافِ أَيْ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالْمُرَادُ بِأَصْلِ التَّبْذِيرِ نَفْسُ تَفْرِيقِ الْمَالِ.
(قَوْلُهُ: وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَالِهِ) يَعْنِي: إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ: لَا تُؤْتُوا الْمُبَذِّرِينَ أَمْوَالَهُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى
(2/380)
 
 
بِالدِّينِ، وَهُوَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] (وَأَمَّا الْإِسْلَامُ هَازِلًا، فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ، وَالتَّرَاخِيَ) تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ.
 
(وَمِنْهَا السَّفَهُ) وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَخِلَافُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْبِرُّ، وَالْإِحْسَانُ إلَّا أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ بِخِلَافِ السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ خِفَّةٌ إمَّا فَرَحًا، وَإِمَّا غَضَبًا فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ وَخِيمَةٌ أَيْ: مَذْمُومَةٌ (وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَالِهِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ رُشْدٍ مُنْكَرٍ لَا يَنْفَكُّ سِنُّ الْجِدِّيَّةِ عَنْ مِثْلِهِ إلَّا نَادِرًا، فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَنْعُ) وَهِيَ خَمْسٌ، وَعِشْرُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ نِصْفُ سَنَةٍ، فَيَكُونُ أَقَلُّ سِنٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ فِيهِ جَدًّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مَعْنَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ بِهِ النَّاسُ مَعَايِشَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ؛ وَلِأَنَّهُمْ الْمُتَصَرِّفُونَ فِيهَا الْقَوَّامُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَلَّقَ إيتَاءَ الْأَمْوَالِ إيَّاهُمْ بِإِينَاسِ رُشْدٍ، وَصَلَاحٍ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيرِ الْمُفِيدِ لِلتَّقْلِيلِ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ: إنْ عَرَفْتُمْ، وَرَأَيْتُمْ فِيهِمْ صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ، وَحِفْظًا لِلْمَالِ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فَأَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّبَبَ الظَّاهِرَ لِلرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ سِنَّ الْجُدُودَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرُّشْدِ إلَّا نَادِرًا مَقَامَ الرُّشْدِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْغَالِبِ فَقَالَ يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ بَعْدَ خَمْسٍ، وَعِشْرِينَ سَنَةً أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ، وَهُمَا تَمَسَّكَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَا لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ مَالِ مَنْ بَلَغَ سَفِيهًا اخْتَلَفُوا فِي حَجْرِ مَنْ صَارَ سَفِيهًا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ، هَذَا الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ دُونَ الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ وَالسَّفِيهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَاسِقٌ لَكِنْ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ مِنْ جِهَةِ دِينِهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلِهَذَا جَازَ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، وَحَسُنَ عَفْوُ الْوَلِيِّ، وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ حَالَ السَّفَهِ يَفْتَقِرُ إلَى النَّظَرِ لَهُ فَيُحْجَرُ. الثَّانِي، الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ عَنْهُ لِيَبْقَى مِلْكُهُ، وَلَا يَزُولُ بِالْإِتْلَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَنْعِ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِلَّا لَأُبْطِلَ مِلْكُهُ بِإِتْلَافِهِ بِالتَّصَرُّفَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى فِي الْحِفْظِ إلَّا
(2/381)
 
 
خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً (وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفِيهِ فَعِنْدَهُمَا يُحْجَرُ) : الْحَجْرُ هُوَ مَنْعُ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ (لِأَنَّ النَّظَرَ وَاجِبٌ حَقًّا لَهُ لِدِينِهِ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا) كَالْقَتْلِ عَمْدًا فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ حَسَنٌ فَغَايَةُ فِعْلِ السَّفِيهِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ وَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ إلَيْهِ (وَقِيَاسًا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَقًّا لَهُ (عَلَى مَنْعِ الْمَالِ وَأَيْضًا صِحَّةُ الْعِبَارَةِ لِأَجْلِ النَّفْعِ فَإِذَا صَارَتْ ضَرَرًا يَجِبُ دَفْعُهَا، وَأَيْضًا حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ) فَإِنَّ السُّفَهَاءَ إذَا لَمْ يُحْجَرُوا أَسْرَفُوا فَتُرَكَّبُ عَلَيْهِمْ الدُّيُونُ فَتَضِيعُ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِمَّتِهِمْ: مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ وَلَا فَلْسَ لَهُ فَيُعْتِقُهَا فِي الْحَالِ كَمَا فَعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ ظُرَفَاءِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي بُخَارَى، وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي سُوقِ النَّخَّاسِينَ فَعَشِقَ جَارِيَةً بَلَغَتْ فِي الْحُسْنِ غَايَتَهُ، فَعَجَزَ عَنْ مُكَابَدَةِ شَدَائِدِ هَجْرِهَا، وَكَانَ فِي الْفَقْرِ وَالْمَتْرَبَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَمْلِكْ قُوتَ يَوْمِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا يَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً إلَى مُوَاصَلَتِهَا فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْكُلْفَةُ، وَالْمُؤْنَةُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إنَّمَا صَحَّحَ عِبَارَاتِ الْعَاقِلِ، وَجَوَّزَ تَصَرُّفَاتِهِ لِيَكُونَ نَفْعًا لَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ كَانَ نَفْعُهُ فِي الْحَجْرِ، فَيَجِبُ. الرَّابِعُ أَنَّ فِي الْحَجْرِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ السَّفِيهَ بِإِتْلَافِهِ، وَإِسْرَافِهِ يَصِيرُ مَطِيَّةً لِدُيُونِ النَّاسِ، وَمَظِنَّةً لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَصِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَالًا، وَعَلَى بَيْتِ مَالِهِمْ عِيَالًا كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ حَذَاقَةً، وَاحْتِيَالًا فِي الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ لَكِنَّهُ سَفَهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلْسًا قَدْ أَعْتَقَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ.
(قَوْلُهُ: دَخَلَ فِي سُوقِ النَّخَّاسِينَ) لَفْظَةُ فِي زَائِدَةٌ، وَالْمُكَابَدَةُ الْمُقَاسَاةُ، وَالتَّلْبِيسُ التَّخْلِيطُ، وَإِخْفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالتَّطْرِيقُ أَنْ يَمْشِيَ أَمَامَ الرَّجُلِ، وَيُقَالُ: طَرَقُوا، وَذَلِكَ عَادَةُ الْكِبَارِ، وَالنُّمْرُقَةُ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ، وَالْعُثْنُونُ شُعَيْرَاتٌ طِوَالٌ تَحْتَ حَنَكِ الْبَعِيرِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ اللِّحْيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ عَرَفَ فُنُونَهُ إيهَامٌ أَيْ: فُنُونَ الْحِيَلِ، وَالتَّزْوِيرِ أَوْ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْفِقْهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَجْرِ الْإِنْسَانِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِنَاءً عَلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ أَجَابَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي اسْتِحْدَاثِ الطَّاحُونِ لِلْأُجْرَةِ، وَنَصْبِ الْمِنْوَالِ لِاسْتِخْرَاجِ الْإِبْرَيْسَمِ مِنْ الْفَلِيقِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ لِلْجِيرَانِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فَلَهُمْ الْمَنْعُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْحَجْرِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَحَجْرِ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ حَجْرُ السَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ إذْ الْخِطَابُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَهِيَ بِالتَّمْيِيزِ، وَالسَّفَهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ بَلْ
(2/382)
 
 
خِلَّانِهِ ثِيَابًا نَفِيسَةً، وَبَغْلَةً لَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَعَاظِمُ الْمُلُوكِ فَلَبِسَ لِبَاسَ التَّلْبِيسِ وَرَكِبَ الْبَغْلَةَ، وَشُرَكَاءُ دَرْسِهِ يَمْشُونَ فِي رِكَابِهِ مُطْرِقِينَ حَتَّى دَخَلَ السُّوقَ فَظَنَّ التُّجَّارُ أَنَّهُ حَاكِمُ بُخَارَى الْمُلَقَّبُ بِصَدْرِ جهان فَجَلَسَ عَلَى نُمْرُقَةٍ، وَدَعَا صَاحِبَ الْجَارِيَةِ، وَسَاوَمَهَا فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ مُمْتَلِئًا بَهْجَةً وَسُرُورًا وَرَدَّ الْعَوَارِيَّ إلَى أَهْلِهَا فَلَمَّا جَاءَ الْبَائِعُ لِتَقَاضِي الثَّمَنِ لَقِيَ الْمُشْتَرِيَ وَعَرَفَ فُنُونَهُ، فَأَخَذَ يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ (وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جَارَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحْجَرُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَمَّا كَانَ مُكَابَرَةً وَتَرْكًا لِلْوَاجِبِ عَنْ عِلْمٍ) أَيْ: صَادِرًا عَنْ عِلْمٍ، وَمَعْرِفَةٍ (لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلنَّظَرِ وَمَا ذُكِرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
عَدَمُ عَمَلٍ بِهِ مُكَابَرَةً، وَتَرْكًا لِلْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ، وَيُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ، وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مَعَ أَنَّ ضَرَرَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَالِ فَتَصَرُّفُهُ يَكُونُ صَادِرًا عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يُمْنَعُ، وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَا بِهِ فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ فِعْلِهِ بِمُوجِبِ الْعَقْلِ لَمَّا كَانَ مُكَابَرَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ لَهُ كَمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَانَةً أَوْ سَفَهًا لَا يَسْتَحِقُّ وَضْعَ الْخِطَابِ عَنْهُ نَظَرًا لَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَالنَّظَرُ لَهُ لِدَيْنِهِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجْرِ فَإِنْ قِيلَ: فِي تَرْكِ الْحَجْرِ ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ لِأَحَدٍ، فَيَجِبُ الْحَجْرُ بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً أُجِيبَ بِأَنَّ فِي حَجْرِ السَّفِيهِ أَيْضًا ضَرَرًا هُوَ إبْطَالُ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ بِالنَّصِّ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْحُكْمِ فِي مَنْعِ الْمَالِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَنْ الْمَالِ عُقُوبَةً، وَزَجْرًا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ مُكَابَرَةُ الْعَقْلِ، وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ جِنَايَةٌ، وَالْحُكْمُ، وَهُوَ مَنْعُ الْمَالِ صَالِحٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَجَازَ تَفْوِيضُهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَئِمَّةِ لِكَوْنِهِ عُقُوبَةَ تَعْزِيرٍ، وَتَأْدِيبٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْعُقُوبَاتِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْحُكْمَ مَعْقُولٌ، وَأَنَّ الْحَجْرَ نَظَرٌ لَا عُقُوبَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مَنْعَ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ إبْطَالُ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ، وَإِلْحَاقٌ لِلسَّفِيهِ بِالْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْحَجْرِ فَإِنَّهُ إبْطَالُ نِعْمَةٍ أَصْلِيَّةٍ هِيَ الْعِبَارَةُ، وَالْأَهْلِيَّةُ إذْ بِهَا يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَتَفْوِيتٌ لِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَإِلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَفِي تَرْكِ الْجَوَابِ عَنْ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مَيْلٌ مَا إلَى اخْتِيَارِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ إذَا كَانَ الْحَجْرُ) يَعْنِي: حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ لَزِمَ أَنْ يَلْحَقَ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِمَنْ يَكُونُ الْإِلْحَاقُ بِهِ أَنْظَرَ لَهُ، وَأَلْيَقَ بِحَالِهِ
(2/383)
 
 
مِنْ النَّظَرِ حَقًّا لَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ) أَيْ: حَجْرُ السَّفِيهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ (إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهُوَ إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعِبَارَةِ، وَالْأَهْلِيَّةُ نِعْمَةٌ أَهْلِيَّةٌ، وَالْيَدُ زَائِدَةٌ، فَيَبْطُلُ قِيَاسُ الْحَجْرِ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ ثُمَّ إذَا كَانَ الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (يَلْحَقُ فِي كُلِّ حُكْمٍ إلَى مَنْ كَانَ فِي إلْحَاقِهِ إلَيْهِ نَظَرٌ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ، وَالْمُكْرَهِ) أَيْ: الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ السَّفَهِ عِنْدَهُمَا إنْ وَلَدَتْ جَارِيَتُهُ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ كَانَتْ حُرَّةً؛ لِأَنَّ تَوْفِيرَ النَّظَرِ كَانَ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلَحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ وَصِيَانَةِ مَائِهِ وَيَلْحَقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ فَإِنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى يُعْتَقَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَسْعَى هِيَ، وَلَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
فَفِي الِاسْتِيلَادِ يُجْعَلُ كَالْمَرِيضِ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَفِي مِلْكِ ابْنِهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمُكْرَهِ حَتَّى يُعْتَقَ الِابْنُ، وَفِي لُزُومِ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُجْعَلُ كَالصَّبِيِّ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ سِعَايَةُ الْعَبْدِ لِلْمَحْجُورِ نَظَرًا لَهُ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ كَمَا أَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَحْجُورِ شَيْءٌ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ شَيْءٌ، وَكَانَتْ سِعَايَةُ الْغُلَامِ فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا الْحَجْرُ) يَعْنِي: الْحَجْرَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ نَظَرًا لَهُ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ فِي ذَاتِهِ كَالسَّفَهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ خَارِجٍ كَالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخَافَ زَوَالَ قَابِلِيَّةِ الْمَالِ لِلصَّرْفِ إلَى الدُّيُونِ أَوْ يُمْنَعُ الْمَدْيُونُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَالْأَوَّلُ أَيْ: الْحَجْرُ بِسَبَبِ السَّفَهِ يَحْصُلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِ السَّفَهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا، وَالْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظَرًا لِلسَّفِيهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْجُرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ بِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ، وَالضَّرَرِ بِإِهْدَارِ عِبَارَتِهِ فَلَا بُدَّ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّ حَجْرَ الْمَدْيُونِ خَوْفًا مِنْ تَلْجِئَةٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي اتِّفَاقًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ، وَيَتِمُّ بِالْقَضَاءِ، وَالثَّالِثُ، وَهُوَ حَجْرُ الْمَدْيُونِ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ صَرْفِ الْمَالِ إلَى الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَنْ يَبِيعَ الْقَاضِي أَمْوَالَهُ عُرُوضًا كَانَتْ أَوْ عَقَارًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ، وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ» ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ، وَأَبَى الذِّمِّيُّ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَجْرُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ قَالَ
(2/384)
 
 
مَعْرُوفٌ وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ فَاسِدًا، وَيُعْتَقُ الْغُلَامُ حِينَ قَبَضَهُ وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ فَإِذَا مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذَا الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا يَسْلَمُ لَهُ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهِ فَتَكُونُ السِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ (وَهَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا) أَيْ: الْحَجْرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الَّذِي هُوَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ (أَنْوَاعٌ إمَّا بِسَبَبِ السَّفَهِ، فَيَنْحَجِرُ بِنَفْسِهِ) أَيْ: بِنَفْسِ السَّفَهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي لَهُ (عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِمَّا بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِأَنْ يَخَافَ أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ) : التَّلْجِئَةُ هِيَ الْمُوَاضَعَةُ الْمَذْكُورَةُ مُفَصَّلَةٌ بِبَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ (فَيُحْجَرُ) عَلَى أَنْ لَا يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ (إلَّا مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا) مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيُحْجَرُ (وَإِمَّا بِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ، فَيَبِيعُ الْقَاضِي فَهَذَا ضَرْبُ حَجْرٍ،) .
 
(وَمِنْهَا السَّفَرُ وَهُوَ خُرُوجٌ مَدِيدٌ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
فَهَذَا ضَرْبُ حَجْرٍ.
(قَوْلُهُ: التَّلْجِئَةُ هِيَ الْمُوَاضَعَةُ الْمَذْكُورَةُ) أَيْ: فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ أَوْ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ الْهَزْلِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا سَابِقَةً، وَالْهَزْلُ قَدْ يَكُونُ مُقَارِنًا فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ أَخَصُّ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ التَّلْجِئَةُ هِيَ أَنْ يُلْجِئَكَ إلَى أَنْ تَأْتِيَ أَمْرًا بَاطِنًا خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ مَعْنَى أُلْجِئُ إلَيْك دَارِي أَجْعَلُكَ ظَهْرًا لِأَتَمَكَّنَ بِجَاهِكَ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِي يُقَالُ: الْتَجَأَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ، وَأَلْجَأَ ظَهْرَهُ إلَى كَذَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَا مَلْجَأٌ مُضْطَرٌّ إلَى مَا أُبَاشِرُهُ مِنْ الْبَيْعِ مِنْكَ، وَلَسْت بِقَاصِدٍ حَقِيقَةَ.
(قَوْلُهُ: عَلَى أَنْ لَا يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ إلَّا مَعَ الْغُرَمَاءِ) يَعْنِي: فِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ، وَأَمَّا فِيمَا يُكْتَسَبُ بَعْدَهُ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ
 
[السَّفَرُ]
. (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا السَّفَرُ، وَهُوَ خُرُوجٌ مَدِيدٌ) فَإِنْ قُلْت: الْخُرُوجُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ قُلْت الْمُرَادُ أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ عُمْرَانَاتِ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرٍ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فَمَا فَوْقَهَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ، وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ.
(قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ) يَعْنِي فِي التَّخْفِيفِ الْحَاصِلِ بِالسَّفَرِ فِي الصَّلَاةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ رُخْصَةٌ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْمَالُ مَشْرُوعًا، وَعِنْدَنَا أَثَرُهُ فِي إسْقَاطِ الشَّطْرِ حَتَّى يَكُونَ ظُهْرُ الْمُسَافِرِ، وَفَجْرُهُ سَوَاءٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ الْأَثَرُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَقَالَ مُقَاتِلٌ «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُصَلِّي بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعِشَاءِ فَلَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ أُمِرَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَصَارَتْ الرَّكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ، وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ» إلَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الثَّانِي أَنَّ حَدَّ النَّافِلَةِ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا أَوْ مَا هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يُصَادِقُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ
(2/385)
 
 
أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ، وَبَعْضَهُ لَا بَلْ يَنْفَعُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَصْرُ رُخْصَةٌ وَعِنْدَنَا إسْقَاطٌ لِقَوْلِ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَلِأَنَّ حَدَّ النَّافِلَةَ يَصْدُقُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ، وَلِتَسْمِيَتِهِ بِالصَّدَقَةِ، وَلِعَدَمِ إفَادَةِ التَّخْيِيرِ عَلَى مَا مَرَّ) أَيْ: فِي فَصْلِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ (وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ) أَيْ: الْقَصْرُ (بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ) أَيْ: اتَّصَلَ السَّفَرُ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْوَقْتُ، فَيَثْبُتُ الْقَصْرُ فِي الْأَدَاءِ أَمَّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ بَلْ اتَّصَلَ بِحَالِ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ (وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ بِالِاخْتِيَارِ قِيلَ: إذَا شَرَعَ الْمُسَافِرُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ مَثَلًا، وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ الرَّكْعَتَيْنِ إنَّمَا يَكُونَانِ فَرْضًا إذَا نَوَى الْإِتْمَامَ، وَحِينَئِذٍ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ تَارِكُهُمَا، الثَّالِثُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهَا صَدَقَةً حَيْثُ قَالَ: إنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَةَ اللَّهِ» ، وَالصَّدَقَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ لَا غَيْرُ، الرَّابِعُ أَنَّ التَّخْيِيرَ إنَّمَا شُرِعَ فِيمَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ يُسْرٌ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَاهُنَا لَا يُسْرَ فِي الْإِكْمَالِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الرُّخْصَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ بِالِاخْتِيَارِ) يَعْنِي: فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ، وَالْمَرِيضِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنْ نَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ شَرَعَ فِيهِ أَيْ: لَمْ يَفْسَخْهُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي الْمَرِيضِ مِمَّا لَا مَدْفَعَ لَهُ فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ عُلِمَ لُحُوقُ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ لَا مَدْفَعَ لَهُ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الدَّاعِي إلَى الْإِفْطَارِ بِأَنْ لَا يُسَافِرَ، وَلَفْظُ قِيلَ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيلَ لَهُ مَعْنَاهُ حُكْمٌ لِلْمُسَافِرِ، وَأَفْتَى فِي حَقِّهِ، وَضَبْطُ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الْعُذْرَ، إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَإِنْ تَرَكَ الصَّوْمَ، فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ صَامَ فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ هُوَ الْمَرَضُ يَجُوزُ الْإِفْطَارُ، وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَمْ يَجُزْ لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بَلْ إنَّمَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الصَّوْمِ، وَالشُّرُوعِ فِيهِ فَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ ثُمَّ الْإِفْطَارُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَعَلَى الْأَوَّلِ، إنْ كَانَ الْعُذْرُ هُوَ الْمَرَضُ جَازَ الْإِفْطَارُ، وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَمْ يَجُزْ لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَعَلَى الثَّانِي لَمْ يَجُزْ الْإِفْطَارُ أَصْلًا لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ فَفِي الْمَرَضِ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي السَّفَرِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ سَمَاوِيٌّ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَالسَّفَرُ اخْتِيَارِيٌّ يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ طَرَيَانِهِ
(2/386)
 
 
لَكِنْ إذَا أَفْطَرَ يَصِيرُ السَّفَرُ شُبْهَةً فِي الْكَفَّارَةِ فَإِذَا سَافَرَ الصَّائِمُ لَا يُفْطِرُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ لَكِنْ إنْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) أَيْ: الصَّائِمِ الْمُقِيمِ إذَا سَافَرَ، وَأَفْطَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (وَإِذَا أَفْطَرَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ) أَيْ: الْكَفَّارَةُ (بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ) ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا أَفْطَرَ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ إذَا مَرِضَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِعُرُوضِ الْمَرَضِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِخِلَافِ عُرُوضِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَالْمَرَضُ ضَرُورِيٌّ (وَأَحْكَامُ السَّفَرِ تَثْبُتُ بِالْخُرُوجِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ السَّفَرُ عِلَّةً) وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ تَرَخَّصُوا بِرُخَصِ الْمُسَافِرِ بِمُجَاوَزَتِهِمْ الْعُمْرَانَ» ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْقَصْرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَهَا لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ بِمَا رَوَيْنَا (ثُمَّ إذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لَكِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُبِيحِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ قَارَنَ الْإِفْطَارَ كَانَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَمْ يُؤَثِّرْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِفْطَارِ عَنْ صَوْمٍ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ شُبْهَةٍ.
(قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنْفَصِلَةٌ) لَمَّا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَدَمِ كَوْنِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرُّخْصَةَ نِعْمَةٌ، فَلَا تُنَالُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيُجْعَلُ السَّفَرُ مَعْدُومًا فِي حَقِّهَا كَالسُّكْرِ يُجْعَلُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الرُّخَصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَثَانِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] فَإِنَّهُ جَعَلَ رُخْصَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَنُوطَةً بِالِاضْطِرَارِ حَالَ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ: خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا عَادٍ أَيْ: ظَالِمٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الرُّخَصِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْفَصْلِ أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ الْبَغْيُ، وَالتَّمَرُّدُ، وَالْإِبَاقُ مَثَلًا لَا نَفْسُ السَّفَرِ بَلْ الْمَعْصِيَةُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ السَّفَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِهِ كَالْبَاغِي أَوْ الْآبِقِ الْمُقِيمِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ مَنْدُوبًا فَتُقْطَعُ الْمَعْصِيَةُ كَمَا إذَا خَرَجَ غَازِيًا فَاسْتَقْبَلَهُ الْغَيْرُ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقَ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُنْفَصِلٍ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّتَهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَصْلٌ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِيَ سَبَبِيَّتَهُ لِحُكْمٍ مَعَ أَنَّ السَّبَبَ، وَسِيلَةٌ أَوْلَى، وَأَيْضًا صِفَةُ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ مَقْصُودَةٌ بِخِلَافِ صِفَةِ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ، وَمُنَافَاةُ النَّهْيِ لِصِفَةِ الْقُرْبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ أَشَدُّ مِنْ مُنَافَاتِهِ لِصِفَةِ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةِ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُنْفَصِلٍ إذَا لَمْ يَمْنَعْ صِفَةَ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ صِفَةَ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ السُّكْرِ فَإِنَّهُ حَدَثَ مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْإِثْمَ، وَعَدَمَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْإِضْرَارِ بَلْ بِالْأَكْلِ فَلَا بُدَّ فِي
(2/387)
 
 
نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُنِعَ الثَّلَاثَةَ وَيُشْتَرَطُ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَنْعٌ) أَيْ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ نَوَاهَا بَعْدُ لِلسَّفَرِ (وَهَذَا رَفْعٌ) أَيْ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَفْعٌ لِلسَّفَرِ، وَالْمَنْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ الرُّخْصَةَ وَقَدْ مَرَّ) أَيْ: فِي فَصْلِ النَّهْيِ (عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ فَإِنَّ الْبَغْيَ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالتَّمَرُّدَ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ وَالرَّجُلُ قَدْ يَخْرُجُ غَازِيًا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُهُ غَيْرُهُ، فَيَقْطَعُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذَا السَّفَرِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ عِصْيَانٌ بِعَيْنِهِ) فَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ الرُّخَصُ الْمَنُوطَةُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ (قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] أَيْ: فَأَكَلَ غَيْرَ طَالِبٍ وَلَا مُتَجَاوِزٍ حَدَّ سَدِّ الرَّمَقِ) قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ: فَمَنْ اُضْطُرَّ، فَأَكَلَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ أَيْ: فَأَكَلَ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ، وَلَا عَادٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْبَغْيُ، وَالْعَدَاءُ فِي الْأَكْلِ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُرْمَتِهِ، وَحِلِّهِ أَيْ: غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ فِي الْأَكْلِ قَدْرَ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّ عَادٍ مُكَرَّرٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: غَيْرَ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ، وَلَا مُتَجَاوِزٌ قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَدْفَعُ الْهَلَاكَ أَوْ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ، وَلَا مُتَزَوِّدٍ أَوْ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ سَدَّ الْجَوْعَةِ
 
[الْخَطَأُ]
. (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْخَطَأُ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ قَصْدًا تَامًّا) ، وَذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ قَصْدِ الْفِعْلِ بِقَصْدِ مَحَلِّهِ، وَفِي الْخَطَأِ يُوجَدُ قَصْدُ الْفِعْلِ دُونَ قَصْدِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فِعْلٌ يَصْدُرُ بِلَا قَصْدٍ إلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سَوَاءٌ، وَيَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْخَطَأِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْجِنَايَةِ، وَهِيَ بِالْقَصْدِ، وَالْجَوَابِ أَنَّ تَرْكَ التَّثَبُّتِ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَقَصَدَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَعْلَ الْخَطَأِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ.
(قَوْلُهُ: وَيَصْلُحُ) مُخَفَّفًا أَيْ: سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِالْفِعْلِ دُونَ الْمَحَلِّ كَالدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَإِنَّهَا صِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَابَلْ بِمَالٍ كَالضَّمَانِ، وَوَجَبَتْ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْمَحَلِّ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِبَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ تَخْفِيفًا عَلَى الْخَاطِئِ، وَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَحْثِ الْإِكْرَاهِ: بِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّ الدِّيَةَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الصَّبِيِّ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا أَنَّ الْخَطَأَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا صَلُحَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْفِعْلِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَا تُقَابِلُ مَالًا. (قَوْلُهُ: إذْ لَا يَنْفَكُّ) أَيْ: الْخَطَأُ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ، وَهُوَ تَرْكُ التَّثَبُّتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فَهُوَ بِأَصْلِ الْفِعْلِ مُبَاحٌ، وَبِتَرْكِ التَّثَبُّتِ مَحْظُورٌ، فَيَكُونُ جِنَايَةً قَاصِرَةً يَصْلُحُ سَبَبًا لِجَزَاءٍ قَاصِرٍ.
(قَوْلُهُ: وَيَقَعُ
(2/388)
 
 
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَدَمِ الرُّخْصَةِ لِمَنْ يُسَافِرُ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ فَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] حَالًا مِنْ قَوْلِهِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ قَوْلِهِ، فَأَكَلَ ثُمَّ نَجْعَلُ قَوْلَهُ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] حَالًا مِنْ أَكَلَ فَمَعْنَاهُ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْمَيْتَةِ قَصْدًا إلَيْهَا وَلَا آكِلٍ الْمَيْتَةَ تَلَذُّذًا وَاقْتِضَاءً لِلشَّهْوَةِ بَلْ يَأْكُلُهَا دَافِعًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا عَادٍ حَدَّ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ أَوْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ سَدِّ الرَّمَقِ وَلَا يَعْدُو أَيْ: لَا يَرْفَعُهَا لِجَوْعَةٍ أُخْرَى.
 
(وَمِنْهَا الْخَطَأُ) وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ قَصْدًا تَامًّا كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّهُ قَصَدَ الرَّمْيَ لَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِنْسَانَ فَوُجِدَ قَصْدٌ غَيْرُ تَامٍّ (وَهُوَ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَيَصْلُحُ شُبْهَةً فِي الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ إثْمَ الْقَتْلِ وَلَا يُؤَاخَذَ بِحَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِبَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
طَلَاقُهُ) إنَّ طَلَاقَ الْمُخْطِئِ كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ جَالِسٌ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُخْطِئِ كَالنَّائِمِ، وَجَوَابُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَى جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْبُلُوغُ مِنْ عَقْلٍ قَائِمًا مَقَامَ الْقَصْدِ فِي الطَّلَاقِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ النَّائِمِ إقَامَةً لِلْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، وَأَنْ يَقُومَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الرِّضَى كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّ الرِّضَى أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْقَصْدِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَفِيًّا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْقَصْدِ، وَأَهْلِيَّةُ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي النَّائِمِ مَعْلُومٌ بِلَا حَرَجٍ، وَكَذَا وُجُودُ الرِّضَى، وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا نِهَايَةُ الِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي النَّائِمِ، وَوُجُودُ الرِّضَى فِي غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إقَامَةِ الشَّيْءِ مَقَامَهُمَا بَلْ جُعِلَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَتِهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَقُولُ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ يَقِظَةِ النَّائِمِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ فِي أَهْلِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَاعْتِبَارُ الْكَلَامِ هُوَ الْعَمَلُ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ شَيْءٍ مَقَامَهُ لَا حَقِيقَةَ الْيَقَظَةِ، وَكَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْيَقَظَةِ عَنْ الْقَصْدِ، وَاسْتِعْمَالُ الْعَقْلِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُلَابَسَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الشَّيْءِ عِنْدَ خَفَاءِ وُجُودِهِ، وَعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْقَصْدِ فِي النَّائِمِ مُدْرَكٌ بِلَا حَرَجٍ، وَكَذَا عَدَمُ الرِّضَى فِي الْمُكْرَهِ.
(قَوْلُهُ: كَالْبَيْعِ) فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ، وَيَعْتَمِدُ الرِّضَى لِكَوْنِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى الْقَصْدِ دُونَ الرِّضَى فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِعْت هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَبِلَهُ الْمُخَاطَبُ، وَصَدَّقَهُ فِي
(2/389)
 
 
وَيَصْلُحُ) أَيْ: الْخَطَأُ (مُخَفَّفًا لِمَا هُوَ صِلَةٌ لَمْ تُقَابِلْ مَالًا وَوَجَبَتْ بِالْفِعْلِ كَالدِّيَةِ) إنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْخَطَأُ مُخَفَّفًا فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ (وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ، فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَالْعُقُوبَةِ إذْ هُوَ جَزَاءٌ قَاصِرٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا هُوَ دَائِرٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَفَّارَةُ (وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عِنْدَنَا لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَلَنَا أَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ، وَغَفْلَةٍ أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَى فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِمَا كَالْبَيْعِ إذْ لَا حَرَجَ فِي دَرْكِهِمَا) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَعْمَالُ إلَّا، وَأَنْ تَكُونَ صَادِرَةً عَنْ الْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ، وَغَفْلَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ يَجِبُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ، وَلَا يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ، وَالْغَفْلَةَ مَرْكُوزَانِ فِي الْإِنْسَانِ، فَيَكُونَانِ عُذْرًا لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْحَرَجِ، فَأَقَمْنَا الْبُلُوغَ مَقَامَ دَوَامِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ إقَامَةً لِلدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فَإِنَّ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ إنَّمَا يَعْرِضَانِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ فَإِذَا كَمُلَ الْعَقْلُ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ عِنْدَ الْبُلُوغِ لَا يَقَعُ السَّهْوُ، وَالْغَفْلَةُ إلَّا نَادِرًا وَكُلُّ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ اُعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ خَطَأً فَهُوَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ يَنْعَقِدُ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا غَيْرَ نَافِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَى حَقِيقَةً
 
[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ غَيْرِهِ]
[الْإِكْرَاهُ وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ أَوْ غَيْرُ مُلْجِئٍ]
. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَهُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَرْضَاهُ، وَلَا يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ، فَيَكُونُ مُعْدِمًا لِلرِّضَى لَا لِلِاخْتِيَارِ إذْ الْفِعْلُ يَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَقَدْ لَا يَفْسُدُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِلُ مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ، وَحَقِيقَةُ الِاخْتِيَارِ هُوَ الْقَصْدُ إلَى مَقْدُورٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ جَانِبَيْهِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَقَلَّ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ إمَّا مُلْجِئًا بِأَنْ يَضْطَرَّ الْفَاعِلُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْعُضْوِ، وَإِمَّا غَيْرُ مُلْجِئٍ بِأَنْ يَتَمَكَّنَ الْفَاعِلُ مِنْ الصَّبْرِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ، وَهُوَ سَوَاءٌ كَانَ مُلْجِئًا أَوْ غَيْرَ مُلْجِئٍ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ، وَلَا الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ رُخْصَةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْخِطَابِ حَتَّى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مَرَّةً كَمَا إذَا كَانَ فَرْضًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَيَأْثَمُ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا إذَا
(2/390)
 
 
صَادِرًا عَنْ الْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُو فِي وَقْتٍ مَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ إلَخْ. وَإِنَّمَا لَمْ نُقِمْ الْبُلُوغَ مَقَامَ الْيَقَظَةِ حَتَّى أَبْطَلْنَا عِبَارَاتِ النَّائِمِ وَكَذَا لَمْ نُقِمْ الْبُلُوغَ مَقَامَ الرِّضَى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الرِّضَى كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ إذْ لَا حَرَجَ فِي دَرْكِ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ مَقَامَهُمَا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا تُقِيمُ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا مَقَامَهَا كَالسَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ أَمَّا الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ فَلَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَقَظَةَ، وَالرِّضَى دَفْعًا لِشُبْهَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ: قَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
كَانَ حَرَامًا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُؤْجَرُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْحَرَامِ، وَالرُّخْصَةِ، وَيَأْثَمُ فِي الْفَرْضِ، وَالْمُبَاحِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَجْرِ، وَالْإِثْمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يُؤْجَرْ، وَبِالرُّخْصَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ لَكِنْ لَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ يُؤْجَرُ عَمَلًا بِالْعَزِيمَةِ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ، وَلَوْ تَرَكَهُ، وَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ، وَهُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ مُبَاحٌ كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَفَرْضٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَمُرَخَّصٌ لَهُ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِفْطَارِ، وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، وَلَعَلَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِفْطَارِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ حَيْثُ تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ بِالْعُذْرِ كَالسَّفَرِ، وَالْمَرَضِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ بِحَالٍ.
(قَوْلُهُ: وَلَا الِاخْتِيَارُ) أَيْ: الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ مَا هُوَ أَهْوَنُ عِنْدَ الْحَامِلِ، وَأَرْفَقُ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ الْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أُكْرِهَ بِهِ. (قَوْلُهُ: وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ) أَيْ: الْقَاعِدَةُ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إمَّا أَنْ يَحْرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ لَا، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ كَإِكْرَاهِ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَصِحُّ إسْلَامُهُ بِخِلَافِ إكْرَاهِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ عُذْرًا شَرْعِيًّا بِأَنْ يَحِلَّ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ يَقْطَعُ الْحُكْمَ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ سَوَاءٌ أُكْرِهَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِقَصْدِ الْمَعْنَى، وَصِحَّةَ الْحُكْمِ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْإِكْرَاهُ يُفْسِدُ الْقَصْدَ، وَالِاخْتِيَارَ، وَأَيْضًا نِسْبَةُ الْحُكْمِ لِلْفَاعِلِ بِلَا رِضَاهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمُ الْحُقُوقِ، وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ الضَّرَرُ بِدُونِ رِضَاهُ لِئَلَّا يَفُوتَ حُقُوقُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، ثُمَّ إذَا قُطِعَ الْحُكْمُ عَنْ الْفَاعِلِ فَإِنْ
(2/391)
 
 
اعْتِدَالِ الْعَقْلِ لَوَقَعَ طَلَاقُ النَّائِمِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَا فِيمَا يَعْتَمِدُ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ، قَوْلَهُ (وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِهِ) أَيْ: لِسَانِ الْخَاطِئِ (خَطَأً وَصَدَّقَهُ خَصْمُهُ يَكُونُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ) .
 
(وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ فَالْإِكْرَاهُ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ (وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ بِأَنْ يَكُونَ بِفَوْتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ وَهَذَا مُعْدِمٌ لِلرِّضَا وَمُفْسِدٌ لِلِاخْتِيَارِ وَإِمَّا غَيْرُ مُلْجِئٍ بِأَنْ يَكُونَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ وَهَذَا مُعْدِمٌ لِلرِّضَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلِاخْتِيَارِ، وَالْإِكْرَاهُ بِهِمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْقَتْلِ (أَوْ مُبَاحٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْحَامِلِ أَيْ: الْمُكْرِهُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ نُسِبَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَطَلَ الْفِعْلُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَسَائِرِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا شَرْعِيًّا بِأَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ إقْدَامٌ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا لَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ عَنْ الْفَاعِلِ حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَالْحَدُّ عَلَى الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي مُكْرَهَيْنِ.
(قَوْلُهُ: وَطَلَاقُ الْمُولِي) بِالضَّمِّ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ الْإِيلَاءِ يَعْنِي: لَوْ أُكْرِهَ الْمُولِي عَلَى التَّطْلِيقِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَطَلَّقَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا، وَأَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْإِكْرَاهُ بَاطِلٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. (قَوْلُهُ: وَالْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ، وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ) أَيْ: الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ ضَرَرًا كَالْقَتْلِ، وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي دَفْعَ الضَّرَرِ قَالَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْإِكْرَاهُ أَنْ يُخَوِّفَهُ بِعُقُوبَةٍ تَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ الْمَخُوفُ مِمَّنْ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَا يُخَوِّفُ بِهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَقَطْعُ الْعُضْوِ وَتَخْلِيدُ السِّجْنِ لَا إذْهَابُ الْجَاهِ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَأَصْلُنَا) يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْإِكْرَاهَ إنْ كَانَ مُلْجِئًا، وَعَارَضَ اخْتِيَارَ الْفَاعِلِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ مِنْ الْحَامِلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَسِخُ كَالطَّلَاقِ، كَانَ نَافِذًا، وَإِلَّا كَانَ فَاسِدًا كَالْبَيْعِ، وَالْأَقَارِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ كَالزِّنَا كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ احْتَمَلَ فَإِنْ لَزِمَ مِنْ جَعْلِهِ آلَةَ تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَاعِلِ كَإِكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ نُسِبَ إلَى الْحَامِلِ ابْتِدَاءً كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ مَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَمَعْنَى إفْسَادِهِ الِاخْتِيَارَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَيَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ
(2/392)
 
 
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (أَوْ مُرَخَّصٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ (أَوْ حَرَامٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ حَتَّى (يُؤْجَرَ مَرَّةً، وَيَأْثَمَ أُخْرَى، وَلَا الِاخْتِيَارَ) أَيْ: لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ (لِأَنَّهُ حَلٌّ عَلَى اخْتِيَارِ الْأَهْوَنِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ إنْ كَانَ عُذْرًا شَرْعًا يَقْطَعُ الْحُكْمَ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِ) الْإِكْرَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ: وَاعْلَمْ أَنِّي أَقَمْت لَفْظَ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ وَلَفْظُ الْحَامِلِ مَقَامَ الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الْفَتْحُ بِالْكَسْرِ (وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي دَفْعَ الضَّرَرِ بِدُونِ رِضَاهُ) أَيْ: رِضَا الْفَاعِلِ (ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْحَامِلِ يُنْسَبُ وَإِلَّا يَبْطُلُ فَتَبْطُلُ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا) ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْأَقْوَالِ إلَى غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ (وَيَضْمَنُ الْحَامِلُ الْأَمْوَالَ) أَيْ: إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الْحَامِلِ مُمْكِنٌ، فَيُجْعَلُ الْفَاعِلُ آلَةً لِلْحَامِلِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَا يُقْطَعُ) أَيْ: الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ (فَيُحَدُّ الزَّانِي وَيُقْتَصُّ الْقَاتِلُ مُكْرَهَيْنِ وَإِنَّمَا يُقْتَصُّ الْحَامِلُ بِالتَّسْبِيبِ) جَوَابُ إشْكَالٍ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُقْطَعْ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ يَكُونُ الْفَاعِلُ هُوَ الْقَاتِلُ فَيَجِبُ أَنْ يَقْتَصَّ هُوَ وَلَا يَقْتَصُّ الْحَامِلُ لَكِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحَامِلَ إنَّمَا يَقْتَصُّ بِالتَّسْبِيبِ (وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا لَا يُقْطَعُ أَيْضًا) أَيْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْفَاعِلِ آلَةً أَنَّ الْحَامِلَ يُمْكِنُهُ إيجَادُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بِوَعِيدِ التَّلَفِ صَارَ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَى الْفَاعِلِ. (قَوْلُهُ: فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ) يَعْنِي: أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَقْوَالِ لَا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ: مِنْ أَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ فَهُوَ مَجَازٌ إذْ الْعِبْرَةُ بِالتَّبْلِيغِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ مُشَافَهَةً، وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ، وَذُكِرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِلَى الْحُكْمِ فَمَتَى كَانَ فِي وُسْعِهِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ الْغَيْرُ آلَةً لَهُ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ غَيْرُهُ آلَةً فَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ فَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ يُجْعَلُ فَاعِلًا تَقْدِيرًا، وَاعْتِبَارًا بِخِلَافِ الْحَامِلِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَةِ الْغَيْرِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الْفَاعِلُ آلَةً.
(قَوْلُهُ: فَلِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ بِالْإِكْرَاهِ، وَهُوَ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى) يَعْنِي: أَنَّ الْإِكْرَاهَ دُونَ الْهَزْلِ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ فِي مَنْعِ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النَّفَاذِ بِصِحَّةِ اخْتِيَارِ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِمَا جَمِيعًا فَفِي كُلٍّ مِنْ الْهَزْلِ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ قَدْ انْتَفَى الِاخْتِيَارُ، وَالرِّضَى فِي جَانِبِ الْحُكْمِ، وَإِنْ وُجِدَا فِي جَانِبِ السَّبَبِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يَنْتَفِ الِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ لَكِنَّهُ فَسَدَ، وَالْفَاسِدُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْمَعْدُومِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَانْتِفَاءُ
(2/393)
 
 
الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ (فَيَصِحُّ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ وَبَيْعُ الْمَدْيُونِ مَالَهُ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَطَلَاقُ الْمُولِي بَعْدَ الْمُدَّةِ بِالْإِكْرَاهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذُكِرَ وَهُوَ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ وَطَلَاقُ الْمُولِي، وَبَيْعُ الْمَدْيُونِ مَالَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ (لَا إسْلَامُ الذِّمِّيِّ بِهِ أَيْ:) بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِحَقٍّ، فَيَبْطُلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُبْطِلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا (وَالْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ وَأَصْلُنَا: أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ لَمَّا أَفْسَدَ الِاخْتِيَارَ فَإِنْ عَارَضَ هَذَا الِاخْتِيَارَ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَامِلِ يَصِيرُ اخْتِيَارُ الْفَاعِلِ كَالْمَعْدُومِ، وَهَذَا) أَيْ: صَيْرُورَةُ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ كَالْمَعْدُومِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
شَرَائِطِ كَمَالِ النَّفَاذِ فِي الْإِكْرَاهِ أَقَلُّ فَهُوَ بِالْقَبُولِ أَجْدَرُ، وَالنَّفَاذُ فِيهِ أَظْهَرُ، وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً هِيَ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِمَا فَفِي الْهَزْلِ يُوجَدُ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالرِّضَى بِهِ مَعَ الصِّحَّةِ، وَيَنْتَفِي اخْتِيَارُ الْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ يُوجَدُ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ مَعَ الْفَسَادِ، وَيَنْتَفِي الرِّضَى بِهِمَا فَفِي كُلٍّ مِنْ الْهَزْلِ، وَالْإِكْرَاهِ يُوجَدُ الِاثْنَانِ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ مَعَ الصِّحَّةِ فِي الْهَزْلِ، وَمَعَ الْفَسَادِ فِي الْإِكْرَاهِ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَالنَّفَاذِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُودِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ فِي الْإِكْرَاهِ لِيُتَوَهَّمَ غَايَةُ رُجُوحِيَّتِهِ، فَيَظْهَرُ قُوَّةُ الِاعْتِرَاضِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْإِكْرَاهِ، وَالْهَزْلِ أَمْرَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْإِكْرَاهِ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالسَّبَبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ، وَنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالرِّضَى قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَفَسَادُ الِاخْتِيَارِ لَا يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْعَقَدَ يَنْفُذُ، وَلَا يَحْتَمِلُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ.
(قَوْلُهُ:، وَإِذَا اتَّصَلَ) أَيْ: الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ بِأَنْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا الْخُلْعَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ إلَّا عَلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى الرِّضَا، وَلَمْ يُوجَدْ كَمَا إذَا طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ فَقَبِلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ لِبُطْلَانِ الْتِزَامِهَا، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ اتِّصَالُ الْإِكْرَاهِ بِقَبُولِ الْمَالِ أَيْ: أَنْ يَتَّحِدَ مَحَلُّهُمَا بِأَنْ تُكْرَهَ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ عَلَى مَالٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ الطَّلَاقَ، وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سُلِّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ أَمَّا إذَا اتَّصَلَ الْهَزْلُ بِقَبُولِ الْمَالِ، فَيَصِحُّ التَّطْلِيقُ لَكِنْ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْتِزَامِ الْمَرْأَةِ الْمَالَ، وَعَلَى الرِّضَا بِهِ فَإِنْ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَ الْمَالُ، وَإِلَّا فَلَا طَلَاقَ، وَلَا مَالَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
(2/394)
 
 
لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ آلَةً لِلْحَامِلِ (فَإِنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنَهُ آلَةً لَهُ (يُنْسَبُ إلَى الْحَامِلِ، وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ (يَبْقَى مَنْسُوبًا إلَى الْفَاعِلِ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ مُمْتَنِعٌ (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ: الْأَقْوَالُ (مِمَّا لَا يَنْفَسِخُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ) كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ تَنْفُذُ؛ (لِأَنَّهَا) أَيْ: الْأَقْوَالَ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ (تَنْفُذُ مَعَ الْهَزْلِ، وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا وَالرِّضَى بِالْحُكْمِ وَمَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ الْهَزْلِ (وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا) أَيْ: يُنَافِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الرِّضَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْهَزْلِ الرِّضَا بِالسَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُ الْمَالِ مَوْقُوفًا عَلَى تَمَامِ الرِّضَا بِمَنْز